الفصل الثالث

الرب الأحمر

نحن نبحث إذن عن إله بلاد بونت الذي قدسه المصريون، وحتى نصل إلى ذلك لا بد من هذا السرد الذي سيُلقي بنا في النهاية بحرم ذلك الإله.

في مصر القديمة أسطورة من أشهر وأهم الأساطير العالمية في التاريخ الديني، هي تلك المعروفة بأسطورة «أوزير/أوزيريس» رب الزرع والخضرة والخصب والنماء والخير والضياء، الذي يمثل أرض النيل الخصيبة، ويرمز للخير في الأسطورة، وحتى يتم تفسير دورة فصلي الخصب والجدب، الصيف والشتاء، قالت الأسطورة: إنه كان لأوزير أخ شرير اسمه «سيت»، وإن هذا الشرير كان يغار من حب الناس لأخيه الطيب، حتى دفعه شره إلى مؤامرة انتهت بقتل «أوزير»، وتمزيق جسده قِطعًا دفنت في مواطن متفرقة من أرض مصر، لكن لتعلن الأسطورة من بعد عن قيامة الحياة الخصيبة من الأرض بعد انتهاء فصل الجدب، ذلك الفصل الذي حدث بموت أوزير رب الزرع على يد أخيه الشرير، رمز الشر والموت والفقر والجوع والصحراء.

ومن هنا كان موت رب الخير موتًا مؤقتًا؛ لأن الخير وإن تراجع أو اختفى فهو قائم كائن عائد؛ لأنه مثلما تُدفن الحبوب في أرض موات، فإنها تعود إلى الحياة بالقيام من الموت في حياةٍ جديدة زاهية خضراء، كذلك الشهيد «أوزير» قام من بين الأموات جسدًا حيًّا في قيامةٍ مجيدة، بعد موته بأيامٍ ثلاثة، مما استدعى في مصر عيدًا سنويًّا كرنفاليًّا احتفالًا بتلك العودة، وهو العيد الذي ترسمت خطاه طقوسًا من بعدُ العقيدة المسيحية في احتفالها الكرنفالي بعيد القيامة المجيد.

ومن ثم كان احتفال المصريين بقيامة أوزير فرحًا رسميًّا وشعبيًّا، يعبر عن الإيمان بعودة الخير رغم الشرور، والقيامة من الموت رغم أنف رب الموت الشرير سيت، فتعم الفرحة البلاد يوم المنقلب الربيعي للشمس، إيذانًا بعودة الحياة الخضراء إلى الأرض، ومن هنا جاء اعتقاد المصريين أنهم من الموت سيقومون كما قام «أوزير»، وأنهم من بعد الموت لن يذهبوا إلى فناء، لكن إلى حياة متجددة تحت الأرض، حيث يعيشون هناك تحت رعاية رب الخير «أوزير».

ومن هنا أمسى الإله «سيت» رمزًا لكل ما هو قبيح سيئ شرير، ورمزًا للجدب والفناء والموت، رمزًا للصحارى والجفاف، وفي الوقت ذاته فإن سيت هو الإله الوحيد في الأسطورة، الذي يتسم بغموضٍ شديد، فطَوْرًا نفهم أنه كان إلهًا لجنوب مصر «العليا»، قبل اندماج مصر شمالًا وجنوبًا في دولةٍ مركزية متحدة، وكان المصريون يطلقون على جنوب مصر «ط ء. س ت ي» أي الأرض «ط ء» الستية «س ت ي»، نسبة إلى الإله «سيت»، وطورًا آخر نجده إلهًا للصحارى، وبخاصة الصحراء الشرقية السينائية؛ إذ يبدو هنا ربًّا للبدو والقفار، وقد تم تعليل ذلك بحسبان الإله «سيت» ربًّا لكل ما هو قاحل وغير خصيب، وكان جنوب مصر يحوز أقل المساحات الزراعية بالنسبة إلى الشمال المصري، وكانت تلك المساحات لا تقارن بأراضي الوجه البحري والدلتا الخصيبة ولم تزل، نتيجة لضيق وادي النيل جنوبًا، واقتراب الهضبتين الصحراويتين الشرقية والغربية من بعضهما، إلى الحد الذي لا يسمح بزراعة سوى شريط ضيق على ضفتي النهر، ولا يسمح بأي توسع زراعي كما في الشمال.

ويقول المصرلوجست «ياروسلاف»: «أما الرمز الحيواني للمعبود سيت Setekh فكان يمثل حيوانًا يشبه الحمار، ويبدو أن المصريين الأوائل حوروا ذلك الرمز من الدولة القديمة على الأقل، إلى شكل حيواني غريب، أقرب إلى كلبٍ رابض، بعنقٍ طويل وآذان مربعة، ومقدمة وجه طويلة مقوسة وذيل قائم. ولم يكن من المستغرب أن فشلت جهود علماء المصريات في تمييز أصله.»١
ويلخص لنا الباحث «سامي سعيد» أمر الإله «سيت» في قوله: «الإله ستخ أو سيت أو سيثوس، هو أخو الإله أوزيريس والإلهة إيزيس، وطابقه اليونانيون مع الإله اليوناني تيفون، واعتقد المصريون أن الخنزير والحمار وفرس الماء وغزلان المها في الصحراء، هي حيوانات ستخ، وقد صوروه بشكلٍ رشيق فهو بجسم إنسان ورأس كلب سلوقي، وذيل ملتوٍ وأذنين طويلتين، وجعلوا اللون الأحمر خاصًّا به، وقرنوه بالعاصفة والعنف والشر، وجعلوه قاتل أخيه أوزيريس، والذي انتقم له حورس فأخصى ستخ، واعتقدوا أنه طعن الوحش أبوفيس برُمحه؛ لتخليص الشمس من شره، وطابقه الهكسوس في خلال مدة احتلالهم مصر، مع الإله السامي بعل، وكان رمسيس الثاني من أنصاره.»٢
أما العالم الكبير «علي فهمي خشيم»؛ فقد أوضح موقف العلماء من سيت في قوله: «إن المصريين القدماء، قد مثلوا سيت بحيوان حارت البرية فيه، وداخ علماء المصريات في رمز سيت الحيواني، فقال جاردنر: هو حيوان لعله نوع من الخنازير، وقال شورتر: هو حيوان غير محقق النوع قد يماثل الكلب بشكلٍ ما، ذو فرطوسة طويلة وأذنين منتصبتين، وقد يشبه الخنزير. واحتار بدج، حتى قال: إنه يشبه الجمل، أو لعله حيوان انقرض لكثرة ما صيد؛ لكونه رمز سيت المكروه، فقضى عليه قضاء مبرمًا، أما لوركر؛ فعنده أنه كلب أو وعل أو لعله حمار، ثم جعله حيوانًا يُدعى أرفاك. وجعله مرة أخرى يشبه حيوانًا يسمى الأوكابي. فكأن المصريين تخيلوا حيوانًا غير موجود أصلًا؛ للدلالة على الشيطان.»٣
وللمزيد حول الإله «سيت»، نستمع للمصرولوجست «سليم حسن» وهو يقول: «لقد برهن الأستاذ يونكر JANKER على أن الإله سيت، كان الإله المحلي لبلدة سيترت STRT، وهي ستيرويت SETHROITE في العهد الإغريقي، الواقعة في الشمال الشرقي من الدلتا، كما يعتقد يونكر، وأن سيت كان هو المعبود المحلي للبقعة، التي أقام فيها الهكسوس تحصينات عاصمتهم العظيمة، التي اتخذوها بمثابة نقطة الاتصال بين أجزاء دولتهم الضخمة. وهي التي كانت تضم بين جوانبها مصر وفلسطين وسوريا، وأن الهكسوس على ما يظهر كانوا خليطًا من أجناسٍ متباينة. ونعلم أن كلًّا من الإلهين بعل وتشوب قد وحَّدا بالإله سيت.»٤
ويؤكد ذات المعاني «محمد بيومي مهران» وهو يقول: «حين أراد الهكسوس إقامة ديانة رسمية على طراز الديانة المصرية، اختاروا معبودًا ذا مظهر غريب، لا يشير إلى أي حيوان موجود، ترجع عبادته في شرقي الدلتا إلى أقدم العصور. وربما بدأت هناك في مكانٍ يقال له سزرت منذ أيام الأسرة الرابعة. أما ترجمة الهكسوس لمنطوق الكلمة ست التي تُكتب بالبابلية وكأنما تنطق سوتخ، فكانت من غير شكٍّ آسيوية في مظهرها».٥ ويضيف هيس تأكيده أن مظهر سيت كان واضحًا في جعران هكسوسي على هيئةٍ آسيوية بلا لبس.٦ وأدلة ذلك رداؤه ورأسه التي تجعله مشابهًا للإله بعل السامي، وتشوب الحيثي.

