المقاصد الكبرى

١٨٣٠–١٨٤٩

عندما انطلقت ثورة ١٨٣٠ حوَّلت لامرتين عن طريق الأحلام، وطرحتْهُ في طريق العمل حيث كان ينتظره شكل جديد من أشكال المجد. وكان منذ العام ١٨١٧ قد بدأ يهتم اهتمامًا كبيرًا بالقضايا السياسية، ولقد كتب إلى صديقه فيريو يقول: «إني لأتوقع في البلاد ثورة تجترف الملك ما كنت لأتوقعها من قبل.»

وفي ٢٧ حزيران ١٨٣٠ كتب إلى فيريو يقول: «أمريضة فرنسا أم لا؟ أمَّا أنا فأظنها تُحتضَر؛ وعلى كلٍّ، أراني مستعدًّا للمناضلة ومقاومة الأغبياء والمنافقين.» وكتب إليه أيضًا: «إن الجهاد في سبيل الحرية لمن المقدسات عندي؛ على أني أخشى الانتقال من النظام الملكي إلى الفوضى …»

وبعد مرور ثلاثة أشهر رشَّح لامرتين نفسه لكرسي في مجلس النواب؛ على أنه لم ينجح؛ لأن الشعب كان ينظر إليه كأحد مناصري الملك كارلوس العاشر وسلالة البوربون. سوى أن الشاعر لم يكن في حاجة ملحة إلى الجلوس على الكرسي النيابي؛ لأن رغبته في زيارة الشرق كانت تملأ روحه، قال: «أودُّ أن أذهب إلى الشرق لأبحث عن تأثيرات شخصية في ذلك الملعب الرحب، حيث وقعت حوادث العالم القديم ومثَّلت السياسات والأديان. أودُّ أن أقرأ قبل الموت أجمل صفحة من سِفْر الخليقة، فإذا اهتدى الشعر في ذلك الملعب إلى صور جديدة فلا أتردَّد عن حملها في زوايا مخيلتي؛ رجاءَ أن أتوصل بذلك إلى إعارة الآداب ألوانًا جديدة.»

ولقد كانت رغبة لامرتين في زيارة الشرق قد بدأت تحرِّك نفسه منذ العام ١٨١٨ أو قبله، فشاتوبريان كان قد شوَّق الفرنسيين في أحد كتبه إلى زيارة مهبط الأنبياء، وكانت ثورة اليونان على الترك قد نبَّهت الشباب الرومانطيقي إلى جمال الشرق. ولقد اتصل بالمسيو دوميك رسالة كتبها لامرتين في العام ١٨١٨ نأخذ منها ما يلي: «لو استطعتُ أن أجمع مائة ليرة لذهبت إلى اليونان، فإلى أورشليم، لا أحمل إلا كيسًا، ولا آكل إلا خبزًا.» وقبل أن يهمَّ بالسفر كتب إلى صديق له يقول: «أود أن أزور في الأول مدينة القسطنطينية فأتفرَّج على شواطئ البوسفور، ثم أنتقل إلى سوريا فأزور فلسطين ولبنان وتدمر وبعلبك، إذا سمح العرب، فإلى مصر حيث أتفرج على النيل والأهرام.»

ولما حان موعد الرحيل استقلَّ الشاعر مركبًا شراعيًّا محمولُهُ مائتان وخمسون طنًّا، وهو مِلْك البحريِّ برينو روستان، جدِّ الشاعر إدمون روستان. وعندما وصل لامرتين إلى مرسيليا استقبله رهط من المعجبين به، واحتفى به احتفاءً لم يكن الشاعر قد عرف مثله بعد. ولقد شاء المجمع الأدبي في هذه المدينة أن يكرِّمه فانتخبه عضو شرف، ولمَّا حان موعد السفر ودَّع الشاعر إخوانه بقصيدة رائعة، نقتطف منها ما يلي: «لم أسافر بعدُ في أوقيانوس الرمال على مطية مركب الصحراء،١ ولم أبلَّ غليلي في المساء من آبار العبرانيين المظللة بالنخيل، ولم أبسط وشاحي تحت الخيام وأرقد على التراب الذي رقد عليه أيوب، ولم أحلم بعدُ أحلام يعقوب على حفيف الأردية الخفاقة.

لم يبقَ عليَّ أن أقرأ من صفحات العالم السبع إلا صفحة واحدة: فأنا لا أعرف كيف تضطرب النجمة في السماء، ولا كيف يخفق القلب في دنوِّه من الآلهة! ولم أسمع صراخ الأمم صاعدًا من الأرز القديم، ولم أبصر من مرتفعات لبنان أسراب النسور النبوية تتلاطم على أبراج صور، ولم أُلقِ رأسي على الأرض التي لم تبقَ من تدمر إلا صدى اسمها.

لم أسمع بعدُ أمواج الأردن ترفع صراخها الأليم ناحبةً نحيبًا أسمى من نحيب إرميا، ولم أمشِ على آثار إلهية في ذلك الحقل الذي بكى فيه المسيح تحت أشجار الزيتون، ولم أضع جبيني في التراب الذي انطبعت عليه قدم المخلِّص، ولم ألطم صدري العميق في المكان الذي فتح فيه المسيح ذراعيه ليعانق العالم ثم انحنى ليباركه!»

وفي العاشر من شهر […] ١٨٣٢ وصل إلى أثينا، وبعد أن جال جولة بطيئة في جزر الأرخبيل دخل إلى سوريا عن طريق قبرص، ووصل إلى بيروت في اليوم السادس من شهر أيلول.

أمَّا بلاد اليونان فلم تَرُق لامرتين في شيء. قال في إحدى رسائله: «باطل! لم أقع في بلاد اليونان على جمال إلا في بعض أكمات من جبَلَي تيجيت ولاكونيا، حتى إن السماء نفسها لا توازي سماء إيطاليا، فهي محجوبة بالضباب وضئيلة العمق.»

وقال في رسالة أخرى: «لقد زرنا أشهر جهات اليونان: أجينا وسلامين وأثينا وغيرها، أما أثينا التي يُفرِط السُّواح في مدحها فهي فظيعة، ولا تشوق الزائر إلى العودة إليها، ولولا ماضيها وأسماء رجالها الغابرين لما وجدنا فيها ذرَّة من الجمال، وهكذا قُلْ عن جميع جزر الأرخبيل التي زرناها، فليست سوى صخور سوداء عارية.»

لامرتين في بيروت

استأجر لامرتين على أبواب المدينة دارًا محاطة بالبساتين، وبعد أن استراح من عناء السفر خمسة عشر يومًا، غادر زوجته وابنته جوليا في بيروت، ومضى في قافلة من الجياد تحمل حاشية من اللبنانيين والمصريين يزور بلاد الجليل واليهودية وصور وصيدا. ولدى عودته إلى داره في بيروت كتب إلى صديقه فيريو يقول: «لقد طفتُ مدة خمسة وأربعين يومًا فزرت الجليل وفلسطين ولبنان والأردن وبحيرة طبريا والبحر الميت وصور وصيدا، ولدى وصولي إلى أورشليم رأيت الطاعون ضاربًا أطنابه فيها؛ على أني لم أتقهقر بل دخلت، وعدت منها سليمًا معافى، وهكذا عادت معي حاشيتي الكبيرة بفضل الاحتياطات التي اتخذتُها على يد إبراهيم باشا.»٢

ولنسمعه الآن يصف مأواه في بيروت، قال: «ما من لذَّة تعدل اللذة التي تذوَّقناها ساعة استفقنا من الرقاد عقيب الليلة الأولى التي صرفناها في دارنا. لقد تناولنا طعام الصباح على سطح فسيح يشرف على جهات جميلة تفقَّدناها جميعًا بأبصارنا.

تقوم الدار على مسافة عشر دقائق من المدينة، ويُنفَذ إليها من طرق مظلَّلة بأشجار أمن الصبير تدلي ثمارها الشائكة على رءوس العابرين. يجتاز المارُّ بعضَ جسور قديمة وبرجًا كبيرًا مربع البناء شيَّده أمير الدروز فخر الدين، وهذا البرج يحلُّ اليوم محلَّ مستشرف لبعض الخفراء من جيش إبراهيم باشا، ثم ينسلُّ بين جذوع التوت إلى أن يبلغ جمهرة من بيوت منخفضة، تختبئ بين الأشجار ويحيط بها مرج من الليمون، وهذه البيوت يختلف بعضها في بنائه عن البعض الآخر، أما البيت المنتصب في الوسط فيظهر بشكل برج مربع، ويرتفع شامخًا على سائر ما يقوم حوله، وأمَّا سطوح هذه البيوت فيتصل أحدها بالآخر ببعض أدراج من الخشب.

نرى البحر على مائة خطوة منَّا يتقدم في الأرض فيتراءى لنا، من خلال رءوس الليمون والصبير الخضراء، كبحيرة جميلة أو كنهر عريض لا يظهر منه إلا جزء صغير، ونرى بعض زوارق عربية ملقية المراسي تهدهد على تموجاته المرسلة برخاوة وكسل. وإذا صعدنا إلى السطح الأعلى، تستحيل هذه البحيرة الجميلة إلى خليج رحب، يسدُّه قصر بيروت المغربي من ناحيةٍ وأسوار شاهقة كالحة لسلسلة الجبال المنحدرة بسرعة نحو مدينة طرابلس من الناحية الأخرى. إلا أن الشفق يمتد أمامنا امتدادًا بعيدًا، فهو يبدأ بالركض على سهول خصبة غُرست فيها شجرات تحجب الأرض عن النظر، وانتشرت فوقها بيوت تشبه بيتنا، ترفع سطوحها في الجو كشرع بيضاء على خضمٍّ من الخضرة، ثم ينحصر بين أكمة ملساء مستطيلة يقوم على قمتها دير للروم الأرثوذكس بجدرانه البيضاء وقبابه الزرقاء. ويخيِّم على قباب هذا الدير بعض رءوس من الصنوبر المستوي على مرتفع هناك.

