الفصل الأول

العامو أو العموريون: اسم الأحلاف الجامع

في حديثٍ ملتبس يقول لنا المؤرخون: «لقد بينت الدراسات اللغوية للنصوص المسمارية التي اكتُشفت في أرشيف ملك ماري، أن منشأ اليهود قريب من الأموريين، ففي الزمن الغابر اندفعت من منطقة الخليج العربي باتجاه الشمال موجة عارمة من القبائل الأمورية المهاجرة؛ حيث طردت السومريين وشغَلَتْ منطقة ما بين النهرين كلها تقريبًا. ولقد أقام الأموريون على أطلال الدولة الصغيرة التي أخضعوها دُولَهم البعيدة التي ما لبثت أن توحدت كلها في دولةٍ كبرى واحدة، كان حمورابي أعظم ملوكها، وفي زمنٍ متأخر غزت بلاد الرافدين في الشمال قبائل غير سامية الأصل. واضطرت القبائل المطرودة أمامها أن تنزع إلى الجنوب الغربي (أي باتجاه فلسطين وآدوم [المؤلف]) وأثناء هذه الهجرة الجديدة استوطن الآراميون سورية، وسكن الموآبيون والعمونيون والآدوميون في جنوب وشرق أرض غزة، وبعد فترة جاءت إلى هنا قبيلة الإبراهيميين.١
ثم نجد تقاربًا في زمن ظهور الكنعاني والأموري وتُنطق أيضًا عموري، في القول التاريخي «إن الكنعانيين والأموريين الذين ينتسبون إلى ربهم أمورو قد هاجروا من شبه جزيرة العرب إلى الشام عام ٢٥٠٠ق.م. واستقر الكنعانيون في الساحل، بينما استقر الأموريون في الداخل.»٢

ولما كانت الدراسات اللغوية تفيدنا بأن الرافدي وبخاصة الآشوري، كان ينطق حرف «ع» أقرب إلى الهندوآرية «أ»، فإن الإله «أمورو» هو في السامية الغربية «عمورو» أو «حمورو»، أي الحمار، والأحمر. وإليه كإلهٍ انتسب الملك البابلي باسمه «حمورو – أبي» أي «الحمار أبي» أو «الأحمر أبي»، فلا فرق.

والأهم هنا ذلك الاتجاه الذي ينزع إلى تنسيب الإسرائيلي للعنصر الأموري أو العموري أو الحموري. ويبدو أن حرف «م» قد أهملت بالتخفيف في «حموري» لتصبح «حوري»، وظلت الكلمة حوري تحمل معنى كلمة حموري، فهما بمعنًى واحد هو الأحمر والحمار (وربما كانت لكلمة حوري علاقة بكلمة حوذي أي سائس الحمير/ الإشارة من المراجع الدكتور سميح عيد)، وقد ورد في رسائل تل العمارنة إشارات إلى جنوبي بلاد الشام «فلسطين» باسم KHAKHNI وهي ما تعني الصبغ الأحمر القرمزي بدورها، ثم وردت في ذات الرسائل الإشارات إلى القسم الشمالي من بلاد سوريا باسم بلاد «آمورو».٣

ومن جانبٍ آخر نعرف في مختلف الكتابات التاريخية، والكتابات المقدسة التوراتية أن منطقة الشمال السوري كانت بالتأكيد بلادًا آرامية، ومع ذلك تشير إليها الكتابات المصرية باسم «آمورو»، أي أنها كانت بلادًا أمورية أيضًا.

