الفصل الثالث

حملة تحتمس الثالث على بلاد الفينيق

طائر الفينيق PHOENIX

في القصيدة الغزلية السالفة الإشارة إليها، يشبه الحبيب حبيبته بجواد الملك، الذي تم اختياره من بين ألف حصانٍ أصيل، كما يشبهها بالطيور المهاجرة من بلاد «بونت». فأي طيور تلك التي عرفها المصري القديم تأتي مصر مهاجرة قادمة من بلاد «بونت»؟

يقول المؤرخ اليوناني «هيرودوت» وهو يتحدَّث عن مصر:
فأما عقوبة الموت فلا مفرَّ منها لمن يقتل أبا منجل أو باشقًا، سواء ارتكب القتل عمدًا أو دون عمد. وهناك طائرٌ آخر مقدس يسمى «الفوينكس»، لم أره إلا مصورًا؛ إذ إنه يزور البلاد فيما ندر، يزورها كل خمسمائة عام على حد قول أهل هليوبوليس (عين شمس). بعض ريش جناحيه ذهبي وبعضه أحمر. وهو قريب الشبه جدًّا من النسر في هيئته وحجمه. ويروون أن هذا الطائر يغادر بلاد العرب، حاملًا أباه إلى معبد الشمس ليدفنه بهذا المعبد.١
وهنا نقف في هذا القص الأسطوري مع اسم الطائر القادم من بلاد العرب، بلغة هيرودوت اليونانية «فونكس». وبحذف التصريف الاسمي يصبح الاسم السليم «فون». ومع اختلاط الفاء بالباء بين اللهجات واللغات، فكلاهما حرف شفاتي، فيجب قراءته في أصله الصادق: طائر «بون». ويؤكد ذلك الذي نسوقه أن المصري القديم قد دونه منطوقًا باسم طائر «ب. ن. و B. N. W»، فهو الطائر البوني. وهنا يضيف هيرودوت: «يقطع هذا الطائر المسافة كلها من بلاد العرب إلى مصر، طائلًا حاملًا أباه داخل قالب من المر».٢ وبلاد العرب ليست في أفريقيا إنَّما في وادي عربة وسيناء. والمر كما نعلم هو صنف من اللبان. إن رموز الأسطورة تفصح عن معارف زمنها ومعانيها.

والطائر البوني لم يكن طائرًا عاديًّا، بل طائرًا مقدسًا، طائرًا إلهيًّا؛ فقد خلق نفسه بنفسه من رماد شجرة تحترق، جاء اسمُها باليونانية شجرة البيرسيا المقدسة. والاسم يشير إلى معنى الكلمة؛ لأن بيرسيا تعني الفارسية، وهي شجرة التين. ويقول معجم أوكسفورد: «البيرسيا شجرة مقدسة في مصر وفي فارس.»

وهنا نتذكر أن الجنس الحوري سكن بلاد آدوم، وكان من الجنس الآري أي الفارسي الأصل (وسط آسيا عمومًا آريون). ثم نقرأ بلوتارك؛ إذ يقول: «من بين جميع نبات مصر تُقدس شجرة البيرسيا على وجهٍ خاص للإلهة إيزيس؛ لأن ثمرتها تشبه القلب وورقتها اللسان»؟٣ والبيرسيا أو الفيرسيا أو الفارسية أو التين نبات سيناوي مشهور. وأقسم به القرآن وربطه بطور سيناء وقصة موسى، وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ. ولو أراد استرابون بها شجرة الجميز، لقال ذلك بوضوح، حيث ذهب البعض إلى أن البيرسيا هي شجرة الجميز، حيث يقول استرابون في موضعٍ آخر مفرقًا بين الشجرتين: «والسيكامينوس شجرة الجميز، تخرج الثمار المسماة سيكومورس؛ لأنها تشبه السيكوم/التين.»٤
ثم نستدعي هنا ما كتبه «سليم حسن»؛ إذ يقول في معرض سرده لقصة بعثة حتشبسوت إلى بلاد بونت إنها أحضرت من أرض الإله أشجارًا بجذورها، وأعادت استزراعها أمام معبد روعة الروائع بالدير البحري. والتي يقول الجميع إنها أشجار الكندر أو اللبان، هكذا دون أي تدقيق. يقول سليم حسن المدقق الفاحص: «وتدل الكشوف الحديثة على أن الأشجار العطرية، التي أتي بها من بلاد بونت، قد غرست فعلًا في حفر نقرت في الصخر أمام المعبد، وملئت بالطين الخصيب. وقد عثر على هذه الحفر الحفارون المحدثون في الردهة التي أمام المعبد. وقد وجدوا أن بعضها كان لا يزال محفوظًا فيه جذوع الأشجار الجافة، غير أن هذه الأشجار ظهر أنها أشجار بيرسيا.»٥

ومن هنا نفهم أن بعثة حتشبسوت قد جاءت بأشجار التين المقدسة؛ لأن علماء الحملة لا شك كانوا يعلمون باستحالة نمو الكندر أو اللبان الدكر (المر)، على أنواعه في طيبة؛ حيث معبد روعة الروائع. وفي هذا تحديدًا علامةٌ واضحة على أن بلاد بونت إطلاقًا لم تكن الصومال، كما يصر بعض أساتذة التاريخ المصري القديم، حيث تنمو أشجار (الكندر/اللبان/المر)، بل لم تكن في أفريقيا جميعًا.

