الفصل الرابع

معان المصرية

تقيم التوراة في شجرة أنسابها وتقسيمها للأجناس، علاقات قرابة ونسب ما بين الجنس العربي والجنس العبري، فتجعلهم من أصلٍ واحد، وتعيدهم دومًا إلى سلفٍ واحد مشترك. وأدرجوا تحت هذا السلف المشترك: العبريين، والعرب الشمالية والجنوبية، بإرجاعهم جميعًا إلى أبٍ بعيد واحد هو «عابر». والواضح على المستوى اللساني بالقلب اللغوي «الميتاتيز» أن عبري مقلوبها عربي.

ومن هنا يمكن الظن أن هذا المزج يعود إلى ذكرياتٍ تاريخية، إلى زمن هجرات وتحالفات وحروب وتداخلات، حدثت بين مجموعة شعوب في المنطقة. وأصرت التوراة من جانبها على ربطها جميعًا بصلاتٍ قرابية؛ لتميز من بينهم شعبها المختار «إسرائيل». ومن جهتنا نعتبر ذلك ترديدًا لكشفنا للمملكة التجارية الكبرى، التي قامت في بلاد آدوم، بين حلفاء من أجناسٍ مختلفة وألسن متباينة. واقتضت مصلحتها إقامة كونفودرالية، شكلت لونًا من قومية المصالح، التي اقتضت تنظيرًا قبليًّا، قام المقدس برَتْقها ببعضها باعتبارها بطونًا وأفخاذًا لأصلٍ واحد، امتد من حدود الدلتا الشرقية المتصلة بسيناء حتى الرافدين والخليج الفارسي شرقًا. ومن الشمال السوري والرافدي حتى اليمن جنوبًا، إضافة إلى جزر المتوسط الشرقية.

وغني عن البيان أن ما حدث في آدوم قد وجد صَداه في عودٍ تاريخي يكاد يطابق ما حدث في بلاد آدوم بعد ذلك بقرونٍ طوال، عندما قامت مكة في بلاد الحجاز بدور الوسيط التجاري لعالم الإمبراطوريات، حين توفرت لها الظروف القديمة، والتي أهلتها لتقود القبائل المتفرقة نحو دولة قبائل كونفودرالية اتحادية، لتكرر ذات ما حدث في بلاد آدوم. فحين استوت لها أسباب القوة تحولت عن قبض عشور التجارة، إلى التجارة بأموالها الخاصة، ثم إلى توحد الشركاء في منظومةٍ واحدة، ثم احتلال دول المحيط احتلالًا مباشرًا واستيطانيًّا، هاجرت فيه القبائل العربية لتسكن البلاد المفتوحة، وتحكمها حكمًا مباشرًا في ولايات. بالضبط كما حدث زمن الهكسوس وتكوينهم إمبراطورية تجارية كبرى، توزعت فيها الولايات على القبائل الكبرى داخل الحلف الواحد. حتى إن مكة قد ضمت مدن الخط التجاري القديم القادم من اليمن حتى مصبِّ ذلك الخط في دول المتوسط الشرقي، كما ضمت في عضويتها أجناسًا متعددة، يأتينا ذكرها في صحابة نبي الإسلام أنفسهم، ما بين الزنجي الكوشي بلال، وبين الهندوآري الرومي صهيب، وما بين الفارسي سلمان.

figure
شكل رقم «١١٦»: حقل الأحداث زمن إمبراطورية الهكسوس حسب تخريجات المؤلف.