وتنحدر الأكمة على درجات تدعمها أسوار حجرية، وتحمل أحراجًا من الزيتون والتوت، ويجيء البحر فيغسل آخر هذه الدرجات ثم يحيد عنها.

وعلى مقربة منها سهلٌ آخر يستدير وينحفر ليفسح مجالًا لنهر ينساب طويلًا بين غابات الدوح الأخضر، ويرتمي في الخليج المصفرَّة مياهُهُ على الشواطئ، ولا ينتهي السهل هذا إلا عند أكتاف الجبال الذهبية.

أما الجبال هذه فلا ترتفع دفعة واحدة، بل تبدأ صعودها بأكمات ضخمة بعضها مستدير، والبعض شبه مربع تغطي قممها المزروعات، وتُقلُّ كل واحدة منها إما ديرًا وإما قرية ينجلي عليها شعاع الشمس، فيجذب الأنظار. وتعرض درجات لبنان فوق أولى هذه الأكمات، فثمة سهول تراوح مسافتها بين فرسخ أو فرسخين، سهول متباينة بعضها محفور، وبعضها متلَّم، وبعضها حرثته الأودية والسهول والينابيع العميقة والخلجان المبهمة التي يضيع بها النظر.

وإذ تنتهي الجبال من هذه السهول ترجع فترتفع ارتفاعًا شبه مستقيم، وقد تراءت عليها أخيلة الأرز السوداء وبعض أديرة صعبة المسالك، وبعض قرى مجهولة يخالها الناظر منحنية فوق لججها وأودائها.

وهناك على قمة السلسلة الثانية، وهي أكثر تلك القمم نتوءًا، تقوم أشجار جبارة كأنما هي شعور نادرة على جبين أصلع، ونستطيع من هنا أن نتبين رءوسها المفرَّضة التي تشبه النوافذ المرتفعة على أحد الأبراج.

أما لبنان الحقيقي فيقوم وراء هذه السلسلة الثانية، إلا أننا لا نستطيع أن نرى أكنافه بوضوح، فنعلم أعاريةٌ هي أم مغطاةٌ بالنبات، لبُعد ما بيننا وبينها، ثم إنَّ هذه الأكناف تختلط في شفَّافة الجو بالجو نفسه، فلا يقع نظرنا إلا على شبهة من أشعة الشمس التي تغلِّفها، وعلى رءوسها النارية التي تمتزج بغيوم الصباح الأرجوانية، وتحلِّق في أمواج الجو كجُزرٍ لا سبيل إلى بلوغها.

أمَّا إذا انحدرت أبصارنا عن شفق هذه الجبال الجميل، فلا تستطيع أن تنحطَّ إلا على رزم من النخيل غُرست هنا وهناك على مقربة من بيوت العرب، وإلا على تموُّجات رءوس الصنوبر الخضراء المنتشرة في السهل ضُمات صغيرة، أو على أديم الأكمات، أو على غراس غير هذه تترامى أوراقها الثقيلة كأوسمة حجرية على الجدران الصغيرة التي تدعم السطوح، وهذه الجدران نفسها ترتدي ثيابًا من الزهر واللبلاب الأرضي والكرمة البرية، والأغراس ذات الأزهار المتباينة والعناقيد المختلفة الأشكال، فلا يتاح لك أن تتبيَّن معها الحجارة التي بُنيت بها هذه الجدران، فما هي إلا أسوار من الخضرة والأزهار. ويقوم أخيرًا على مقربة منا وبمرأى من أبصارنا، بيتان أو ثلاثة تشبه بيوتنا في فرنسا، عليها إزار من قباب البرتقال المزهر والمثمر … هناك عرب جالسون على البُسُط في سطوح بيوتهم يدخنون، وبعض نساء يطلُّ من النوافذ ليبصرنا، وإذ ينتبه إلى أننا نمعن النظر فيه يحتجب.

وهناك عيلتان عربيتان تتناولان الغذاء في ظلال شجرة تخيِّم على عتبة دارهما، وعلى مقربة منهما — تحت شجرة أخرى — فتاتان سوريتان لا يقع النظر على أجمل منهما، ترتديان ثيابهما في الهواء الطلق، وتملآن شعورهما أزهارًا بيضاء وحمراء؛ إحداهما ذات شعر مستطيل كثيف يوشك أن يغطي جملة جسدها، كأنما هو أغصان صفصافة باكية تتدلى على جذعها فتحجبه من جميع أطرافه، إلا أنها عندما تحرِّك تلك الشعور الخصبة يبين من تحتها جبينها الجميل، ومقلتاها المتألقتان بغبطة ساذجة، وكأني بها مرتاحة إلى إعجابنا بها.

لقد ألقيتُ إليها قبضة من الغازي، وهي قطع صغيرة من الذهب تعلِّقها السوريات بخيط من الحرير فتصنع منها عقودًا وسوارات، فجمعتْ كلتا يديها ورفعتهما إلى رأسها لتشكرني، ثم دخلت إلى الغرفة السفلى لتراها أمها وأختها.»

وقال يصف جبال لبنان: «لم يسبق لي أن تأثرت بروعة جبال في العالم كما تأثرت بروعة جبال لبنان؛ فللبنان طابعٌ لم أقع على مثله، لا في جبال الألب ولا في جبل طوروس، فهو مزيج من روعة الخطوط والقمم، وجمال التقاطيع وتنوع الألوان.

ولبنان جبل عظيم كاسمه، فهو جبال الألب تحت سماء آسيا التي تغمس قممها الهوائية في صفاء عميق من جمال أزلي.

ويخيَّل إليَّ أن الشمس تستريح إلى الأبد في زوايا تلك الهضبات الذهبية، وأن البياض الساحر الذي تنطبع به يختلط ببياض الثلوج التي تبقى إلى منتصف الصيف على القمم المرتفعة.»

وقال يصف في بيروت مآذن الجوامع والقلاع: «عندما انحدرتُ إلى الجهة المعاكسة للبحر شاهدت مآذن الجوامع العالية، شبيهةً بأعمدة مهجورة، تنتصب في أديم الصباح الأزرق المتموِّج، ووقع نظري على القلاع المغربية التي تخيِّم على المدينة، والتي تعشِّش في جدرانها المهجورة أغراس من التين البري والقرنفل وغيره.»

لامرتين ولادي إستانهوب

بينا لامرتين يجول في جبال لبنان استقبلته لادي إستانهوب، وهي امرأة إنكليزية متصوِّفة، كانت منذ سنوات تقيم في لبنان على أكمة صعبة المسالك، تحفُّ بها بهرجة وأبهة، كأنما هي أميرة خطيرة من أميرات الأساطير! وكانت تزعم أنها تقرأ في الغيب وتعرف حظوظ البشر.

على أن حقيقة هذه المرأة لا تزال مبهمة؛ فمن الناس من يقول إنها ساحرة، ومنهم من يقول إنها عميلة سياسية لدولة إنكلترا … ولكن الأمر الذي اتُّفق عليه هو أنها تنبَّأت للامرتين بأنه سيرقى في السياسة إلى ذروة عالية.

قال لامرتين يتكلَّم عن زيارته للادي إستير إستانهوب: «نهضتْ لادي إستانهوب عن مقعدها الشرقي، وتقدَّمتْ نحوي بقوامها الفخور، مادَّةً إليَّ يدها وقالت: لقد جئتَ من بعيد لترى ناسكةً، فمرحبًا بك. لستُ لأستقبل إلا القليل من الغرباء، على أن رسالتك راقتني فوددتُ أن أتعرَّف إلى رجل يحب الله والطبيعة والعزلة كما أُحبُّها أنا. فاجلس ولنتكلم، فقد صرنا صديقين.

فقلت لها: إنك تتسرعين يا سيدتي، فتمنحين شرف الصداقة لرجل تجهلين اسمه وحياته. أتعرفين من أنا؟ فقالت: صدقتَ، لستُ أعرف من أنت ولا ماذا فعلتَ في الحياة التي عشتها بين البشر، ولكني لا أجهل موقفك من الله، فلا تتخذني امرأة مجنونة كما يتخذني الناس، فثمَّة عِلمٌ فُقد اليوم من أوروبا، عِلمٌ وُلد في الشرق ولا يزال يعيش فيه، وهذا العلم أملكه أنا بنفسي؛ فإني أقرأ في النجوم. لا مشاحة في أن جميع البشر إنما هم أبناء إحدى هذه النيران السماوية التي أشرفت على ولادتنا، والتي طبعت سطوتها السعيدة أو المحتالة في أعيننا وجباهنا وقسماتنا وخطوط أيدينا وشكل أقدامنا وحركاتنا. أفتريد أن أكشفك لعينَي نفسك؟ أتريد أن أتنبأ لك عن حظِّك؟

فقلت لها باسمًا: كوني مطمئنة يا سيدتي، فأنا لا أنكر ما أجهل، ولا أؤكد أن في الطبيعة المنظورة وغير المنظورة، في الطبيعة التي يرتبط بها كل شيء، مخلوقات من طبقات سُفلى كالإنسان، ليست قائمة تحت تأثير مخلوقات سامية كالكواكب أو الملائكة؛ على أني لست بحاجة إليها لأعرف نفسي القائمة على الفساد والضعف والبؤس، أما ما يتعلق بأسرار مستقبلي، فأرى أن استفهام الإنسان عنها إنما هو حطٌّ من كرامة الله الذي يخفيها، ولستُ لأتكل في شأن المستقبل إلا على الله والحرية والفضيلة.

