تعاسة البيك

اصطلح السوريون على أن يذهبوا مذهبًا باللقب غريبًا عجيبًا؛ فإنه إذا غلط ذو مقام باسم أحدهم ونعته مثلًا بأفندي أو بيك صار المكتوب إليه أفنديًّا أو بيكًا، وأصبح يطلب من الناس مراعاة مقامه واعتبار لقبه.

بين السوريين عديدون لهم ألقاب مدنية، ولا أدري من أين جاءوا بها، ومن يدري؟

ولا أدري إذا كان أحد ذوي الألقاب المُتباهى بها سأل نفسه يومًا: «لماذا أُعطيت لقب بيك، ولم ينله غنطوس فلقيوس وقَّاد الفحم في منزل أبي حرفوش مثلًا؟»

حبُّ الألقاب عادةٌ تمكَّنت في بعض الناس إلى حدِّ أنها صارت عندهم شيئًا عظيمًا من حياتهم.

كان المسكين نصر البيطار أو نصر بك البيطار في سعادة من حاله يوم كان خاملًا لا يدري به أحد، فكان يحمل حقيبته، ويبيع سلعه على الأميركان في الشتاء في «فلوريدا» وفي الصيف في «مين»، وكان يؤمِّل أن يصير تاجرًا عندما تصل ماليته إلى عشرة آلاف ريال، وهو ساعٍ بجِدٍّ وإقدامٍ وراء هذه الغاية.

إلا أن الدهر لا تصفو طرقه التي يسلكها بنو المصائب، وللدهر بدعٌ في جلب المصائب على بنيه، فإذا كانت التعاسة تأتي إنسانًا عن طريق الفقر أو المرض أو الموت فتعاسة نصر بيطار جاءت عن طريق البكوية؛ وإلى القارئ الخبر:

أُنشئت في لبنان عام ١٩٠٢ لجنة للاهتمام بأمر معرض وطني، تنشيطًا للتجارة الوطنية، وتناقلت الجرائد في الوطن وفي المهجر أمر هذه الحركة، ولما اطَّلع عليها نصر أعجبته كثيرًا، وحرَّكته عوامل الغَيرة على الوطن؛ لأن مكان المعرض في قريته مسقط رأسه، فهبَّ لساعته وأرسل مائة ريال باسم اللجنة في لبنان مساعدةً لهم في حركتهم. وبعد شهرين جاءه جواب كتابه ممضيًّا باسم المتصرِّف، وعلى الظرف كُتِب هكذا «لمطالعة الشهم الوطني الغيور نصر بك البيطار.»

أمَّا نصر فلما جاءه الجواب لم يصدِّق — بادئ ذي بدء — أن الكتاب له، فقرأه أوَّلًا وسمع المتصرِّف يَهُذُّ بحمده، ويكيل له عبارات الثناء على كرمه ووطنيته، ثمَّ قرأه ثانيةً وعيناه تكادان تتفجران تبحُّرًا في عبارات الكاتب، ثمَّ قرأ الظرف ذهابًا وإيابًا وعيناه لا ترفَّان، وقد قرأه أكثر من عشر مرات متوالية، حتى كبرت أمامه كلمة «بيك» إلى درجة أن كاد الظرف لا يسعها.

بك! نصر بك البيطار! بك! بك!

وقد ظلَّ المسكين زهاء ساعة، تارةً يقرأ رسالة المتصرف، وطورًا يقرأ الظرف، وهو بين مصدِّقٍ وغير مصدِّقٍ، أهو يا تُرى نصر بك البيطار، وإذا لم يكن هو فمن؟! هو نفسه.

وأخيرًا، عاد إلى المسكين رشده فأيقن أنه هو نفسه نصر بك البيطار، وأن كلمة «بك» جاءته لقبًا من دولة المتصرِّف، جزاءً له على خدمته للوطن. ثمَّ عاودته الفكرة فساءل نفسه: «أهي غلطة يا ترى من المتصرف؟ وهل يغلط المتصرف؟»

لا، لا، ليس بالمسألة غلط البتة، فالمتصرف أنعم عليه باللقب والأمر لا يحتاج إلى برهان ولا إلى شاهد حال؛ فما كُتب بالحبر على الورق لا سبيل إلى التردد في تفسيره، المسألة واضحة؛ فإن الخط خط المتصرف بيده — نصر بك البيطار — لا حاجة إلى بيان وكفى.

ولم يمض ذلك النهار حتى عرف أكثر الذين يعرفهم أنه صار بيكًا، فصار منزله مقصد المهنِّئين، ثمَّ وصل الخبر إلى الجرائد فنشرته وذيَّلت الخبر بالتهنئة أيضًا، وأن اللقب صادف ربه عن كل جدارة واستحقاق.