والكلمة «فونيكس» تنسب الطائر إلى موطنه، فهو الفوني أو البوني كما أسلفنا، منسوبًا إلى تلك البلاد الموصوفة بكونها «بلاد العرب»، وأن تلك البلاد العربية هي موطنٌ مقدس، يأتي منه طائرٌ مقدس.

والنصوص المصرية القديمة تشير دومًا إلى بلاد بونت بأنها أرض الإله. ومعلومٌ أيضًا أن الكلمة المصرية القديمة المدونة بالشكل «ب. ن. و»، كانت تُطلق عمومًا على فصائل الطير المعروف في مصر الآن باسم «أبي قردان»، وعلى جميع أقاربه من ذات الفصيلة على مختلف الألوان والأحجام. فمنه الكبير الضخم الذي يزور مصر في هجراتٍ فصلية، يتواجد فيها قرب الشهرين، وهو في حجم النسر الضخم فعلًا. وينقل معجم أوكسفورد ذات الأسطورة فيقول: «هو في الأسطورة طائرٌ فريد من نوعه، يحرق نفسه بعد أن يحيا خمسة أو ستة قرون في صحراء العرب، ثم ينتفض من الرماد بشبابٍ متجدد، ليعيش دورةً أخرى من الزمان. وقد جاء اسمه من اليونانية PHOENIX، التي تعني: فينيقي وأرجواني. والأرجوان هو اللون الأحمر وهو ما يطير بنا إلى بلاد الصخر الأحمر وأصحابها الحمر، بلاد آدوم أو الصخر الأحمر، بلاد الصخر سالع، البتراء، بونت. أما العربية فقد أطلقت على هذا الطائر اسم «العنقاء» (المصريون أطلقوا عليه أيضًا: عنقت). والصفة PHOINOS بوني، كلمة يونانية تعني «الأحمر». ويذهب «إيفارلسنر» إلى أن الاسم قد أطلق فيما يبدو على أناسٍ ذوي بشرة حمراء.٦ والمعروف أن تلك البلاد جميعًا حتى الساحل اللبناني، كان يطلق على شمالها بلاد فينيقيا، وعلى جنوبها بلاد كنعان. والجذر «ك ن ع» بدوره يحمل معنيين: الوديان أو الأرض المنخفضة، واللون الأحمر الأرجواني.٧
وعن أصول الجنس الكنعاني، يروي لنا «هيرودوت» في الفقرة الأولى من الكتاب الأول:

إن هؤلاء القوم جاءوا من سواحل بحر أريترية (الأحمر [المؤلف]) إلى شاطئ بحرنا. سافروا في البحر مدة طويلة، وحالَما استقروا في البلاد التي اتخذوها موطنًا لهم الآن، طفقوا يتاجرون بالبضائع المصرية والآشورية، بأن ينقلوها إلى عدة أماكن منها.

وفي الفقرة التاسعة والثمانين من الكتاب السابع، يعود «هيرودوت» إلى الفينيقيين فيقول:

والفينيقيون كانوا يسكنون سواحل بحر أريترية (الأحمر [المؤلف])، كما يقولون هم أنفسهم، وعندما اجتازوا من هناك إلى سواحل سوريا قطنوها. وهذا القسم من سورية مع كل البلاد التي تمتد إلى تُخوم مصر، «يسمى فلسطين».

وبحر «أريترية» زمن هيرودوت كان اسمًا يطلق على البحر «الأحمر» الآن (لاحظ الأحمر مرة أخرى). والمدهش أن كلمة أريترية نفسها كلمة يونانية تعني «الحمراء!»؛ لذلك حمل البحر الأريتري بعد ذلك اسم البحر الأحمر. أما صنعة هؤلاء الحمر المهاجرين من الأحمر، فكانت التجارة العالمية. وقد عثر في بيروت على قطعة نقد هللينية، تؤكد أن الجنس الفينيقي هو ذات عين الجنس الكنعاني. فعلى أحد وجهيها توصف مدينة بيروت، بأنها تقع في كنعان، باللغة الفينيقية. وعلى وجهها الآخر توصف مدينة بيروت في أنها تقع في فينيقيا.٨ ولو حاولنا هنا العثور على مؤيد، فإن الحفر اللغوي يجعلنا نعثر على مُشابه شديد الشبه لتلك القطعة الهللينية من النقد. فالكلمة «فينيكيان/فينيقي» هي بالضبط «بني كنعان»؛ لاختلاط الفاء الأولى في فينيقي، بالباء في كلمة «بني». ومعلوم أن النصوص المصرية كانت تسميها «باكنعان».٩ وعليه فهي:
با ك ن ع ا ن «با كنعان» بالمصرية
ب ن ي ك ن ع ا ن «بني كنعان» بالسامية
ف ن ي ك ي ا ن «فينيقيان» باليونانية
أما الكتاب المقدس فكان ما زال يصر على تذكيرنا بصفة الأحمر، فيقول: «من ذا الآتي من آدوم بثيابٍ حمر؟» (إشعيا، ٦٣: ١)، بينما كانت النبية «دبورة» ترنم أنشودتها:
يا رب بخروجك من سعير،
بصعودك من صحراء آدوم،
الأرض ارتعدت.
(قضاة، ٥: ٤)

فالرب هنا في صحراء آدوم، إنها صحراءٌ مقدسة، إنها أرض الإله؟ إله عرفه المصريون كإله للمصريين، ثم عبده الإسرائيليون من بعد. ويحمل ذلك المكان المقدس اسم سعير، والسعير هو اللهب الأحمر. أما الاسم آدوم نفسه فهو ما يعني الصخر الأحمر. أما الحمرة واللون الأحمر فهو لون اللهيب.