فقالت: لا فرق، فاعتقِدْ بمن تريد واتَّكل على مَن شئتَ، أما أنا فأرى أنك وُلدت تحت تأثير ثلاث نجوم سعيدة وقوية معًا، وأرى أن الله هو الذي قادك إلى هنا ليُنير نفسك، فهو بحاجة إلى من كان مثلك ينطوي على طموح وسلامة نية؛ ليستخدمه في الأعمال العجيبة التي سيعالج بها البشر قريبًا. أتعتقد أن ملكوت المسيح قد أتى؟

فقلت لها: وُلدت مسيحيًّا. فقالت: مسيحيٌّ! وأنا مسيحية أيضًا، ولكن الذي تسميه المسيح ألم يقل: إني أخاطبكم بالآيات، ولكن الذي سيجيء بعدي يخاطبكم بالروح والحقيقة؟ إذن هو هذا الذي ننتظره! هذا هو المسيح الذي لم يأتِ بعد، والذي سنراه بأعيننا.»

وقال دوميك: «لم تكن لادي إستانهوب ساحرة أو رمَّالة، ولم يكن لامرتين مكبث، على أن روح الشاعرية المعجونة بالتصوف والمشتهيات التي كان يضمرها، جعلته يؤمن بنبوءة هذه المرأة.»

أما الإيمان هذا فقد قوَّاه لامرتين بوقوفه على ضريح المسيح في أورشليم. قال ديكونيه: «ماذا ترى لامرتين يجد على ضريح المسيح؟ الإيمان الحي. فهو قد ذهب إلى قبر المسيح ليقوِّي الإيمان المسيحي الذي تلاشى في نفسه، وهو قد اتجه إلى أرض الأنبياء ليستوحي وحيًا جديدًا … وقد خيِّل إليه في تلك الأرض المقدسة أنه دُعي ليصير نبي الفلسفة ومسيحها.»

قال لامرتين يصف زيارته لقبر المسيح: «إن كنيسة القبر المقدس هي أثر جميل من آثار العهد البيزنطي، وهي سرادق نبيل طرحته التقوى البشرية على ضريح ابن البشر. وإذا ما قابلنا هذه الكنيسة بكنائس العهد الذي بُنيت فيه، نجدها أفضلها جميعًا، فكنيسة القديسة صوفيا هي في شكلها أكثر بربرية وإن تكن أكثر فخامة، فإذا رؤيت من الخارج خيِّل إلى رائيها أنها جبل ترتفع فيه أكمات من الحجارة.

أما كنيسة القبر المقدس، فهي قبَّة أثيرية منقوشة يضاف إلى جمال أبوابها ونوافذها المزخرفة دقَّةٌ في العمل وحذقٌ في الفن؛ فالحجر في هذا الهيكل قد استحال إلى دانتيللا ليصبح جديرًا بالدخول في هذا الأثر المشيَّد لأعظم فكرة بشرية. ولا مشاحة في أن كنيسة القبر المقدس لم تبقَ اليوم كما كانت في عهد القديسة هيلانة، والدة قسطنطين ومشيِّدة هذا الهيكل؛ فملوك أورشليم رمَّموها وجمَّلوها بزخارف الفن المغربي والفن الغربي اللذين اهتدوا إلى قواعدهما في الشرق. إن هذا الأثر غير جدير بالقبر، ولكنه جدير بهؤلاء البشر الذين شاءوا أن يكرِّموه.

لقد استولى الترك على هذا الهيكل المقدس، استيلاءً مكَّنتهم الحربُ منه، إلا أنهم لم يهدموه ولم يشوِّهوا جهةً من جهاته، بل يحرسونه بخشوع واحترام وتقوى تقتضيها العبادة المسيحية. ولقد رأيتُ حرَّاس هذا الهيكل فلم أقع في وجوههم وحركاتهم وأحاديثهم على شيء من ذلك الاحتقار الذي يتهمهم به البعض. ولولا هؤلاء الترك لكان القبر المقدس الذي يتنازعه الأرثوذكس والكاثوليك من جهة، وسائر الطوائف المسيحية من جهة ثانية، قد استحال مائة مرة إلى موضوع خصام وجدال بين تلك الطوائف المتنازعة. إذن، أي ذنب اقترفه الترك؟ فحيثما يرى المسلم فكرة الله في روح إخوته يحترمها وينحني أمامها.

ألا فليتساءل المسيحيون بصدق ماذا كانوا فعلوا لو سلَّمتهم مقدرات الحرب مكة والكعبة؟ أكان باستطاعة الترك أن يقبلوا من جميع جهات أوروبا وآسيا ليكرِّموا بسلام الآثار المحفوظة للإسلام؟

وبعد أن جُلْنا جولة خاشعة في الهيكل المقدس انتهينا إلى الضريح، وهو لا يزال مغطى بشبه تابوت من الرخام الأبيض يحيط إحاطة تامة بالصخر الأول الذي حُفر فيه القبر، فشاهدنا مصابيح من الذهب والفضة تنير المعبد بدون انقطاع، ونشقنا فيه عطورًا تحترق ليل نهار.

إنَّ هذا القبر — في نظر المسيحي أو في نظر الفيلسوف، في نظر الحكيم أو في نظر المؤرخ — إنما هو الحد الفاصل بين عالَمَيْن، بين العالم القديم والعالم الجديد، وهو المركز الأساسي لفكرة جدَّدت العالم، وحضارة بدَّدت كل شيء، وكلمةٍ دوَّت في الكرة الأرضية من أطرافها إلى أطرافها، وهو ضريح العالم القديم ومهد العالم الجديد. فما من حجر في هذا الملأ الأسفل استطاع أن يكون أساسًا لهيكل كهذا الهيكل، وما من ضريح خَصَبَ خصبه، وما من مبدأٍ دُفن ثلاثة أيام أو ثلاثة قرون استطاع أن يسحق بمثل هذا الانتصار الصخر الذي أغلقه الإنسان على هذا المبدأ ويكذب الموت بقيامة طلقة مستمرة.»

وكان ثمة حزن عميق ينتظر عودة لامرتين إلى بيروت؛ ففي السابع من شهر كانون الأول ماتت ابنته جوليا البالغة من العمر عشر سنوات على أثر داء في الصدر حملت جرثومته من فرنسا.

ولقد رأينا أن ننقل هنا رسالة ثمينة كتبها ده بارسيفال، صديق لامرتين ورفيقه في رحلته، وهي تتضمن عن مرض جوليا وموتها، تفاصيل لم تُكتب في موضع آخر. أما الرسالة هذه فقد وُجدت في حوزة الدكتور كابانيس الذي نشرها في جريدة «البحَّاثون والمتطفلون» في ٣٠ حزيران سنة ١٩١٣، وهذا نصها:

سيدتي

كلفني السيد والسيدة ده لامرتين أن أطلعك على الفاجعة الأليمة التي حلت بهما، فالموت قد اختطف ابنتهما الوحيدة، على حين لم يكونا يتوقعان هذه الضربة. فبعد الحمى الخفيفة وتقيوءات الدم التي انتابت جوليا في ماكون، قبيل المجيء إلى سوريا، تحسَّنت حالة الفتاة وبَعُدَ الخطر عنها، وصارت فرحة ضاحكة مشرقة. ولقد عزونا هذا التحسن إلى عذوبة المناخ الذي تمتَّعنا به، وإلى العناية التي احتيطت بها؛ على أن الفصل الرديء لم يكد يحلَّ حتى اعتادها السعال وتعبُ الحنجرة والحمى الخفيفة.

ولقد اعتنى بها طبيب كان السيد ده لامرتين قد صحبه معه في الرحلة، وطبيب إنكليزي آخر لا يقلُّ عن الأول خبرة وعلمًا؛ على أن جميع المساعي ذهبت أدراج الرياح، فماتت جوليا وهي بين ذراعَي والدها وأمها المسكينة، من غير أن تقاسي كثيرًا من الآلام وبدون نزع …

ده بارسيفال
بيروت، ١٥ كانون الأول ١٨٣٢

كان حزن الشاعر على وحيدته عميقًا جدًّا، حتى خُيِّل إليه أن سعادته قد تحطَّمت إلى الأبد، وكأنه لم يشأ أن يغادر ذلك الهيكل الميت في أرض لم يُولد بها آباؤه، فحنَّط جوليا ودفنها دفنًا موقتًا على قدم خرُّوبة مزروعة بالقرب من داره.

