الفصل الرابع

لغز بلاد موصرى (؟!)

في منطقة شرقي المتوسط في بوادي الشام والهلال الخصيب، تناثرت جماعات عرقية باسم الحوريين، في شكل مدنٍ ودول. وقد أكد لنا علم التاريخ أن هؤلاء الحوريين قد عرفوا باسم شعب آدم، وأنهم أقاموا لأنفسهم دولة قوية مركزية باسم دولة «ميتاني» وباسم نهارين، وأن الموضع المحتمل لدولة نهارين الميتانية، دولة شعب آدم الحورية، يقع بين الفرات والخابور في أعالي الفرات.

وقد خالفنا ذلك التحديد الجغرافي لدولة الحوريين المركزية، وأكدنا من جانبنا أن «ميتان» وفي المأثور التوراتي أبدًا لم تقم بين الفرات والخابور، إنما قامت في الأرض التي جاء اسمها التاريخي «مديان» و«مدين» كما في المأثور الإسلامي العربي، وأنها تموضعت في شبه جزيرة سيناء وسيناء الشرقية، حيث البلاد التي ذكرها لنا الكتاب المقدس باسم آدوم، وأن ميتان هي بالقلب اللغوي مديان، وأنها فيما نرى قد تمركزت في محيط جبال السراة/سعير، ووادي عربة. وقد ذهب فرضنا إلى أن تلك البلاد التي تأخذ هضابها شكل الأقماع، وقد أعطت لعاصمتها اسمًا من صفتها الجغرافية، فسميت بالصخرة. فهي «سالع» بالعبرية وتعني الصخرة، وهي «بترا» زمن اليونان ثم الرومان، وتعني أيضًا الصخرة. وقد ذهبنا إلى ما هو أبعد من ذلك، فاحتسبنا بلاد مديان الحورية هي تلك البلاد، التي كانت تذكرها النصوص المصرية بأنها «أرض الإله/بونت»، وأن اسم بونت بدوره كان يعني الصخرة حسب تخريجنا. وإليها ينسب حجر «بن بن» المقدس في مصر، كما يعني الحمراء أيضًا؛ لأن البوني هو الفوني أو الفينيقي التي تعني بدورها «أحمر»، كما يعني البلاد الخماسية.

وهنا نتابع البحث عما يمكن أن يدعم فرضنا. ويضيف إلى رصيد ما قدمنا من شواهد وقرائن، وبين رتل أكوام المادة العلمية التي جمعناها لعملنا هذا خلال السنوات السوالف، وجدنا في نص الفرعون مرنبتاح (لوح الانتصارات) أو (لوح إسرائيل)، ما يدعم فرضنا، فاللوح يذكر بلسان الفرعون أنه قد احتلَّ بلادًا باسم بلاد الحور، ووضعها تحت السيطرة المصرية، أو بنصه جعلها «أرملة لتوميري» (توميري هي مصر). وبمتابعة النص يمكنك أن تجد ما وجدناه، وأن تفهم من النص ما فهمناه. وهو أن بلاد الحور الواردة في لوح مرنبتاح، هي بالضبط بلاد الحوريين التي حددناها في شرقي سيناء حيث مديان/آدوم، وأن بلاد الحور تقع عند وادي عربة، وفي محيط خليج العقبة.

لدينا هنا إذن قرينة جديدة على صدق فروضنا، تتمثل في قصيدةٍ طويلة يعدد فيها الفرعون مرنبتاح بن رمسيس الثاني الذي حكم ١٢٢٤–١٢١٤ق.م. انتصاراته، كما يعدد أهم الشعوب التي انتصر عليها والبلاد التي أخضعها، ويعنينا من تلك القصيدة المطولة فقراتها الختامية التي يقول فيها الفرعون:

يقول الملوك وهم ينطرحون أرضًا: السلام. ولم يعد أحد من الأقواس التسعة يرفع رأسه (الأقواس التسعة تعني بلاد البدو [المؤلف]) والتحنو (ليبيا [المؤلف]) قد خربت، وبلاد خاتي (دولة الحيثيين بالأناضول [المؤلف]) أصبحت مسالمة.

وكنعان (القسم الشرقي من فلسطين [المؤلف]) قد أُسرت مع كل خبيث. وأزيلت عسقلان، وجازر (مدينة فلسطينية قرب الساحل [المؤلف]) قُبض عليها، وينوعام أو (ينو آم وهي مدينة مجهولة [المؤلف]) أصبحت لا شيء، وإسرائيل خربت وليس لها بذر، وحور أصبحت أرملة لتوميري.

الملك المظفر يعدِّد هنا الشعوب التي أخضعها. ملوك جميع البلاد يسجدون على الأرض يطلبون السلام من جلالته، وجميع البدو المحيطين بمصر لم يعد بإمكانهم أن يرفعوا رءوسهم، فقد تم دحر الليبيين الذين هاجموا مصر. وهو ما نعلمه من نصوص أخرى لذات الزمن والأحداث. ثم ينتقل النص بعد ذلك جغرافيًّا نحو الشرق إلى دول شرقي المتوسط، بادئًا ببلاد (خاتي/دولة الحيثيين) بتركيا القديمة في أقصى الشمال، ويؤكد أن الحيثيين قد أصبحوا مسالمين. ونحن نعلم أن ذلك حدث بعد موقعة قادش الكبرى على نهر العاصي، التي خاضها أبوه رمسيس الثاني ضد الحيثيين، وانتهت بترسيم حدود الولايات بين المصريين والحيثيين، في معاهدة صلح عثر على نسختيها المصرية والحيثية. وقد عثر على النسختين كاملتين موثقتين في مصر وفي حاتوس عاصمة الحيثيين القديمة المعروفة موضعها الآن باسم بوغاز كوي.

ثم نلاحظ أن خط حملة النصر يهبط بنا من تركيا جنوبًا نحو كنعان، ثم يتخذ الفرعون طريق الساحل وهو لم يزَل ييمم جنوبًا، فيدمر على التوالي مدينة عسقلان ثم جازر إلى الجنوب منها، ثم ينحدر شرقًا ليهزم إسرائيل ومدنها، ويستمر في مسيرِه نحو الجنوب حتى يصل إلى مدينة باسم «ينوام». وقد عدت ينوام مدينة مجهولة طوال الوقت؛ لأنهم كانوا يبحثون عنها شمالًا، بينما نظن من جانبنا أنها مدينة كانت معلومة في ذلك الزمان، وأنها كانت تقع أقصى جنوبي فلسطين بالنقب على الحدود السينائية، حسب قراءتنا لخط سير حملة مرنبتاح وتفسيره. ونظننا قد عثرنا عليها مع تحديد موقعِها في نص بالكتاب المقدس، يعدد أسماء المدن المنتشرة جنوبي دولة يهوذا المتاخمة بحدودها الجنوبية لحدود سيناء وآدوم، فيقول: إن تلك المدن هي:

ينوم وبيت تفوح وأفيقة وحمطة وقرية أربع وهي حبرون وصيعور. تسع مدن مع ضياعها.

(يشوع، ١٥: ٥٤، ٥٣)

لقد كان تفسير خط سير الحملة يذهب بها إلى فلطسين الشمالية وبلاد الشام، ومع سيره المستمر يصل إلى بلاد باسم «حور» و«خارو»، تم افتراض أنها بلاد الحوريين الميتانية، المزعوم أنها تقع بين الفرات والخابور، حيث يفترض أن تقع «ينو عام»، ثم تمَّت إعادة النظر مرة أخرى حيث تضارب ذلك مع خط السير الواضح بلوح مرنبتاح، ومع معطياتٍ أخرى أسقطت ذلك الاتجاه الشمالي، وأخذت بخط السير من الشمال نحو الجنوب. وحينئذٍ أصبحت بلاد حور مشكلة تم الانتهاء منها بالقول: إن المصريين منذ زمن مرنبتاح والأسرة التاسعة عشرة، صاروا يطلقون على بلاد فلسطين اسم بلاد حور أو خارو أو حوري (؟!)، وهي آخر خط حملة الانتصارات ليعود إلى مصر بعدها. هذا بينما يوضح فرضنا التأسيسي أن بلادًا تقع جنوبي فلسطين، وجنوبي مدينة ينوم التي تقع جنوبي يهوذا، تحمل اسم بلاد مديان وآدوم، هي البلاد الحورية المقصودة في نص مرنبتاح. وإن فرضنا يجعل تفسير لوح مرنبتاح مستقيمًا ومقبولًا في حال بدئه من الشمال واتجاهه جنوبًا، ليتناغم لوح مرنبتاح مع منظومتنا تناغمًا واضحًا، ويتحول إلى دليل وقرينة تضاف إلى رصيدنا؛ لأن البلاد الواقعة جنوبًا بعد ينوم ستكون خارج دائرة فلسطين، وليس بعدها جنوبًا سوى بلاد آدوم/آدوم الحورية. ولم يزل الوادي الواقع جنوبي وادي موسى عند البتراء، يحمل حتى اليوم اسم وادي حور. ويقول الفرعون في نهاية نصه حيث وصل نهاية حملته: «وحور أصبحت أرملة لتوميري.»

وهنا نتذكر شكل مساكن بلاد بونت الكهفية، ثم كهوف سالع البتراء المحفورة في الصخر، في تلك البلاد الحمراء، ثم نقف مع كلمة «حور» نبحث عنها في العبرية القاموسية، فنجدها تبلغنا شديد تأييدها لفروضنا، حيث تحمل الكلمة معنيين: الأول هو «أحمر». أما الثاني فهو «كهف»، فيما يسجل قاموس الكتاب المقدس. وهكذا حفظت لنا اللغة تحديدًا واضحًا للمكان، بل وصفة هذا المكان القديمة، فهم الجنس الأحمر الذي سكن الكهوف في بلاد آدوم.