إلا أن المشكلة التي واجهت الجميع لتضيف مزيدًا من الغموض على الإله «سيت»، هي أن مقاطعة «سيترويت» المنسوبة إلى سيت أو «الستية»، والتي يُعتقد أنها كانت مقر عاصمة زمن الهكسوس، لم يتم التعرف على موقعها حتى تاريخنا هذا. كل ما في الأمر أنها لا بد كانت على الأطراف الشرقية للدلتا، في اتصالها مع الصحراء السينائية.

وفي مؤلفٍ آخر يضيف «سليم حسن»: «وكان سيت في عهد الرعامسة، أو بعبارةٍ أخرى: في عهد الدولة الحديثة، يعتبر إله الحرب والقوة. وقد تبدَّدت بمُضي الزمن شهرته السيئة الماضية، وكان كذلك يعتبر إله البلاد الأجنبية؛ ولذلك أوصت الإلهة نيت بأن يزوج من الإلهتين الساميتين: عنات وعشتار، وهما إلهتان آسيويتان. ونرى في آخر الأمر أن رع إله الشمس، رغب في أن يتخذه ابنًا، يعيش معه، ويكون إله الرعد في السماء. وفي ذلك ما يشير إلى أن رع قد انحاز إلى جانب سيت في النهاية، حتى بعد أن غُلب على أمره؛ لأنه كان عدو أوزيريس، الذي كانت له السيادة والكلمة العليا في ذلك الوقت. وبذلك أصبح سيت يسكن مع رع في السماء، وتركا العالم السفلي لأوزير، يحكم فيه كيف شاء.»٧ ويكون المعنى أن سيت كان إلهًا لعالم الموت السفلي التحت أرضي، ثم تركه وصعد؛ ليعيش مع الإله الأكبر «رع» في السماء.
figure
شكل رقم «١٠٥»: سيث.
وهكذا فنحن هنا مع إله شديد الالتباس، بدأ إلهًا للموت، ثم صعد إلى السماء تاركًا مملكة الموت لأوزيريس، الذي أصبح إلهًا للحساب من بعد الموت. وبدأت تجليات سيت المصورة في هيئة الحمار، ثم دخلت عليه تعديلات جعلته أشبه بالكلب، لكنه ليس بكلب؛ لأن رسومه التي وصلتنا في النقوش صُورته في هيئةٍ حيوانية غير معروفة لدينا الآن، مما أدى إلى حيرةٍ واضحة في تحديد أمره لدى علماء المصريات، فانقسموا حوله شتى. ورآه اليونانيون صورة من إلههم «تيفون» أو «طيفون» الوحش الأسطوري الضخم، الذي حدثنا عنه المؤرخ «بلوتارك» فقال: إن تيفون قد تمرَّد على كبير آلهة اليونان «زيوس»، ودخل معه في صراعٍ انتهى بأن هزمه زيوس ودفنه تحت جبل أتنا بصقلية. وجاءت الأسطورة بذلك؛ لتفسر سر دمدمات بركان جبل أتنا وانفجاراته، التي لم تكن سوى صوت الإله تيفون الحبيس الغاضب.٨ وكان تيفون ربًّا للرعد والأعاصير والزلازل والكسوف والخسوف، وكل مظاهر الاضطراب في الطبيعة، وكل مسببات الموت والهلاك.٩

ونستمر في البحث وراء «سيت»، لنقرأ ما كتبه «عبد المجيد عابدين» شارحًا: «إن المصريين قد كرهوا الأرض الحمراء أي الصحراء، واعتبروا سيت رمزًا لها، وتصوروا فيه القسوة والغلظة، وأن له صيحات منكرة هي الرعد، وهو الذي يهز الأرض بالزلازل، وتصدر عنه أعمال كريهة حمراء، وله بشرة ذات لون أحمر أمغر.»

ويواصل «عابدين» قائلًا:
ولم يقف المصريون عند تصوره كسبب للجدب والفناء والعواصف، بل عدُّوه حاميًا للأعداء ووليًّا للقبائل الآسيوية. وفي بعض جوانب الأسطورة القديمة نجده خصمًا للشمس، وممثلًا للظلام، وشيطانًا بين الآلهة. ثم انتهى الأمر بإخراجه من بين المعبودات المصرية، فبطلت عبادته ومُحي اسمه وصورته أنَّى وجد. ولما وقف الإغريق الأقدمون على قصته، قرنوه بإله الشر عندهم: تيفون، العدو الخرافي لزيوس.١٠

ولما كانت صورته الأولى هي صورة الحمار، فيبدو أن المصريين قد رأوا بينهما صفات مشتركة، كالشهوة وغلظ الحس وفجاجة الصوت وحمرة اللون. وكان اللون الأحمر هو الشائع لهذا الحيوان في بلاد الشرق القديم، وقلما عرف أهلها الحمير السود أو البيض.

ولفظ «حمار» في الساميات، له صلة اشتقاق باللون الأحمر. ويقال في لغة العرب: الجأب: الحمار الغليظ، والجأب أيضًا: المغرة أو الطين الأحمر. ومن هنا كره المصريون كل ذوي البشرة الغراء أو الحمراء من الناس، ولم يحبوا الاختلاط بهم. وأفادنا «بلوتارك» أن المصريين كانوا يحاولون تهدئة شرِّه واستدرار عطفه بتقديم الضحايا. وتارةً أخرى كانوا يسبونه في احتفالاتٍ بعينها، ويضطهدون ذوي البشرة الحمراء، ويدهورون حمارًا من قمة جبل، وهو ما كان يفعله أهل قفط. أما أهل بوزيريس ولوكوبوليس فكانوا يحرمون استخدام البوق؛ لأنه يصدر صوتًا شبهها بصوت الحمار، ومن ثم اعتقدوا أن الحمار حيوان دنِس. أما قرابينه فكانت من العجول المغر، الحمراء في صفرة، بشرط ألا توجد أي شية بها، أي يجب أن تكون مغراء أو صفراء فاقعًا لونها تسر الناظرين.١١
وقد عثر الأركيولوجست إتيين دريتون على دفناتٍ للحمير المعبودة في مدينة إنشاص.١٢ وإنشاص كلمة من أصل هيروغليفي هو «عا إن شاسو»؛ أي مكان عبادة الشاسو للحمار، والشاسو هم بدو سيناء. ولم يزل الفلاح المصري حتى اليوم يزجر حماره بنداءٍ يطابق «عا إن شاسو» فهو «حا – شي». و«عا» أو «حا» = «الحمار»، و«شي» من «شاسو» في فعل الأمر «إمشي» أي: إمشي يا حمار. والشاسو في المصرية القديمة هم المشاءُون أو الجوابون دومًا أو البدو.

وفي اشتقاقات اللسان العربي، نجد الصحراء في أصله لفظًا يدل على الصحرة، والصحرة هي الحمرة التي تضرب إلى غبرة. فيقال: رجل أصحر وامرأة صحراء في لونها. والأصحر الذي في رأسه شقرة. وأصحر النبات أخذت فيه حمرة ليست بخالصة، ثم هاج فاصفرَّ. ويقال: حمار أصحر اللون، والصحير هو النهيق هو صوت الحمير. وقد فعلت اللغة العربية فعل المصرية، فقسمت الناس إلى جنسين: الجنس الأحمر والجنس الأسود، واشتقت اسم الصحراء من الصحرة أي اللون الأشقر. وأطلقت لفظ السواد على الخضرة والعمران. فالسواد جماعة من الشجر والنخل، وفي حديث النبي محمد : «بُعثت إلى الأحمر والأسود من الناس.»