وكان عليه أن ينتظر قدوم الربيع ليتمكَّن من العودة إلى فرنسا، فانتظر ثلاثة أشهر كئيبة في بيروت، وفي أحد الأيام شعر بالحزن يملك عليه جميعَ مشاعره، فكتب إلى صديقه فيريو يقول: «لقد كتبتُ إليك أُطلعك على النكبة التي نزلتْ بي فهدمتْ مستقبلي وجهَّمت في عيني جميع ألوان الحياة. وها أنا اليوم مسمَّر في مكاني ريثما يسمح لي الربيع القادم بالعودة إلى فرنسا … أما حياتي في هذا العالم فقد انتهت، وأصبحتُ أعيش كما تعيش البهيمة …»

وشاء لامرتين أن يروِّح عن نفسه، فترك بيروت في الثامن عشر من شهر آذار، وراح يطوف بين خرائب بعلبك ودمشق، في حين كانت زوجته الحزينة تزور الأماكن المقدسة. وفي اليوم الثلاثين من شهر نيسان، سافر الشاعر وزوجته والحاشية إلى يافا، ومنها إلى القسطنطينية، حيث صرفوا شهرين كاملين بعد أن أرسلوا تابوت جوليا إلى مرسيليا؛ على أن طارئًا فجائيًّا طرأ على لامرتين في إحدى قرى البلغار، وفي كوخ قائم على قدم جبل هاموس؛ فقد أُصيب بداء ذات الرئة، وهو بعيد عن أصدقائه لا يواسيه ويعتني بأمره، إلا زوجته الثكلى. ولقد كان الدكتور ديلاروايير وده بارسيفال قد تقدما الشاعر وزوجته إلى فرنسا، ولم يبقَ من الحاشية إلا ده كامبا، وهو رجل عجوز لا يستطيع أمرًا. إلا أن العناية شاءت أن يُشفى لامرتين من دائه ويواصل سيره إلى فرنسا؛ ففي منتصف شهر تشرين الأول، في حين كانت زوجته تستريح في تورين مما ألمَّ بها من الأتعاب والمصائب، قصد هو إلى مرسيليا ليجيء بتابوت ابنته، ولقد حمله توًّا إلى سان بوان ودفن الجثة في الكنيسة الصغيرة التي دُفنت فيها بقايا والدته.

قال دارغو، صديق الشاعر، إن لامرتين صرف الليل الذي أعقب دفن الجثة في الكنيسة الصغيرة يتحدث إلى روح وحيدته. وقال دارغو نفسه إن لامرتين أرسل إليه في اليوم التالي كتابًا يقول فيه: «لقد وضعتُ في الليلة الفائتة تابوت وحيدتي على تابوت أمي: كلُّ ماضيَّ وكلُّ مستقبلي، ولقد انسحقتُ جسديًّا وروحيًّا ولم أبقَ أقوى حتى على الكتابة …»

وفي العام ١٨٣٤؛ أي بعد مرور أربعة عشر شهرًا على موت جوليا، كتب لامرتين قصيدة لذكرى وحيدته، وقد نُشرت هذه القصيدة في كتاب «رحلة إلى الشرق» قبل أن تُنشر في صحيفة أو في ديوان، وقبل أن يقرأها لامرتين نفسه على مسمع من أصدقائه. وهذه القصيدة أصبحت اليوم مشهورة ولا تقل ذيوعًا عن القصيدة التي نظمها فيكتور هيغو لذكرى ابنته ليوبولدين التي ماتت غرقًا، وإنا لننقل هنا بعض فقرات منها:

رضعتُ الآلام من ثدي أمي، فقلبي لا ينفض إلا دموعًا بدل الدم. ولقد اختطف الله مني لذَّة هذه الدموع فإنه جفَّفها في قلبي. فالحسرة أصبحت عسلي، وأصبح الحزن غِبطتي، وصرتُ أشعر بفطرة أخوية تجذبني إلى أي تابوت كان، وصرتُ لا أجد طريقًا توقفني إلا إذا شاهدت فيها خربة أو حدادًا!

كانت جوليا الحطمة الوحيدة من حطم عاصفتي الطويلة، والثمرة الوحيدة من تلك الأزهار التي قطفتها، كانت دمعة في رحيلي وقُبلة في عودتي، وعيدًا دائمًا في بيتي الطوَّاف، كانت شعاعًا من الشمس على نافذتي، وعصفورًا غردًا يشرب على فمي، ونفسًا موسيقيًّا يتصاعد في الليل بالقرب من مرقدي.

بل كانت أكثر من ذلك كله، كانت — وا حرَّ قلباه — صورة أمي، وكان يخيَّل إليَّ أن نظرات أمي تعود إليَّ في عينيها. كان صوتها صدى عشر سنوات من الغبطة، وكانت قدمها في البيت تملأ الهواء سحرًا وعذوبة، وبصرها يصعد الدموع إلى عينيَّ، وابتسامتها تضيء في قلبي.

ولم تكن نظراتي وقلبي، وهي تُسكِرني غبطة وصلاة؛ لتنتبه إلى أن جبينها يُثقِل ذراعي من يوم إلى يوم، وأن قدميها تُثلِجان يديَّ كالحجر … جوليا! جوليا! لماذا تشحبين؟ … فيمَ هذا الجبين المبلل؟ وهذا اللون المتبدِّل؟ تكلَّمي! ابتسمي لي! وافتحي لي عينيك لأقرأ فيهما! …

إلا أن زُرقة الموت كانت تزنِّر شفتها الوردية، وكانت الابتسامة تموت عليها حالما تولد، ونَفَسها المقتضب يزداد سرعةً كخفقان جناح يجثم. وعندما حملت روحها في آخر نفس، مات قلبي في صدري كالثمرة التي تحملها المرأة في أحشائها ميتة باردة!

لئن كانت إيطاليا هي التي كشفت للشاعر مغاني النور، فالشرق هو الذي كشف له المدى الذي لا حدَّ له، وجمال الصحراء القاحل. فأمام آثار بعلبك وأمام عظمة أرز لبنان رحبت مخيلة لامرتين، وفي وسط الآلام والوحدة وتجاه مشاهد الطبيعة والماضي اكتسبت مخيلته ذلك النشاط وتلك الرحابة اللذين بقي محافظًا عليهما طوال حياته.

إن في روح لامرتين وفي مخيلته جمالًا شرقيًّا تغلَّب على الجمال الغربي الذي انخسفت آياته لدى انعكاس المشاهد الشرقية عليها. جاء لامرتين إلى الشرق ليبحث عن ذلك الجمال المحتجب وراء أكماته وبين أنقاضه، فتراءت له بقايا الأديان والتقاليد والفن والجمال، فرحَّبت مخيلته وروحه بهذه الآثار وحمل أسرارها إلى بلاده. فمَن يُطالع روايته «سقوط ملاك» يرى روح الأنبياء، أنبياء التوراة، متقمِّصة في شذرات من السِفر القديم. ومن يطالع روايته «جوسلين» يرى في وصف مغارة النسور أو في وصف الشتاء والصيف والربيع والخريف ذلك الوصف الذي أعاره الشاعر لجبال الدوفينه صورة واضحة عن صنين وجبل الكرمل. ومن يتمعَّن في هيئة الفلاح الذي هدى جوسلين إلى مغارته يتمثَّل له الفلاح اللبناني بعباءته ومهمازه.

تأثير الشرق في لامرتين

قلنا إن مخيلة لامرتين رحبت أمام آثار بعلبك وعظمة أرز لبنان، وإن الشرق كشف له عن المدى الذي لا حدَّ له، ﻓ «جوسلين» لم تكن سوى قصيدة في أربعة أناشيد صغيرة نظمها الشاعر قبل مجيئه إلينا؛ إلى الشرق، على أنه ما كاد يرجع إلى فرنسا حتى عاد إلى قصيدته فرحبها بما أشرب في روحه ومخيلته من مشاهد الشرق الجميل.

ولم تكن «سقوط ملاك» أيضًا سوى هيكل قصيدة رحبة حلم به الشاعر في طريق فلورانسا قبل سفره إلى الشرق؛ على أنه لم يكد يطوف في أرض الأنبياء حتى نضجت تلك القصيدة في مخيلته وقلبه. فتلك الطبيعة المسيحية التي أبرزها الشاعر في «جوسلين» بشكلها الحديث وبكل ما فيها من التنازع والتضحيات، أراد هذه المرة أن يبرزها هي نفسها بشكلها الإنساني الذي يمتُّ إلى العصور الأولى، فسيدار الملاك ودائيده الابنة التي تنتسب إلى إحدى قبائل البشر الأولى، هما البطلان اللذان ذهب لامرتين لكي يبحث عنهما في بلاد الطوفان وبالقرب من مصادر الزمان.

تعرَّف سيدار، الملاك الساقط، إلى دائيده وأحب كلٌّ منهما الآخر على مرتفعات لبنان أولًا، ثم انتقلا إلى شواطئ العاصي، ولقد صوَّر لامرتين حولهما تقاليد القبائل الرحَّالة التي تعوَّدت الخضوع إلى عنف غرائزها الأولى، ثم مضى بهما إلى بابل، قاعدة الحضارة البشرية التي تقدَّمت الطوفان، وكان ثمة شعب وديع خانع، تسلَّط عليه قوم رفعوا نفوسهم إلى مصاف الآلهة، فوقع الزوجان بين أيدي هؤلاء الظالمين، وراحا يذوقان من العذاب ما لا يقوى عليه الإنسان، إلى أن قدِّر لهما الهرب إلى مجاهل الصحراء حيث قضى عليهما العطش والجوع.