وفي المأثور العربي ترديد متكرر ومتواتر، لأمرٍ كان يحتفظ به قدامى العرب من ذكريات الأزمنة الخوالي، وهو أن جزيرة العرب كان يعيش فيها من فجرها جنس أطلقوا عليه العرب العاربة، أي العرب الأصيلة الراسخة في العروبية، والمتجذرة فيها من فجرها القديم. وهم من حظوا بلقب العرب القحطانية، وهم المفترض أن يكونوا سلسلة من الأخلاف لشخصية وردت في شجرة الأنساب التوراتية باسم «يقطان». وتقول لنا المصادر الإخبارية العربية إنه قد وفد على جزيرة العرب من بوابتها الشمالية جنس آخر وافد، هبط إليها هبوطًا غير منطقي لأسبابٍ مجهولة. هجر مناطق الخصب في بلاد حوض المتوسط الشرقي لينزل إلى صحارى شمالي جزيرة العرب ومنطقة الحجاز، وكانت أشبه بهجرة استيطانية حمل أصحابها اسم العرب المستعربة، أي العرب غير الأصلاء أو الدخلاء، الذين اكتسبوا العروبية ولم يكونوا من أبنائها. وقد اصطلح على تسميتهم العرب العدنانية نسبة إلى سلفٍ بعيد باسم عدنان، وهنا يخالف النسابة العرب شجرة الأنساب التوراتية، حيث لا نجد «عدنان» هذا في تلك الشجرة التوراتية. لكن أخبار العرب تلتقي مع أخبار العبر في اسمٍ آخر، أطلقه المؤرخون العرب على العرب العدنانية، فهم إسماعيلية يعودون إلى إسماعيل ابن الخليل إبراهيم، والإسماعيلية هو الاسم الذي فضلته التوراة للعرب الشمالية المستعربة العدنانية.

وهكذا نفهم أن هناك ارتباطًا، يشير إليه كلا المأثورين العربي والعبري، بين عرب الحجاز وبين الجنس الإسرائيلي عبر الخط الإسماعيلي، وأن الفرع الإسماعيلي أو العدناني للعرب قد هاجر من مواطنه في الفترة الهكسوسية حول بلاد آدوم والنقب ومحيطها، ليهبط بلاد نجد والحجاز؛ نتيجة ربما لخلافاتٍ قبلية أو تناقضات مصلحية حدثت داخل البطن الإبراهيمي حسب رواية التوراة، التي وافقتها الرواية الإسلامية، في ترميزاتٍ أسطورية لوقائع قديمة وأحداث تغيب عنا الآن تفاصيلها الدقيقة. ومن ثم انفصل الفرع الإسماعيلي وترك الفرع الإسرائيلي في فلسطين.

figure
شكل رقم «١١٧»: شجرة الأنساب التوراتية حسب الكتاب المقدس (من وضع المؤلف).
ورغم أن التوراة من جانبها لم تذكر أية معلومات واضحة، عن هبوط الفرع الإسماعيلي إلى بلاد الحجاز، فإنها أكدت عروبة هذا الفرع عندما دونت ذكرياتها التاريخية عن سُكنى الإسماعيليين لبلاد آدوم ووادي عربة، وأن «عيسو/آدوم» كان من أنسباء الإسماعيليين لزواجه من محلة بنت إسماعيل شقيقة «نبايوت/نابت» ابن إسماعيل. ويقول لنا «المسعودي»: «وإن إسماعيل بن إبراهيم إنما تكلم العربية حين نشأ في العماليق … ولا خلاف أيضًا أن إبراهيم لم يكن عربيًّا ولا إسحاق ابنه، وأن ابنه إسماعيل أول من نطق بالعربية.»١

والمأثور العربي يجعل أول من تولى أمر الكعبة المكية هو «نابت» ابن إسماعيل ونسله من بعده، ليربط بين العقيدة الدينية في مكة وبين أصولها الواردة من الشمال مع نابت بن إسماعيل، مع العرب الشمالية العدنانية المستعربة. والتوراة من جانبها تحيطنا علمًا بأن البطرك إبراهيم كان أرومة كل من الإسرائيليين والإسماعيليين، الذين اعتبرهم التأريخ الإسلامي عربًا مستعربة. وهنا يجب أن نتذكر أن على خط الممالك الأخير في غسق الممالك الآدومية، كانت مملكة الأنباط التي تحيل إلى الاسم «نابت» إحالة قوية، مع دعمٍ آخر لتلك الإحالة، إذ تحيطنا علوم اللغات القديمة، معرفة بأن الخط العربي هو تطوير للخط النبطي، الذي تطور بدوره عن الخط الآرامي، وهي جميعًا الإشارات التي تشير إلى أن العرب المستعربة العدنانية الإسماعيلية الحجازية، يعودون بأصولهم التاريخية إلى محيط بلاد آدوم وسيناء وجنوبي فلسطين، وأنهم قد هبطوا جنوبًا ليشكلوا هناك فرعًا عربيًّا جديدًا باسم المستعربة، نتيجة لأسبابٍ لم تزل حتى الآن ضمن أرشيف التاريخ أسبابًا مجهولة.

figure
شكل رقم «١١٨»: العرب القحطانية، شجرة كهلان شقيق حمير بن سبأ.