والعنقاء أو الطائر البوني أو البونتي، ينتفض حيًّا من لهيب شجرة تحترق. وقد لاحظ العلماء أن طير الغراب وطيور النحام والبشروش تلجأ إلى دخانِ ما تجده من بقايا نيران؛ لتفرش أجنحتها للدخان، لطرد الطفيليات والحشرات منها. وتكفي هذه اللوحة في نظر البدائي؛ ليبني عليها أسطورة مثل العنقاء، التي تنتفض حية بريشها من بين النيران. وقد ذهب المصرولوجي «بدج» إلى أن شجرة البيرسيا يقصد بها شجرةً ضخمة، تُعرف في الإنجليزية باسم SYCAMOR TREE (الجميزة)، وهو شجر معمر يعيش قرونًا. ولا شك أن «بدج» هنا قد أخطأ المراد، فهي شجرة التين تحديدًا البيرسيا. ويرى «بدج» أن مقابلها الهيروغليفي هو «ن ع ر – ت» أو «ناره»، الذي نطق في القبطية NIR وفي اليونانية NERION. والغريب أن ذات الشجرة تسمى في العربية «ناريون»، والجذر لجميعها من «نور» و«نار». وقد أطلق المؤرخون على بلاد «ميتاني» المزعوم أنها تقع في أعالي الفرات: بلاد «النايري». وهو الاسم الذي أطلقه الآشوريون على ذات الدولة التي ذكرتها نصوص مصر باسم «ميتاني» أو «نهارين» أو «نارين» أي بلاد شجر النايري، بإسقاط الهاء بالتخفيف أو تحويلها إلى ألف، كما في هريق الماء وأريق الماء.١٠
ويبدو أنه كانت هناك شجرة مقدسة في بلاد «بونت»، تعيش عليها طيور مقدسة، وأن هذه الشجرة كانت تسمى الشجرة الحمراء أو النارية. ولا شك لدينا أن «ن ﻫ ر ن» أو «ن – ح ر ن» المصرية تتصل في الجذر مع كلمة حوري وحوريين. والحوري أيضًا هو الأحمر. أما أشجار الحور فهي الشجرة المعروفة بزهورها الحمراء القرمزية. ويقول المؤرخ «أحمد بدوي»: «إن طائر الفونيكس PHOENIX هو العنقاء بالعربية. أما اسمه المصري فهو BNW من الفعل المصري WBN، بمعنى أشرق ولمع، فهو البراق أو اللماع؟ لذلك يتصل بالحجر الهرمي BNBN، الذي يرمز به للتلِّ العتيق الذي برز بدوره من الماء الأزلي نون. والطائر يتلألأ فوقه فيملأ «نوره» الكون، ويكون صوته أول دوي في الوجود. وكان كهنة هليوبوليس ينتظرون عودة ذلك الطائر في شوق.»١١

وتقول القصص التوراتية: إن النبي موسى عندما هرب من مصر، بعدما قتل مصريًّا ظلمًا، ذهب إلى بلادٍ تدعى مديان، وتزوج هناك من صفورة ابنة كاهن مديان المدعو باسمين: «رعوئيل/يثرون». والقصص الإسلامي يسمي ذلك الكاهن «شعيب» ويعتبره نبيًّا. وتقول تلك القَصص إنهم كانوا يعبدون شجرة مقدسة سميت «الأيكة»، وأطلقت على السكان هناك اسم «شعب الأيكة»، وتقول إن الله قد أهلك شعب الأيكة؛ لأنهم كانوا تجارًا جشعين يطففون في الموازين، كما كانوا قطاع طرق وقراصنة محترفين.

ونعود إلى الطائر البوني الذي يسمي المصريون نوعه الصغير الآن بأبي قردان، لنجد أحد تنويعاته في ذلك الطائر المعروف باسم الفلمنجو. وهو طائر طويل العنق فيه ريشات سوداء، ويغلب عليه اللون الأحمر القرمزي، واسمه الإنجليزي FLAMINGO أي الملتهب «بحمرة»، من FLAME أي لهب، وهو الفصيلة المعروفة باسم البشروش أو النحام. ويكنى عنه عند العرب «بأبي لهب»، وهو تحديدًا الذي لم يزل يزور مصر للآن في هجرته الفصلية.

ويساعد الحفر اللغوي هنا على إلقاء الضوء على موطن هذا الطائر الجغرافي بالنسبة لمصر. فالكلمة الكنعانية التي تعني «أحمر» تكتب «شرق»، أي إن الكلمة الكنعانية «شرق» تعني أحمر. وفي العربية: شرق الشيء شرقًا فهو شرق، أي اشتدت حمرته بدم، ومقلوبها بالميتانيز: قشر. والأقشر هو شديد الحمرة. وفي لسان العرب لابن منظور نقرأ: «الشرق طائر، وجمعه شروق. والشرقراق طائر يكون في أرض الحرم في منابت النخيل بقدر الهدهد (وكثيرًا ما يترافق طائر بهذا الشبه مع وصول هجرة البشروش إلى مصر حتى اليوم [المؤلف]) مرقط بحمرة.» ومادة شرق والنحام في مادة نحم النحام طائر أحمر على خلقة الإوز، يقال له بالفارسية سرخ آوى، وآوى كلمة فارسية تعني طائر. أما سرخ فهي «الأحمر». ولنا أن نلحظ أن سرخ أيضًا تشير إلى معنى الشرق.