وكان سيدار ودائيده قد فرَّا من وجه القبائل المنتشرة على شواطئ العاصي قبل أن يقعا في قبضة الجلَّادين الجبابرة، آلهة بابل، وراحا يهيمان على وجههما في مرتفعات جبل الكرمل، حتى اهتديا إلى مغارة يقيم بها ناسك متعبِّد لله الحقيقي. وكان هذا الناسكُ الصالحَ الوحيدَ في ذلك الزمن الطافح بالمفاسد والموبقات، فأخذ يقرأ عليهما شذرات من السفر القديم، وهذه الشذرات أو هذا الإنجيل الفلسفي إنما هو مختصر الشرائع الدينية والاجتماعية التي أراد الشاعر أن يبثَّها في البشر. ولقد استوحاها من أسفار التوراة ومن سفر الاشتراع بنوع خاص. جاء في هذه الشذرات ما يلي:

علموا أبناءكم اسم الله السماوي كما تسقونهم قطرات الحليب عندما يجوعون؛ حتى يذوقوا عذوبةً ولذةً قبل مرارة الحياة! سيكون اسم الله غوث البريء في محاكمته، ونيران المجرم في تخفِّيه! سيكون اسم الله صديق الأجذم، وقاضي العبد، ووصي الأرملة والقاصر! سيراه البائسون والمنقطعون من أعماق أوجاعهم يضيء كالشعاع خلال دموعهم.

لا تضع حدًّا بين أمَّة وأخرى، وإذا قيل لك إن هذه الذرِّية لشرسة، وهذا النهر يفرِّق بينك وبينها، أو إذا قيل لك إن هذا الجبل يفصلك عنها، فقل لمن يقول لك ذلك إن الله يرانا جميعًا ويباركنا، والفضاء يجمعنا، والسماء تسترنا.

لا تنزع الغصن مع الثمرة، فطوبى لليد التي تزرع وعارٌ على اليد التي تسيء! لا تترك الأرض عارية قاحلة، فآباؤك رأوها خصبة عند مجيئهم.

لا تشمت بالتراب الذي تحت قدميك، فسوف تجد فيه مرقدك الأخير. واقتسم الأرض بينك وبين إخوتك، فالله لم يتقاضَ منك ثمنًا لها. تعاضدوا في المصائب وكونوا إخوة وآباء، ولتكن الرحمة عدلًا بينكم! تلفَّظوا بالحقيقة دائمًا فلا تحتاجوا إلى القسم. دعوا خبزكم على عتبة كهوفكم للجائعين، واتركوا بعض ثمار على غصونها لعابري الطرق.

لا يكن عندكم شرائع ولا مجالس لمحاكمة المذنب، ولا تبيحوا للقاضي حق القتل لينتقم للموت بالموت! لا تُجلِسوا بينكم قضاةً يرتكبون الإثم خفية ويعاقبونه جهرًا! بل هذِّبوا نفوسكم وأخلاقكم بالعلوم، فتشعروا بالقاضي والجلاد في ضمائركم! لقد وهبَتْكم السماء عاطفة الغفران فاغفروا. إن هبة الغفران لأعظم هبات الله للإنسان.

هذه اللهجة التي خاطب بها لامرتين أبناء جنسه في فم الناسك، هي التي خاطب بها الله بلسان موسى جميع بني إسرائيل في البرية. خاطب موسى شعب إسرائيل في الإصحاح الأول من سِفر التثنية قائلًا: «اسمعوا بين إخوتكم واقضوا بالحق بين الإنسان وأخيه ونزيله. لا تنظروا إلى الوجوه في القضاء. الصغير كالكبير تسمعون. لا تهابوا وجه إنسان لأن القضاء لله.»

وخاطب موسى شعب إسرائيل قائلًا: «إذا خبطتَ زيتونك فابقِ على غصونه بعض ثمار لعابري الطرق، وإذا حصدتَ حقلك ونسيتَ فيه بعض رزم فلا ترجع لتأخذه، إنه لليتيم والفقير والأرملة يكون.»

والتوراة هي أيضًا نفحة من الشرق! وكما أحسن الشرق إلى لامرتين عندما أوحى إليه أسطع كواكبه إن في نثره وإن في شعره، هكذا لامرتين فقد أحسن إلى الشرق وإلى سوريا ولبنان بنوع خاص.

لم يكن لامرتين كهؤلاء الكَتَبة الأوروبيين، الذين مروا في هذه البلاد مرور الطيف، وكفاهم أسبوع أو أسبوعان ليكتبوا عنها المجلدات ويصفوها من أطرافها إلى أطرافها، بل كان من هؤلاء الذين يحترمون نفوسهم، ومَن كان يحترم نفسه يحترم الغير، فلا يبخسه حقه في تقاليده وعاداته، ولا يشوِّه نواحيه الجميلة بفلتات من اللسان تدل على تحامله أو على جهله.

كان لامرتين أول من عرَّف الأوروبيين إلى سوريا ولبنان، وكشف لهم تلك الكنوز الشعرية المطمورة فيهما. ولقد نظر إلى آثارنا نظرة احترام وإعجاب وهو يعلم، حقَّ العلم، أنها ليست بقايا مدافن طواها الزمن، بل مدنية عظيمة لا تزال الحياة تتمشى بين رسومها وأنقاضها!

قال يصف هياكل بعلبك: «تراءت لنا في الشفق البعيد جمهرة من الخرَب المصفرَّة، تذهِّبها الشمس المنحدرة إلى المغيب، وتنفصل رويدًا رويدًا عن أخيلة الجبال لتغيم في شفافة من أشعة المساء. فأشار الأدلَّاء إلى هذه الخرب هاتفين: بعلبك! بعلبك! كانت تلك الخرب الجبارة معجزة الصحراء، بعلبك الساحرة التي خرجت من ضريحها المجهول لتقص علينا أنباء الأعمار التي فقد التاريخ تذكارها.

فلما بلغنا إلى تلك الهياكل العجيبة، لبثنا مذهولين أمام السحر المنبثق من أطوادها الساحقة، وأمام قطع الغرانيت الأحمر والأشهب، والرخام الأبيض، والحجارة الصفراء، والأعمدة المفرَّضة، والتماثيل المطروحة على الأرض، يمتزج بعضها ببعض كحمم بركان لفظ بقايا دولة عظيمة!

ولما هبط الليل صعد القمر في السماء الصافية، وعبر بين شقوق جدار كبير من الحجارة البيضاء، وتخاريم شرفة عربية تطل على الصحراء! عند هذا استولى علينا ذهول غريب، واستسلمنا إلى أحلام عميقة، أما ما فكرنا به في تلك الآونة، وفي ذلك المكان البعيد عن العالم الحي، في ذلك العالم الميت، أمام شهود الماضي المجهول الذي يقلب بطنًا لظهر جميع افتراضاتنا في التاريخ وفلسفاتنا في البشر، فالله وحده عليم به.»

وقال يصف روعة المناظر اللبنانية، وقد صوَّرها بريشة لم يحملها شاعرٌ لبنانيٌّ إلى الآن: «صعدنا نتسلق الجبال، فأبصرنا وراءنا البحر يحتجب رويدًا رويدًا عن الأنظار، وقد انبثق الفجر وأطلَّت شعفات القمم تذوب على رءوسها أكواد الثلوج، فتراءت لنا الصحراء الفسيحة تلمع تحت بخارها الناري كقطعة من الحديد أعارتها النيران لونها الأحمر، أو كمحيط عظيم لا شواطئ له تسبح فيه الشمس والجبال والغيوم!

بقينا ثلاثة أيام نسير في طريق وعرة، فنجتاز المجاري المتحدِّرة من أعالي الجبال، ونمر على خيم العرب المنتشرة هنا وهناك، كأنها صخور بيضاء تلمع خلال الأغصان، وعندما يهبط الليل نحلُّ ضيوفًا مكرَّمين على قبائل الفلاحين؛ فالشرق يكرم الضيف أيًّا كان، حتى سمعنا أجراسًا تدوي في الأبعاد الشاسعة، فأدركنا أننا على مقربة من جبال الأرز، وما زلنا نسير حتى تراءت لنا أغصان الأرز، تلك الأشجار الجبارة التي غرسَتْها يمينُ الله، وتوَّجت بها جبين ملك العواصف. ولما بلغنا إليها أحسسنا برهبة عظيمة تستولي على نفوسنا، وجعلنا نحدق إلى اللجج العميقة التي تكتنف تلك الأشجار الباسقة الغضَّة، فأشار الدليل إلى فرجة حفرتها المياه، ونحتت عليها نقوشًا مختلفة، وإلى فرجة قاتمة تنفتح عن مطارح صعبة كَئود يقوم في وجهها صخر كبير، كأنه جدار الطبيعة يتدلى عليه غصن من الأرز متهدِّل الأوراق، فبصرتُ بنقاط من الزبد عالقة بثنياته، تضطرب عليها أشعة الصباح المسكرة.»

كتاب لامرتين عن الشرق

لا مشاحة في أن لامرتين سلك في المؤلَّف الذي وضعه عن الشرق طريق الأدب، كما سلك طريق التاريخ؛ فهو قد شاء أن يزخرف بعض المشاهد، فبالغ في وصفها وتلوينها بحرية مطلقة، حتى إنه اختلق كثيرًا من المشاهد التي استوحاها استيحاء من الشرق.