ثم ندفع الآن بقرينةٍ أخرى أكثر وضوحًا وأشد قوة، تشهد على مدى توفيقنا فيما ذهبنا إليه، نأخذها بدورها من التاريخ المصري القديم، من زمن الفرعون شيشنق من الأسرة الثانية والعشرين، الذي حكم حوالي ٩٤٥–٩٢٤ق.م. ومعه نستعيد ذكريات تعيد أمجاد الفراعين العسكرية؛ فقد قام شيشنق الأول بحملةٍ كبرى على دويلات شرقي المتوسط، وضمن جدوله الكبير … بالكرنك نجد ضالتنا؛ إذ يبدأ مقدمة الجدول بغارته الكبرى، التي شنَّها على ما أسماه الإقليم الآدومي.»١ وهي المقدمة التي تقول إنه في الآن ذاته قد أخضع جيوش ميتاني، وهو الأمر الذي يعني أن الفرعون كان يتحدث، عن غارةٍ بعينها على موضعٍ واحد، اعتبره الموضع الأجدر بالتسجيل في مقدمة جدوله الكبير، وأن هذا الموضع كان «الإقليم الآدومي»، وأن هذا الإقليم تُعرف جيوشه باسم «جيوش ميتاني».٢ وبعد ذلك يتابع حملاته نحو الشمال.
لكن المؤرخين لهذه المنطقة من العالم، وحسب تقديراتهم لتآريخ وتزمينات قيام وانهيار دول المنطقة، قد أكَّدوا أن بلاد «ميتاني» التي كانت تقع — في زعمهم — كمملكة بالفرات الأعلى، وقد بلغت قمة ازدهارها إبان القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وأن تلك المملكة قد زالت تمامًا من الوجود خلال القرن الرابع عشر في أحد التخمينات، أو أن شلمناصر الأول الآشوري أزالها حوالي عام ١٢٧٥ق.م. أو اختفت على يد الآشوريين في ق ٩ق.م. حسبما يفيدنا طه باقر.٣ وهكذا نجدنا إزاء لغز غريب، فمعنى ذلك أن شيشنق كان يتحدث عن غارةٍ على بلادٍ، زالت قبل زمنه بحوالي خمسة قرون كاملة، أو ثلاثة قرون أو بقرنٍ واحد (لاحظ مدى التضارب).
وكان الحل السهل والبسيط هو القول بأن شيشنق الأول، كان يفاخر كل هذا الفخر بضرب جيوش «ميتاني»، فخرًا كاذبًا من باب تضخيم حجم آلته العسكرية ومجده الملكي؛ حيث إن مملكة الميتاني حسب وضعها بين الفرات والخابور زمن شيشنق، قد زالت من الوجود، وحلت محلها الدولة الآشورية بالقطع واليقين. والمظنون لديهم أن الآشوريين قد ضمُّوها إلى مملكتهم الكبرى قبل زمن شيشنق بقرون، أو أن الحيثيين هم من قضوا عليها في قولٍ آخر. ويلخص لنا «فراس السواح» ما جاء بشأن «ميتاني» وشيشنق لدى المؤرخين في قوله: «نعترف بوجود نص واحد غامض هو سجل حملة الفرعون شيشنق الأول ٩٤٥–٩٤٢ق.م. ومعظمها (يقصد معظم البلاد التي ذكر أنه استولى عليها [المؤلف])، لم يمكن التعرف عليه إلا بشكلٍ تقريبي. يضاف إلى ذلك تناقض معلومات النص مع بعض الحقائق التاريخية؛ فمملكة «ميتاني» التي كان يتباهى الفرعون بإخضاعها، لم تكن قائمة في زمنه.»٤

وهكذا يوقفنا هذا التفسير دهِشِين من أمر فرعون عظيم وفاتح كبير، يفاخر أهل زمانه أنه قد أخضع دولة زالت قبل زمانه بزمان كان كفيلًا بنسيان «ميتاني» واسمها زمن شيشنق. ولا شك أن أهل زمانه إما كانوا لا يعرفون ما هي «ميتاني» أو كانوا يعرفونها، ويعلمون يقينًا أنها زالت من صفحة التاريخ منذ قرون. أما الأغرب فهو أن يفاخر الفرعون كاذبًا، وهو منتصر انتصارًا عظيمًا أعاد لمصر أمجاد فتوحات التحامسة والرعامسة. لكن لن تكون هناك أية غرابة لو كان فرضنا المؤسس لهذا العمل صحيحًا، ذلك الفرض الذي يقول إن بلاد «ميتاني» لم تقع دولتها المركزية على الفرات الأعلى، الذي نعرف أنه كان ذلك الوقت بلادًا آشورية بلا منازع، وتحت سيطرة آشور من فجر مطلعها، إنما كانت هي بالتحديد بلاد مديان الحورية الآدومية الواقعة في سيناء الشرقية ووادي عربة وسراة سعير، وأنها هي بلاد بونت (الصخرة/سالع/البتراء)، التي ظلت قائمة حتى زمن الرومان. ولم يكن شيشنق يفاخر كاذبًا، بل هاجم بلادًا كانت قائمة بالفعل في زمانه، هي بلاد آدوم نهارين، كما ذكر اسمها في مقدمة جدوله الكبير بالكرنك.

أليست تلك بقرينة مبينة؟ لكنا نعلم أننا نقول كلامًا جديدًا وشديد المخالفة، ولكل جديد دهشة، وما أكثر التقليديين الذين سيرفضون أمرنا هنا! لهذا يستحق فرضنا مزيدًا من البحث عن قرائن وبراهين تدعم خراسانته. وإعمالًا لذلك نتابع التنقيب في مدونات المنطقة القديمة؛ لنقرأ بين ما عثرنا عليه نصوصًا للملك الآشوري «تجلاتبليزر الأول»، فنجد بينها نصًّا يحدثنا عن فتوحاتٍ واسعة، قادها ذلك العاهل الكبير، حتى وصل إلى بلاد «نهارينا» وفتح إقليمًا باسم «مصرى» في ذات النص، وأنه في إقليم «مصري» هذا دحر القبائل الآرامية؟!٥
ومع الوضع المزعوم لبلاد «ميتاني» (نهارين أو نهارينا بالفرات الأعلى)، كان لا بد أن يقف المؤرخون جميعًا يتساءلون ذلك السؤال الغريب المستغرب، عن بلاد «مصرى» التي تقع بالفرات الأعلى. وهو ذات السؤال العجيب المستعجب الذي أورده المؤرخ طه باقر، وهو يقرأ لنا نصوص الملك الآشوري «تجلاتبليزر الأولى»، بينما كان الباحث فراس السواح يلخص لنا ما انتهى إليه علماء التاريخ بشأن إقليم مصري أو موصرى بقوله: «إن موصرى هي مملكة مجهولة حتى الآن.»٦

وهكذا كان لاقتران إقليم «مصرى» مع بلاد «نهارينا» بفتوحات في الرافدين الأعلى، مدعاة لافتراض إقليم «مصرى» إقليمًا ميتانيًّا، أي أحد الأقاليم التابعة لبلاد «ميتاني» نهارينا، الواقعة زعمًا بين الفرات والخابور، لكنه الآن مجهول تمامًا مثله مثل «ميتاني»، ولا توجد عليه قرينة أركيولوجية واحدة. لكن إطلاقًا لم يكن إقليم «مصرى/موصرى» هذا وهمًا، ولا قراءة ملتبسة ننتظر صلاح الحال لنطقها الصحيح؛ لأنه تكرر في نصوصٍ رافدية أخرى، حدثتنا مرات عديدة وفي إشارات متباينة عن إقليم مصرى، ونتيجة التباين في الإشارات التي أحدثت التباسات في تحديده الجغرافي، فمرةً يمكن تفسير النصوص بأنه يقع في منطقة ما جنوبًا، ومرة شمالًا.

وإعمالًا لهذا اقترح الباحثون أحد موضعين لا ثالث لهما لإقليم مصرى، وما أبعدهما عن بعضهما: الموضع الأول في الفرات الأعلى، حيث الموضع المزعوم لبلاد (ميتاني/نهارينا). أما الموضع الثاني وهو الذي يعنينا بشدة، فهو احتمال وقوع إقليم مصرى — حسب قراءات أخرى لنصوص أخرى — في المنطقة المحيطة بخليج العقبة وبعض شبه جزيرة سيناء، ربما نصفها الشرقي كاملًا يقسمها وادي العريش العظيم.

وإطلاقًا لا يصح احتساب أن إقليم مصرى هذا، كان يعني مصر الدولة العظمى آنذاك؛ لسبب بسيط، وهو: أن نصوص العمارنة المصرية قد حدثتنا بدورها عن ذات الإقليم «مصرى» في صيغٍ متعددة، وإشارات تضعه في مكان ما شرقيَّ مصر. وتراوحت تنغيمات نطقه ما بين: مصرى، موصرى، موصر، مسري، مصر، مصارى، مشرى.٧
والمعلوم تاريخيًّا والمؤكد يقينًا أن المصريين أنفسهم لم يعرفوا بلادهم في ذلك الزمان باسم مصر، بعد أن ثبت أن تسمية مصر النيل باسم مصر تسمية متأخرة، فقد أطلق المصريون على بلادهم عدة أسماء، ليس من بينها اسم مصر. ومن تلك الأسماء المعلومة الآن بشكلٍ يقيني الاسم «كيمت KEM-T» أي الأرض السوداء BLAC LAND؛ ليقابلوا بها ما هو عكس واديهم الخصيب من صحراوات وجبال وقفار وبراري، أسموها دوشراتا أو «د. ش. رت»، التي تترجم إلى الأرض الحمراء RED-LAND؛ أي الصحارى.
ومن الأسماء الأخرى التي أحب المصريون إطلاقها على بلادهم: الاسم المعروف توميري أو «تء. م ر ى TA. MERE»، ونطقها الإغريق تيموريس؛ أي: أرض الحقل والفلاحة والحرث، أو الارض الخصيبة. وفي تاريخ مانيتون MANITHON المصري، الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، نجد لمصر أسماء ثلاثة هي: آيريا AERIA ومسترايا MESTRAIA وباللاتينية آيجبتون AIGYBTON. والمعروف أن الاسم الأخير كان أكثرها انتشارًا، وأصبح الكلمة الدالة على مصر في كل اللغات ذات الأصول اللاتينية، وهو فيما يذهب جلة من الباحثين تحريف للاسم المصري الأصلي للكلمة وهو «حت. ك ء. ب ت ح»، أي بيت عز بتاح، أو بيت مجد الإله بتاح، وهو إله منف منذ أقدم العصور. إلا أن بعض المجتهدين رأى أن اسم «ايجبت» مأخوذ من كلمة «قبط»، التي أطلقها العرب على بلاد مصر، وأن السبب في إطلاق العرب على مصر هذا الاسم، هو أن عرب الجزيرة كانوا يعبرون من جزيرتهم البحر الأحمر إلى مصر، فينزلون أول ما ينزلون عند مدينة عامرة هي «قفط». ومعلوم أن حرفي «ف» و«ب» يتبادلان؛ لذلك تنطق «قبط» أيضًا. لكنا هنا نضع احتمالًا ثالثًا يذهب إلى مدينة «جباتا» الواقعة عند خليج العقبة في بلاد آدوم القديمة، كمعبر أول على الطريق السينائي الذي يصب عند دلتا النيل، فتكون جباتا أول مدينة في طريق مصر السينائي، ويحتمل أنه قد اشتق منها «قبط» ثم «إيجبت» بحسبان عبور عرب الجزيرة للبحر الأحمر؛ للوصول إلى قفط في عمق الصعيد المصري، أمرًا مستبعدًا في ذلك الزمان.
ثم أخيرًا اشتهر من أسماء مصر الاسم «نيلوس NELOS»، الذي أطلقه على نهرها لأول مرة الكاتب اليوناني الملحمي «هزيود» في القرن الثامن قبل الميلاد. وتعود الكلمة إلى الأصل NEL بعد حذف التصريف الاسمي، والكلمة NEL تعود بدورها إلى الكلمة NEHL، التي هي في الساميات نهر NEHR ينطق فيها حرف الراء لامًا «نهر نهل» ثم أسقطت الهاء بالتخفيف فأصبحت «نيل NEL»، وأضيف إليها التصريف الاسمي اليوناني؛ لتنطق «نيلوس NELOS»، وهكذا فإن اسم النيل هو اسم سامي الأصل من الكلمة «نهر»، أُعيد تصديره عبر اليونان فأصبح نيل، ليدل زمنًا على مصر، ليقتصر بعد ذلك على نهرها العظيم. وقارئ الكتاب المقدس سيجده إطلاقًا لا يذكر نهر مصر باسم النيل إلا في أسفاره المتأخرة الخاتمة التي دونت بعد هزيود اليوناني، لكنه كان طوال أسفاره السابقة يطلق على نيل مصر فقط لفظة «النهر» غُفلًا من أي تسمية مميزة.
لكن لدينا رأي آخر يقول إن الاسم المتأخر الذي أطلق على مصر: «مصر» رغم وضوح تنغيمه السامي، إلا أنه يعود بدوره إلى أصلٍ مصري من اللفظ الهيروغليفي «مجر»، الذي يعني الحصن أو السور العظيم، أو الحد الفاصل بين دولتين أي الحدود الدولية.٨