هو إذن بالنسبة لمصر: الطائر الشرقي الأحمر. وبلاد «بونت» أو آدوم أو البتراء تقع إلى الشرق من مصر. أما ترنيمة المصري فكانت: «عندما أوجه وجهي نحو الشرق، فإني أولي وجهي إلى بلاد «بونت»، أرض الإله.»

حملة تحتمس الثالث

يقول سليم حسن المؤرخ والمصرولوجست: «إن الرأي السائد الآن، هو أن تحتمس الأول قد أعقبه على عرش مصر ابنه تحتمس الثاني ، الذي تزوَّج من أخته من أبيه المسماة «حتشبسوت». وبعد وفاته خلَفه ابنه تحتمس الثالث، الذي رُزقه من زوجةٍ ثانوية تدعى إيزيس. وقد أصبح ملك مصر رسميًّا، وهو لا يزال طفلًا لم يبلغ الحلم بعد، وقد نُصبت حتشبسوت، وعندما قبض على مقاليد الأمور أخذ ينكل بأعدائه، وهم أولئك الذين كانوا في ركاب حتشبسوت أو عاملين في بلاطها، ثم أخذ بعد ذلك في القضاء على كل آثارها بصورةٍ مروعة، يشهد بشناعتها وعُنفها ما أحدثه من التدمير والتهشيم في الدير البحري.»١٢

ويتابع «سليم حسن» تحت عنوان: «تحتمس الثالث يعلن الحرب على بقايا الهكسوس في آسيا» قوله: «إن بقايا الهكسوس بعد طردهم من مصر، انتشروا في البراري الشرقية للمتوسط». ولما تولت حتشبسوت اتخذوا — على ما يظهر — من هذا الحادث ذريعة لإعلان الثورة، ليتحرروا من ربقة الاستعمار المصري. وقد أعلنت سوريا كلها العصيان على مصر، حتى أصبح لزامًا على الفتى الجسور أن يقابل حلفًا قويًّا مؤلفًا من قبائل آسيا. والولايات التي وطدت العزم على خلع النير المصري، الذي أثقل على عاتقهم به تحتمس الأول، وسلفاه من قبله، منذ خمسين سنة مضت، كان كل أولئك قد ألَّفُوا حلفًا بقيادة ملك قادش، وهي بلدة على نهر الأورنت (نهر العاصي حاليًّا)، على مسيرة مائة ميل تقريبًا شمالي دمشق وسوريا وقتئذٍ لم تكن مملكة واحدة متحدة الكلمة بطبيعتها، بل كانت مقسمة ولايات صغيرة، يحكم كلًّا منها أميرٌ أو ملك، وأغناها ملك قادش. وقد أفلح ملكها مؤقتًا في أن يضمَّ الولايات الأخرى تحت قيادته.

وتعد موقعة مجدو التي قابل فيها تحتمس الثالث جيوش الحلف السوري، بإمرة حاكم قادش، أول معركة حربية في تاريخ العالم القديم، قد بقي عنها تفصيلات تُذكر. ويرجع الفضل في ذلك إلى اليوميات التي خلفها تحتمس على أحد جدران معبد الكرنك، وقد سار بجَيْشه من قلعة سيلة، وهي القنطرة الحالية، في اليوم الخامس والعشرين من الشهر الرابع، في فصل الشتاء في السنة الثانية والعشرين من حكمه. وهذا التاريخ حسب قول «نلسن» يوافق ١٩ إبريل سنة ١٤٧٩ق.م. مخترقًا الصحراء التي تقع على الحدود الشرقية لسيناء، والحدود الجنوبية لفلسطين. فوصل غزة بعد مسيرة عشرة أيام، قطع فيها نحو مائة وخمسةً وعشرين ميلًا، ولم يمكث تحتمس في غزة إلا سواد ليلة. وفي الصباح المبكر سار على رأس جيشه ميمِّمًا شطر يحم (يحتمل أن تكون يما الحالية)، وتقع على مسافة ثمانين ميلًا من غزة.»

ونطالع الآن معًا ما دونه المؤرخ المصري على جدار الكرنك، فنسمعه يطرق بإزميله القصة التالية: «السنة الثالثة والعشرون، الشهر الأول من فصل الصيف، اليوم السادس عشر في بلدة يحم. لقد أمر جلالته أن يُعقد مجلس حربيٌّ ليتشاور فيه مع رجال جيشه قائلًا: إن ذلكم العدو الخاسئ صاحب قادش، قد جاء بجيشه ونصب خيامه فيها، وهو مقيم بها في تلك الآونة، وقد ضم إليه كل أمراء الأقاليم الذين كانوا يدينون بخضوعهم لمصر حتى نهر الفرات، ومعه السوريون وقوم قود، بخيلهم وجنودهم وعشيرتهم، وأنه يقول حسبما وصل إلى مسامعنا: سأقف هنا لمحاربة جلالته في بلدة مجدو. فحدثوني بما يدور بخلَدكم في هذا الخطب. فأجابوا جلالته قائلين: كيف يتسنى للمرء أن يسير في هذا المضيق؟ وقد وصلتنا الأخبار بأن العدو على تمام الاستعداد هناك في خارج المدينة، وأن عددهم قد أمسى هائلًا، وهل يكون السير مستطاعًا إلا إذا سار الجواد إثر الجواد، والجندي إثر الجندي أيضًا؟ وهلا ستكون مقدمة الجيش — بهذه الطريقة — في ساحة القتال، في حين أن المؤخرة لا تزال واقفة هنا في عارونا عاجزة عن محاربة العدو؟ على أنه يوجد طريقان أخريان: واحدة ما تؤدي إلى «تاعناخ/أو طناخ». والأخرى تقع في الجهة الشمالية من بلدة زفتى مؤدية إلى شمال مجدو، وبذلك لا نضطر إلى سلوك هذا المضيق الوعر.»١٣