ولقد وضع الدكتور ديلاروايير، رفيقه في رحلته، كتابًا موجزًا عن الرحلة التي قام بها مع الشاعر الكبير، جاء تصحيحًا وافيًا للحقائق التي بالغتْ في أداءها مخيلةُ الشاعر، الذي عمد في تلوين مشاهده إلى مجاراة الكاتب الكبير شاتوبريان الذي تقدَّمه في وصف الشرق.

على أن الشاعر، وإن يكن وفِّق في ألوانه الساحرة، إلا أنه لم يستطع مجاراة متقدِّمه في الأنوار المنبعثة من الصور، وفي تحليل الألوان والظلال، وهو، وإن لم يكن استطاع أن يرتفع في دقة الفن إلى مستوى شاتوبريان، إلا أنه بقي أشعر منه وأشد حسًّا وعاطفة.

ولم يكن قصد لامرتين من سياحته في الشرق أن يضع مؤلَّفًا، قال: «لا أظنني أضع كتابًا عن رحلتي، وما قصدي من السياحة إلا البحث عن تأثيرات خاصة.» ولكنه لم يكد يعود إلى بلاده، حتى أخذ صديقه دارغو يلحُّ عليه في كتابة مذكراته، وكان لامرتين في حاجة قصوى إلى المال، فلم يجد بدًّا من كتابة هذه المذكرات ونشرها، ولقد باع الثلاثة المجلدات الأولى بمبلغ مائة ألف فرنك دُفعت نقدًا.

وكأن المشاغل السياسية ألهته عن مواصلة العمل، فعاد إليه في منتصف صيف العام ١٨٣٤، وفي ٢٤ أيلول من هذا العام نفسه كتب إلى فيريو يقول: «لقد أنجزتُ نسخة مذكراتي السيئة …» وفي ٢٥ كانون الثاني من العام ١٨٣٥ كتب إلى فيريو يقول: «سأُرسل إليك قريبًا أربعة مجلدات صغيرة تحتوي مذكراتي البائسة التي تُطبع اليوم بعجلة. إني خجول بها، وكنت أودُّ أن أسترجعها لو لم أكن بحاجة مزعجة إلى المال …»

وظهرت المجلدات الأربعة في ٦ نيسان ١٨٣٥، فصادفت نجاحًا كبيرًا من حيث الرواج، إلا أنها أثارت انتقادات قاسية عنيفة، ولدى مرور شهرين على انتشارها كتب لامرتين إلى صديقه فيريو يقول: «هل قرأتَ مذكراتي؟ فقد أثارت انتقادات قاسية في جميع الأوساط السياسية والأدبية والدينية، إلا أن القراء المجردين أقبلوا عليها إقبالًا عظيمًا وتذوقوها، فقد بيع منها عشرون ألف نسخة بين بلجيكا وهنا، أما ألمانيا وإنكلترا فقد طفحتا بها، وبين يديَّ الآن ترجمتان إنكليزيتان، وأما مقالات الصحف فهي مُرَّة بحقي، وإني أشعر بالملكيين والجمهوريين ورجال القلم جميعًا يهوون على ظهري، إلا أن هذا كله لا يؤثر بي أكثر من تأثُّري بقطرة مطر تسقط على قبعتي في عاصفة من عواصف الربيع …»

انتصار البلاغة

في أواخر شهر آذار من العام ١٨٣٣، في حين كان لامرتين يزور خرائب بعلبك، ناوله أحد الفرسان العرب رسالة من شقيقته، مدام ده كوبان، تُطلِعه فيها على أنه انتُخب عضوًا في مجلس النواب. ولم يكد لامرتين يدخل إلى المجلس حتى اتخذ لنفسه برنامجًا خاصًّا؛ وهو اعتناقه المبادئ، واحتقاره الأحزاب السياسية بما فيها من قصر النظر والمساومات القبيحة. وما عتَّم الأمر أن راح زملاؤه يتجنبونه ويحذرون شرَّه، وكثيرًا ما كانوا يتهمونه بأنه يعالج سياسة شعرية خيالية. على أن تاليران كان ينظر إلى لامرتين بعين أصدق وأجلى؛ ففي أحد الأيام كان لامرتين مدعوًّا إلى وليمة دُعي إليها تاليران، السياسي الفرنسي العظيم، وكان وقتئذ في الثانية والثمانين من العمر، فلما انتهى الغداء دنا تاليران من الشاعر وطلب إليه أن يتحدثا على حدة، وإذ اختلى الاثنان قال تاليران للامرتين: «لقد دخلتَ في المسائل دخولًا جميلًا.»

فأجابه لامرتين مستغربًا: «أنا يا سيدي الأمير؟ في المسائل؟ أظنُّك تمزح، فأنا باقٍ في الخارج، أو على مقربة من هذه المسائل. إني أعتنق فكرًا لا حزبًا.»

فاستطرد تاليران بصوته النحاسي الفخور قائلًا: «إنه لاتِّضاع عجيب! قلتُ إنك دخلتَ في المسائل، في مسائل هذه البلاد بصدق وجرأة لم يسبقا لأحد منذ تموز إلى اليوم. إن المسائل تسير بسرعة، أنت تسير أيضًا بسرعة مثلها، وقد لا يمر وقت قصير حتى تقبض على زمام البلاد.»

قال الشاعر لصديقه فيريو عُقيب هذه المقابلة بينه وبين تاليران: «ما رأيك بهذا الدماغ البالغ من العمر اثنتين وثمانين سنة؟ كنتُ أظنُّه ينظر إليَّ نظرته إلى خياليٍّ يحلم بعيدًا عن أي عمل كان.»

ولكن تجرُّد لامرتين ما لبث أن ظهر في المجلس ظهورًا واضحًا، بفضل الخطب البليغة التي كان لها في المجلس تأثير كبير، والتي تلقَّاها الرأي العام بعواصف من التصفيق. وفي أواخر السنة ١٨٣٨ نال فوزه الأول في السياسة بدفاعه عن وزارة موله في وجه الحزب المعارض، الذي كان يرغب في إسقاط الوزارة، والذي يديره غيزو وتيير وأوديلون بارو. وإذ كان يدافع عن هذه الوزارة كان يوجِّه إلى خصومه وأصدقائه معًا حقائق صارمة كهذه مثلًا: «لا ينبغي لكم أيها السادة أن تتصوروا أن جميع الناس تعبون مثلكم، إن كنتم تشعرون بتعب من الحوادث الخطيرة التي هزَّت هذا العصر وهزَّتنا معه، فالأعقاب التي تكبر وراءنا ليست تعبة، وهي تريد أن تعمل وتتعب بدورها!»

وكان أن مائتين وواحدًا وعشرين نائبًا صوتوا مع لامرتين تأييدًا للحكومة. ومنذ ذلك الوقت أصبح لامرتين زعيم مبادئ وأفكار، لن يلبث أن يضم حوله الفئة النيرة في المجلس، ومنذ ذلك الوقت أيضًا تمكن من موهبته الخطابية التي بقي خمس سنوات يمرِّنها في المجلس، والتي رقي بها أخيرًا إلى مستوى أعظم خطباء أوروبا. قال كورمنين، النقَّاد المر: «إن لامرتين يرتجل في أي موضوع كان بجرأة وحماسة وذوق وجاذب، وبعبارة ملونة غنية بالصور والأفكار، لا يتاح لأي خطيب في البشر أن يجاريه فيها.»

ومن أروع الخطب التي ألقاها لامرتين في المجلس، الخطاب الذي ارتجله عندما حملت الباخرة رفات الإمبراطور نابوليون من جزيرة القديسة هيلانة، واختلف أعضاء المجلس على المكان الذي يصلح لأن يكون مقرًّا أخيرًا لقاهر أوروبا. قال: «أعترف أمامكم، أمام هذا المجلس وأمام هذه الأمة المضطرمة شوقًا إلى تذكار، أنني لا أنظر من غير أسف إلى بقايا هذا الرجل العظيم، تبكِّر في النزول من تلك الصخرة، في وسط ذلك المحيط الذي اتجه إليه إعجاب العالم وتقواه ليأتينا بها من خلال لجَّة آلامها.»

فقاطعه النائب أوديلون بارو بقوله: «أطلب الكلام …» فاستطرد لامرتين قائلًا: «أرجو من حضرة الخطيب الذي يقاطعني ألا يحكم على فكرتي قياسيًّا، فهي وطنية بقدر ما هي فكرته. أجل، أيها الأسياد، معاذ الله أن ألوم الحكومة التي نزلت على فطرة البلاد النبيلة، أو الفكرة الملكية التي تنادي من المنفى رفات القائد العظيم. لقد أبصرتُ بأمِّ عيني ضريح ثميستوكل، وقد أُهيب به هو أيضًا من المنفى ليرقد على شاطئ البحر تجاه سلامين، ولقد باركت روح أثينا لأجل ذلك، كما ستبارك الأجيال روح فرنسا أمام الضريح الذي ستختارونه، إلا أني لا أحسبها إهانة لذكر نابوليون أن يبقيه الحظُّ مدة بعد تحت صفصافة سنت هيلين.