ويبدو أن منطقة آدوم القديمة ومحيطها، وضمن ذلك المحيط جزيرة سيناء جميعًا، بل والبراري الملاصقة لدلتا النيل الشرقية، بما فيها من مدنٍ مصرية، قد سكنتها أجناس عرفت بأنها «عربية»، وأن اسم عرابة الذي كان يخص الوادي الممتد من البحر الميت إلى العقبة، قد اتسع ليشمل كل تلك المساحة، ويضم معها مناطق الحجر وشمالي الحجاز، ومن هنا نفهم لماذا أطلق المؤرخون الكلاسيكيون مع مطلع العصر الإغريقي على إقليم شرقي الدلتا المصري اسم «الإقليم العربي»، كما أطلقوا على خليج السويس من البحر الأحمر «الخليج العربي من البحر الأريتري»، حتى إن عاصمة ذلك الإقليم الدلتاوي المصري أسماها اليونان «المدينة العربية باتومي»، أو باسم «بوتو» كما وردت عند المؤرخ اليوناني الأشهر «هيرودوت». ويؤكد هذا المعنى ليصبح حقيقة تاريخية، ما ذكرته التوراة عن استعباد الإسرائيليين في مصر في بناء مدينتين: واحدة باسم رعمسيس والثانية التي تعنينا هنا باسم فيثوم، التي تمت إعادتها لنطقها المصري لدى المصرولوجيين باسم «بر – ثوم» التي حرفت «بي – توم» التي هي «باتومي» عند هيرودوت، ومعناها في المصرية القديمة: «مقر الإله أتوم أو مسكنه». هذا إضافة إلى أن هذا الإقليم جميعًا أسمته التوراة «إقليم جاسان» أو «غسان» «جاشان» أو «جشم»، وهو ما يستدعي «الطاسة النذرية» التي عثر عليها بوادي طميلات في ذلك الإقليم شرقي الدلتا، مهداة للآلهة من الملك الآدومي «جشم بن قينو». ثم يستدعي قبيلة «غسان» التي ظهرت بعد ذلك بزمن أيام الرومان، لتقيم دولة في ذات المكان عند خليج العقبة، مرددة في اسمها اسم «جسان» أو «جاسان»، ذلك المكان الذي كان يقع شرقي مصر على حدود الدلتا الشرقية، وقالت التوراة إنه كان موطنًا سكنه الإسرائيليون عند دخولهم مصر، ومنه خرجوا إلى بوادي سيناء. ويبدو أن هذا الاسم قد حفر لنفسه طريقًا عبر التاريخ، وامتد لتحمله قبائل سكنت في مناطق آدوم القديمة، مكان «جشم بن قينو» لتقيم دولة الغساسنة زمن الرومان، ولاحظ «جاسان = جشم = غسان».