وهكذا فضل القواد أحد الطريقين: الطريق المؤدِّي إلى «تاعناخ»، والطريق الواقع شمال «زفتى»، ويؤدي إلى شمال بلدة «مجدو». واستبعدوا في الوقت نفسه الطريق الثالث؛ لأنه كان طريقًا شديد الضيق، محصورًا بحيث لا يستطيع الجيش عبورَه إلا إذا سار الحصان خلف الحصان، والجندي خلف الجندي. وهو ما قد يؤدي إلى كارثةٍ عسكرية، حيث سيظهر جيش مصر لأعدائِه فرادى، بينما بقية الجيش ستكون قد تكوَّمَت عند الطرف الخلفي للطريق في عارونا، تنتظر دورها في عبور ذلك المضيق.

وهنا نستكمل المشهد من الراوي المصري على جدار الكرنك، لنستمع إلى الفرعون الشاب وهو يقول:

«إني ما دمت حيًّا، وما دام الإله رع يحبني، وما دام والدي الإله آمون يرعاني، وما دام نفس الحياة ينعشني بالحياة والقوة؛ فلن أسلك إلا هذه الطريق المؤدية إلى عارونا/هارونه. وليذهب منكم من يشاء في إحدى هاتين الطريقتين الأخريين اللتين تحدثتم عنهما، وليتبعني منكم مَن يريد أن يسلك الطريق التي سيتخذها جلالتي؛ لأن الأعداء الذين يمقتهم رع سيقولون: هل سلك جلالته طريقًا آخر؛ لأنه خاف بأسنا وبطشنا؟ وعندئذٍ أجابوا جلالته قائلين: ليت الإله آمون والدك رب تيجان الأرض ومساكن الكرنك، يرعى شعبك ويتعهده! تأمل: إننا سنكون في ركاب جلالتك حيثما توجهت؛ لأنه من واجب الخادم أن يتبع سيده دائمًا. وعندئذٍ أمر جلالته بإصدار منشور لكل الجيش جاء فيه: إن سيدكم المظفر سيكون في طليعتكم لاقتحام ذلك المسلك الوعر الضيق. تأملوا: لقد أقسم جلالته يمينًا قائلًا: لن أسمح لجيشي المظفر أن يشق طريقه إلا في هذا المكان؛ لأن جلالته عزم على أن يتقدم طليعة جيشه بنفسه. وقد وزعت التعليمات على كل جندي بالأمر بالزحف، على أن يكون الجواد في إثر الجواد، في حين أن جلالته كان يسير في مقدمة جيشه.

وفي السنة الثالثة والعشرين من الشهر الأول من فصل الصيف، اليوم التاسع عشر، استيقظ الفرعون في السرادق الملكي، الذي كان قد ضرب له في «بلدة عارونا» ثم سار جلالته في رعاية الإله آمون رب تيجان الأرضين ليفتح الطريق أمامه. وكان الإله آمون يشد ساعد جلالته. وزحف جلالته على رأس جيشه المنظم فرقًا، ولم يجد للعدو أثرًا، بل كان قد عسكر بجناحه الأيسر عند بلدة «تاعناخ»، في الوقت الذي كان جناحه الأيمن قد ضرب خيامه، في المنحنى الجنوبي من وادي قنا.

وقد نادى جلالته: أن سيروا في هذا الطريق. فالتقى بالعدو فكسره، وولى العدو الخاسئ الأدبار. فيا أيها الجند مجدوا المليك، وتغنوا بشجاعة جلالته؛ لأن ساعده أشد بأسًا من أي ملك. وقد كانت مؤخرة جيش جلالته المظفر لا تزال في بلدة عارونا، في حين كانت مقدمته قد برزت في وادي مجرى قنا، حتى مَلئُوا فم هذا الوادي.

وبعد ذلك انطلق جلالته في عربته المصنوعة من الذهب النضار، مدججًا بدرعه وزرده مثل الإله حور القوي الساعد رب البأس، ومثل الإله منتو إله طيبة، وكذلك كان والده آمون يشد ساعده. وكان جناح جيش جلالته الأيسر يقف على ربوة جنوبي قنا. أما الجناح الأيمن فكان معسكرًا في الشمال الغربي من مجدو. وكان جلالته في وسطها يحميه الإله آمون في حومة الوغى، وكانت قوة بأس الإله ست تدب في أعضائه، ففاز جلالته فوزًا مبينًا، وهو على رأس جيشه. وقد رأى الأعداء جلالته والنصر حليفه؛ لذلك ولوا الأدبار نحو مجدو، بوجوهٍ يغمرها الذعر، تاركين خيلهم وعرباتهم المصنوعة من الذهب والفضة، وتسلقوا أسوار هذه المدينة باستعمال ملابسهم؛ لأن أهل المدينة قد أغلقوا أبوابها. لكنهم دلوا ملابسهم ليجروهم بها إلى داخل المدينة. ولو أن جنود جلالته لم يتهالكوا على نهب متاع العدو، لكان في استطاعتهم الاستيلاء على مجدو وقتئذ، عندما كان عدو قادش الخاسئ وعدو هذه المدينة يجرون متسلقين الأسوار ليدخلوا المدينة هربًا؛ لأن الخوف من جلالته كان قد سرى في أجسادهم، وضعفت أسلحتهم؛ لأن الثعبان الذي على جبينه قد طغى عليهم وهزمهم. واستولى جلالته على خيلهم وعرباتهم المصنوعة من الذهب والفضة، غنيمة سهلة. أما صفوف جنودهم فكانوا قد طرحوا أرضًا مثل السمك في حبائل شبكة جيش جلالته المنتصر. وقد أخذ كل الجيش بأسباب الفرح، مقدمًا الثناء لآمون لما وهبه من نصرٍ لابنه في هذا اليوم، وكذلك قدموا الشكر لجلالته مادحين انتصاره، ثم أحضروا الغنيمة التي استولوا عليها.»١٤
وينهي الكاتب المصري نقشه بقصة حصار مجدو التي انتهت بسقوطها ثم عودة الملوك المتآمرين إلى بلادهم خاضعين، ونوابًا عن فرعون في حكم بلادهم.١٥