وهنا نعود إلى الإقليم «مصرى/موصرى» نطرح الحل البسيط والسهل: إذا كان المؤرخون قد وضعوا لإقليمٍ مصري احتمالين جغرافيين، أحدهما يقع في بلاد آدوم وسيناء، وإذا كانت الكلمة المصرية «مجر» تعني الحدود الدولية، فلا شكَّ أن «مجر» أو «مصرى» لم تكن تعني مصر بلاد النيل، إنما تعني منطقة حدود مصر الدولية، أي إنها كانت بلاد آدوم بالتحديد والتدقيق المبين، ويكون العاهل الآشوري «تجلاتبليزر الأول» قد هاجم بلاد آدوم، عندما قال إنه هاجم بلاد موصرى. ولأنه كان يتحدث عن إقليم موصرى، ضمن هجوم أشمل على بلاد نهارينا، فإن بلاد نهارينا المقصودة لن تكون بالفرات الأعلى إنما بلاد آدوم. وتصبح الألفاظ الواردة بنصوص تل العمارنة بمصر عن «مشرى، مصر، موصرى، مسرى … إلخ» تشير إلى حدود مصر الدولية عند بلاد آدوم التي حملت اسم «مصر»، قبل أن تحمله مصر المعروفة الآن. فهي الحد الفاصل بين مصر وبين بادية الشام والبوادي العربية، وهي سور عظيم فعلًا؛ لأنها سلسلة جبال منيعة طبيعيًّا. وهو الأمر الذي يفسر لنا لماذا لم يضع المصريون على لفظة بلاد بونت العلامة الهيروغليفية الدالة على البلاد الأجنبية. وفيما سلف عرضنا فرضنا في أن بلاد بونت هي الاسم المصري الأشهر لبلاد آدوم المديانية، وهو ما يوعز أن المصريين كانوا يعتبرون بلاد «آدوم/بونت» حدًّا شرقيًّا فاصلًا للحدود المصرية مع البلاد الأجنبية.

وهناك تفاسير أخرى لاسم بونت تناسب هذا المقام أوردها «عبد المنعم عبد الحليم»، لكن دون أن يقصد مقصدنا، فهي ربما تكون الباب، وهو ما يشير إلى الحدود الدولية، بدوره في معنى الباب أو الحد الدولي. وفسرها آخرون بأنها تعني الحصن،٩ وهو ما لا يخرج بدوره عن المعنى الذي طرحناه، فالحصون تكون عادةً على الحدود.

وإن كان التاريخ يشي دومًا باستقلالٍ واضح لتلك البلاد، عن الوطن الأم في فتراتٍ تاريخية متعددة، وأن وجهة نظر المصريين لم تفرض على بلاد آدوم الأمر الواقع بالتبعية، وهو ما كان يستدعي حملات تأديب مصرية متتابعة، يتم تجريدها على سيناء وآدوم، كلما ارتكبت آدوم ما يعتبره الفرعون بحاجةٍ للتأديب والتهذيب. وعليه فإن لفظة مصر بدأ إطلاقها على بلاد آدوم جميعًا من جانب سكان المتوسط الشرقي ولسانهم السامي، الذي غلب على المنطقة بعد ذلك، بينما ظلَّ لفظ «قبط» ثابتًا في اللسان اللاتيني «إيجبت».

وتضيف اللغة مزيدًا من القرائن لنظريتنا التأسيسية؛ لأن الكلمة «مجر» المصرية القديمة المنطوقة في اللسان السامي «مصر»، على اختلاف تنغيماته «مشر، مشارى، مصر، مسرى، مصرى، موسير … إلخ»، تعني دومًا في الساميات معنًى واحدًا هو: «الحمراء». ونتذكر ما سلف بيانه أن بلاد آدوم وصفت بأنها بلاد حمراء، وأن عيسو آدوم سمي كذلك؛ لأنه كان أحمر اللون، حسبما ورد بالكتاب المقدس. لقد كانت مصر هي بلاد سيناء، في امتدادها حتى آدوم، في زمن كانت فيه مصر المعروفة تحمل أسماء أخرى معلومة هي: كيمت، توميري، آيريا، مسترايا، نيلوس، ولم تكن حمراء بل سوداء.

وإن كنَّا اليوم لا نجد في بلاد آدوم علمًا يحمل اسم مصر، فقد حملت واحدة من مدنها اسم «جباتا» ومنه «قبط»، ثم إن الكتاب المقدس يورد لنا اسمًا قديمًا علمًا في بلاد آدوم؛ إذ يحكي قصة موت هارون شقيق موسى ودفنه على حدود آدوم السينائية، يقول النص:

مات هارون ودفن في جبل موسير.

(تثنية، ١٠: ٦)
و«موسير» تلوين لهجوي آخر لاسم مصر. أما أن يطلق الرافديون على بلاد «ميتاني» اسم بلاد النايري أو نهارينا. ويطلق المصريون عليها اسم «ن ﻫ ر ي ن NHRN»، ويعطون الفرد من الشعب الحوري صفة «ن ﻫ ر ي NHRY»، نسبة إلى «ن ﻫ ر ي ن» بمعنى «رجل من بلاد ن ﻫ ر»، والتي خففت فيها الهاء في النطق الآشوري، فلفظت «ن ي ر ي/نايري». فهو ما أدى إلى التباساتٍ وغموض في أبحاث الباحثين، خاصة أن اللفظ يشير إلى نهر أكدوا أنه الفرات الأعلى. فإننا من جانبنا نرى اللفظ يشير إلى نهرٍ آخر — إذا كان يعني النهر فعلًا — وهو ما عثرنا عليه في تعبير التوراة عن قادش سيناء على حدود آدوم الغربية: «قادش النهر». وهو التعبير الذي يتطابق معناه مع جغرافية وادي العريش، الذي يتحول في الشتاء إلى نهرٍ عاصف جبار أطلقت عليه التوراة اسم «نهر مصر» (تكوين، ١٥: ١٨). وأكدت أنه كان في محيط هذا النهر كان يعيش الحدادون النحاسون، أو كما أسمتهم التوراة القينيين في (سفر التكوين، ١٥: ١٩). ثم يلتقي الاسم نايري من جانب آخر إضافة للنهر مع النار. ومعلومٌ أن بلاد آدوم التي حملت اسم سعير كانت بلادًا للسعير والنار، حيث تفصح الأرض هناك عن نشاط بركاني عظيم قد خمد الآن. ولا ننسى الحمراء صفة تلك البلاد، وشجرة النايري الحمراء التي اشتهروا بها، حتى أسمتهم العربية «شعب الأيكة»، أو شعب الشجرة.

ميتاني ومدياني

حتى زمن ظهور الدعوة الإسلامية في بلاد الحجاز، كان محيط خليج العقبة جميعًا يحمل اسم بلاد مديان أو مدين. ويقول «ابن هشام» في السيرة النبوية: إن النبي محمد قد أرسل مولاه زيد بن حارثة في سريةٍ مقاتلة مفاجئة على بلادٍ باسم مدين فيما نصه: «إن رسول الله بعث زيدًا بن حارثة نحو مدين، فأصاب سبيًا من أهالي «ميناء» وهي السواحل، وفيها جماع من الناس.»١٠

ورغم أن التوراة قد اصطلحت على تسمية تلك المنطقة ببلاد «عيسو/آدوم»، إلا أن هناك إشارات أخرى عديدة بها، تؤكد أنها قد عرفت ذات الموضع باسم بلاد مديان، نسبة إلى قبيلة كبرى قطنت هناك بهذا الاسم. فنجد في (سفر إرميا، ٢٥: ٢٠) أن بلاد مديان تقع بين مصر وفلسطين (أي شبه جزيرة سيناء). وفي ذات السفر يذكر النبي إرميا بلاد مديان، بحسبانها تقع في طريق المسافر من مصر إلى بابل، بل وبموضعها في بلاد آدوم (إرميا، ٤٦: ١). وهو الموضع الذي افترضناه موضعًا لبلاد بونت، التي عرفت في سجلات المنطقة التاريخية باسم بلاد «ميتاني/نهارين، الحور». وهو ما يجد له صدًى بالكتاب المقدس، الذي أكد لنا أن سكان النصف الشرقي لسيناء، قد حمل بعضهم اسم المديانيين؛ ولذلك كانت تطلق على تلك البلاد مجموعة مسميات على التبادل: مديان نسبة لقبائل مديان/ سعير نسبة لجبال سراة سعير/ وهي الحدود التي سميت موصرى/ آدوم نسبة للآدوميين الأوائل/ بلاد الحور، وهو الاسم الثاني للآدوميين/ سالع بالعبرية أي الصخرة، وهو اسم العاصمة/ بترا اليونانية، ويعني الصخرة أيضًا/ بونت أي الخماسية باليونانية.