ورغم أن المؤرخ «رينيه ديسو» لم يذهب إطلاقًا إلى ما ذهبنا إليه نحن حتى الآن، فإنه يُلقي بقولٍ عابر يلتقي تمامًا مع ما وصلنا إليه؛ إذ يقول: «إن النبطيين كانوا يتكلمون الآرامية … وأقاموا في جنوب فلسطين، حيث كانت مدينة سالع Petra هي العاصمة، ثم أصبحوا مهيمنين على الطرق التجارية.»٢
figure
شكل رقم «١١٩»: شجرة أنساب العرب العدنانية.
هذا بينما كان «إحسان عباس» يعبر عن دهشته، وهو يؤرخ لمدينة البتراء زمن الأنباط بقوله: «بين الأنباط وأهل اليمن عنصر هام مشترك، وهو طرق تخزين المياه وأساليب الري والمهارة الزراعية بعامة»، ثم يحاول البحث عن الأسباب وراء ذلك الاستقرار الحضاري في المنطقة الآدومية فيستطرد: «إن السؤال عن السبب الذي حداهم لسُكنى تلك المنطقة … نفترض أن حاجة قطعانهم إلى المرعى والماء، هدَتْهم إلى ذلك المكان، ورويدًا رويدًا وجدوا في الاستقرار وفي طبيعة المكان نفسه، حماية لأنفسهم وقطعانهم، ثم اكتشفوا بعد ذلك صلاحية المكان للتجارة ولاستقبال السلع من جهاتٍ مختلفة. وتفتحت عيونهم على بريق الثراء، وحين أحرزوا كل ذلك لم يطلبوا عن ذلك المكان تحولًا، ثم إنهم لما بدءُوا هم أنفسهم يتاجرون، ولم يعودوا إلى نقله لمتاجر غيرهم مقابل أجر معلوم، اكتشفوا حاجتهم الماسة إلى الكتابة … فكتبوا بالآرامية … لكن العربية الشمالية لم تكن يومئذٍ لغة مكتوبة، أعني لم تكن قد اشتقت لها أبجدية محددة الرموز، إذ يكاد الباحثون يتفقون على أن الحرف العربي اشتق من الحرب النبطي … وبدءُوا يكتبون العربية بحروفٍ آرامية.»٣
والمعلوم أن أهم أعمدة تلك التجارة كانت المواد العطرية، وعمودها مواد التبخير من الزيوت واللبان بأنواعه؛ لذلك تساءل المؤرخون طويلًا عن السر العجيب وراء رواج مادة اللبان، وكل تلك الأهمية التي تحملها للعالم القديم، ومن ثم نرى أنه إضافة إلى السبب الواضح في قدسيتها؛ لأهميتها التعبدية للتبخير للأرباب، يمكن الركون إلى سببٍ أكثر وضوحًا وراء غلاء تلك المادة والطلب العالمي عليها، كمادة من المواد الثمينة. وهو أن علم الطب في مراحله الابتدائية، وفي كافة المدونات الطبية وعلوم الصيدلة القديمة، قد اعتمد اعتمادًا كليًّا على عنصرٍ أساسي مشترك، هو اللبان/المر/العلك، باعتباره المشترك في أي تركيبٍ علاجي، وبخاصة للجروح، وهي الحدث الدائم في حياة الإنسان أيام شظف عيشه القديم، حيث كان الجرح قاتلًا لصاحبه إذا تلوث، واستمر في النزف، فكان عزله باللبان بعد معالجته الكيميائية مع التسخين، مانعًا للتلوث والنزف، وقد استمر هذا العلاج حتى زمنٍ متأخر حتى أيام المسيح، وحتى اليوم نجد في الطب الشعبي مادة اللبان/العلك/العيك/مادة أساسية لعلاج الأمراض الصدرية والمعوية وأمراض الدم، فيشرب مغليًّا مع إضافاتٍ نوعية حسب نوع المرض، فهو مادة أساسٌ حاملة لبقية صيدلية ذلك الزمان، وهنا نقرأ لسان العرب يحدثنا تحت مادة نبط:

النبط: جمع أنباط، ونبط الماء نبط، والنبط ما يتحلب من الجبل كأنه عرق يخرج من أعراض الصخر. وشاة نبطاء: بيضاء الشاكلة محورة، فإذا كانت بيضاء فهي نبطاء بسواد، وإذا كانت سوداء فهي نبطاء ببياض. وفي حديث ابن عباس: نحن معاشر قريش من النبط من أهل كوثي وربا (لاحظ أن كوثي بجنوبي العراق [المؤلف])، وقيل إن إبراهيم الخليل وُلد بها، وكان النبط سكانها. وعلك الأنباط هو الكامان المذاب يُجعل لزوقًا للجروح.