عندما قفزت الفكرة إلى ذهني، أخذت أبحث عن مؤيدات فروضي، فأعدت قراءة ذلك المدون الجداري «لتحتمس الثالث» عدة مرات، مما أوقفني على عدة أمور؛ فربما تحيل الحملة جميعًا إلى شرقي سيناء، حيث بلاد آدوم الحورية. وقام افتراضي على أن دويلات بلاد الشام وممالكه الصغيرة، التي تنوف على الثلاثمائة مملكة، قد تحالفت جميعًا للقيام بحملةٍ على مصر، شبيهة بحملة الهكسوس، أو أنهم تحالفوا بعدما رنا إلى علمهم ما ينتويه «تحتمس الثالث» فقرروا استباقه. وانتقوا أشد المواقع تحصينًا طبيعيًّا للقاء الجيوش المصرية على حدود مصر الشرقية. وهو ما يعني وفق هذا التصور الجامح أن المعركة لم تقع عند مجدو (تل المتسلم حاليًّا) شمال غربي فلسطين، إنما وقعت في محيط البتراء عاصمة وشمس آدوم، وأن ما حدث كان محاولة من تحتمس الثالث لإجبار تلك الدويلات على الخضوع صاغرة، مع رفضه لأسلوب حتشبسوت السلمي الذي اتبعته برحلتها إلى بونت، والذي أدى إلى تمرد ملوك تلك الدويلات، بعدما لمسوه من تراخي القبضة المصرية زمن حتشبسوت.

وربما وجدت وجهة نظري هنا مؤيدًا قويًّا من المصرولوجي «زيته»، الذي وجد في مقدمة تاريخ تحتمس الثالث المهشَّم ما يَعتبره إشارة إلى استقرار حامية هكسوسية، بعد طردهم من مصر في شاروحين جنوبي فلسطين. وترجمة الأستاذ زيته لهذه الفقرة جاءت كالتالي:
السنة الثانية والعشرون، الشهر الرابع من فصل الشتاء، اليوم الخامس والعشرون. مرَّ جلالته بقلعة ثارو أول قلعة مظفرة، ليطرد الذين هاجموا حدود مصر، بشجاعةٍ ونصر وقوة وفوز. وقد مرت مدة طويلة من السنين كان فيها الآسيويون يحكمون البلاد اغتصابًا، والكل يخدمون أمام … (المكان تالف) وقد … (تالف) في أزمانٍ أخرى … (تالف) أن الحامية التي كانت هناك كانت في مدينة (شاروحين)، وهم الآن من يرد حتى نهاية الأرض، في استعدادٍ للثورة على جلالته.١٦

وقد دفعنا إلى هذا الافتراض دفعًا عدد من العناصر، أهمُّها ما سبق وحددناه كموقع لقادش سيناء غربي البتراء، على تخوم دولة آدوم مباشرة، في الموضع الذي قدر المكتشف «رولاند» عام ١٨٤٢م، أنه عين قديس الوارد في التوراة باسم «قادش برنيع» «وقادش عين مشفاط»، وأيَّده فيه بعد حوالي أربعين عامًا المكتشف «ترامبول». وعين قديس هو المقابل العربي رسمًا ومعنًى للاسم قادش. وقد علمنا أن زعيم الأحلاف المعادية لمصر كان ملكًا على قادش، التي تم افتراض أنها تلك الواقعة على نهر العاص بسوريا. أما من جانبنا فقد فضَّلنا للموضع المقصود في حملة تحتمس الثالث قادش سيناء أو «عين قديس» الحالية.

أما القرينة الثانية فتتضح في إجابة مجلس أركان حرب الفرعون، حول طرحه الاستشاري للطريق الواجب اتباعه للهبوط على العدو. وحيث تخير الفرعون ذلك الطريق الذي يختبر القوة والبأس، الطريق الخطر الضيق، الموصوف بأن عبوره سيكون فردًا فردًا. وهو ما يعني ضرورة وجود شخص قوي أو مجموعة أشخاص فدائيين، يخرجون من الممر الضيق لمصاولة العدو وتحجيم هجمته، حتى يسمح بخروج بقية الجند فُرادَى للمشاركة في المعركة. ويفيد النص بأن الفرعون نفسه هو من أخذ على عاتقه تلك المهمة بمساعدة قواده الذين قرروا اتباعه حتى لو خاض بهم لجاج الموت. والأمر الثالث، أنه إذا كانت «مجدو» قد طوبقت تاريخيًّا مع تل المتسلم الحالية شمالي فلسطين، فإنه لم يتم العثور هناك حتى تاريخ كتابة هذه السطور على مثل ذلك الطريق، الذي وصفته نقوش النصر المدونة على جدران الأقصر. فقط يمكن أن يكون السيق المؤدي إلى ساحة البتراء العظمى، هو الطريق الأوحد النموذجي المطابق للرواية المصرية.