ويقول العالم الكوفي «ثعلب»: «إن العرب لا تقول رجل أبيض من بياض اللون؛ لأن الأبيض هو الطاهر النقي من العيوب، فإذا أرادوا الأبيض من اللون قالوا: أحمر.» وكما ارتبطت الحمرة في المصرية القديمة بالجفاف والفناء، كذلك كانت في العربية، أي إن من أراد الحسن صبر على أشياء يكرهها. وسمي الرجل الذي عقر ناقة صالح، فأهلك الله فعله ثمود: «أحمر ثمود». وضرب المثل بشؤمه فقيل: أشأم من أحمر ثمود. وسجلت الروايات العربية في أساطيرها ما جاء ذكره عند الجاحظ في قوله: ومن لا علم عنده، يروي أن إبليس قد دخل جوف الحمار مرة. وذلك أن نوحًا لما دخل السفينة، تمنَّع الحمار بعسره ونكده، وكان إبليس قد أخذ بذيله. وقال آخرون: بل كان في جوفه. فلما قال نوح للحمار: ادخل يا ملعون، دخل الحمار ودخل إبليس معه؛ إذ كان في جوفه. ومنها ما روي في شرح هذه الأمثال: «أكفر من حمار»، «تركه جوف حمار»، «أخرب من جوف حمار»، «أخلى من جوف حمار».»١٣

أما الطريف حقًّا فهو أن صحارى شرقي مصر، تقع جميعها في محيط البحر الأحمر، الذي حمل ذات المعنى في اسمه اليوناني «البحر الأريتري»، نسبةً إلى أريتريا. وأريتريا اسم له معنًى، فهي الحمراء. أما الشعب الذي سكن جنوبي الجزيرة، على ساحل البحر الأحمر، وأقام هناك حضارات متعددة امتدت شمالًا حتى وادي عربة، على تنوع دوله؛ فقد أطلقت عليه الكتابات التأريخية العربية اسمًا عامًّا شاملًا هو: حضارة حمير. أما أهلها فكانوا الحميريين.

ونعود نسعى وراء أخبار الإله «سيت»، فنجده يكتب مصريًّا «س. ت SET»، ثم يكتب زمن الهكسوس مع تصريفه اسميًّا، فيأتي هكذا: SETESH وSUTEKH، وذلك في وقت أصبح فيه سيدًا لجميع الأرباب، بحكم سيادة أتباعه الحكام الهكسوس.

وبعد طرد الهكسوس من مصر، زمن الأسرة الثامنة عشرة المصرية، احتفظ الإله سيت بمكانته. وعندما جاءت الأسرة التاسعة عشرة، وهي أسرة محاربة، تم تكريس «سيت» كإله من الآلهة الكبرى، بحسبانه إله حرب ودمار. ويبدو أن «سيت» كان في البداية إلهًا محبوبًا ضمن آلهة مصر القديمة، حتى نشِب الخلاف بينه وبين «أوزير» في الأسطورة المعروفة. فتحول «سيت» إلى رمزٍ لكل قوى الشر ضد قوى الخير، وإلهًا للظلام والنار والطوفان والريح الحارق العقيم وللصحارى ولليل المخيف وسيِّدًا لعالم الشرور جميعًا، إلهًا أحمر ملتهبًا، ينفث دخانه الناري وينشر الموت في كل مكان. أما الواضح لدينا هو أن كل تلك الصفات قد لحقته بعد غزو الهكسوس لمصر، وتكريسهم للإله «سيت» كإله رسمي لحكومتهم، فاقترن بهم في نظر المصريين، ولحقته كراهيتهم للهكسوس، فأصبح رمزًا لكل ما هو شرير وضار.

وقد لاحظ «علي فهمي خشيم» أن تلك الرحلة التطورية التي مر بها الإله «سيت»، تطابق ما وصلَنا عن أسطورة الشيطان الذي كان ملاكًا ثم صار راعيًا للشرور. ويقول: إن ذات الواقعة نجدها في جميع الديانات، وتتحدث عن التحول من النورانية إلى النارية. ولنتذكر هنا لقب إبليس في لسان العرب «أبو مرة»، وأنه يرتبط بشجرة اللبان/المر، لنجد أشهر ألقاب «سيت» في مصر القديمة هو «مر MR»، وتعني الملعون حسب ترجمة معجم بدج،١٤ أما مقابلة اليوناني «تيفون»؛ فترجع إليه كلمات مثل Typhoid أي الحمى المعوية (التيفود) المحرقة. ولو رجعنا إلى اللسان العربي لوجدنا لطيفون معاني عديدة في مادة «طوف»، أهمها: المرض المهلك، الحمى، الإغراق، الموت.

وفي المصرية القديمة نجد من أسماء «سيت» الاسم «جب». وفي القرآن يتردد اسم غريب ليدلل على الشيطان، وهو ما يرد باسم «الجبت والطاغوت».

وفي القرآن عدد من الآيات تتعلق بالطوف (ولا ننسى طيفون) كما في النماذج:
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ (الأعراف: ١٣٣).
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (القلم: ١٩).
والآية الأولى تحديدًا تحدثنا عن قدرات رب إسرائيل زمن موسى النبي، وتذكر بما قاله سفر الخروج بالكتاب المقدس، حول قرار الرب تأديب المصريين بضرباتٍ متلاحقة، فأرسل على مصر الجراد والقمل والضفادع. لكن قصة التوراة لم تقل أبدًا إنه أرسل عليهم الطوفان، لكن في المقابل نجد تفسير الطوفان في تأكيد التوراة أن الرب قد قرر قتْل كل بِكر من أبكار المصريين ليلة الخروج الإسرائيلي من مصر، بيَد ما سُمي في التوراة باسم «المهلك». وعلى هذا النحو يلتقي الطوفان كما في الآيات، أو طيفون، مع المهلك التوراتي الذي طاف على أبكار المصريين وهم نائمون. ثم تأتي الآية: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا (الأعراف: ٢٠١)، ليطلب منا «خشيم» ملاحظة ربط الآية بين «طائف» وبين «الشيطان». و«طائف» تأتي من مادة: طيف، وخيال، وشبح.١٥
وكما أسلفنا فقد ذهب «بدج» في حديثه عن «سيت»، إلى أنه كان رب الجنوب المصري. والجنوب بالمصرية القديمة هو «س و ت SUT»، ومنها في رأيه جاء اسم الإله «سيت»، وفي الهيروغليفية تُسمى بلاد «الكوشيين» بلاد السوت أو بلاد السود جنوبيَّ مصر عند النوبة: «ط ء. س ت ى TA-STY» أي أرض الجنوب. ويسمى أهلها «س ت ي و» أي الجنوبيون. وهو ما نراه أصلًا لكلمة السود واللون الأسود، والجنوب هو البلاد الحارة، وللحَر في اللغة العربية تسميات من الجذر الثنائي «شط» هي: «ست» شاط، شوط، شيط، شياط، شواط، يشوط، تشويطًا، شوظ، شواظ.١٦ وفي القرآن: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (الرحمن: ٣٥).
وفي معجم فولكنر نجد معاني «س و ت SWT» المصرية: قوة الريح Force of Wind.١٧ وهنا نجد المقابل العربي سوط: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (الفجر: ١٣). وفي آياتٍ أخرى كان سوط العذاب هو ريح عظيم تخرج من تحت الأرض. ومقلوبها سطو وسطوة، وهو ما يفيد السلطان والقوة والملك. أما المدهش فهو أن كلمة «س و ت SWT» «س ت ت STT»، فتعني ملك وملكي، وفي السبئية فإن «و ص ت WST» تعني حرق، وإحراق. أما في المصرية فتتعدد كلمة «س ت» فهي:
  • س ت ي STI أوقد النار، أشعل، شيط.
  • س ت ى STY حدق، برق، نظر بحرارة أو غيظ.
  • س ت ء STA حرارة، شياط، شوظ.
  • س ت ء ت STAT مصباح، موقد نار، سطح.١٨

أما كلمة شيطان، فهي في لسان العرب: «الشيطان حية له عرف، والشاطن الخبيث.» وهي من شاط أي احترق. ومنها جاءت عبارة «استشاط غضبًا»، ومادة شيط تقلب شوط، منها مشتقات تدور جميعًا حول النار والحرق، والهلاك وسفك الدماء والذبح، وأمراض الحمى وغبار الصحارى. وتعود جميعًا إلى الجذر الثنائي «شط»، الذي هو ببساطة «شيت أو سيت»، الإله المصري الشرير نصير الهكسوس وربهم المبرز.