ولمزيدٍ من تدقيق موقع مديان فيما ورد بالكتاب المقدس، نقرأ قصة صراع الملك الإسرائيلي سليمان ومن قبله أبيه داود مع دولة آدوم الجنوبية. وهو الصراع الذي أدى إلى فرار الوريث الملكي الآدومي، بعد هزيمة بلاده إلى مصر. وفي مصر عاش عيشة الأمراء في البلاط الملكي، بل وتزوج أميرة فرعونية، ثم ساعده بعد ذلك الفرعون في استعادة عرشه. وتقول القصة:

وأقام الرب خصمًا لسليمان هدد الآدومي، كان من نسل الملك في آدوم. وحدث لما كان داود في آدوم عند صعود يوآب رئيس الجيش لدفن القتلى، وضرب كل ذكر في آدوم؛ لأن يوآب وكل إسرائيل أقاموا هناك ستة أشهر، حتى أفنوا كل ذكر في آدوم. إن هدد هرب هو ورجال آدوميون من عبيد أبيه معه؛ ليأتوا مصر. وكان هدد غلامًا صغيرًا، وقاموا من مديان وأتوا إلى فاران. وأخذوا معهم رجالًا من فاران، وأتوا إلى مصر إلى فرعون ملك مصر، فأعطاه بيتًا وعيَّن له طعامًا وأعطاه أرضًا. فوجد هدد نعمة في عيني فرعون جدًّا وزوجه أخت امرأته، أخت تحفنيس الملكة، فولدت له أخت تحفنيس جنوبث ابنه، وفطمته تحفنيس في وسط بيت فرعون. وكان جنوبث في بيت فرعون بين بني فرعون. فسمع هدد في مصر بأن داود قد اضطجع مع آبائه (أي مات [المؤلف])، وبأن يوآب رئيس الجيش قد مات، فقال هدد لفرعون: أطلقني إلى أرضي.

(ملوك أول، ١١: ١٤–٢١)

وهذا إنما يعني أن منطلق الرحلة كان من مديان «وقاموا من مديان»، وأن مملكة هدد الآدومي كانت هي مملكة مديان. وخط هروب الوريث الآدومي يحدد لنا بدقة أين تقع مديان، فالنص يقول: «وقاموا من مديان وأتوا إلى فاران». وبالبحث سبق ووجدنا برية باسم «باران» قائمة باسمها حتى الآن، تقع إلى الغرب مباشرة من بلاد آدوم، التي حددنا موقعها بين خليج العقبة والبحر الميت. و«باران» بالضبط هي «فاران»، فحرف الباء والفاء يتبادلان. ثم إن «باران» أو «فاران» محطة واضحة على خريطة سيناء، للمتَّجِه غربًا من آدوم نحو مصر. وإذا كان هدد الملك الآدومي قد أخذ معه رجالًا من فاران كأتباعٍ له، فهو ما يعني أن سلطان آدوم كان يصل تقريبًا إلى «نهر مصر» وادي العريش الآن. إن النص يؤكد بلا لَبْس أن بلاد آدوم هي التي حملت أيضًا الاسم التاريخ مديان اسم كبرى القبائل الآدومية.

ثم لمزيدٍ من التأكيد نتابع البحث في نصوص الكتاب المقدَّس، فنقرأ قصة هروب النبي موسى من مصر، بعد قتله المصري ظلمًا وعتوًّا إلى بلاد باسم مديان، وأنه عاش هناك زمنًا هاربًا من قوانين العدل المصرية، وتزوج هناك من صفورة بنت كاهن مديان، الذي كان يحمل اسمين يردان في المقدس التوراتي على التبادل هما: رعوئيل، ويثرون. ويحدد لنا المؤرخ «فيليب حتى» الموقع الجغرافي لتلك البلاد التي فرَّ إليها موسى بأنها:
مدين التي تضم جنوبي سيناء، والأرض الواقعة إلى الشرق منها. واتخذ موسى لنفسه امرأة غريبة، وهي ابنة كاهن مدين، وأبوها مؤمن بديانة يهوه، فتعلم منه موسى أسرار العبادة الجديدة.١١

ومن جانبهم يفترض المؤرخون الإسلاميون أن «يثرون» هذا هو الذي ورد في القرآن باسمِ شعيب صاحب شعب الأيكة. والأيكة هي الشجرة الضخمة المعمرة أو الغابة، والأيك هو «العيك» بتبادل الهمزة مع العين في «الساميات». وهو ما يذكرنا بأتيكا أو عتيقة، التي وردت في نصوص مصر بحسبانها موقعًا في بلاد آدوم، كما أسلفنا.

ويقول أصحاب قصص الأنبياء عن مدين:
مدين: قيل اسم البلد. وقيل إنه اسم القبيلة؛ بسبب أنهم أولاد مدين ابن إبراهيم. وشعيب قد اختلف في نسبه، وكان أهل مدين قومًا عربًا يسكنون مدينتهم مدين القريبة من أرض معان من أطراف الشام (لنتذكر أنها معان مصران أو معان المصرية على التخوم الشرقية الجنوبية لآدوم [المؤلف]) وكانوا بعدهم بمدةٍ قريبة. وكانوا كفارًا يقطعون السبيل، ويخيفون المارة ويعبدون الأيكة، وهي شكرة من الأيك حولها غيضة ملتفَّة بها، وكانوا من أسوأ الناس معاملة، يبخسون المكيال ويطفِّفون فيها.١٢

وكلام المأثور الإسلامي هنا عن المكيال والميزان، يعبر بوضوحٍ عن صدق فروضنا، التي قلنا فيها إن سكان تلك المنطقة كانوا من طبقة من التجار العسكريين، تمركزوا على عصب طريق قوافل تجارة العالم، في هذه المنطقة الحساسة من العالم المعروف آنذاك.

ويقص علينا الكتاب المقدس في «سفر الخروج»، أن النبي موسى عندما خرج من مصر مع أتباعه، ميممًا نحو فلسطين عبر سيناء، اتجه من فوره إلى بلاد مديان، التي سبق وعاش فيها، عندما هرب من جريمة قتله المصري، وارتبط بأهلها بأواصر النسب والسنين، حيث التقى هناك بحماه «يثرون/رعوئيل»، واتخذ من شقيق زوجته حباب المدياني دليلًا له في دروب سيناء الشرقية. إلا أن هذا الود لم يبقَ على حاله الصافي، فلم تلبث التناقضات أن ظهرت بين الفريقين؛ فريق موسى وأتباعه الخارجين من مصر، وفريق المديانيين، لتتصاعد تلك التناقُضات إلى صراعٍ دموي، انتهى بأمرٍ إلهي جاء في النص التوراتي يقول:

وكلم الرب موسى قائلًا: انتقم نقمة لبني إسرائيل من مديان، فتجندوا على مديان كما أمرهم الرب، واقتلوا كل ذكر، وملوك مديان اقتلوهم فوق قتلاهم: آوى وراقم وصور وحور ورابع، خمسة ملوك مديان، وأحرقوا جميع مدنهم ومساكنهم وجميع حصونهم بالنار وأتوا إلى المحلة إلى عربات موآب.

(عدد، ٣١: ١٢، ١٠، ٨، ٧، ٢، ١)
النص هنا يعطينا مزيدًا من التأكيد لموقع بلاد مديان، حيث دارت الموقعة العسكرية بين الإسرائيليين والمديانيين، فهو إلى الجوار من «عربات موآب» أي الجزء القريب من دولة موآب من وادي عربة. كما يوضح لنا أن منطقة آدوم المديانية كانت تتقاسمها خمسة ممالك متحدة (بنط بوليس = البلد الخماسية)، وبين أسماء ملوك تلك الممالك، يحتفظ لنا المقدس باسم الملك المدياني «حور»، الذي لم يزل اسمه علمًا هناك حتى اليوم على وادي حور، في محيط البتراء الجنوبي. وفي موضعٍ آخر بالكتاب المقدس، نجد حديثًا عن إبراهيم الخليل وابن أخيه لوط، وحديث عن خمس مدائن كبرى تقع في بلاد آدوم، جاءت أسماؤها على الترتيب، بأسماء ملوكها، في زمن أقدم من زمن موسى كالآتي:

با – رع ملك سدوم، وبر – شاع ملك عمورة، وشن – آب ملك آدمة، وشم – إير ملك صبوييم، وملك بالع التي هي صوغر.

(تكوين، ١٤: ٢)

وواضحٌ في تلك الأسماء النغمات المصرية «با – رع»، والنغمات السامية العربية «شم – إير» الذي هو «شمر». وما زالت قبائل عربية كبيرة تحمل هذا الاسم حتى الآن في تلك المناطق تحديدًا (الشمريين)، إضافة إلى العموريين أو الأموريين (ولدينا في التوراة مدينة عمورة في بلاد آدوم) والآدوميين أدمة بالتوراة. وبمقارنتنا للوديان المنزرعة التي تتخلل المنطقة الصخرية لبلاد آدوم، والتي تصلح لقيام دول مدن بها، سنجدها الآن وديانًا خمسةً تلتقي مع المدن الخمس، التي أوردها الكتاب المقدس. وهي بأسمائها الحالية: وادي موسى، ووادي جلواخ، ووادي الصدر، ووادي المقر، ووادي الزرابة، وهي بالتحديد المبين كل وديان المنطقة دون زيادة أو نقصان، وديان خمسة تطابق مدنًا خمسة، وهي التي أطلق عليها المؤرخون القدامى مثل هروشيوش «بونتابوليس» (بنط – بوليس) أي البلاد الخماسية.

ولمزيدٍ من التعرف على مديان ومدى مطابقتها لبلاد آدوم، نقرأ في موقعٍ آخر بالكتاب المقدس زمن القضاة ما بين الخروج وبين قيام مملكة داود، عن استمرار الصراع بين الإسرائيليين والمديانيين، وأن الكفة مالت لصالح المديانيين، حتى أخضعوا الإسرائيليين سبع سنوات، وهو ما يعبر عنه نص المقدس بقوله:

وعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب، فدفعهم الرب ليد مديان سبع سنين، فاعتزت يد مديان على إسرائيل، بسبب المديانيين عمل بنو إسرائيل لأنفسهم الكهوف التي في الجبال، والمغاوير والحصون. وإذا زرع إسرائيل كان يصعد المديانيون والعمالقة وبنو المشرق، يصعدون عليهم وينزلون عليهم، ويتلفون غلة الأرض إلى مجيئك إلى غزة، ولا يتركون لإسرائيل قوت الحياة، ولا غنمًا ولا بقرًا ولا حميرًا؛ لأنهم كانوا يصعدون بمواشيهم وخيامهم، ويجيئون كالجراد في الكثرة، وليس لهم ولجمالهم عدد، ودخلوا الأرض لكي يخربوها.