أمَّا مالية نصر بك البيطار فلم تَجْتَزْ خمسة آلاف ريال في حين حلَّت عليه بكوية المتصرف، وقد كان كما ألمعنا ينتظر وصولها إلى عشرة آلاف ليصير تاجرًا، ولكن البكوية وحمل الجزدان لا يتفقان؛ ولهذا فبالرغم عن قلة رأس المال اضطُرَّ المسكين أن يفتح تجارة بين التُّجَّار، ثمَّ إنه كتب إلى أهله في القرية يعلمهم بالخبر المفرح، وهناك عيَّد أهله عيدًا عظيمًا، محتفلين ببكوية ابنهم نصر، وشاركهم بذلك الفرح أهل القرية، وقد أنفقوا من البارود ما يبلغ ثمنه خمسين ليرة بذلك الاحتفال.

مضى على تجارة نصر بك زهاء السنة، وقد كادت تبلع خسائره رأس ماله، لأن أكثر زبائنه عرَفوا موطن الضعف فيه، فكان واحدهم إذا أراد استزادته بالدَّيْن لقَّبه بالبيك، وإذا أحب استنزاله بالسعر تملَّقه بعبارة «يا سعادة البيك»، فما كان من البيك أو سعادته يرى إلا الانصياع لإرادة زبنه الكرام؛ حتى أدَّى به الأمر إلى الخسارة، وفي نهاية السنة صفَّى أشغاله ووطَّن النية على العودة إلى الجزدان لئلا يحدث إفلاس بشغله، فيصير مضغة الأفواه، وهذا عارٌ على ملقَّب مثله.

وقد كان لنصر بك كاتب يمسك دفاتره، وكان هذا شابًّا ذكيًّا يحتقر سيده لبكويته، وكثيرًا ما اختصم الاثنان بشأنها؛ لأن الكاتب لم ينادِ نصرًا ملقَّبًا بالبيك إلا بعد تهديد بالطرد، ولكنه في آخر أيَّامه عنده ككاتب صار يكثر من تلقيبه بالبك على سبيل الفكاهة، فكان يناديه ضاحكًا، وهذا مما كان يُغضب نصرًا، ولكنه كان يغضي عن ذلك لعلمه أن أيَّامه معدودة، فإقفال المحل سيكون في آخر الشهر، وحينذاك يفارقه ويتخلَّص منه.

في آخر أيام لتجارة نصر بك اجتمعت بكاتبه، فأنباني أن محل بيطار بك قد أُقفِل، فهززت رأسي تأسُّفًا على خسارته، وقلت للكاتب إن تجارة ذلك المسكين لم يكن لها محل من الإعراب. فأجابني وهو يبتسم وقال: «الحق ليس عليه، بل على المتصرف في لبنان.» فقلت: ما دخل المتصرف بذلك؟ فأجاب وقال: «إنه غلط ولقَّبه بالبيك، فدخل التجارة ليعلي مقامه فانتهى أمره بالخسارة، وهذا كل ما كان.»

فضحكت للأمر وضحك معي الكاتب، وقد تحرَّكت شفتاه كأنهما تريدان أن تنطقا بشيء، ولكنه لم يُرِدْ أن يخرج صوته، وهذا لا يخفى عليَّ، فسألته أن يقول ما في ضميره، فتردد أوَّلًا، ولكنه ضحِك ضحكة شديدة وقال لي: «اقترب مني لأُريك.» فاقتربت ومدَّ يده إلى جيبه، فأخرج قطع ظرف قادم من البلاد، وعليه ختم دار الحكومة في بعبدا، فتطلَّعت إليها بشوق لأرى ماذا فيها، فما كان منه إلا أنه وضع كل قطعة بمكانها الأصلي قرب بعضها، وقال لي إذ ذاك: اقرأ، فقرات هذه العبارة:

حضرة الخواجة نصر البيطار، من قرية عمطير ونزيل الولايات المتحدة.

قلت: أهذا هو نصر بك البيطار، فقال: «هذا هو بعينه، وهذا الظرف هو بخط نفس المتصرف الذي كتب لذلك المسكين منذ سنة، ووضع له لقب بيك مع اسمه.» قلت: ومن مزَّق هذا الظرف؟ قال: «نصر بك أو الخواجة نصر نفسه عقب وصول هذا الكتاب من دولة المتصرف إليه يسأله فيه شيئًا تافهًا، وقد مزَّقه ولعن المتصرف، أمَّا أنا فجمعت قطع الظرف لأعرف سبب سخطه على حاكم بلاده، وبعدما عرفت السبب الآن أشاركه بلعنة المتصرف، ليس لإرساله هذا الكتاب بل لذاك الجواب الذي كلَّف المسكين كلَّ ماله المجموع بعرق جبينه وعناء سنة وربما سنين، وضحك الناس وازدراءهم».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