ويفصل لنا «خشيم» الأمر فيقول: إن اسم سيت يُكتب في الهيروغليفية محددًا بصورة إوزة، ويُقرأ ذلك الرمز أي الإوزة ST وZT وZA وتعني «ابن»، وتدخل تلك الصورة باعتبارها محددًا في كلمات مثل «ح ت م HTM»، وتقابلها في العربية «حطم»، وفي كلمة «س ن ح م SNHM» أي جراد، وهو ما يؤكد صلتها بمعنى الدمار والهلاك، وحسب التصور العربي فقد خرج إبليس من بيضة. والمدهش أن الخط المصري الهيروغليفي، عندما تطور نحو مزيدٍ من التجريد إلى خط هيراطيقي، اختزل صورة الإوزة في جسدها البيضاوي فقط، دون بقية الأطراف. وهو ما نجده في دلالة المصرية ZA التي تعادلها في العربية «زأأ»، وفيها معاني الخوف والغرق، وهي مقلوب «أزز» ومنه الأزيز، الغليان، الالتهاب، الرعد، الهياج. وهي صفات سيت التي تلتقي مع الشيطان في القرآن حيث تقول الآيات: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ (مريم: ٨٣).
ومن الثنائي «ست» نجد في اللسان الثلاثي «سنت»، مادة دون تحتها: «أسنت فهو مسنت إذا أجدب. ويقال: تسنت فلان كريمة آل فلان إذا تزوجها سنة القحط … والسنتة والمسنتة: الأرض التي لم يصبها مطر فلم تنبت … ورجل سنوت: سيئ الخلق». وفي مادة الثلاثي «شأت»: «شأت شئيت استشت وتشتت إذا انتشر … وقيل يجمع ناسًا ليسوا من قبيلةٍ واحدة … والشت هو المتفرق.» وفي مادة الثلاثي «شرت»: «شرت، الشرنتي طائر.» وفي مادة الثلاثي «شيت»: «الشيتان من الجراد.» وكلها تشمل معاني تشير إلى قبائل متفرقة من أماكن صحراوية مجدِبة، قد تعاقدت وتحالفت في مكانٍ واحد، مع معاني الشر والهلاك في نفس الآن.»١٩

تحول إذن إله الشر المصري «سيت» عن رمز الحمار إلى رمزٍ تصويري مُحير، فقيل إنه ربما كان ذئبًا أو كلبًا، وربما غير موجود الآن، بعدما انقرض لكثرة ما صاده المصريون القدماء كراهيةً له باعتباره رمزًا للشر؛ ولأنهم اعتقدوا أنه كان رب الموت بذاته، وهو بذلك يختلف عن أوزير إله الموتى في العالم الآخر؛ لأن «سيت» بدأ أشبه بما نعرفه اليوم عن ملاك الموت، فأوزير رب حياة؛ لأنه يحيي الموتى ويحاسبهم على أعمالهم، أما «سيت» فكان ملك الموتى وراعي المرض والهلاك. وقد جعل المصريون للموت عددًا من الرموز الحيوانية، كلها من فصيلة ابن آوى، الذي كان ينتشر في مصر القديمة ولم يزل. وهو حيوان معروف باغتذائه على الجُثث والجِيَف، فهو من الحيوانات المعروفة بالحيوانات الرمامة، فهو لا يأنف الموت، ويسير في جماعاتٍ يقودها زعيم يتشمم المواضع، لينادي رفاقه لدى شعوره برائحة الموت؛ ولأنه كان ينبش القبور بحثًا عن غذائه الجديد، فكان طبيعيًّا أن يتكاثر في الجبَّانات، ليلحظه المصريون هناك دومًا، فيحتسبونه رب الموت ذاته.

وقد أطلق المصريون على ابن آوى ملك الموت اسم «أنوبيس» الذي يلحد الموتى، وتم تصويره في جسدٍ آدمي برأس ابن آوى، وأحيانًا بشكل ابن آوى الحيواني كاملًا. وبالرجوع إلى كتاب مفتاح اللغة المصرية القديمة، وجدنا أن الياء والسين في اسم «أنوبيس» تصريفًا اسميًّا يونانيًّا، أما اسمه المصري فهو «أنبو»،٢٠ الذي ربما كان يحمل في طيات حروفه تعبير اﻟ «بوني» نسبة إلى «بونت»، ومثله كان رب الجبانات الملقب بفاتح الطريق «و ب و ا ت»، ويُنطق أيضًا «و ف و ا ت»، وهو ما يعادل في العربية كلمة «وفاة» أي موت. وهو من فصيل الذئاب بدوره. والمعلوم أو الشائع أن مصر لم تعرف الذئاب الكبيرة، لكن مرحت في أحراشها وحقولها وبواديها، كل أنواع الذئاب الصغيرة من فصيلة ابن آوى، ومنها كان الفصيل الذي دوَّن المصري القديم اسمه «آش» أيضًا، ويحيطنا فهمي خشيم علمًا أن آش ASH كان يُقرن عادة بالإله سيت، وكان آش أحد رموز الموت، وارتبط بالصحراء والجدب مثل سيت، ويعلمنا إريك هورنونج علمًا أن آش كان يُرسم عادةً برأس الحيوان الخاص بالإله سيت،٢١ ويعد آش ربًّا للرماد وبقايا النيران، ونظنه رماد البخور تحديدًا، الذي كان يُحرق للموتى عند المقابر وفي المعابد والتبخير البيتي، لطرد إله الموت الشرير.
ويقول ابن منظور في لسان العرب: إن الآس هو بقية الرماد في الأثافي. بينما يحيطنا المصرولوجست بدج علمًا أن سيت كان نوعًا من الذئاب، انقرض لكثرة ما صاده المصريون. وعند ابن منظور ثروة أخرى، فهو يقول: إن الأوس هو الذئب ومُصغَّره أويس، وكذلك آس هو القبر. وفي الإنجليزية آش ASH تعني رمادًا،٢٢ كما تعني أيضًا: قبرًا، شجرة دائمة الخضرة هي النورية أو «ناريون»،٢٣ أو كما عرفناها نحن في نظريتنا المطروحة بهذا البحث، بأنها شجرة نهارين: أيكة مديان. والجميل في شأن حفظ اللغة لمحتواها عبر الأزمان، أن نجد الآس أيضًا اسمًا لشجرة؟! شجرة الآس التي يعالج بزيتها، وربما اشتقت منها كلمة النتاسي أو النطاسي في الساميات، وفي العربية أي الطبيب المداوي (نطاسي = نيتر + آسي = إله معالج (طبيب)، أي الرب الشافي)، وفيما بعد أصبحت الطبيبَ الروحاني، أو النبي الذي يصلح علل النفوس، ثم أصبحت تطلق على الطبيب الماهر، ويبدو أن لها علاقة بالكلمة السومرية التي تطلق على الطبيب وهي A-ZU، ولكن معناها الحرفي هي: خبير بالزيت (كانت الزيوت مواد علاجية)، وتعني أيضًا نبي، والزيت المقصود هو زيت النباتات العطرية والطبية.
وفي دراسته للموسيقى يقول الباحث «علي الشوك»: «إن أقدم رمز استعمله السومريون للدلالة على الموسيقى هو رأس ابن آوى … واسم هذا الحيوان — ابن آوى — واحد في كل اللغات السامية، فهو في العبرية إى وهي ترخيم لكلمة إوى من الجذر آوى، وكلمة عوى الآرامية تعني يعوي ويصرخ، ويقال بالعربية: ما سمعت إلا وعوعة الذئاب ووأوأة الكلاب، ووأوأ هي عوى، ووهو وهوه في صوته: ردده حزنًا وجزعًا، والمناحة بالعبرية يقال لها: أوى، وهي تذكرنا بصوت ابن آوى أيضًا، ويعتقد أن هذا الحيوان سمي كذلك من صراخه في الليل الذي يشبه عويل أو صراخ طفل الإنسان، وإذا علمنا أن موسيقى وادي الرافدين القديمة والحديثة مغرقة في نكهتها الحزينة … أدركنا لماذا استعار السومريون رأس ابن آوى لهذا الفن.»٢٤
وهنا لا يفوت لبيب أن ابن آوى ذلك الفصيل الذئبي، كان يصدر صوتًا هو اﻟ «وهوه»، وهو ما يستدعي على الفور اسم الرب الإسرائيلي «يهوه»، ثم نستحضر بقوة ما سبق وأوردناه عن لسان ابن منظور تحت مادة «عناق»، إبان حديثنا عن العناقين العمالقة حيث يقول:

«والعناق: شيء من دواب الأرض كالفهد، وقيل عناق الأرض: دويبة أصغر من الفهد طويلة الظهر، تصيد كل شيء حتى الطير. قال الأزهري: عناق الأرض دابة فوق الكلب الصيني، يصيد كما يصيد الفهد ويأكل اللحم.»