ويفهم من النص أن المديانيين كانوا يشكلون حلفًا قويًّا مع العمالقة، والعمالقة شعب مجهول إلى حدٍّ بعيد. لكن شجرة الأنساب التوراتية تعيد العمالقة إلى أبٍ أسطوري بعيد اسمه «عماليق»، وتقول: إن عماليق هذا من نسب آدومي، فهو حفيد عيسو آدوم، الجد الأسطوري البعيد لشعب آدوم» (انظر: سفر التكوين، ٣٦: ١٢). وهو ما يفسر لنا وجود العماليق في بلاد آدوم.

وفي التوراة نصوص عديدة يُفهم منها أن العمالقة أو العماليق كانوا ينتشرون في سيناء وآدوم، والنقب، والمناطق الجنوبية من فلسطين. أما بنو المشرق فهو اصطلاحٌ معلوم بالكتاب المقدس، يشير إلى القبائل الآرامية. والنص السالف يشير إلى كثرة عددية هائلة في جيوش هذا الحلف «كالجراد في الكثرة»، لكنه يشير إلى أن المديانيين قد دفعوا الإسرائيليين لحفر الكهوف التي في الجبال. وهو كلام ملتبس؛ إذ يبدو لنا أن كاتب هذا الجزء من التوراة، كان قد عرف مساكن بونت آدوم الكهفية المحفورة في الصخور، ورأى عظمتها وعاينها، فنسب فعلها إلى الإسرائيليين. وهو دأب توراتي يعلمه المعتاد على التعامل مع الكتاب المقدس، حيث يحاول المحرر التوراتي دومًا أن ينسب الأعمال الكبرى لبني إسرائيل.

ومن إشاراتٍ أخرى بالكتاب المقدس، نفهم أن هؤلاء المديانيين قد عرفهم الناس كصُنَّاع مَهَرة للمعادن، فهم قينيون حسبما أطلق عليهم المقدس، أي حدادون. وكان الحداد في ذلك الزمن هو مؤسسة المصانع الحربية. ويقول لنا قاموس الكتاب المقدس تحت مادة قيني:

قينيون: اسم سامي معناه حداد، والقين باللغة العربية معناه الحداد، وبنو القين قبيلة من قبائل العرب والنسبة إليها قيني. ومن (سفر التكوين، ١٥: ١٩) نرى أن القينيين كانوا أمة مجاورة للقدمونيين والقنزيين الساكنين في آدوم، وقد تطلع بلعام من مرتفعات بعل موآب، فرأى القينين وشبه موضعهم بالعش في صخرة (سفر العدد ٢٢: ٤١ و٢٤: ٢١، ٢٢) ليكن مسكنك متينًا، وعشك موضوعًا في صخرة.

وهنا نتذكر أن بيوت بلاد بونت قد صُوِّرت كأعشاش النحل في الصخور، وأنها ذات عين مساكن الحوريين في بلاد آدوم. وسفر القضاة يقدم لنا تقريرًا واضحًا، يؤكِّد أن القينيين هم ذات المديانيين، وأن القيني صفة للمدياني، وذلك في قوله: وبنو القيني حمو موسى (قضاة، ١: ١٦)، ونحن نعلم أن حمى موسى «يثرون/رعوئيل»، كان مديانيًّا.

وللمزيد من التأكد من القينيين، وأنهم كانوا ذات عين المديانيين حلفاء العمالقة وبني المشرق، نرحل إلى زمن أول ملوك إسرائيل المعروف باسم شاول، عندما قام بحملةٍ عسكرية على عاصمة العماليق. وطلب من القينيين أن يفكُّوا حلفهم مع العمالقة؛ كي لا يبيدهم معهم، وأن يهجروا مواطنهم التي سكنوها معهم، أو بالنص:

اذهبوا وحيدوا وانزلوا من وسط العمالقة؛ لئلا أهلككم معهم، وأنتم قد فعلتم معروفًا مع جميع بني إسرائيل عند صعودهم من مصر، فحاد القيني من وسط عماليق.

(سفر صموئيل أول، ١٥: ٦)
وهو ما يعني أن القيني كان هو المدياني حليف العمالقة وبني المشرق. وعلى مستوى علم التاريخ يحيطنا المؤرخ سليم حسن علمًا بقوله: «نعلم من الفخار الذي جمعه جلويك من مناجم النحاس في عرابة أنه كانت تقوم هناك أعمال عظيمة في عصر الحديد المبكر، بيدَ أنه لا يمكن تحديد تاريخ بعينه لذلك. ولما كان إقليم مدين الواقع في الجنوب والجنوب الشرقي في العقبة أغنى بكثيرٍ في النحاس؛ فإنه لا يبعد أن يكون أهل موسى قد بدءُوا تثميرها، وبخاصة أنه كان بالقرب منهم عملاء ممتازون. ولشراء هذا المعدن، وأعني بذلك «مصر» وكنعان وكانت عشيرة مدين فضلًا عن ذلك تُنعَت بلفظة القينيين أي النحاسين.»١٣ ومن جانبه يحيطنا الكتاب المقدس علمًا أن القيني هو ذلك الصانع الضارب على آلات الحديد والنحاس بتعبير (سفر التكوين، ٤: ٢٢). وكان «نيلسون جلويك» الذي أشار إليه سليم حسن من هنيهة، قد اكتشف عام ١٩٣٧م منجم نحاس هائلًا محفورًا في الصخر في جنوبي وادي عربة، لكنه ذهب إلى أنه كان منجمًا للملك سليمان. كما اكتشف جلويك في وقتٍ سابق أنقاض ميناء بلاد آدوم على خليج العقبة، واحتسبه ميناء عصيون جابر الوارد بالتوراة، كميناء لآدوم على خليج العقبة، وذلك تحت طبقة من الرماد على مساحةٍ واسعة من الأرض محاطة بسورٍ حصين، وبداخلها مجموعات ضخمة من أفران صهر النحاس.١٤

ومن جانبٍ آخر عثر علماء الدولة الإسرائيلية أثناء وقوع سيناء المصرية تحت الاحتلال بعد هزيمة ١٩٦٧م، على بقايا ميناء في جزيرة فرعون المصرية المقابلة لميناء إيلات. فذهبوا إلى أن هناك كان موقع ميناء عصيون جابر، الذي استخدمه الملك سليمان قاعدة لأسطوله إبَّان توسعه على حساب آدوم.

وبعد تحرير سيناء توجهت بعثة من المجلس الأعلى للآثار المصرية؛ للتحقُّق من صدق ما وصل إليه علماء إسرائيل، حيث عثروا على تحصيناتٍ حربية ترجع إلى عهد صلاح الدين الأيوبي. كما عثروا على فرنٍ يُستخدَم في إسالة المعادن بغرض التصنيع الحربي، مبني من الطوب الحراري، إضافة إلى بعض أبراج المراقبة وخزانات المياه، وأبراج حمام زاجل كانت تستخدم في عمليات الاتصال العسكري والمراسلة. وعندئذٍ صرح المشرف على البعثة المصرية، أن أهمية كشف تلك المنشآت التي تعود لزمن صلاح الدين الأيوبي، تكمن في دحضه لمزاعم الآثاريين الإسرائيليين. وكان الإسرائيليون قد عثروا على بقايا معدن الحديد المنصهر. ولما كان عصر الحديد في المنطقة قد تم تزمين بدايته بحوالي عام ١٠٠٠ق.م. فقد تم ربط المكتشفات بزمن سليمان الذي حكم حوالي ذلك الزمن. لكن رئيس البعثة المصرية نفى أن يكون لهذا الحديد علاقة بزمن سليمان، إنما يعود إلى فترة حكم الأيوبيين.

figure
شكل رقم «٧١»: قلعة صلاح الدين بجزيرة فرعون.

(انظر شكل رقم «٧١».)

وقد عقب على الأمر الباحث أحمد عثمان بقوله: «إن رئيس البعثة المصرية وجد أن أفضل الطرق لدحض المزاعم الإسرائيلية، بخصوص تبعية عصيون جابر للملك سليمان، أن ينفي وجود هذا الميناء كليًّا، خلال ثلاثين قرنًا من الزمان، ويرجع نشأته إلى عصر صلاح الدين الأيوبي في الأزمنة الحديثة. وقد أظهرت الحفريات الأثرية التي تمت في أواخر الستينات (يقصد الحفريات الإسرائيلية) أن أقوام سيناء المديانية المصرية كانت أول من قام ببناء هذا الميناء، في العصور القديمة في جزيرة فرعون الواقعة في خليج العقبة، على بعد ١٢كم جنوبي ميناء إيلات الحالي، قبل زمن سليمان في القرن العاشر ق.م. بخمسة قرون. بل تبين وجود علاقة قوية بين جزيرة فرعون وميناء عصيون جابر، وبين مواقع المناجم في وادي عربة الممتد جنوب فلسطين إلى البحر الميت. وعند وادي «متانية/تمنا» على بعد عشرين كيلو مترًا شمال إيلات، عثر الأثريون على بقايا أدوات صهر النحاس وتشكيله، ترجع إلى عهد الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة … وتم الكشف عن معبدٍ وسط تلك المناجم لمعبودة سيناء حات حور.»١٥

وإذا كنا من جانبنا نزعم أن بلاد بونت التي أوفدت إليها الفرعونة حتشبسوت بعثتها هي ذات بلاد آدوم عند العقبة، فإننا لم نجد في نصوص حتشبسوت أي ذكر لا للحديد ولا للنحاس في منتجات بونت. لكن ما لا يصح التغافل عنه ذلك النص الذي تقول فيه الفرعونة: «لقد منحتهم الذهب، فتلقيت منهم الذهب الأخضر من بلاد الأمو». وإذا أخذنا العبارة بظاهرها، فلن يكون مفهومًا أن تهدي الفرعونة ذهبًا لتتلقى ذهبًا، خاصةً وأن مصر كانت غنية بالذهب، الذي يأتي من مناجم النوبة بوفرةٍ عظيمة؛ إلا أن الكلمة الإلحاقية التوضيحية بالنص «الذهب الأخضر»، تعطينا معنًى يطابق النحاس والحديد مطابقة مدهشة، فكلاهما يأخذ اللون الأخضر مع التأكسد، وأن يُقال عن تلك المعادن إنها نوع من الذهب. فلكون الحديد ثم النحاس الممزوج بالقصدير الذي يُعطي سبيكة البرونز، كان فاتحة عصر جديد في أساليب الحروب وأسلحتها، فكان أثمن من الذهب في ذلك الزمن.