ويوضح العالم الجليل «فهمي خشيم»: أن علك الأنباط ربما كان هو ما نسميه اليوم الصمغ العربي، أما اسمه الكامان، فهو أصلًا من المصرية «ق م إي ت qmiyt» أي صمغ، ومن «ق م إي qmiy» وهو سائل من مواد الصمغ، و«ق م إي. ت. ن ت. ع ن ت ى qmiy. t. nt. anty» أي صمغ شجرة المر، و«ق ء م إي qamiy» أي نبات زيتي و«ق م إي qamiy» أي دهان. وهو في معجم المصرولوجست «بدج» نوع من اللزوق، وجذره «ق م أو ج م» الذي أخذته اليونانية بالكاف «كومي Kommi» وكذلك اللاتينية qummi. ومن هنا نعلم لماذا كان المطاط في الفرنسية القديمة هو gomme، وفي الإنجليزية «gum = صمغ = علك = مطاط»، وقد أبدلت q وg من العربية «ك»، فهي في العربية من المصرية «كم»، ومنها جاء اسم الكامان علك الأنباط. ولا يفوتنا التأكيد على أن اللبان أو الكامان «ع. ن. ت. ي» في المصرية، جاء هنا غير منسوب لا للصومال في أفريقيا ولا لليمن ولا للهند، إنما للأنباط، لبلاد آدوم. وهي الوراثة اللغوية لواقع أحداث بعيد، يؤكد على الرباط بين اللبان والأنباط، ويؤكد ما نقوله من بداية هذا العمل حتى الآن. ولا نستطيع هنا أن نمنع الذهن من تداعياته، وهو يتذكر المملكة التي قامت جنوبي مصر حوالي ١٦٠٠ق.م. واستمرت حتى ٣٠٨ق.م. وحملت اسم مملكة «نباتا Nabata»، والتساؤل الملحاح يقفز طوال الوقت عن علاقة الجنس الأسود، باسم نابت ونبايوت ونباتا ونبط وبلاد بونط، خاصةً أن مملكة نباتا قامت في منطقة النوبة، التي كانت تكتب وتنطق بفتح التاء الأخيرة/الهاء، «نوبت» التي حملت أيضًا الاسم المصري «ا ء ح س iahs»، واسمًا ثالثًا «ك ش ت kst» أي كاسي، واسمًا رابعًا «إك ش iks» أي كوشي،٤ وهي ذات المملكة التي كانت تنتظر رسالة من ملك الهكسوس الأخير «أبو فيس» أو «أسيس»، يأمر فيها ملك كوش بالهجوم على طيبة من الجنوب، بينما يهاجمها الهكسوس من الشمال، ويناديه في رسالته بلقب «ولدي»، ومعلوم أن الجند المصرية قد قبضت على هذا الرسول، عندما كان قادمًا من حواريس عاصمة الهكسوس بالدلتا الشرقية، متجهًا نحو الجنوب عبر الصحراء، ومع بداية الألف الأخير قبل الميلاد نجد الجنوب اليمني، قد بدأ يفصح عن حضارةٍ تمثلها أربع ممالك، هي معان وسبأ وقتبان وحضرموت، التي لفتها جميعًا الصبغة الحميرية، وورثتها جميعًا بعد ذلك دولة حملت اسم حمير.
وعن المرحلة المتعددة الممالك في بلاد اليمن، ذهبت مدارس إلى اعتبارها بالفعل ممالك متعددة، لكن ليست متجاورة زمانيًّا؛ لأن تجاورهم جميعًا في تلك المساحة الضئيلة كممالك مستقلة، أمر يصعب قبوله تمامًا، لكن في ضوء فروضنا وما نطرحه يمكن قبول تزامن تلك الممالك، مع التحالف، خاصةً أن منها ما وجدنا له امتدادًا شماليًّا أصيلًا وأولًا، مثل معان، ومثل سبأ التي هبطت من الشمال إلى اليمن، ومن هنا نميل إلى رأي المدارس التي تقول بتزامن تلك الممالك، ونراها معبرة عن ذلك الحلف العظيم، وهنا ننقل عن مظفر نادوثي قوله: «إن العلماء الذين يرون أن المعنيين والسبئيين كانوا يعاصرون بعضهم بعضًا، يبنون هذه النظرية على نقشٍ معيني، هو (جلاسر رقم ١١٥٥، وهاليفي رقم ٥٣٥)، الذي يقول إن المعينيين كانوا يتبادلون تجارة الكندر/اللبان الذكر، مع الآشوريين عبر نهرين، وقد أدى ذلك إلى قيام حربٍ بين المادهي ومصر … وفرتز هومل يرى أن لفظة Madhi تقوم مقام المديانيين Midiantes أو المانتي Manti؛ لأن بدو سيناء كانوا يُعرفون بهذا الاسم.»٥

ولنا أن نرى نحن من جهتنا في لفظ «مانتي» تحريفًا للفظ «مديان»، حيث هو اللفظ الذي يلتقي مع الكلمة التي تكررت في نصوص مصر القديمة «مونتيو»، على النسبة إلى مانتي «ميتان/مديان» أو «مونت/بونت».