لقد كان «سيت» رب الشر المصري، الذي أصبح رب الهكسوس الأعظم، يصور في هيئة حيوان من فصيلة الذئاب، لكن شكله حير العلماء طويلًا، ولم يُتَح للعلماء التعرف عليه بين حيوانات البيئة المصرية المعروفة، ولا نظنه إلا العناق البونتي الآدومي، الذي عاش في الصحارى الشرقية وسيناء وبلاد آدوم، ويبدو أنه كان أكثر انتشارًا في آدوم البلاد الحمراء النارية، يعيش في أحراش المر وأيك اللبان، وكان ربًّا للصحارى كما كان ربًّا للهكسوس، وهو ما جاء مرسومًا في نقوش رحلة حتشبسوت إلى بلاد بونت، على جداريات معبد روعة الروائع بالدير البحري. لكن قيل في تفسيرها أنها كانت كلابًا سلوقية؛ لأنها أطول فصائل الكلاب عنقًا فهي كلاب معنقة، وكان لذلك الإله علاقة بالموت والموتى والدمار والهلاك والنار الجهنمية ورماد البخور، كما كان له علاقة بالإله الذي التقى بموسى في شجرةٍ نارية لا تحترق ببلاد مديان/آدوم، المعروف باسم «يهوه».

وأتذكر هنا إبان تلمذتي صغيرًا في مسقط رأسي مدينة الواسطى من أعمال محافظة بني سويف أول محافظات صعيد مصر — وكان ذلك حوالي عام ١٩٦١م ولي من العمر أربعة عشر عامًا — أن شاعت في البلدة قصة عن حيوانٍ مفترس نزل البلدة من مكانٍ مجهول، وأنه يهاجم الإنسان كما يهاجم الحيوان، وسريع سرعة مذهلة. وكانت تلك شهادة الشباب الذين وجدوا في مطاردة الوحش متعة ومغامرة، تكسر رتابة البلدة الريفية ومللَها، وأجمعوا على رؤيته مراتٍ عدة، كما أجمعوا على أنه يقفز قفزات هائلة سريعة متتابعة، يختفي بها على الفور عن الأنظار، وبالغ بعضهم، فقال: إنه يطير، ثم هذَى بعضهم، فأقسم أنه قد رأى له أجنحة، فقد رآه يقفز طائرًا وراء حمامة ليقتنصها. ولا أعلم لماذا أطلق الناس عليه حينذاك اسم «السلعوة». كما أذكر أن صحيفة الأخبار القاهرية قد نزلت البلدة ممثلة في اثنين من الصحافيين، وسجلت الحدث وسعت مع المطاردات، لكن لم يظفروا بشيءٍ سوى الحالات التي كانت تظهر بين يومٍ وآخر، لأناسٍ هاجمتهم السلعوة، وكانت البلدة جميعًا تبيت ساهرةَ الجفون، بعد أن تغلق أبوابها قبل مغرب الشمس، ولا يدور في شوارعها إلا رجال البوليس وطلاب المغامرة والقنص، ولم تطمئن البلدة ويهدأ روعها، إلا بعد أن تم وضع السم في تيسٍ مذبوح، وتُرك في الشوارع، وبعدها تم العثور على حيوانٍ ميت قيل إنه السلعوة، وأثبت طبيب البلدة البيطري، والذي لم يعد يحمل من علم الجامعة غير الذكرى، أنه نوعٌ غريب من الذئاب طويلة العنق، وانتهى الأمر ونامت البلدة، ومر الحدث بليدًا على علمائنا الطيبين.

وقد عُدت إلى الإضافة لهذا الفصل مجددًا، بعد أن طالعتنا مجلة روز اليوسف القاهرية إبان كتابتي لهذا الفصل من العمل، بتحقيق صحفي جديد تحت عنوان: «الوحش المجهول الذي يهدد الصعايدة.»، وقد كُتب الموضوع تحت عناوين أساسية ذات دلالة وإيحاءات فهي:
  • أرجله الخلفية أطول، وقفزته عشرة أمتار، ويتمتع بصفات الثعلب والكلب.

  • الفيضان ودق الطرق وتفجيرات الجبال دفعته للهروب للقُرى.

  • ظهر في الستينات في طرة والمقطم.

ومن التحقيق نقتطع بعض الفقرات، التي تعين على تحديد مواصفات «السلعوة»، كما في قوله: «يظل هذا الحيوان الغريب مهددًا لعددٍ هائل من المواطنين، فرض عليهم حظر التجول الإرادي ليلًا؛ خشية التعرض لهجومٍ من سلعوة، والتفسير القاهري للاسم الغريب هو أن هذا الاسم أُطلق على الحيوانات الشرسة البرية منذ الستينات في منطقة جبال المقطم وطُرة، بعد ظهورها وتعديها على الأطفال والمواطنين في تلك المناطق، التي كانت تضم معسكرات للجيش هُجرت، فانتشرت هذه الحيوانات ولم يستطِعْ أحد اصطيادها أو السيطرة عليه، واستمرت الظاهرة وقتها أكثر من أربعة أشهر، ثم اختفت بعدها نهائيًّا …»

ثم في موضعٍ آخر يقول التحقيق: «المفاجأة العلمية الثانية بعد العودة إلى قنا كانت على لسان الدكتور، مدير عام الحياة البرية في مصر، الذي قال إنه لا يستطيع أن يحدد اسم هذا الحيوان أو فصيلته إلا بعد دراسةٍ شاملة له. وقال: إن هذه النتائج سوف تظهر عقب عودة البعثة من قنا.»

وفي موضعٍ ثالث نقرأ: «تسبب السلعوة في مقتل أربعة أشخاص هم … (يسميهم) فضلًا عن إصابة ٢٦ شخصًا بجروحٍ وأمراض خطيرة، وتكمن المشكلة في أن البعض أصيب منذ أكثر من ٤٠ يومًا وما زال في حالةٍ خطرة، ولم تستطع الأمصال المضادة لسعار الكلب شفاءه من مرضه، بالإضافة إلى نفوق ٢٨ رأسًا من الماشية نتيجة إصابتها بهجوم الحيوان المفترس عليها، بل إن كلاب الحراسة التي كانت تحمي الحقول، قُتل عدد كبير منها بهجومٍ من هذا الحيوان المخيف، الذي أطلق عليه الأهالي اسم سلعوة.»

ويقابل الصحفي أهالي القرية بعد مقتل واحد من تلك السلعوات، ويستمع من بينهم لأحد كبار السن يقول: «إن اسم السلعوة يعود لاسمٍ فرعوني قديم، تخيله المصريون القدماء كشيء لا يطيقه الإنسان، ولا يستطيع أن يتغلب عليه، ثم صار لقبًا يُخيف أي شخص، دون أن يدري أية معلومة عن صاحبه، ورآه الحاج ويقول عنه: بعد صيده وجدت شكله يختلف عن الكلب وعن الذئب، فهو حيوان ساقاه الخلفيتان أعلى وأطول من الأماميتين، سريع في قفزاته، لا يستطيع أحد اللحاق به.»٢٥
ونستعيد ما قال ابن منظور عن عناق الأرض، الذي يصيد كل شيء حتى الطير، لنتابع الاستماع إليه يقول:

«إنه ليس شيئًا من الدواب يؤبر — أي يخفي أثره — إذا عدا، غيره وغير الأرنب.»