هذا ناهيك عن تطابق أسماء بعض المواضع، وتطابق مواقعها في محيط بلاد آدوم، ومع أسماء تلك المواقع التي سجَّلها تقرير تحتمس الثالث لوقعة مجدو. فإضافة إلى قادش، هناك «عارونا» (هارونه) وهو الاسم الذي يلتقي تمامًا مع جبل «هارون» الموجود الآن إلى الغرب مباشرة من البتراء، ويقع في منطقة وسطى بينهما وبين «قادش» (عين قديس). كذلك يلتقي وادي «قنا» مع الموقع الذي حددته التوراة للحدود الجنوبية لفلسطين، ضمن عدد من المواقع هي آخر البلاد الجنوبية لسبط يهوذا، وذلك باسم «قينة»، في النص:

وكانت المدن القصوى لسبط يهوذا إلى تخم آدوم جنوبًا: قبصئيل وعيدر وياجور وقينة وديمونة وعدعدة وقادش وحاصور ويثنان.

(يشوع، ١٥: ٢٣، ٢٢، ٢١)
كما ورد لدى المؤرخ «اسطفانس» البيزنطي، لدى حديثه عن الحملة الثانية التي قام بها «أنطيوخس الثاني عشر» ضد العرب الأنباط، حوالي ٨٨ق.م. زمن الملك النبطي «رب إيل الأول ابن حارثة الثاني»، حديثًا عن انتصار الأنباط على جيوش الرومان، حيث تم قتل «أنطيوخس» وفر جيشه إلى قانا، التي لم يتعرف الدارسون على موقعها حتى الآن، وهلك معظمهم جوعًا.١٧

كما يلتقي وادي قنا مع ذكريات تاريخية دوَّنَها المقدس عن المديانيين، الذين سكنوا في محيط المنطقة حول خليج العقبة، حيث كان المديانيون يدعون أيضًا بالقينيين. والقيني هو صانع المعادن أو السباك صانع السبائك، فهو الحداد أو السباك أو النحاس. ويضيف إلى صدق ذلك مزيدًا من الدعم، مناجم ومشاغل تصنيع النحاس التي عُثر عليها جنوبي البتراء، عند جبل تمناع المذكور في التوراة باسم «تمنة». ولم تزل هناك علامات اسمية شاهدة على تواجد القينيين بهذا المحيط الجغرافي حتى اليوم. ففي جنوب سيناء وعلى خليج العقبة نجد مدينة «قنى». أما وادي قنا فينطلق من عند جبال كاترين تقريبًا، ليصب في خليج العقبة قرب مدينة «قنى».

وتبقى المشكلة التي تقف في وجه هذه القرينة — لتأييد فرضنا — لا تتزحزح، وبدون حلها تسقط هذه القرينة تمامًا. والمشكلة تتحدد في اسم «مجدو» المدينة التي تجمعت عندها الأحلاف السورية. فهل حدث خطأ ما من الكاتب المصري؟ أو من الآثاري الذي قرأ النصوص، فقرأ مدينة الأحلاف باسم «مجدو»، بينما كان يجب قراءتها على نحوٍ آخر؟ هذا وقد عقب «فليكوفسكي» على استغاثات نائب الفرعون «آمنحتب الثالث»، على مجدو الواردة في رسائل تل العمارنة بقوله: «إن الاختلاف البسيط في هجاء الأسماء يعود ليس فقط إلى أسماء الأشخاص وحدها، إنما أيضًا لأسماء الأماكن الجغرافية، التي كانت تُنطق بطرقٍ عديدة مختلفة. وعلى سبيل المثال: فإن بريديا — وفي إحدى الرسائل كتب اسمه بحيث يقرأ بريدي — أعلن للفرعون أنه يحمي مكيدا أو يدافع عنها، وفي مرة أخرى ذكر أنه يدافع عن ماجيدا، وهناك أمثلة كثيرة أخرى في الرسائل.»١٨
في هذه النقطة ربما كان مفيدًا العودة إلى نص لرمسيس الثالث، حيث سجلت النقوش أنه قاد حملة تجارية إلى بلاد «بونت» أرض الإله المقدسة؛ لاستجلاب منتجاتها التجارية، بالمبادلة مع المنتجات المصرية. وتذكر النصوص أنه قد أبحر من، أو إلى مكان يقع قرب بحر أو نهر، وأن هذا المكان يحمل اسم «موقيدع» أو «موقيده». وقد ذهب المؤرخون به مذاهب شتى، وصلت في فروضها إلى الخليج العربي ونهر الفرات. كما تذكر نصوص الفرعون «رمسيس الثالث» أنه عندما وصل هناك، أرسل رسله إلى «إقليم «عتيقة ATIKE» للحصول على النحاس».١٩ والكشوف الحديثة قد قدمت لنا اكتشافها لمناجم ومصانع النحاس عند جبل (تمناع/تمنة) في بلاد آدوم، ومن ثم لا بد أن «موقيده» تقع في ذات الجوار. فهل كان يجب أن تقرأ كلمة «مجدو» في نصوص «تحتمس الثالث» بالرسم «موقيدة»؟ وهي ما يتطبق فونيطيقيًّا مع «مجدو»، ويتطابق جغرافيًّا مع بلاد آدوم الحورية؟

مجرد احتمالات لا نصر على احتسابها أحد قرائن دعم فروضنا، إنما نسوقها كقرينة تحتمل الخطأ الشديد، لكنها أيضًا ربما تحتمل الصدق.

