الثقة في البشر

في سنة ١٨٩٠ وصل إلى الولايات المتحدة شابٌّ في الثلاثين من عمره يُدعى مصطفى الشاهين، وقد كان ذا مطامح تجارية كبيرة، إلا أنه كان خاليًا من الأسباب التي توصله إلى مراميه؛ ولهذا اضْطُرَّ أن يتاجر، وإنما متاجرة بسيطة، فكان يجول القرى والمزارع حاملًا صندوقه الخشبي، يبيع الفلاحين دبابيسَ وأمشاطًا وسلعًا صغيرة، وظلَّ خمس سنوات يعمل ويجد حتى توفَّر لديه زهاء ألفي ريال في الكمر الذي أتى به من البلاد، وكان يتمنطق به تحت القميص في الأول، خوفًا على ما فيه من المال، ولمَّا استأنس ولم يعد يخاف اللصوص لم يستطع أن يغيِّر عادته؛ فقد جرَّب يومًا أن ينزع عنه الكمر، ولكنه عاد إليه في اليوم التالي؛ لأن النزلة الصدرية مدَّت إليه يدها لتصافحه، ولكنه لم يمُد إليها يده؛ ولهذا اضطر أن يعود إلى سابق عادته.

ورجل كمصطفى الشاهين لا يشغل عقله ووجدانه إلا أن يكبر في عالم المالية، ويصير على حسابه محل كبير يؤمُّه الباعة، فيغنم منهم الأرباح وهو جالس على كرسيه كالآمر الناهي، لا سيَّما وأنه اكتسب بعض الخبرة في جلب البضائع ومعرفة الغث من السمين منها يرى أن الألفي ريال التي ذخرها خيرُ رأسمال للتجارة.

ولكن أين الزبائن؟

هنا سأل نفسه هذا السؤال، وأعمل فكرته في الجواب عليه.

إن المحل الذي يطمح إلى إنشائه لا يمكن أن يكون في نيويورك؛ لأن الرجل عارف نفسه أنه غير كفء للتجارة في بلدٍ عظيمٍ بين تجار عظام. وهو لا يفلح إذا أنشأه أيضًا في قرية من القرى التي قضى سنوات هجرته متجوِّلًا فيها؛ لأن القرية الواحدة لا تكفي لنجاح المحل لقلة سكَّانها، في حين أنه لا يستطيع أن يحمل المحل على ظهره كما كان يفعل بالكشة، فيجرِّب حظَّه في هذه القرية وتلك.

ولكن المطامح في الناس تفتح بصائرهم مهما تكن كمِّيَّات أدمغتهم، فبعد أن افتكر المذكور طويلًا توصَّل إلى رأي أصيل، وفي الحال صفَّى شغله وباع كشته كلها، وأبقى من خرضواتها أشياء تستعمل في الوطن كالأمشاط والقناني الطيبة والخواتم والحُلي الزائفة، وما شاكل برسم هدايا لذويه في الضيعة، وبعد أيام ركب البحر عائدًا إلى أهله بما بقي معه من المال، متوكِّلًا على الله.

ووصل مصطفى إلى ضيعته، فخف كل سكانها من العجائز والشيوخ إلى الأطفال بالتمائم للسلام على العائد الغني، ولا تسل كم كان معظم ذهول القوم من الثروة التي عاد بها إلى أهله؛ فإن أصابعه العشرة التي كانت مُلبسة بالخواتم والدبوس الكبير في ربطته والأزرار الصفراء في كمَّي قميصه، والهدايا التي أتى بها إلى امرأته وشقيقاته وكلها من الجواهر، وما أهداه من الأجواخ والسلع الصغيرة إلى أقربائه وجيرانه، كل هذه كانت تنطق لهم بصوت عريض أن مصطفى الشاهين صار لا يُشق له غبار. وصار الشيوخ يندبون سوء حظوظهم؛ لأن الشباب مضى قبل أن يعرفوا بأميركا، وصار الشبَّان يتقرَّبون إليه ليدرسوا عليه أحوال أميركا وكيفية السفر إليها، وكم تكلف السفرة إلى ما هنالك. إلا أن مصطفى القادم بمهمة تجارية لقريته رأى في انشغاف القوم به سبيلًا إلى الوصول لغرضه، فما مضى أسبوع واحد على وصول ابن الضيعة إليها من أميركا حتى ودَّت بما فيها من تراب أن تسير معه إلى أميركا، وهكذا بعد منتهى شهر عاد مصطفى إلى أميركا قائدًا لجيش يبلغ عشرة شبَّان وعلى نفقته؛ ليفتح تجارة أميركا، ويصل إلى مرماه الذي طالما فكَّر به وتمنَّى الوصول إليه.

على الطريق الطويل عانى مصطفى بعض العناء بحملته التجارية، ولكنه بالرغم من ذلك العناء الكثير كان يسرُّ بداخله؛ إذ يرى حوله رجالًا سيبني عليهم مستقبله المجيد، وهم يرون فيه القائد البطل الذي سيصل بهم إلى عالم المجد والعز.