أما الإشارة في نصوص حتشبسوت إلى أن تلك البلاد، التي كانت تصنع هذا الذهب الأخضر في بلاد بونت هي بلاد الآمو؛ فهو باب آخر يفتحه النص أمام بحثنا هنا؛ لأن كلمة آمو أو عامو هي الاصطلاح المصري المعلوم الذي أطلقه المصريون على غزاة بلادهم باسم الهكسوس، الذين احتلوا مصر في زمنٍ سابق حوالي ١٧٨٨–١٥٧٥ق.م. وهو الأمر الذي سنُتِمُّ معالجته تفصيلًا مع السير في العمل بهذا البحث. لكن ما نوضحه هنا في إشارة سريعة، هو أن بلاد بونت وفق هذا المعنى التي هي بلاد العامو كانت موطنًا للهكسوس. وإذا كان الهكسوس العامو حسب نص حتشبسوت هم سكان بلاد بونت، فمن المستحيل أن تقع بونت في الصومال أو أثيوبيا أو سواحل اليمن، إنما يجب أن تقع في الشرق من حيث جاء الهكسوس. هذا ناهيك عن كون كثير من المدارس، يرجح أن يكون الهكسوس من شعبٍ قديم عُرف باسم العمالقة. وهنا نتذكر فورًا نص الكتاب المقدس السالف الذي أحاطنا علمًا، في قصة حملة الملك الإسرائيلي شاول على العمالقة، بأن المديانيين أو القينيين كانوا يعيشون مع العمالقة بذات المواضع الجغرافية.

وكما سلف في النص المذكور يأمر النبي موسى بقتل ملوك مديان وبينهم ملك باسم «رابع»، وفي موضعٍ آخر بالكتاب المقدس نعلم أن اسم «رابع» هذا اسم كنعاني يعني العدد أربعة، وذكر في مواضع أخرى باسم «أربع» صريحة، مع وصفه بأنه كان أعظم ملوك العماليق. وهنا نتساءل: هل كان رابح ملك بلاد بونت في لوحات حتشبسوت هو رابع هذا؟ كان رابع فيما يبدو اسمًا متواترًا لملوك مديان منذ بارح أو رباح أو رابح في نصوص حتشبسوت، وأنه كان أيضًا بارح أو رابح في زمن آمنحتب الثاني، الذي كان يحلو له — كما أسلفنا — التحدث باحتقارٍ عن رابح وقوم نخسى! والمقدس التوراتي يذكر للعماليق اسمًا آخر يأتي على التبادل مع «عمالقة»، هو الاسم «عناقين» و«بني عناق». وقد سميت مدينة الخليل باسم كنعاني هو «أربع» زعيم العمالقة، قبل أن يتغير اسمها إلى حبرون ثم إلى الخليل انظر: (سفر يشوع، ١٤: ١٥، و١٥: ١٣). وهو ما يؤكد صدق تحديدنا للمواطن التي اخترناها للمديانايين والعمالقة.

وقد سبق وأشرنا إلى أن لوحات بونت في معبد الدير البحري، قد أشارت إلى اسمين لموضعين أو لمدينتين، يعطيان رؤيتنا هنا مزيدًا من الدعم والتأييد. الاسم الأول هو «أو سالعت» أو «أوزلت». ويذهب الباحث عبد المنعم عبد الحليم إلى موضعتها عند ميناء «زيلع» الحالي بجنوبي الصومال، حسب رأيه في وقوع بنط على شواطئ الصومال بأفريقيا.١٦ بينما نجد «أو سالعت» من وجهة نظرنا تحيل فورًا إلى اسم «سالع» عاصمة آدوم، وليس إلى «زيلع» على ساحل الصومال.

أما الاسم الثاني فهو يبدو كما لو كان وصفًا للمكان الذي التقى فيه مصريو بعثة حتشبسوت بالبونتيين، بميناء علي سواحل بلاد بونت، والصيغة كما جاءت هي «حرجسوى واج ور»، وتعني أن المقابلة قد تمت على شاطئ البحر. وهو برأينا تسمية لواقع حال المكان، كعادة المصريين والشعوب القديمة عمومًا في التسمية على واقع الحال وشكل البيئة. ونعتقد أن «على شاطئ البحر» هو اسم المدينة لوصفها بكونها ميناء، فهي باختصار تعني «الميناء»، التي تلتقي مع ذات التسمية التي أطلقها المأثور الإسلامي في غزوة زيد بن حارثة، زمن الدعوة الإسلامية على بلاد مدين، على المكان الواقع عند العقبة باسم «ميناء»، في النص السالف «إن رسول الله بعث زيدًا بن حارثة نحو مدين … فأصبا سبيًا من أهالي ميناء»، لقد كانت كلمة ميناء المعنى الذي أصبح اسمًا من كلمة «حرجسوي واج ور»، للميناء الذي استقبل سفن الفرعونة حتشبسوت باسم «ميناء».

ونميل هنا بشدة إلى الاعتقاد أن جزيرة فرعون، هي بالتحديد ذلك الميناء القديم «حرجسوي واج ور»، رغم أنها كجزيرة تبعد الآن عن يابس خليج العقبة باثني عشر كيلو مترًا، وهو الأمر الذي يمكننا تفسيره بربطه بما جاء عند جمال حمدان، في قوله بارتفاع مياه البحر في أكثر من منطقة، وأنه قد أدى إلى انفصال مماثل في مدن الساحل المصري الشمالي، وأغرق كثيرًا من المدائن الرائعة، كما في آثار كوم الشقافة، وأصبح مكان الفنار القديم على الشاطئ، يقبع الآن بعيدًا داخل البحر، كما طغت مياه البحر على دلتا النيل، وأدت إلى توسعة البحيرات الشمالية، مثل بحيرة المنزلة والبرلس وغيرهما، وقد أورد جمال حمدان شهادات قديمة حفظت الحدث، كما جاء في رواية المخزومي عن نشأة بحيرات الدلتا بواسطة طغيان البحر، وكان ذلك عام ٩٦١ ميلادية،١٧ ونظنه ذات الأمر الذي قضى على آثار عصيون جابر القديمة، التي لا يزال البحث جاريًا عنها حتى اليوم، مع احتمالات أنها ربما تكون إيلات وربما تكون العقبة، فالاسم «حرجسوي واج ور»، يتطابق تمامًا مع محاولة نطق اللسان العبري للاسم المصري «حرجسوي واج ور»، ممثلًا في النطق العبري «عصيون جابر».
ويشير جمال حمدان إلى تطابق حديث المخزومي، مع ما جاء عند جرا سبان الأب، عن ارتفاع مستوى سطح البحر منذ القرن الثاني للميلاد، ودلل على ذلك بالأطلال والبقايا الغارقة، التي وجدها في بحيرة البرلس.١٨
ويبدو أن ذات الحدث الكوني هو الذي أدَّى إلى ضياع مدينة تنيس العظيمة، واختفائِها من على صفحة التاريخ، فيقول المسعودي والمقريزي من بعده إن المنزلة كانت جزءًا من نطاقٍ بري عظيم، لا يضارع أو يناظر في مصر، ظل كذلك إلى ما قبل الفتح الإسلامي لمصر، ونقرأ في مروج الذهب: «إن تنيس كانت أرضًا لم يكن بمصر مثلها استواء وطيبة، وكانت نخلًا وشجرًا ومزارع، وكانت فيها مجاري ماء على ارتفاعٍ من الأرض، ولم ير الناس بلدًا أحسنَ من هذه الأرض، ولا أحسن اتصالًا من جناتها وكرمها، ولم يكن بمصر كورة يُقال إنها تشبهها إلا الفيوم … لكن البحر اخترق خط التلال الرملية، التي كانت تعمل كمتاريس طبيعة، وسنة بعد أخرى زحفت مياهه وتوغلت، إلى أن اكتسحت كل الأراضي المنخفضة الوطيئة ببلدانها وقراها، تاركة فقط عدة «جزر عالية» بما فيه الكفاية لتنجو من الخراب.»١٩
وربما نبالغ لو استعنَّا بالمسعودي في روايةٍ أخرى تبدو خيالية، لكنَّها ترصد لنا مناطق قد غطاها البحر، ولم تكن كذلك فهو يقول: «وكان فيما بين العريش وقبرس طريق مسلوكة إلى قبرس، تسلكه الدواب يبسًا، ولم يكن فيما بين العريش وجزيرة قبرس إلا مخاضة.»٢٠
ويبدو أن ذلك قد ترافق مع ارتفاعٍ تدريجي عبر القرون لدرجة الحرارة عما كان معتادًا، مما أدَّى إلى ذوبان الجليد القطبي الذي أدى بدوره إلى ارتفاع مستوى البحار، حيث وجدنا ما يدعم ذلك عند هروشيوش المؤرخ لتاريخ العالم، إذ يقول: «وفي ذلك الزمان ذكر الفلاسفة في كتبهم، أن الشمس خرجت عن طريقها في أيام القبط، حتى جاوزتْ حد الإحراق في جميع الدنيا، وكادت أرض الحبشة لا يبقى بها إنسان ولا بهيمة، وقد اعتلَّ بذلك بعض كتاب المجوس الجاحدين لقدرة الله، بأن أنزلوا ذلك من قبل الكوكب الأحمر»،٢١ والكوكب الأحمر هو كوكب الزهرة عند العرب.

ومن ثم لا شك أنه قد ضاعت بهذا الفعل الطبيعي معالم كثيرة، كان يمكن أن توفر كثيرًا من العناء لحلِّ ألغاز التاريخ، وضمن ذلك لا شك مساكن ومزارع وحياة كاملة، لم يبق منها إلا آثار صهر النحاس في جزيرة فرعون، وبعض المباني التي تشير إلى ضجيجٍ قديم كان يملأ المكان. أما باقي تلك المساكن كالأكواخ التي تقوم على أعمدة، فلا زالت تتناثر في سيناء بمحيط الترابين ونويبع ومواضع أخرى. أكواخ تحملها قوائم يصعد إليها الأهلون هناك بسلالم خشبية، وهو ما يلقي بنا في مرآة زمان بعثة حتشبسوت إلى بلاد بونت، فلم يزل أهل تلك المناطق يستخدمون الأسلوب القديم في بناء المساكن كما هو، وبذات الأسلوب البنائي البدائي.