وفي ضوء تلك المعلومات ألا يكون محتملًا أن السلعوة هي البقية النادرة لذلك الحيوان القديم عناق/سيت؟ ثم نتذكر أن عاصمة بلاد آدوم كان اسمها سالع، ونتساءل في دهشة: هل اسم السلعوة هذا بقية مأثورة لذكرياتٍ غامضة، كانت تنسب هذا الحيوان لموطنه الأشهر سالع/سالعوة/سلعوة؟

وعن معبودات مصر القديمة يحدثنا فرانسوا دوماس عن بعض الآلهة غير محدودة المعالم، منها مثَلان: «نون» المحيط الأزلي الأول الذي كان موجودًا قبل خلق العالم، و«ماعت» ربة العدالة والصدق وكل المعاني الرفيعة. و«سيا» الذي هو مجرد تصور عقلي، أي هو رب الأفكار؛ لذلك هو فكرة بدوره، واسمه يعني التصور الذهني المطلق والمجرد للإله. ثم يعبُر دوماس عبر كتابه المحتشد بمئات الآلهة في سطرٍ واحد على إله كان يحمل اسم «هو Hou»،٢٦ وهو ما يستدعي على الفور «هبا» زوج «هبات» أو «هفا» أو «هوى». كذلك جاء ذكر هذا الإله باسم «هو» عند ياروسلاف،٢٧ بنفس الإشارة السريعة التي توعز بعدم وجود معلومات كافية عنه.
ويشرح إريك هورنونج عن «هو» قائلًا إنه: «تجسيد للنطق الخلاق الذي دعا به الإله الخالق كل الأشياء إلى الوجود، وهو أحد القوى الخلاقة الثلاثة مع حكا Hike وسيا Sia التي تصاحب إله الشمس دائمًا، والإله «هو» ليس له عبادة في المعبد»،٢٨ وهو الأمر الغريب والمدهش إذا علمنا أن «يهوه» رب الإسرائيليين، كان الإله الوحيد، على تعدد أديان المنطقة، الذي كان إلهًا بريًّا ليس له معبد، ولم يقم له المعبد بعد ذلك إلا على يد الملك داود ثم سليمان، لأسبابٍ سياسية لتدعيم المركزية الحاكمة.
ومعنى أن يكون «هو» عند المصري القديم إلهًا يرمز إلى النطق الذي دعا به الإله الخالق الأشياء للوجود، فهو ما يستدعي فكرة الخلق بالكلمة «كن – فيكون»، فالإله «هو» يُنطق مثل ما فعل الكينونة TO BE، وسنرى كيف أن الإله العبري يهوه كان بدوره فعل كينونة «يكون».
وفي نصوص مصر القديمة نجد حكاية بعنوان قصة الرياح الأربع، عبر فيها المصري عن اسم أحد آلهته، نظنه الإله «هو» تحديدًا، بنقش كريش وعصافير تطير، تؤدي كلها المؤدى الصوتي ي ﻫ و ى IAUEE، وتم تصوير الحرف الأخير من تلك الكتابة التصويرية في شكل مروحتين من ريش، متعارضتي الاتجاه تعبيرًا عن شهيق ذلك الإله وزفيره للهواء.٢٩
وأسماء الإله التوراتية تعطينا تنغيمات مختلفة، كعزفٍ متعدد على نوتة أصلية، فهو ياو، ياهوه، ياه، إهيه، يهوه، جاهوفاه، يهوى، ويعطيك النغم صوت الريح، خاصة لو أخذنا بنصح «لودز» في صحة نطق الاسم، فهو ينبهنا إلى وجوب نطق الاسم جاهوفاه بفتح ثم مد فسجول طويل،٣٠ ويرى «شتاده STADE» أن معنى الاسم هو المُسقط، أي الذي يسقط البروق على الأعداء؛ لأن هوى بمعنى سقط،٣١ بينما يذهب «فلهاوزن Wallhaesen» إلى أن الاسم «يهوه» من هوى العربية بمعنى الهواء فمعناه يهب، أي إنه كان إلهًا للريح والعاصفة،٣٢ وهو ما نراه يتصل بعبادة القمر البدوية كما سنرى.

ومعلومٌ في الدراسات الميثولوجية أن القمر كان في نظر الأقدمين معبودًا، وكان معلومًا أيضًا أنه جرم كبير كالشمس، لكنه غير مستقر الأحوال، فسلوكه «هوائي». وحتى اليوم نقول عن الشخص المتقلب أنه هوائي.

ومع قيام الدولة الأكادية السامية في الرافدين القديم، يبرز بين الآلهة السومرية القديمة الإله «إنليل»، واسمه مركب من ملصقين «آن = سيد أورب» + «ليل = الليل أو الهواء»، وقد اعتبر رب الليل وانتمى الناس إليه بالعبودية حتى زمن الدعوة الإسلامية، كما يأتينا في اسم «عبد ياليل»،٣٣ ولم يزل المطرب الشعبي في بلادنا، يغني لهذا الرب بمواله: يا ليل يا عين، وعين هنا هي عين الليل، القمر. أما أهم صفات «إنليل» التي وصلتنا؛ فهي أنه كان رب الريح والعاصفة. ولما كان الأقدمون يرسمون للكواكب والنجوم خرائط تخيلية، تحددها لتسهل مقاربتها؛ ولأن التجريد الخطي لم يكن قد نضج بعد، فقد جعلوا خرائط الفلك على أشكال الحيوانات، وكان حظ القمر من تلك الخرائط رمز الحيوانات ذات القرون؛ لأن القرنين يشبهان الهلال، فقاموا يرسمون تحت الهلال رمزه الأرضي: الثور والتيس والخروف. لكن الصورة التي حازت الانتشار كانت صورة الثور؛ لأنه على الجانب الآخر كان يمثل قوة الخصوبة في الطبيعة، لفحولة الثور الجنسية. وهنا ما علينا سوى أن نتبع نصح «لودز» في نطق يهوه «جاهوفاه»، بفتح فسجول طويل لنستمع لأنفسنا نخور خوار ثور فصيح. إنه بدوره صوت الريح، ولا ننسى أن من معاني كلمة سوت Swt إحدى مشتقات سيت في معجم فولكنر ٢١٥: معنى قوة الريح. وكثيرًا ما قيل في الأساطير الإسلامية القديمة، أن الريح الإعصاري يخرج من منخار ثور أسطوري (متكررات: انظر ذلك قصص الأنبياء للثعلبي النيسابوري مثلًا).
لكن المدهش حقًّا — وسر الدهشة سينجلي بعد قليل — أن نجد المصري القديم يدوِّن لنا عن ذلك الإله المذكور في هيئة مراوح من ريش تزفر الهواء، تنبيهًا يقول: «إنه الإله الذي يحرم النطق باسمه.»٣٤ وهو ما ترك صداه في الأساطير الدينية حول اسم الإله العظيم أو اسم الإله الخفي، وهو الاسم الذي إذا عرفه شخص تقي أو محظوظ، يمكنه أن يكتسب قدرات الفعل الإلهي، ويكسر به قوانين الطبيعة ويفعل المعجزات، وقد شرح المصريون، وبعدهم علماء المصريات، السر في تحريم النطق باسم هذا الإله، والمتمثل في كونه ليس كائنًا بل هو نطق. هو الكلمة الخالقة، هو فعل وليس كيانًا ماديًّا؛ لذلك استخدمت في التعبير عنه حركات الريح (المراوح والريش)، زيادة في تجريده عن المحسوس. وهو ما يلتقي مع الاسم «هفا» أو «هوا» زوج ربة الشمس «هبات» في بلاد الحوريين المديانية، وإليه انتسبت باسمها الأميرة الميتانية، التي تزوجها آمنحتب الثالث، وعرفت باسم «جيلوخيبا» أو «إيلوهوا»، وترجمتها «الإله الهواء»، وهي الإلهة التي عبدت في مصر باسم «هيبات».
ولو أمكننا الاطمئنان الكامل لكلام «برستد»، حيث لم نجد هذا الكلام إلا عنده، لأمكن القول أن «هوا» أو «هفا» هو نطق لاسم نفس الإله «يهوه»؛ لأنهما كانا يُعبدان في ذات المكان وذات الزمان، فهو يقول: إن أهل مديان قبل موسى، كانوا يدينون بديانة إله وثني باسم «يهوه»،٣٥ وهذا كله إنما يلتقي مع صفة عناق الآدومي شديد السرعة كالريح، وبقيت عنه ذكريات جاءت في لسان العرب، وهو يقول:

إنه ليس شيئًا من الدواب يؤبر — أي يخفي أثره — إذا عدا، غيره وغير الأرنب، وجمعه عنوق، والفرس تسميه: سيا كوش.