كان الأقدمون يتركون فسحة من الوقت تمر بين موت الأبطال ومحاكمة الأجيال، فعندما تكون أحكام التاريخ خالية من الأغراض تصبح وهي ثابتة لا ترد، وقد تكون هذه البقايا لم تزل مضطرمة فلا يصح أن تمسها يد! إن العدالة تربح من هذا التأني، ولا يخسر المجد ومعرفة الجميل شيئًا … ولكن، عُرض على فرنسا أن يرجع إليها ذلك القبر، فلم تجد بدًّا من أن تنهض بأسرها لتستقبله وتحضنه في ضريح وطني. إذن فلنتقبله بتأمل، ولكن من غير تعصب، وليسمع الشعب صوت العقل في وسط ذلك الإعجاب الذي لا يُسمع منه إلا صوت الأبهة والمجد؛ فلا ينبغي لنا أن نكون أكثر فخرًا بنبوغنا منا بالحقوق التي لنا. إني وإن كنت أحد المعجبين بهذا الرجل العظيم، إلا أني لا أترك للحماسة سبيلًا إليَّ من غير بصيرة! إني لا أسجد أمام هذا التذكار، ولست من ذلك المذهب النابوليوني، أو تلك العبادة القائمة على القوة التي يريد البعض أن تخلف مذهب الحرية الرصين في روح الأمة.

لا أعتقد أنه من الحكمة أن نؤلِّه الحرب من غير انقطاع … فلقد سمعتُ مرة أحد الفلاسفة يؤلِّه المجد ويعزو الألوهة إلى هذا الطاغية، فضحكتُ منه … فهذه البدع البراقة ليست خطرة في فم الفيلسوف، فهي قياس باطل لا غير، ولكنها تتخذ طابعًا آخر في فم الرجل السياسي. إن القياسات الباطلة في الحكومات لا تلبث أن تصبح جرائم الأمم أو نكباتها! فحذارِ أن تعطوا حسامًا كهذا الحسام، لعبةً لشعبٍ كهذا الشعب! وكما أني لست متهوِّسًا، هكذا لا أريد أن أكون خبيثًا، ولا أريد أن أعتنق مذهبًا لا أجد بذرة له في قلبي أو في روحي!

يجب علينا، نحن الذين ينظرون إلى الحرية نظرة رصينة، أن نزن براهيننا، فلا نخدع رأي شعب يجيد فهم ما يبهره أكثر مما يجيد فهم ما يحتاج إليه، فحذارِ أن نجعله يحتقر هذه النظم الأقل سطوعًا والأكثر وطنية من تلك، وهي التي نعيش في ظلها، والتي مات آباؤنا في سبيلها بعد أن قاتلوا حقبة من الزمن! حذارِ أن نمحو حكومة العقل! يؤكد لنا الوزراء أن العرش لا يتضاءل أمام ضريح كهذا، وأن تلك المواكب وتلك التيجان الموقتة التي وُضعت على ما يسمى حلالًا، وتلك النشرات الشعبية، والملايين من المجلدات التي تعبِّر عن الأفكار النابوليونية، وذلك التعبد للانتصارات لا خطر منها على مستقبل الحكومة الممثَّلة، ولكني أخشى أن يردَّد على مسامع الناشئة: لا شعبيَّ إلا المجد، ولا نتيجة إلا في الانتصارات؛ كونوا عظماء واعملوا ما يبدو لكم، اشهروا حروبًا، واكسبوا مواقع، واجعلوا نظم بلادكم لعبة … أبهذه التعاليم تصل الأمة إلى معرفة حقوقها؟ …

لو كان هذا القائد العظيم رجلًا عظيمًا كاملًا، لو كان واشنطون أوروبا، لو أنه بعد أن دافع عن الوطن وأدبَّ الذعر في أخصام الثورة في الخارج، أيَّد التنظيمات الحرة، وثبَّت ظهور الديموقراطية في فرنسا، لو أنه بدل أن يجعل نفسه رجعة حيَّة للماضي، فيتصرَّف بالحكم المطلق ويستثمر هوس الروح الموقت، تنحَّى هو نفسه كصولون أو كواضع شرائع أمريكا، ولو أنه تنحَّى في نزاهته ومجده ليترك المكان للحرية، قد تكون جميع هذه الاحترامات التي يرفعها إليه جمهورٌ يخص بالعبادة من يسحقه قد جنحت عنه، وقد يكون رقاده في ضريحه أكثر سلامًا منه اليوم.»

الشعر في السياسة

كان لامرتين، على انغماسه في السياسة، يجد متَّسعًا لاستقبال عروس شعره؛ فقد كان يصرف فرص الصيف في قصره بسان بوان ساعيًا جهده لنسيان السياسة — إن كانت السياسة تتخلى دقيقة عمن يعتنقها — والرجوع إلى قيثارته. إلا أنه كثيرًا ما كان يقاطع عمله ليستقبل زوَّاره، وقليلًا ما كان هؤلاء الزوار يهادنون في الهبوط عليه؛ فلامرتين في ذلك الوقت كان غنيًّا وعظيمًا، وكان عليه أن يستقبل ويضيف أمراء الفكر ورجال الفن والخطباء والسياسيين وملكات الجمال والجاذب والشعراء والكتبة والصحفيين الذين كانوا يفدون عليه جماعات جماعات.

على أن هؤلاء الزوار لم يكونوا يستطيعون الحيلولة التامة بين الشاعر وعروسه؛ فبعد أن نشر «جوسلين» و«سقوط ملاك»؛ الروايتين الشعريتين اللتين أنجزهما في وسط مشاغله السياسية، راح يعد للطبع ديوانًا جديدًا، إلا أنه كلما كان يكبر ويسمو في مقام السياسة والخطابة كان الجمهور يقصيه عن مقامه الشعري. على أن هذا الإقصاء المتكلف لم يكن يسلخه عن عروسه، بل كان يستقبلها ويستقبل السياسة معًا.

جوسلين٣

في أواخر شهر شباط من العام ١٨٣١ ظهرت «جوسلين»، وهي رواية شعرية مؤسَّسة على فكرة التضحية، فراجت رواجًا عظيمًا، إلا أنها لم تسلم من لذعات النقاد، الذين حملوا على الشاعر حملات عنيفة؛ فقد أخذوا عليه نقصًا في وحدة القصيدة وضعفًا في بعض مقاطعها، وأخذ عليه دكاترة الدين مآخذ شتى، فقد أبى بعضهم إلا أن يرى في «جوسلين» تحاملًا على الإكليروس وعلى المسيحية معًا، وهذا ما دعا لامرتين إلى الرد على هذا البعض بقوله: «يضلُّ القارئ إذا هو رأى في «جوسلين» غير الوجهة الشعرية، فليس ثمة مقصد خفي، ولا مذهب من المذاهب ولا جدال لنقض إيمان ديني أو لتأييده، وليس موضوع روايتي هذه من المخترعات، بل هو حادث حقيقي.»

سقوط ملاك٤

لم تكد «جوسلين» تظهر حتى كتب لامرتين إلى فيريو يقول: «سأُصدر بعد مرور ثمانية عشر شهرًا رواية شعرية في مجلدين، تختلف اختلافًا كبيرًا عن «جوسلين»، وهي الصفحة الثانية من ملحمتي الهندية …»

ماذا يقصد لامرتين بالملحمة الهندية؟ أيقصد أنه يفكر في كتابة ملحمة عن الهند؟ لا، بل إن القصيدة، التي فكَّر فيها وهو على طريق روما، ستكون شبيهة بالملاحم التي وضعها الشعراء الهنود كملحمتَي «مهابهارتا» و«رامايانا».

وكان الشاعر قد فكَّر في أن يبني روايته هذه على الموضوع الآتي: «تجري مشاهد الملحمة قبل أيام قليلة من اليوم الأخير. ثمة شابٌّ جالس بين خرائب مدينة لا اسم لها، يُبصره قوم مارون، فيسألونه من هو، ومن أين أتى، وماذا يريد؟ فيجيبهم أنه رجل، ولكن أشقى البشر أجمعين؛ لأن البشر يريحهم الموت في الآخر، أما هو فليس الموت لديه سوى رقاد قصير أو فترة بين آلامه؛ لأنه قُضي عليه أن يموت ثم يُبعث ثم يموت ثم يُبعث إلى أن يطهر في نظر الله. كان هذا الشاب قبل الخليقة فيسرد مشاهد الخليقة على مسمع القوم …»

على أن لامرتين ما لبث أن عدَّل موضوعه هذا، ومن هذا التعديل الذي استوحاه من الشرق خُلقت روايته «سقوط ملاك». وإليكم موضوعها: «يُعهد إلى ملاك — قبل الطوفان — أن يحرس إحدى بنات حواء، وهي أجمل روائع العلي العظيم، فيهيم بها ويتمنى أن يصير بشريًّا ويمتلكها ولو دفع الموت ثمنًا لهذا الامتلاك؛ فيغضب الله عليه ويمنحه مشتهاه فيحوِّله إلى إنسان بعد أن يحكم عليه بأن يفقد من يحب، ولا يجتمع به في السماء إلا بعد أن يتطهر بالحياة والموت مرات عديدة. ثم يأتي الطوفان ويجرفه مع من يهوى.»