وإذا كنا قد انتهينا إلى أن مملكة الهكسوس قد مثل السادة الحاكمين فيها، سادة من قبائل أو أجناس متحالفة في منطقة آدوم، التي كانت تابعة لمصر من بدايتها باعتبارها حد مصر الشرقي، وأن شأنها قد تضخم إلى حد التسلط على الوطن الأم، وأن في بلاد آدوم ومحيطها كانت معان المصرية ومديان؛ فإن «بلليني» يقول في خطاب شارد «إن المعينيين كما يتضح من اسمهم يرجعون إلى ملينوس ملك كريت.»٦ وبلليني هنا يريد إرجاع أصل ذلك الشعب الشرقي إلى أصولٍ يونانية، وهو لن يقول بذلك إلا إذا كان ذلك الشعب جديرًا بالانتساب إلى أصولٍ حضارية راقية؛ ولذلك فمعان تعود عنده إلى الحضارة المينوية الكريتية، وأنهم من نسل الملك الأسطوري مينوس، وهكذا قلب الرجل الأوضاع، لكن ليعطينا معلومةً تؤكد أن الإمبراطورية الهكسوسية، قد حملت شعوبًا من مواضعها، ونقلتها بين أفلاك إمبراطوريتها، لتفكيك عراها القبلية لتكون أسهل انقيادًا. وهي سياسة معلومة قديمة مارستها إمبراطوريات العالم القديم لتهجين شعوبها، وتذويبها في بعضها وتقليم أظافر الشعوب القوية. ومن ثم فإن كريت المينونة يمكن أن تعود إلى أجناسٍ أخرى، خاصة أن تلك الحضارة نفسها قد دونت عن نفسها، أن حضارتها وأصولها تعود إلى ملكٍ أسطوري يُدعى مينوس، قد جاءها مهاجرًا من بلاد الشرق، من مصر تحديدًا، ويعتقد البعض أنه ربما كان هو الملك مينا مؤسس الأسرات المصرية، والدولة المركزية الموحدة.
ويقول «صمويل لانج» في كتابه أصل البشر: «ومن بين النقوش التي عرفت ما يدل على أن سلطة بعض الملوك المعينيين، لم تكن تقتصر على مقر ملكهم الأصلي في الجنوب، لكنها كانت تمتد إلى كل البلاد العربية وإلى حدود مصر وسوريا.»٧
وقد كشفت التنقيبات الأركيولوجية في جنوب جزيرة العرب عن لوحةٍ نذرية، جاءت ترجمتها عند «نادوثي»، في حالةٍ من الخلط مع ترجمةٍ تالية إلى العربية، زادت الأمر سوءًا، مما أجهدنا وقتًا لتحقيق هذا النص المهم على أصوله. لوحة شكر مقدمة إلى الإله «عستر»، الذي ساعد مقدميها على العودة إلى بلادهم مرة أخرى سالمين، وهم يصفون أنفسهم بأنهم رعية الملك المعيني «أبي ياداياتي Abi-Yada-yathi» أو أبي عاطي في ترجماتٍ أخرى. أما الغريب أن هؤلاء العائدين يقررون أنهم قدموا، من حيث كانوا يعيشون حكامًا على بلاد باسم «شور ونهرين».٨
ولأول وهلة يمكن للمطالع أن يتصور قدومهم من بلاد «آشور»، ويغفل عن أنها جاءت بدون همز «شور»، وربما يذهب به ذلك إلى آشور المملكة الكبرى، التي تموضعت بين النهرين دجلة والفرات. لكن قراءة أخرى وفق ما قلناه حتى الآن، يجب أن تذهب بنا إلى بلاد آدوم/نهرين، حيث عرفنا أن «شور» كانت الحد الشرقي لمصر، حيث تموضعت عاصمة الهكسوس، خاصةً أنه في ذات اللوحة نجد إشارة إلى مدينة «غزة»، وإلى حرب نشبت بين المادهي Madhi التي ترجمها فرتز هومل «مديان» وبين المصريين. إن هذه اللوحة في رأينا تسجيل فصيح بطرد الهكسوس من مصر، وعودة بعض عناصر الهكسوس إلى مواطنهم التاريخية، وندعم ذلك فورًا بما ذكره بللييني الذي عاش حوالي ٧٩٩ق.م. أي في زمن قريب من الأحداث، حيث قال: «إن السبئيين كانوا سادة ما بين الخليج الفارسي والبحر الأحمر.»٩