ثم نجد لدينا قطعةً أدبية كهنوتية مصرية، تعود إلى زمن من الأسرة التاسعة عشرة ربما من زمن رمسيس الثاني، معنونة بعنوان شديد الدلالة هو «الإله واسم قوته الخفي»، تروي كيف كان للإله عددٌ من القوى، ولكل قوة اسم مقدس معبود، وبين تلك الأسماء كان ذلك الاسم، الذي لا يعرفه أحد وهو سر قوته العظمى.٣٦

(الإلهة هيبات: انظر الشكل رقم «١٠٦».)

figure
شكل رقم «١٠٦»: الإلهة هيبات المصرية.
هذا بينما على الجانب الآخر نجد «موسكاتي» يقول: «كان إله إسرائيل يظهر وسط السحاب، ويبدي قوته في البرق والعاصفة.»٣٧ وكان «سيجموند فرويد» يؤكد: «أن الإله يهوه هو الذي أهداه موسى المدياني شعبًا جديدًا لم يكن كائنًا أعلى، بل كان إلهًا محليًّا محدودًا وشرسًا، عنيفًا ودمويًّا.»٣٨ إن فرويد كان مثل «جيمس برستد» يعتقد جازمًا أن يهوه كان إلهًا مديانيًّا سيناويًّا آدوميًّا. أما الذي يجب إبرازه هنا أن المصري القديم، كان دائمًا يتحدث عن أرض الإله أي بلاد بونت، لكنه أبدًا لم يذكر لنا اسم هذا الإله ولا مرة واحدة، ونفهم الآن السبب الواضح؛ لأن هذا الإله كان فعلًا، لم يكن اسمًا وليس له اسم، إنه فقط «هو» يشار إليه بالغائب؛ لحرمة النطق باسمه.
ويشرح «كمال الصليبي» معنى اسم الإله الإسرائيلي «يهوه» فيقول: «يهوه: قد تعتبر هذه الكلمة بالعبرية على أنها الاسم الذي تطلقه التوراة على الله … وهو اسم لا يُلفظ في القراءة إجلالًا، بل يكنى عنه بكلمة الرب، وهكذا يترجم إلى العبرية. ويعتبر علماء اللغة أن يهوه هي صيغة مضارع لفعل هيه بمعنى كان، والمضارع من هذا الفعل هو عادة يهيه، كلمة يهوه إذن قد تعني: الرب وقد تعني: يكون.»٣٩
وللباحث نفسه كتاب آخر يعقب فيه على نص التوراة، الذي يحكي عن لقاء موسى لربه في نبات مضيء بسيناء «فناداه الرب يهوه من وسط العليقة، وعرفه بنفسه قائلًا: ء هيه ءشر ءهيه، أي أكون الذي أكون، أو بمعنًى آخر: أنا من أنا، وطلب منه أن يسميه باسم أهيه أي أكون. والاسم هذا من الناحية اللغوية هو اشتقاق من هيه، بمعنى: كان، أو بأي معنًى آخر. والجذر نفسه يرد أيضًا في العبرية التوراتية بشكل يهوه، والواضح على كل حال أن الاسم ءهوه هو ذاته اسم الرب يهوه.»٤٠
بينما الترجمة العربية للتوراة الصادرة عن الكنيسة الكاثوليكية، تسجل نص خطاب الرب لموسى هكذا: «أنا هو الكائن، قل لبني إسرائيل الكائن أرسلني إليكم.» ويعقب «أنيس فريحة» على ذلك بقوله: «إن كلمة يهوه هي اسم الإله، وهو فعل مضارع من هوى.»٤١
وفي مصر القديمة إله للهواء أو للهوى معلوم مشهور، هو المعروف باسم «شو SHU»، الذي يحمل قبة السماء، ويقول لنا «فهمي خشيم» أن المقابل العربي لهذا الاسم بالجذر الثاني يُنطق «هو» أو «هواء»، رب الهواء ويرسم بشكل ريشة. وقد صور المصري القديم ذلك الإله برجُل على رأسه ريشة، ومجموعة من الريش للدلالة على الهواء. ونحن نعلم أن الريشة كانت علامة الملوكية عند البدو، الذين يضعون الريش على رءوسهم علامة السيادة،٤٢ تيمنًا برب الهواء والمالكين باسمه ورمزه «الريش».

وهكذا فإن الإله «سيت» كان في نظر المصريين راعيًا للموت وربًّا له، وكان له عدد من التجليات فارتبط بنوعين من الحيوان: الحمار؛ لأن لونه أحمر، وبالحيوان البونتي الآدومي «عناق». وربما ارتبط بكائنات مصاحبة عاشت في المنطقة، وكانت من علاماتها الدالة، مثل «حية السف الطائرة»، كما ارتبط بطائرٍ صياد للحيات، هو طائر الفينيق، وكان عند المصريين ربًّا لذوي البشرة السوداء أو الكوشيين؛ لذلك رأوه ربًّا للجنس الأسود الزنجي، الذي كان يعيش جنوب الوادي، وكان يُطلق على تلك المنطقة الجغرافية اسم بلاد كوش، كما كان إلهًا للجنس الأسود «الكوشيين»، الذي عاش على حدود مصر الشرقية في سيناء وآدوم.

والكتاب المقدس يروي لنا في سفر الخروج رواية شديدة الدلالة؛ إذ يقول إن يهوه رب إسرائيل بعد أن ضرب مصر بكثيرٍ من الضربات المهلكة، وجعلها بلادًا قحطًا قفرًا، كتحويل مياه النيل إلى دمٍ نتن، وإرسال الريح المحملة بالبرد والنار على البلاد، مما قضى على الزرع والناس والحيوان، وتسليطه الحشرات كالجراد على المزارع، والأوبئة التيفودية الفتاكة على الحيوان والإنسان. قرر في الليلة الأخيرة قبل خروج بني إسرائيل من مصر في الصباح، قتل كل بكر في مصر سواء كان إنسانًا أو حيوانًا، ونستمع معًا لهذا المقطع التوراتي، الذي يوعز بأن ذلك القتل كان عنيفًا صاحبَتْه إسالة دماء هؤلاء الأطفال، كما لو كان قد تم تمزيقهم إربًا، يقول هذا المقطع:

فدعا موسى جميع شيوخ إسرائيل وقال لهم: اسحبوا وخذوا لكم غنمًا بحسب عشائركم واذبحوا للفصح، وخذوا باقة زوفا واغمسوها في الدم، الذي في الطست ومسوا العتبة العليا والقائمتين بالدم الذي في الطست. وأنتم لا يخرج أحد منكم من باب بيته حتى الصباح، فإن الرب يجتاز ليضرب المصريين، فحين يرى الدم على العتبة العليا والقائمتين يعبر الرب عن الباب، ولا يدع (المُهلك) يدخل بيوتكم ليضرب … فحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر، من بكر الفرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الأسير الذي في السجن وكل بكر بهيمة. فقام فرعون ليلًا هو وكل عبيده وجميع المصريين، وكان صراخ عظيم في أرض مصر؛ لأنه لم يكن بيت ليس فيه ميت.

(خروج، ١٢: ٢٩، ٢٣، ٢٢، ٢١)
لقد كان المحرر التوراتي يعلم بالتباس الإله يهوه بكائنٍ اسمه «المهلك» أي المفترس، وحاول الفصل بينهما لكنه لم يتمكن من ذلك تمامًا فظهرَا كائنًا واحدًا، وهو ما يذكرنا بالإله «سيت» المصري رب الموت، المعروف لدى الإغريق باسم «طيفون» سيد عالم الأوبئة والدمار، الذي زعمناه «عناق» وفضلنا وصفه بعناق البونتي؛ لتبقى عنه ذكريات حفرية انتقلت عبر الأجيال حتى زمن دعوة الإسلام، ليعبر عنها القرآن في قوله: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (القلم: ١٩)، ومن المدهش أن يفلت من المحرر التوراتي تصور واضح لهيئة ذلك المهلك الإلهي اليهوي طيفون الطائف، فيتابع سرد كيف أهلك المهلك أبكار المصريين في قوله:

وقال موسى: هكذا يقول الرب: إني نحو منتصف الليل أخرج في وسط مصر، فيموت كل بكر في أرض مصر، من بكر الفرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحى وكل بكر بهيمة. ويكون صراخٌ عظيم في كل أرض مصر لم يكن مثله ولا يكون مثله أيضًا، ولكن جميع بني إسرائيل لا يسنن كلب لسانه إليهم لا إلى الناس ولا إلى البهائم، لكي تعلموا أن الرب يميز بين المصريين وإسرائيل.