ولم يقتصر عناؤه بهم على جلبهم؛ فإنه عندما وصل بهم إلى القرية التي صمَّم أن يبني محله فيها كاد يتمزَّق في تدريبهم على حمل الكشات، وتعليمهم بعض العبارات الضرورية باللغة الإنكليزية قدر ما هو نفسه يعرف من اللغة التي اختطف لفظها، وصار يفك حاله بها كما يقول.

وهوَّنها الله على مصطفى؛ فالمحل الذي فكر به أُنشئ وجُعِل ذا قسمين: قسم داخلي ينام ويطبخ ويأكل ويستقبل ضيوفه فيه، وقسم خارجي فيه رفوف عليها السلع والعلب، وفي أرضه قوائم خشبية عليها مساطر البضائع.

السنة الأولى مضت على التأسيس وتدريب الجيش للغزو، وفي السنة الثانية استغل مصطفى شيئًا يُذكر من الأرباح، فأرسل منها كمِّيَّة إلى قريته لجلب امرأته إلى أميركا، وفي السنة الثالثة ابتدأ يشاحن جيشه الذي صار أعضاؤه العشرة يشارعونه على الأسعار؛ لأنهم صاروا على شيءٍ من الخبرة في المسواق، وتوسَّعت مداركهم بفضل التنقل من بلد إلى آخر، فصاروا يميلون إلى التمرُّد عليه ويتآمرون بين بعضهم البعض على مقاطعته، لولا أنه كان يستعمل الحيل في إقناعهم، فصار يلاطفهم ويدعوهم يوم الأحد إلى مائدته، ويكسب قلوبهم عن طريق المجاملة والنسابة.

مضت هذه السنوات وأشغال المحل تزداد وأرباحه تتضاعف، ولكن صاحبه كان يلعن حظَّه؛ لأن الأمور لم تأتِ على حسابه؛ فإنَّ الأمرَ والنَّهْيَ لم يعودا من وظائفه على فئة الزبائن الجلب.

عرفته في تلك السنوات وقد كنت أزور تلك القرية أحيانًا، فأميل إلى محله لأسأله عن حاله، وأحادثه قليلًا بينا أكون أترقَّب مجيء القطار.

إلا أني لتغيرات تجارية؛ إذ تركت المحل الذي كنت أمثله ولصقت بغيره لجهة أخرى من البلاد، لم أعُد أسمع شيئًا عن مصطفى الشاهين، ولكني كنت أصوِّره في عقلي فأقول: قد مضى عليَّ خمس سنوات لم أره فيها، فيجب أن يكون اليوم شيخ البلد؛ لأن شغله ماشٍ، وزبائنه من عظام الرقبة، ونفقاته في السنة من أرباح شهر.

من عام ١٩٠٦ طرحتني الأسفار إلى تلك القرية صدفة، ولما وصلتها سرت في الحال لمشاهدة ذلك الرجل الذي تعرفت عليه لمجرد أنه يتكلم اللغة التي أتكلمها وهي لغة كلينا، وشدَّ ما كان دهشي عندما رأيت صاحبي في غير المحل الذي كان له. رأيته عند باب بيتٍ حقيرٍ قرب محله الأول، وحوله أولاد المدرسة من صبيان وبنات يبيعهم «آيس كريم» على «كون» بسنت كل واحدة. ولما سمعت جرس المدرسة يدقُّ ترك الأولاد إحاطتهم بمصطفى راكضين إلى المدرسة، فتقدَّمت إليه وسلَّمت عليه، فسُرَّ كثيرًا لمشاهدتي بعد غياب طويل تضمن حوادث كثيرة وقعت على ذلك المسكين.

ثمَّ رأيته قد احتمل القِدْر الذي كان يبيع منه، داعيًا إيَّاي أن أدخل معه إلى المنزل؛ لأن وقت الشغل قد مضى، فدخلت لأعرف شيئًا عمَّا خفي عليَّ من حاله.

وسألته: كيف أحوالك يا مصطفى؟ يظهر أن الأمور تغيرت معك.

فأجابني بتنهُّد عميق ولم يشأ أن يتلفَّظ، ولكنه قادني إلى غرفة صغيرة حيال الغرفة التي كنَّا فيها وقال لي: انظر، تأمل.

رأيت على الحيطان عشرة رسوم لعشرة أشخاص، وتحت كل رسم اسمه، فاقتربت من كل الرسوم لأقرأ الأسماء فإذا بها هكذا: أبو الألف، أبو الخمسمائة، أبو الستمائة، وهكذا قرأت أرقامًا لأسماء تسعة من ذوي الرسوم، أمَّا العاشر فتحته كُتِب هذا الاسم «أبو حواء».

فقلت، والضحك كاد يغلبني: ولكن ماذا تعني بهذه الأرقام؟ فأجابني: كل رسم دعوته بالكمية التي نصب عليَّ بها ورحل إلى جهة لا أعلمها. قلت: ومن هو هذا أبو حواء؟

فأجاب: هو الذي خطف المرأة في الآخر، بعدما تواطأت معه على سرقة المحل الذي أقفلته الحكومة، وأشهرت إفلاسي.

قلت: فإذن أنت خسرت كل شيء يا مصطفى؟ فأجابني: نعم، خسرت كل شيء، وأكثر من ذلك خسرت شيئًا لا تراه أنت. فقلت: وما هو؟ أجاب، وقد كدت أبكي لحاله: ثقتي في الجبلة البشرية!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