أما ما لا يجب أن ننساه فهو قول «تحتمس الثالث» مبررًا إصراره على حصار «مجدو» حتى سقوطها: «إن الاستيلاء عليها يساوي الاستيلاء على ألف مدينة.»٢٠ وهو الإصرار الذي أراد به الفخار، لمعرفة عالم ذلك الزمان لمعنى كلامه الذي يجب أن نستعيده في صورةٍ سردها لنا قاموس الكتاب المقدس، وهو يقول: «سالع اسم عبراني معناه صخرة، وهي أمنع موقع في أرض آدوم، كان يهرع إليها الآدوميون كقلعة حصينة لا تقهر، وقت الحصار الخارجي؛ لأنها تقع على قمة جبل.»٢١
ولكن مع احتمال الخطأ في تفسيرنا لحملة «تحتمس الثالث» على مجدو، ومع ما بذلنا فيها من جهد، نروح عن النفس بتذكر كلام الإله أمون للملكة حتشبسوت، المدون على جدران معبد روعة الروائع؛ إذ يقول لها:
سأجعل جنودك تطأ «بنت» لأني أقودهم بحرًا وبرًّا، وجاعلهم يخترقون مضايق عالية لا يمكن اختراقها. وقد جعلناهم يصلون إلى خمائل البخور وأرض الإله.٢٢
ويزيد في الاطمئنان أن نعلم أن فرض «تل المتسلم»، كموضع مفترض لمدينة مجدو، إطلاقًا لم تقم عليه البيئة الأركيولوجية، حتى قال كمال الصليبي: «إن مجدو التوراتية لم يعثر عليها إطلاقًا في فلسطين بهذا الاسم.»٢٣

(انظر أشكال شارحة وتوضيحية رقم «٦٣، ٦٤».)

figure
شكل رقم «٦٣»: البنو/طائر الفينيق، كما صوره المصري القديم على بردية آني بالمتحف المصري.
figure
شكل رقم «٦٤»: العنقاء/الفينكس/من معبد الأسد المجنح/البتراء.
figure
الخريطة رقم «٦٥»: البحر الأحمر وشبه جزيرة سيناء بالقمر الصناعي.
figure
شكل رقم «٦٦»: شرقي المتوسط زمن الأحداث.
figure
شكل رقم «٦٧»: الفرعون تحتمس الثالث.
figure
شكل رقم «٦٨»: طائر الفينيق، وكاهن متبتل.
figure
شكل رقم «٦٩»: العنقاء تخرج من بيضتها، تصوير فني معاصر.
figure
شكل رقم «٧٠»: خط العرض ٣٠ والذي يمر بمنطقة الهرم، ومع نفس اتجاه وجه أبو الهول، والخط كذلك يمر بوادي عربة ومنطقة آدوم، حيث خط أرض الإله.
١  هيرودوت يتحدث … سبق ذكره، ص١٦٩، ١٧٨.
٢  أ. ج. إيفانز، هيرودوت، ترجمة أمين سلامة، الدار القومية، القاهرة، د. ت، ص٨٦.
٣  استرابون، استرابون في مصر، ترجمة وهيب كامل، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٥٣م، ص١٠٠.
٤  نفسه، ص١٢٨.
٥  سليم حسن، مصر القديمة، سبق ذكره، ج٤، ص٣٣٣.
٦  إيفارلسنر، الماضي الحي، ترجمة شاكر إبراهيم سعيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٨١م، ص١٠٤.
٧  عز الدين الخير، أضواء عربية في الأسطورة الإغريقية، مجلة المعرفة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، عدد ١٩٧، تموز ١٩٨٧م، ص١٣٢.
٨  Zallig, S. Harris, A grannar of Phoenician Language, New Haven, Comn, 1936, p. 7 note 29.
٩  سليم حسن، مصر القديمة، سبق ذكره، ج٦، ص٣٨.
١٠  جاردنر، مصر الفراعنة … سبق ذكره، ص٢٢٠.
١١  أحمد بدوي، حاشية شارحة بكتاب هيرودوت، يتحدث عن مصر، سبق ذكره ص١٧٨.
١٢  سليم حسن، مصر القديمة، سبق ذكره، ج٤، ص٣٨٨، ٣٩٠.
١٣  نفسه، ج٤، ص٣٩٥، ك٣٩٨.
١٤  نفسه، ج٤، ص٣٩٨–٤٠١.
١٥  Breasted, J. H, Ancient Egyptian Records, Vo 12, P 554.
١٦  سليم حسن، مصر القديمة، سبق ذكره، ج٤، ص١٤٨، ١٤٩.
١٧  إحسان عباس، تاريخ دولة الأنباط … سبق ذكره، ص٤١.
١٨  فليكوفسكي، عصور في فوضى … سبق ذكره، ص٣٣٤.
١٩  سامي سعيد، الرعامسة، سبق ذكره، ص١٦١.
٢٠  فليكوفسكي، عصور، سبق ذكره.
٢١  قاموس الكتاب المقدس: مادة سالع.
٢٢  سليم حسن، مصر القديمة، سبق ذكره، ج٤، ص٣٣٢.
٢٣  كمال الصليبى، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العلمية، بيروت، ط٢، ص١١٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