وهكذا فإن «بلاد بونت/بلاد الصخر» قد عاش فيها شعب يسمى الشعب الحوري، منسوبًا إلى جد أسطوري باسم سعير الحوري، حتى جاء الآدوميون «أبناء عيسو/آدوم» فاقتحموا المكان واستوطنوه. وفي ذات المكان استوطن فرعًا قبليًّا من فروعهم، هو الفرع المدياني الذي اشتغل بالحدادة والنحاسة فسمي القيني. وفي ذات المكان وعلى امتداد نحو الشمال الفلسطيني، استوطن بطن نسيب آخر هو الفرع العماليقي أو العناقي، وامتدت المساحة التي شغلتها تلك الممالك أو البطون القبلية المتحالفة، من جبال سراة سعير (موصرى) ووادي عربة حتى عمق سيناء غربًا، ربما إلى وادي العريش، مع جزءٍ واسع من بادية شمال جزيرة العرب شرقًا، وجنوبًا على الساحل الشرقي لخليج العقبة، وإلى الشرق منه، حيث مدن ددان «العلا» ومدائن صالح وتيماء … (المدن التجارية الواقعة على خط التجارة من الجنوب للشمال، والتي يبدو أنها ذُكرت في النصوص المصرية القديمة باسم بونت)، وجمع الحلف والمكان بين ثلاثة عناصر بشرية متمايزة بوضوح: «العنصر الحامي الزنجي الأسود، والعنصر الأحمر الذي نظنه هندوآرى، والعنصر القادم من جنوب جزيرة العرب، ويمكن الاصطلاح على تسميته هنا (الجنوب جزيري)».

وقد رأت التوراة من جانبها أن تجد علاقة بين تلك القبائل الممالك، فوضعت لها شجرة أنساب جعلت فيها اسم القبيلة اسمًا لسلفها البعيد، وقالت إن بين هؤلاء الأسلاف كانت روابط دم وعلاقات رحم. ومن هؤلاء الأسلاف الأسطوريين السلف الأول لشعوب المنطقة «نوح»، الذي أنجب أبناء ثلاثة هم: «سام أبو الساميين، وحام أبو الحاميين أو الكوشيين الزنج، ويافث أبو الهندوآريين»، وأنه من حام جاء أخلاف هم المصري والكوشي أشقاء، والكوشي هو الزنجي، وأنجب الكوشي سبأ وحويلة وددان. أما الابن الآخر لنوح وكان يحمل اسم سام، فقد أنجب أرام أبو «يقطان/قحطان» وحضرموت وأوفير، ومن نسله جاء البطريرك إبراهيم الخليل، وأنجب إبراهيم عددًا من الأولاد منهم إسماعيل، ومن أبناء إسماعيل كان نبايوت «نابت» وقيدار ودوما وتيما، «وكان لإسماعيل أخ يعنينا اسمه هو «مديان»، ثم كان له شقيق آخر هو إسحاق الذي أنجب «عيسو/آدوم»، و«يعقوب/إسرائيل»، ومن عيسو جاء نسل الإخوة تيمان ورعوئيل وعماليق».

ولأن المقدس التوراتي قد رأى أن الكوشي/الزنجي شقيق المصري، فلا شك أنه كان يردد ذكريات ذلك الترابط، مع ربط آخر للمصري بأهل سبأ وددان وحويلة. وقد سبق وعلمنا أن ددان هو الاسمُ القديم لمدينة العلا الحالية شمالي السعودية، ودادان أو ديدون أو دودون اسم أشهر آلهة النوبة المصرية،٢٢ وسبأ تروي حولها أساطير كثيرة سنتناولها لاحقًا، أما حويلة فقد انتهينا في الجزء الأول من هذا العمل، إلى أنها هي حواريس، عاصمة الهكسوس المصرية التي أصبحت فيما بعد رعمسيس.

المهم أن ذكريات الكتاب المقدس لديها علم بصلةٍ قديمة قوية، بين منطقة سيناء وآدوم وشمالي الجزيرة وبين بلاد مصر النيل، وهو ما يلتقي مع اعتبار المصريين لتلك المنطقة كحدٍّ شرقي مصري لبلادهم. كما أن تلك الذكريات كانت تعلم أن هناك صلة وثيقة بين عيسو (آدوم الحوري) وبين المدياني، فجعل المحرر التوراتي عيسو ينجب رعوئيل، الذي عرفناه حَمًى للنبي موسى، ونعلم أنه كان مديانيًّا قينيًّا، كما تجد الابن الثاني لعيسو المسمى تيمان، ذات صلة وثيقة لغويًّا وجغرافيًّا بكلمة ميتان أو ميديان! كما ربطت شجرة الأنساب التوراتية تلك بين عيسو/آدوم وبين العمالقة، فجعلت جد العمالقة «عمليق» حفيدًا لعيسو/آدوم، ثم أعادت تلك القرابات جميعًا إلى إسماعيل بن إبراهيم تارة، وإلى إبراهيم نفسه تارة أخرى، في محاولة لتفسير التحالف السياسي بين مجموع تلك الممالك الصغيرة بأعدادها الكبيرة معًا؛ ربما لأن لغتهم كانت متقاربة، وربما لأن ثقافتهم توحدت بحلفهم، ناهيك عن التطابق المُدهش بين ذكريات المحرر التوراتي، وبين نصوص الفرعونة حتشبسوت عن بلاد بونت؛ إذ كان العنصر الزنجي في لوحات حتشبسوت مدعاة طوال الوقت عند المؤرخ التقليدي للذهاب بموقع بلاد بونت إلى أفريقيا، وذكريات التوراة تقول إن الكوشي (الزنجي) كان شقيقًا للمصري. لكن نفس الذكريات كانت تقول كلامًا شديد الغرابة، وهو أن أبناء كوش كانوا يعيشون في منطقة شرقي مصر وليس جنوبها، وشرقي مصر في سيناء وآدوم، في آسيا وليس في إفريقيا، وأن واحدًا من أبناء كوش (الزنجي) نحن على يقين من موضعه الجغرافي، وهو ددان (العلا حاليًّا) جنوب شرقي آدوم. وسيتضح لنا فيما بعد مدى مصداقية ذلك القول التوراتي العجيب، بشأن وضع الكوشي الزنجي في آدوم ومحيطها وليس في أفريقيا.

وابتداءً يمكن القول بهذا الشأن: إن العلاقات التجارية بين آدوم وبين اليمن والساحل الإفريقي الملاصق عبر مضيق المندب، قد استدعت اختلاطًا للعناصر، وانتقالًا وهجراتٍ، الأمر الذي سمح بوجود العنصر الزنجي في بلاد بونت (آدوم)، أما الذي نعتز بالكشف عنه، فهو أن البلاد التي كانت النصوص المصرية تطلق عليها اسم ميتان (ن ح ر ن) أو بلاد الحوريين، هي ذات بلاد مديان (آدم، النايري، أو النهرية، أو النارية، أو ذات النهارين)، هي ذات بلاد موصرى (مديان) الواقعة في وادي عربة وجبال سراة سعير في حضن الصخور، وأن العاصمة كانت هي الصخرة الكبرى (آدوم الكبرى، شمس آدوم، بونت، سالع، البتراء)، وكلها تعني معنى واحدًا هو الصخرة.

وقد سبق وعلمنا أن علماء المصريات قد عثروا ضمن ما عثروا عليه من آثارٍ مكتوبة، تعود إلى دولة «ميتاني» (المزعوم أنها تقع أعالي الفرات) على خطاب ضمن مكتبة تل العمارنة بمصر، مُرسل من قبل الملك الميتاني «دوشراتا» إلى صديقه الفرعون «آمنحتب الثالث»، ومع اسم «دوشراتا» هذا نقف هنيهة.

لو افترضنا وجوب البحث عن معنى كلمة دوشراتا في المصرية القديمة فسيكون — كما سلف بيانه — أرض الصحراء، أو الجبال أو الصخور. فهذا الاسم كان الاصطلاح الذي يطلقه المصريون على الصحارى «دشرت»، وكذلك على اللون الأحمر الأمغر، وهو لون صحارى سيناء وآدوم. ولو افترضنا وجوب البحث عن معنى الاسم في الساميات، فيجب قراءة الكلمة «ذو الشرى» الذي ربما كان معناه «صاحب السراة»، ونحن قد وضعنا الملك ومملكته في جبال سراة سعير. وليس في الموضع المزعوم لميتاني بأعالي الرافدين، فهل نجد في بلاد آدوم أي دليل أو أية إفادة بشأن هذا الملك واسمه؟ إن ما نعلمه يقينًا أنه «من بين أبرز آلهة آدوم، كان إلهًا يحمل اسم «ذو الشرى»، ظل يُعبد هناك حتى ظهور الإسلام»، وفي الحديث عن نبي الإسلام : «لا تقوم الساعة حتى تصطك أليات عذارى دوس على ذي الشرى.»٢٣
ولمزيدٍ من المعرفة بشأن ذي الشرى أو دوشراتا، نجد حكاية لدى المؤرخ «هيروشيوش» عن الزمن الذي مات فيه «إسرائيل» (يعقوب) تقول: «وفي ذلك الزمن مات «شرايس أمير مصر»، الذي زعموا أنه صار من الأوثان»،٢٤ وهو ما يشير إلى ملك باسم شرايس، حكم مصر، وبعد موته تحول إلى إلهٍ معبود، لكنا أبدًا لم نجد في قوائم ملوك مصر جميعًا فرعونًا حكمها باسم «شرايس». ولما كان هرشيوش قد كتب تاريخه باليونانية، فعلينا هنا أن نحذف التصريف الاسمي اليوناني فيصبح «شرى»، أما أين تقع مصر هذه التي كان أميرها يُدعى «شرى»، وتم تقديسه وعبادته بعد موته، فهو ما يأتي واضحًا في حديث هروشيوش:
وأما «مصر الأقصى» فإنه بلد ممتد إلى ناحية المشرق، وحده في الجوف (الجنوب [المؤلف]) خليج العرب (يقصد خليج السويس [المؤلف]) وفي القبلة (الشمال [المؤلف]) البحر المحيط، وفي الغرب مبتدأ من مصر الأدنى … وفيه من الأجناس «ثمانية وعشرون جنسًا».٢٥

إنها إذن شبه جزيرة سيناء في امتدادها من خليج السويس «خليج العرب» نحو المشرق، وقد سبق وعلمنا كيف أن صفة خليج العرب، قد أصبحت تطلق على خليج «السويس»، منذ زمنٍ سابق على المؤرخين الكلاسيك. ومصر الأقصى عند هروشيوش تبدأ في غربها من مصر الأدنى «السفلي/الدلتا»، وهو الموقع الذي يتطابق مع تفسيرات المؤرخين للموطن مصرى، الذي ورد في الكتابات الرافدية وكتابات العمارنة، وقلنا إنه هو سيناء وآدوم وجزء من شمالي جزيرة العرب.