وقد ظل كلام بلليني لونًا من المبالغة، وتعرض لسوء الفهم لزمنٍ طويل، لكن مع بحثنا هذا يتضح أن الرجل كان يسجل حقائق تاريخية بالفعل.

ونتذكر الآن النص الذي سقناه عن حملة «زيد بن حارثة» زمن النبي محمد إلى بلاد مديان على العقبة، وأن كتب السيرة قد ذكرتها باسم «أهالي ميناء» أيضًا، وهو ما حيرنا بعض الوقت، لكن بالرجوع إلى النصوص اليونانية التاريخية نمسك بمفاتيح الفهم، حيث كانت «معين» تكتب Minai، وهو كما هو واضح تلوين لهجوي لقبائل تهمل العين، بالضبط كما كتبها اليونان «ميناي» أو بالعربية «ميناء».
وفي دائرة المعارف البريطانية كتب فرتز هومل، عما جاء في النقوش البابلية بصدد بلاد تحمل اسم «مجان Magan»، ويحكمها ملك باسم «مانيئوم».١٠ كذلك عقب المصرولوجست بدج على أرض مجان، بكونها تحديدًا مناجم حجر الديوريت الفاخر في سيناء.

ولما كانت العربية في لهجاتها كأي لغة سامية بلهجاتها، تخلط بين أو تستبدل الحرفين «ج» و«ي» مثل «جاهوفاه = يهوه»، وبين القبائل العربية اليوم بالجزيرة قبائل تقول «سجادة»، بينما تنطقها القبائل الشرقية «سيادة»، ومثلها فإن «مجان» في نطق، تصبح «ميان» في نطقٍ آخر، التي هي عندنا معان/معين/مينا/ميناء.

أما اسم الملك مانيئوم أو «ماني أوم»، فيجب أن يكون «معاني أوم»، والأوم هو العمود وجمعه أوام، وهو الاسم القديم لبلدةٍ يمنية قديمة تحوي آثارًا عديدة، أهمها الأعمدة أصبحت تحمل اليوم اسم «العمايد»،١١ وكل ما حدث هو استخدام مفردة جديدة تدل على ذات المعنى القديم، وعليه فإن «معاني أوم» ليس اسمًا للملك، بقدر ما هو وصف له أو لقب فهو «عمود معان»، والعمود كما علمنا أحد صفات العمالقة ودلالة الملوكية، كما استنتجنا من لسان العرب في الفصول السالفة.
ومما يؤكد رأينا في كون الساميين قد عرفوا سيناء وحدودها الشرقية باسم مصر، بينما مصر كانت تحمل اسمًا آخر «كيميت/توميري»، وأن الاسم السامي لبلاد النيل هو الذي ساد وانتشر، حتى أصبح دالًّا على مصر الوادي جميعًا «باسم مصر»، إن ذلك قد أدى إلى التباساتٍ في تفسير أحداث التاريخ. ونموذجًا له ما جاء عند المصرولوجت «سايس»، وعقب عليه المؤرخ المصري «عبد العزيز صالح» بقوله: «وهناك رأي غريب وبعيد عن المنطق الزمني والمنطق التاريخي، اعتمد على ما سجله نارام سين عن أحداث عصره، وروى فيه أنه قبض بنفسه على «مانو دانو» ملك «مجان»، وفسرت طائفة من المؤرخين ذلك بأنه قبض على الفرعون مينا مؤسس الأسرات وأول ملوك مصر.»١٢

وهكذا نجد نظريتنا تعيد الأمور إلى صحيحها ونصابها، حيث كانت «مجان» هي «معان/معين» شرقي سيناء وبلاد آدوم، وأنها كانت تعني آنذاك «مصر»، بلاد «موصرى». وعليه فإن الملك الرافدي «نرام سين» يكون قد هزم «مانو دانو» ملك مصر الآدومية، وليس مصر «كيميت/ توميري» المعروفة في وادي النيل.