(خروج، ١١: ٤–٧)
إذن فالمهلك التوراتي من الفصيلة الكلبية، ونحن نعلم أن أحد سلالة يهوذا بن يعقوب، قد حمل اسم تلك الفصيلة، فهو «كالب بن يفنة» أبو قبيلة الكلبيين، ويحيطنا علي الشوك علمًا في عبارةٍ سريعة غير مشغولة بموضوعنا، لكنها تعني لنا الكثير، تقول: «إن الكالبيين هم الآدميون حلفاء اليهود.»٤٣

وفي نص مصري ورد لأول مرة في نصوص ترجع إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد فيما يسمى نصوص اللعنات، التي كانت تُكتَب على جِرارٍ فخارية تسجل أسماء أعداء مصر وبلادهم وحكامهم، ثم يتم تحطيمها في طقسٍ سحري تماثلي يفترض فيه أن الشبيه ينتج الشبيه، لجلب الأذى على أصحاب تلك الأسماء، والنص الذي نقصده يعدد ملوكًا وبلادًا، نقف مع اسم أحدهم دهشين، لكن مطمئنين به إلى فروضنا، إذ يذكر النص اسم ملك لبلاد تشغلنا فيقول:

وإيدوم حاكم إي عناق وجميع بطانته
ويقرب آمو حاكم أورشليم وجميع بطانته.
ويستمر سجل الأعداء المطلوب إنزال اللعنة عليهم بالطقس السحري، فيذكر إثنى عشر ملكًا ببلادهم،٤٤ إلا أن الملحوظة الهامة على نص اللعنة المذكور هنا، أنه قد حدثت فيه حالة تبادل ما بين اسم الملك واسم البلاد الآدومية، فحمل الملك اسم «إيدوم» أو «آدوم» وكان يحكم في «إي – عناق»، والكلمة «إي» كلمة سومرية هندوآرية، ورثتها الساميات عن السومرية، وترد على التبادل مع كلمة «بيت BIT»، التي تحمل ذات الرسم والمعنى في اللغة العربية، فبلاد آدوم كانت «بيت عناق» ومقره.

(انظر أشكال أنوبيس المصري والسالعوة رقم «١٠٧، ١٠٨، ١٠٩، ١١٠».)

figure
شكل رقم «١٠٧»: أنوبيس/المتحف المصري، لاحظ مدى اشتراكه في هيئته الجالسة وأذنيه المرتفعتين مع الإله سيت، ولاحظ الطوق الذهبي حول العنق.
figure
شكل رقم «١٠٨»: بروفيل أنوبيس رب الموت في مصر القديمة.
figure
شكل رقم «١٠٩»: أنوبيس ابن آوى يلحد الموتى في مقبرة سبتاح. التعويذة رقم ١٥١ من كتاب الموتى.
figure
شكل رقم «١١٠»: أحدث عثور وقتل لحيوان السلعوة بأسوان (مصر في شهر إبريل ٢٠١٠م).
figure
شكل رقم «١١١»: رب الشر سيت يلبس تاج القطرين.
figure
شكل رقم «١١٢»: سيت تفصيل علوي.
figure
شكل رقم «١١٣»: سيت يلبس أطواقًا؟! مدياني؟!
figure
شكل رقم «١١٤»: السلعوة في الأخبار القاهرية بتاريخ ٦ / ٤ / ١٩٩٧م، لاحظ الآذان وقارن مع سيت، والوجه الأقرب إلى الحمار.
figure
شكل رقم «١١٥»: أخبار السلعوة «أو المنسوبة إلى سالع» في صحيفة الأخبار القاهرية بتاريخ ٧ / ٤ / ١٩٩٧م.
١  باروسلاف تشيرني، الديانة المصرية القديمة، ترجمة أحمد قدري، هيئة الآثار المصرية، القاهرة، ١٩٨٧م، ص١٦١.
٢  سامي سعيد، الرعامسة، سبق ذكره، ١٣٢.
٣  فهمي خشيم، آلهة … سبق ذكره، ج١، ص٤٣٩.
٤  سليم حسن، مصر القديمة، سبق ذكره، ج٤، ص٦٥، ٦٦.
٥  بيومي مهران، دراسات … سبق ذكره، ص١٥٢.
٦  Hayes, Egypt From The Ammenemes II, p 17.
٧  سليم حسن، الأدب المصري … سبق ذكره، ج١، ص١٤٦.
٨  شفيق مقار، قراءة سياسية للتوراة، رياض الريس للكتب والنشر، قبرص ولندن، ص٢٤١.
٩  فهمي خشيم، آلهة … سبق ذكره، ج١، ص٤٣٠.
١٠  عبد المجيد عابدين، لمحات … سبق ذكره، ص٢، ٣.
١١  بلوتارك، إيزيس وأوزيريس، سبق ذكره، ص٥١، ٥٢.
١٢  د. محمد حماد، كامس، دار الجيل للقاهرة، ١٩٧٠م، ص٤٢.
١٣  عبد المجيد عابدين، لمحات … سبق ذكره، ص١٦، ١٧.
١٤  معجم بدج ٣١٤، عن خشيم.
١٥  فهمي خشيم، آلهة … سبق ذكره، ج١، ص٤٢٨، ٤٣٠.
١٦  نفسه، ص٤٣٢، ٤٣٣.
١٧  معجم فولكنر، ٢١٥، عن خشيم.
١٨  فهمي خشيم، آلهة … سبق ذكره، ج١، ص٤٣٥.
١٩  نفسه، ج١، ص٤٤٠، ٤٤١.
٢٠  أنطون ذكري، مفتاح اللغة المصرية القديمة وأنواعها وخطوطها وأهم إشاراتها، القاهرة، د. ت، ص١٠٩.
٢١  إريك هورنونج، ديانة مصر … سبق ذكره، ص٢٦٧.
٢٢  فهمي خشيم، آلهة … سبق ذكره، ج١، ص٢٩٥–٢٩٧.
٢٣  نفسه، ج١، ص٣٠.
٢٤  علي الشوك، بين الخطاب الموسيقي والخطابل اللغوي، مجلة النهج، دمشق، عدد ٤، ١٩٩٥م، ص١٣٩.
٢٥  عصام عبد الجواد، الوحش المجهول الذي يهدد الصعايدة، مجلة روز اليوسف، عدد السابع من أكتوبر ١٩٩٦م، ص٧٩–٨١.
٢٦  فرانسوا دوماس، آلهة مصر، ترجمة زكي سوس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ١٩٨٦م.
٢٧  ياروسلاف تشيرني، الديانة … سبق ذكره، ص٦٥.
٢٨  إريك هورنونج، ديانة مصر … سبق ذكره، ص٢٨٨.
٢٩  جارودي، فلسطين أرض … سبق ذكره.
٣٠  Lods. A, Israel From its Beginnings to the middle of eight century London, 1963, pp. 321-322.
٣١  Stade, B, Le herbuch der hebraischen Grammatik, Libzig, 1979, 429.
٣٢  Wall hawseen. J, Die bibllischen Atertu mer, clu an Stuttgart.
اقتبسه د. يعقوب السيد بكر في هوامشه على ترجمة كتاب موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، دار الكتاب العربي للطباعة، القاهرة، ١٩٥٧م، ص٢٨٦.
٣٣  ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، مج٣، ص١٠٠٧، وأسد الغابة في معرفة الصحابة، مج٣، ص٥١٢.
٣٤  جارودي، فلسطين أرض … سبق ذكره، ص٩٩.
٣٥  برستد، فجر الضمير، ترجمة سليم حسن، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت، ص٣٨٦.
٣٦  سامي سعيد، الرعامسة، سبق ذكره، ص١١٧.
٣٧  موسكاتي، الحضارات السامية القديمة، ترجمة د. السيد يعقوب بكر، دار الكاتب العربي للطباعة، القاهرة، ١٩٥٧م، ص١٤٩.
٣٨  سيجموند فرويد، موسى … سبق ذكره، ص٦٨.
٣٩  كمال الصليبي، التوراة جاءت … سبق ذكره، ص١٢٩.
٤٠  كمال الصليبي، خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل، دار الساقي، لندن، ١٩٨٨م، ص٢١٥.
٤١  أنيس فريحة، دراسات في التاريخ، دار النهار، بيروت، ١٩٨٠م، ص١٧٩.
٤٢  فهمي خشيم، آلهة … سبق ذكره، ج٢، ص٤٢٧.
٤٣  علي الشوك، سبق ذكره.
٤٤  فراس السواح، الحدث … سبق ذكره، ص١٤١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