لامرتين في أوج السلطة

وكانت ثورة ٢٤ شباط ١٨٤٨، وهي الثورة التي قلبت الملكية للمرة الثانية، فرأى لامرتين نفسه محاطًا بعواطف الشعب، وما عتَّم أن سُمي وزيرًا للشئون الخارجية وعضوًا لحكومة موقتة. وفي الخامس والعشرين من شهر شباط استطاع لامرتين بخطاب ألقاه في الشعب الثائر أن يُسقط العلم الأحمر، علم الثورة، الذي كانت جماهير غفيرة من الفلاحين والعَمَلة قد حملته إلى قصر الحكومة لترفعه إلى الأبد مكان العلم المثلث الألوان. وهذا الخطاب، الذي أسقط به لامرتين علم الدم، كان أعظم فوز أحرزته الكلمة البشرية؛ ففي تلك الدقيقة العصيبة التي كان لامرتين يلقي بها خطابه في الشعب الثائر استطاع هذا الشاعر الخطيب أن يضارع نبوغ ديموشتين وشيشرون!

لامرتين يُسقط العلم الأحمر

كانت الجماهير التي غزت قصر الحكومة حاملةً العلم الأحمر يراوح عددها بين أربعة أو خمسة آلاف شخص، وكانت قد تدفَّقت من جميع أحياء باريس تلوِّح بالعصي والخناجر والفُئوس والحراب والبنادق، فاحتلَّت جميع قاعات القصر بعد أن اغتصبت الأبواب والمعابر مهدِّدة بصراخ الموت وصليل الحراب وإطلاق البنادق.

قال هنري روبير في محاضرة عن ثورة ١٨٤٨ ألقاها في العشرين من تشرين الثاني من العام ١٩٣٢: «إلا أن الحكومة كانت تملك قوتين تضمن بهما النظام وتدفع الخطر هما: بلاغة لامرتين ومائة ألف رجل من الحرس الوطني.»

وكان لامرتين حاضرًا في تلك الساعة العصيبة، فرُفع على الأكتاف والأذرع، وما هي دقائق قليلة حتى كان أمام الجماهير الساخطة وجهًا لوجه؛ على أن وجوده أمام الثائرين لم يخفِّف من غضب هؤلاء، وعبثًا حاول بعض الوطنيين أن يتوصل إلى إسكات الجماهير لتصغي إلى لامرتين، فكانت تصرخ وتزأر وتهدد بالموت ملوِّحة بالسلاح يعلوه العلم الأحمر.

وبعد جهد جهيد استطاع رفاق الشاعر أن يُصعدوه إلى كرسي مخلَّع دعموه بأيديهم لئلا يهوي به، وإذا بصوت لامرتين يرتفع في وسط الضجيج والصخب واللعنات المتتابعة، فخفَّ الضجيج شيئًا فشيئًا وساد السكوت، واستطرد لامرتين بعد أن امتدح الانتصارات التي أحرزتها الثورة لأجل الجمهورية والديموقراطية، قائلًا: «إني لأؤثر على هذا العَلَم الدموي العَلَمَ الأسود الذي يُرفع أحيانًا في مدينة مدمَّرة. أفتريدون أن يكون علم جمهوريتكم أشأم من علم المدينة المهدومة؟»

فارتفعت أصوات قائلة: «لا، لا! إن لامرتين محق، أيها الصحاب، فلا نبقِ للوطنيين هذا العلم المخيف!» وزأرت أصوات قائلة: «بلى، بلى! هذا عَلَمُنا، هذا عَلَم الشعب الذي انتصرنا به، ففيمَ لا نُبقي بعد النصر الشعارَ الذي صبغناه بدمائنا؟»

فأجاب لامرتين: «أيها الوطنيون، تستطيعون أن تُسقطوا الحكومة، وأن تأمروها باستبدال علم الأمة واسم فرنسا، وإذا كنتم تريدون أن تتوغلوا في ضلالكم، تستطيعون أيضًا أن تفرضوا على الحكومة إنشاء جمهورية حزبية؛ ولكن الحكومة تؤثر الموت على أن تلطِّخ شرفها بالانصياع لكم. أما أنا فلن توقِّع يدي على هذا المرسوم! وإني لأدفع حتى الموت هذا العلم الدموي. فهذا العلم الأحمر الذي تحملونه إلينا لم يَطُف إلا الشان ده مارس مجروفًا بدم الشعب في ٩١ و٩٣، أما العلم المثلث الألوان فقد طاف العالم باسم الوطن ومجده وحريته.»

فارتفعت الأصوات هاتفة للامرتين وللعلم المثلث الألوان. وفي تلك الآونة، تدفَّق إلى القاعة الكبرى التي كان الشاعر يخطب فيها، جمهورٌ جديد لم يكن قد سمع كلام لامرتين، وعلا الصياح من كل جانب، فكان البعض يهتف للعلم الأحمر، والبعض للعلم المثلث الألوان الذي أنقذه الخطيب، وكانت التجاديف والتهديد والأعلام الحمراء الممزقة والأسلحة النارية الملوحة في الجو فوق الرءوس تمثل مشهدًا من أشأم مشاهد الثورة الكبرى، وبينا الجماهير على ما هي عليه، وثب لامرتين إلى ما بين الحزبين، فصرخ الوطنيون الذين سمعوا لامرتين للمرة الأولى قائلين: «هو ذا لامرتين! افسحوا للامرتين! أصغوا إلى لامرتين!» فزأر الهاجمون قائلين: «لا لا! ليسقط لامرتين! الموت للامرتين! لا كلام ولا خطب! المرسوم أو قتل الحكومة الخائنة!»

إلا أن هذا التهديد لم يُرجع لامرتين عن عزمه، ولم يستطع سبيلًا حتى إلى تغيير لون بشرته، وكانت حراب البعض توشك أن تلامس وجه الخطيب، وفي تلك الآونة الرهيبة شقَّ الصفوف رجلٌ جبار، ممزق الثياب، يقطر الدم من وجهه ومن صدره، وهجم على لامرتين وراح يقبِّله ويعانقه، فأثَّر هذا المشهد في الشعب الثائر فسكن، وارتفع صوت الخطيب قائلًا بهدوئه الطبيعي: «أيها المواطنون، لقد خاطبتكم منذ هنيهة بصفتي مواطنًا مثلكم، فأصغوا إليَّ الآن أخاطبكم بصفتي وزير شئونكم الخارجية. إذا نزعتم مني العلم المثلث الألوان تنزعون مني نصف القوة الخارجية في فرنسا! فأوروبا لا تعرف إلا علم انكساراتها وانتصاراتنا، علم الجمهورية والإمبراطورية، وإذا هي أبصرت العلم الأحمر يخيَّل إليها أنها لا تبصر إلا علم حزب! فيجب علينا أن نرفع على عيون أوروبا علم فرنسا، علم جيوشنا المنتصرة!»

عند هذا خفض الجمهور الثائر أسلحته، وهتف الجميع بصوت واحد: «الثقة! الثقة! لتحيَ الحكومة الموقتة! لتحيَ الجمهورية! ليحيَ لامرتين!»

وفي ٢٧ نيسان جرت الانتخابات في اللجنة الدستورية، فانتُخب لامرتين في عشر مقاطعات بمليون وستمائة ألف صوت؛ وهذا الإجماع في الأصوات كان كافيًا لأن يجعله ديكتاتورًا، وما هو أن دُعي لتأليف الوزارة فألَّفها، على أن يصبح فيما بعد رئيسًا للجمهورية التي كانت الحكومة الموقتة تحل محلها، وبقي ثلاثة أشهر يعالج حكمه الديكتاتوري بالبلاغة السامية.

من القمَّة إلى الهوَّة

على أن خصوم لامرتين ما لبثوا أن راحوا يعملون لإسقاطه، ولكي يتم لهم ذلك لجَئُوا إلى وسائل معيبة لم يخجلوا من استعمالها؛ فقد اتهموه بأنه اختلس من الخزينة مليوني فرنك ليفي ديونه، وأنه ابتاع بمال الخزينة أيضًا بعض أملاك في فرنسا وعقارات في لندن، واتهموه أيضًا بأنه أخَّر الانتخابات ليمدَّ سلطته الديكتاتورية، وأنه عقد مع الحزب الاشتراكي اتفاقية شائنة. ولدى هذه الاتهامات المتواصلة عُقد مجلس للتحقيق رَأَسَه أوديلون بارو، إلا أن هذا المجلس لم يكلِّف نفسه غسل شيء من هذه الافتراءات التي ذهب لامرتين ضحيتها.

ولكن نفوذ الشاعر بقي كبيرًا في المجلس؛ ففي ٢٧ أيلول لفظ خطابًا اقترح فيه تأليف لجنة تشريعية؛ وفي السادس من تشرين الأول لفظ خطابًا قال عنه بارتو: «إن جلال عباراته يذكِّر ببوسويه»، نصح فيه أن يُعهد بانتخاب رئيس الجمهورية إلى التصويت العام؛ وفي العاشر من كانون الأول ١٨٤٨ جرت الانتخابات لرئاسة الجمهورية، فنال لويس بونابرت ٥٤٣٤٣٢٦ صوتًا من ٧٣٢٧٣٤٥، ولم يَنَل لامرتين سوى ١٧٩١٠ أصوات.

أما دوره السياسي فكان قد انتهى!

١  يقصد بمركب الصحراء: الجمل.
٢  كانت جيوش إبراهيم باشا تحتل يومئذ الأراضي السورية واللبنانية.
٣  نقلها إلى العربية واضع هذا الكتاب.
٤  نقلها إلى العربية واضع هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