والطريف أن ملوك تلك العهود في منطقة الشرق الأوسط، كانوا يعلمون أن تلك المنطقة رغم استقلالها النسبي، كانت تابعة لسلطان الفراعين، فنجد رسائل ملوك بابل وآشور بمكتبة العمارنة بمصر، تخاطب الفرعون عندما تتعرَّض قوافلهم التجارية في آدوم بقولهم: «إن قومك قد تعرضوا لقوافلنا ونهبوها.»٢٦
وإذا كانت منطقة وادي عربة هي الأصل الأول والأصيل للعرب والعربية، وإن أصول اللغة العربية وخطها قد أطلقت من عند أنباط وادي عربة، فإن ما يجب ألا يفوتنا هو أن علوم اللغات قد توصلت الآن إلى حقيقةٍ مبهرة، تؤكد تبعية تلك البلاد لمصر حتى في ثقافتها؛ إذ أمسى معلومًا أن «اللغة المصرية القديمة كانت أصلًا مؤسسًا في اللغات السامية وبخاصة العبرية والعربية، بعد أن تمَّ تحقيق أكثر من ثلاثة آلاف كلمة مشتركة بين الهيروغليفية وبين العربية القاموسية مبنًى ومعنًى، وإن هذا العدد بذاته يعد لغة كاملة بالنسبة لذلك الزمان،٢٧ وهو الأمر الذي سيثبته نشاطنا الباحث بين اللسانين بطول هذا الكتاب.
أما القاطع في علاقة مديان (آدوم الحورية) بالوطن الأم مصر، فهو ما جاء في رواية المصرولوجيست «نافيل» عن الأساطير المصرية، التي تتناول أصول العنصر المصري، وتؤكد أن المصريين قد جاءوا من بلاد النوبة السوداء إلى مصر، وأنهم انتشروا من هناك حتى وصلوا «إلى مناطق بعيدة شرقي الفرع البيلوزي للنيل». والمناطق البعيدة شرقي الفرع البيلوزي ليست شيئًا سوى سيناء وآدوم؛ لأن الفرع البيلوزي كان آخر فروع الدلتا شرقًا في التحامها مع البوادي السينائية. وتختم الأسطورة سطورها بقولها إن المصريين كانوا يعبدون من زمنٍ سحيق الإله الصقر حور أو حورس، «وقد أقام رجال حورس (الحوريين [المؤلف]) هناك، وكانوا يسمون الحدادين.»٢٨

أليست تلك بقرينةٍ شديدة الوضوح والدلالة على صدق كل ما وصلنا إليه حتى الآن؟

ومن المفيد هنا أن نستمع إلى الدكتور عبد المنعم عبد الحليم، وهو يسلم بمسلمةٍ منتهية، رغم تناقضه في أبحاثه مع الحقائق، وهي أن «الإله حور والإله مين والإلهة حتحور، هي مجموعة آلهة ترتبط ببلاد بونت». ورغم أنه من أتباع المدرسة التقليدية التي تذهب ببلاد بونت إلى الصومال، إلا أنه في الوقت ذاته يعيد تلك الآلهة إلى أصولٍ عراقية رافدية قديمة (؟!) وأنها قدمت من الرافدين لتُعبد في مصر، منذ زمنٍ مبكر «عبر الطرق الصحراوية الشرقية»، ونحن نعلم أن حتحور ظلت طوال تاريخ مصر القديمة ربة سيناء العظمى، ثم يقول: «إن خط انتقال هذه المؤثرات كان يمر عبر مناطق أفريقية وآسيوية، وعلى هذا فمن المرجح أن انتقال هذه المؤثرات إلى مصر قد تم بواسطة شعب «أو جماعات، كانت تسكن مناطق متوسطة بين مصر والعراق»، وتقوم بدور الوسيط في الاتصالات بين الطرفين، وربما كان هذا الشعب أو الجماعات نوعًا من «الوسطاء التجاريين»، ولعلهم كانوا الوسطاء الذين يشتغلون بتجارة البخور الرائجة على السواحل الإفريقية والآسيوية للبحر الأحمر منذ العصور المبكرة، كما يشير إلى ذلك نص من عصر حتشبسوت فيما بعد.

لكن لأن الدكتور عبد الحليم يرى أن بلاد بونت لا بدَّ أن تقع على الساحل الصومالي حيث الكندر أو لبان الدكر، الذي يزعم أنه هو الذي استجلبته بعثة حتشبسوت من الصومال، وأعادت استزراعه أمام ساحة معبدها بالدير البحري، وليس ما ثبت الآن أنه شجر برسيا (التين)، فقد استطرد يقول: دون أن يشعر بأي تناقض «وربما كان الوسطاء من سكان الساحل الإفريقي للبحر الأحمر «بونت»، هم الذين نقلوها مباشرة إلى مصر حيث استقرت في مراكز عبادة الآلهة التي ارتبطت ببونت»،٢٩ هكذا (؟!)، لقد قام الصوماليون بالسفر من سواحل إفريقيا الشرقية إلى العراق، وعادوا عبر البوادي الشرقية لمصر بهذه الآلهة، هذا ما يقوله عبد الحليم (؟!).

وبالنسبة للتأثير العراقي فإنه سيتضح في الفصول القادمة، أما أن يكون الإله حور قادمًا من بلاد «الحوريين»، الذين حددنا موضعهم في بلاد آدوم، فهي قرينة أخرى نضعها ضمن رصيدنا الذي تكاثف، وتحول إلى دلائل وبراهين.

وإذا كانت الكلمة «كيميت» في المصرية القديمة تعني مصر، فإنها تعني أيضًا: «حامي، أسود، زنجي، أبنوس»،٣٠ وهو خشب أسود نادر. وفي تاريخ هيرودوت معلومة حول الأثيوبيين تعنينا هنا، فهو يقول إنهم كانوا «يسمون المعمرين»، وإن أثيوبيا كانت مصدرًا لرجال يتفوقون على بقية الجنس البشري «بارتفاع قاماتهم»،٣١ وهو ما يطابق صفات نعلمها في شعب سكن بلاد آدوم، أطلقت عليه العربية والعبرية اسم العماليق (العناقين)، وهو موضوع آخر يحتاج إلى جهدٍ آخر.

(انظر تمثال الإله: ذي الشرى من البتراء: شكل رقم «٧٢».)

figure
شكل رقم «٧٢»: تمثال نبطي للمعبود القديم ذي الشرى.
figure
شكل رقم «٧٣»: نموذج للمناجم القديمة العديدة في آدوم، فوهة منجم قديم بوادي فنان.
١  جاردنر، مصر الفراعنة … سبق ذكره، ص٣٦١.
٢  وليم لانجر، موسوعة تاريخ العالم، مادة ميتاني، انظر النص في سليم حسن: مصر القديمة، ج٩، ص١٢٤–١٣١.
٣  طه باقر، الوجيز … سبق ذكره، ص٤٩٥.
٤  فراس السواح، الحدث التوراتي … سبق ذكره، ص٧٣.
٥  طه باقر، الوجيز … سبق ذكره، ص٤٩٢.
٦  فراس السواح، الحدث التوراتي … سبق ذكره، ص٩٨.
٧  عبد المجيد عابدين، لمحات من تاريخ الحياة الفكرية المصرية قبل الفتح العربي وبعده، مطبعة الشبكشي بالأزهر، القاهرة، ١٩٦٤م، ص٥.
٨  عبد الحميد زايد، أسماء مصر، مجلة كلية التربية، جامعة الكويت، العدد ٢، ١٩٧٢م، ص٣٣.
٩  عبد المنعم عبد الحليم، موجز رسالتيه … سبق ذكره، ص١٩.
١٠  السهيلي، الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، دار المعرفة، بيروت، في ١٩٧٨م، ج٤، ص٢٤٤.
١١  فيليب حتى، تاريخ العرب، دار الكشاف، بيروت، ١٩٦٥م، ج١، ص٥١.
١٢  محمد الفقي، قصص الأنبياء والمرسلين، أحداثها وعبرها، مكتبة وهبة، القاهرة، ١٩٧٩م، ص١١٩–١٢١.
١٣  سليم حسن، مصر القديمة، سبق ذكره، ج٧، ص١٣١، ١٣٢.
١٤  كاسيدوفسكي، الواقع والأسطورة … سبق ذكره، ص٢٣٠.
١٥  أحمد عثمان، صحيفة الحياة، العدد الصادر في ١٨ / ١٠ / ٩٦، ص١٢.
١٦  عبد المنعم عبد الحليم، موجز رسالتيه … سبق ذكره، ص٢٦.
١٧  جمال حمدان، شخصية مصر … سبق ذكره، ج١، ص٢١٦.
١٨  الموضع نفسه.
١٩  نفسه، ج١، ص٢١٦، ٢١٧.
٢٠  المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد عبد الحميد، المكتبة الإسلامية، بيروت، د. ت، ج١، ص٣٤٨.
٢١  أورسيوس، تاريخ العالم … سبق ذكره، ص١٠٤، ١٠٥.
٢٢  سليم حسن، مصر القديمة، ج٤، ص٥٠٠، ١٦٦، ٣٠٩.
٢٣  د. إحسان عباس، تاريخ دولة … سبق ذكره، ص٣٦.
٢٤  أورسيوس، تاريخ العالم … سبق ذكره، ص٩٧.
٢٥  نفسه، ص٦٢.
٢٦  عز الدين الخير، أضواء عربية … سبق ذكره، ص٣٤.
٢٧  مرعي عبد الرحمن، الإمبريالية اليهودية، المطابع الموحدة، ١٩٨٧م، ص١٣.
٢٨  شيخ أنتا ديوب، الأصول الزنجية للحضارة المصرية، ترجمة حليم طوسون، دار العالم الثالث، القاهرة ١٩٩٥م، ص١١٧.
٢٩  عبد المنعم عبد الحليم، موجز رسالتيه … سبق ذكره، ص٣٥.
٣٠  شيخ أنتا ديوب، الأصول … سبق ذكره، ص٢٦.
٣١  نفسه، ص٨٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