وما يؤكد ذلك بشدة أن الكلمة «مجان» تعود إلى الجذر السومري MA بمعنى الماء وبمعنى الميناء وأرض السفن، وهو ما يشير إلى شهرة أهل «مجان» في ركوب البحر، وتشهد عليه تماثيل الدلفين المنتشرة في فنون الأنباط، وقد دعم تلك الترجمة نص من أيام الملك «دونجي» ملك «أور» الرافدية حوالي ٢٤٥٠ق.م. يتحدث فيه عن صناع السفن في بلاد مجان. إنه يتحدث هنا عن بلاد بونت القديمة/آدوم في وادي عربة قبل زمن الأنباط الرومي.
أما الأشد إضاءة، فهو أن تصف النصوص السومرية بلاد «مجان» بأنها: جبل النحاس وأرض الدولريت وبلاد الماعز،١٣ وكلها تحيل إلى بلاد آدوم المديانية، حيث مناجم ومصانع النحاس، والأحجار المتميزة عن أحجار الدنيا، وماعز الهكسوس الذي شرحنا بشأنه طويلًا، وهو الماعز الذي تنتسب إليه قبائل عربية، كالقبيلة التي لم تزل تحمل اسم عنزة إلى اليوم، والنسبة إليها «عنزي»، ونجد أفراد قبيلة قديمة باسم معزة تعمل مرتزقة في جيش الرعامسة مع أفراد من بلاد النايري، وهو ما نجده في قول حماد:
وفي عهد الرعامسة الأُول نجد أن الفرقة كانت مكونة من ١٩٠٠ مجند مصري، يعاونهم ٣١٠٠ من المساعدين المتطوعين، وهؤلاء كانوا من الآسيويين من النيارين Nearin، وأصيل اسمهم مشتق من اللفظة السامية نار Naar أي شباب، وكذلك بدو من بدو الصحراء. ومن النوبيين من قبيلة ميزا Meza معزة، ويرى حماد أنهم نوبيون لأنهم سود (ونحن نراهم كوشيي آدوم [المؤلف])، وكانوا يشكلون فرقة الشرطة منذ أقدم العصور … والجنود المساعدون أو المتطوعون مثل الميزاي Mizay، فكانوا تحت قيادة ضباط من شعوبهم.١٤

لقد كانوا المعزيين أو العنزيين، وكانوا في آدوم وليس في الصومال في أفريقيا.

١  المسعودي، التنبيه والإشراف، دار ومكتبة الهلالي، بيروت، ١٩٩٣م، ص٨٦.
٢  رينيه ديسو، العرب في سوريا … سبق ذكره، ص١٥.
٣  إحسان عباس، تاريخ دولة … سبق ذكره، ص٢٣–٢٥، ونموذجًا للحرف النبطي انظر نقش النمارة المدون على قبر امرئ القيس، على غلاف كتاب أبكار السقاف: الدين في الجزيرة العربية، ط١، دار سينا، القاهرة.
٤  فهمي خشيم، آلهة … سبق ذكره، ج١، ص٦٣.
٥  سيد مظفر نادوتي، التاريخ الجغرافي للقرآن، ترجمة د. عبد الشافي غنيم، لجنة البيان العربي، القاهرة، ١٩٥٦م، ص٢٠٩.
٦  نفسه، ص٢١١.
٧  نفسه، ص٢١٤.
٨  نفسه.
٩  نفسه، ص٢١٢.
١٠  الموسوعة البريطانية Vol I, Arab, p. 377, E. A. Walis Budge, Life and History, pp. 177-178.
١١  سيد القمني، النبي إبراهيم والتاريخ المجهول، سينا للنشر، القاهرة، ط١، ١٩٩٠م، ص١٨٤، انظر هناك مزيدًا من المصادر.
١٢  Sayce. A. H, Menes and Naram Sin, J. E. A, 6, 1920, p. 29.
١٣  عبد الحميد زايد، الشرق الخالد، دار النهضة العربية، القاهرة، د.ت، ص١٢٣.
١٤  محمد حماد، كامس … سبق ذكره، ص١٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