ولا نندهش أبدًا عندما نجد التاريخ ينقسم برجاله على نفسه، فبعد أن قال لنا بعضهم منذ قليل إن الأموريين قد قدِموا من جزيرة العرب، فإن البعض الآخر يقول: «إنهم قد وصلوا حوالي ٢٦٠٠ق.م. مما وراء القوقاز، كما تدل على ذلك أواني الخزف ذات الطابع الجديد، والتي عُثر عليها في خربة كرك (بالرافدين [المؤلف]) … وكانت أقوى موجات هذه الغزوات هي موجة الأموريين … وعلى الرغم من أن الملك شوسن SHU SIN ٢٠٤٨–٢٠٣٩ق.م. كان قد بنى خط دفاع عن بلاد، فإن إحدى الرسائل الموجهة إلى خلفه إبي سين IBBI-SIN ٢٠٣٩–٢٠١٥، تعلمنا أن الأموريين = مارتو MAR-TU بقضهم وقضيضهم قد اخترقوا البلاد واستولوا على قلاعها الكبرى واحدة تلو الأخرى، إن نصوص هذا العصر تترجم هذا الرعب الذي ساد المنطقة أمام أناس لم يكونوا يعرفون زراعة القمح ولا المنازل ولا المدن، وتصف لنا أسطورة زواج أمورو — الإله الذي سُمي باسمه الأموريون — الذي ينبش الأرض بحثًا عن الكمأ في سفوح الجبال، ولا يعرف كيف يثني ركبتيه، ولا يملك بيتًا طيلة حياته ولا يدفن بعد موته، ولم يكن الذعر بأقل من ذلك على الطرف الآخر من الهلال الخصيب، ففي مصر شيد الفرعون أمنمحات الأول ١٩٩١–١٩٦٢ق.م. خطًّا من القلاع الحصينة، هو حائط الأمير الذي يصد (أو حائط الحاكم كما ورد في مصادر أخرى).»
ويحيطنا هؤلاء علمًا أن كلمة «أموري» تعني عند أهل الرافدين عدة معانٍ منها «الغرب»، فالأموريون بالنسبة للعراقيين هم أهل الغرب.٤
وهنا نسمع «كوبر» يحدثنا فيقول: إن تلك القبائل الأمورية اشتهرت في رسائل مدينة ماري باسم SUTIUM، التي ترجمناها من جانبنا السيتيين نسبة إلى الإله سيت، وأنهم عنصر سامي غربي بالنسبة لأهل العراق الساميين الشرقيين، وأن هؤلاء السيتيين قد عبدوا آلهة أهمها: رب الحنطة، داجون ويشكر، أو كما قرأناه نحن إله الحرف المصري «سوكر» أو «شوكاريس» إله موتى مدينة منف، كما عبدوا إلهًا باسم «سومو»، والمحتمل لدينا أنه يشير إلى السلف البعيد المعبود «سام»، كما عبدوا الإله البعل باسمه «حداد».٥
أما مدينة ماري؛ فقد جاء في رسائلها ما يفيد أن هناك معارك طاحنة كانت تدور بين ملك حلب، وبين قوم ذكرهم باسم «بني يمين»،٦ ولا يفوتنا هنا التنبيه إلى أن «بني يمين» اسم يلتقي تمامًا مع اسم السبط الإسرائيلي «بنيامين».
و«بني يمين» تعني في التوراة، كما تعني بالضبط في نصوص ماري: سكان الجنوب، والجنوب هو النقب، وكلمة جنوب تستخدم في الكتاب المقدس للدلالة على النقب تحديدًا، حيث كان المركز الرئاسي للأخلامو/الأحلاف حسب فروضنا، ويرى الباحث «غطاس الخشبة» أن الأموري والحموري لفظ واحد متعدد المعاني، ومن تلك المعاني «الشديد»،٧ والشدة هي العملقة والقوة والجبروت، وكان الإله الإسرائيلي زمن البطرك إبراهيم يحمل لقب «إيل شداي»، أي الإله شداي، وبتخفيف حرف «د» في شداي يصبح «إيل – ستاي» أي الإله ستاي، أو كما ذهبنا نحن: الإله ست.
أما السور الذي بناه «شو – سين» لصد الهجوم الأموري فقد سمي «مورق تدنم»، أي السور الذي يصد الأموريين، وكان طوله ٢٦ بيزو أي في حدود ٢٧٥كم، لصد سكان بوادي الشام وسُمي سكانها الغربيين أو الأموريين،٨ هذا في الوقت ذاته الذي كان المصريون يقيمون على حدودهم الشرقية عند بوادي الدلتا، سورًا مماثلًا باسم «سور الأمير الذي يصد الآسيويين وعابري الرمال».
هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر نجد الكتاب المقدس يحدثنا عن الأموريين، باعتبارهم قومًا ينتشرون في فلسطين غربي نهر الأردن وشرقيه في بوادي الشام، بل في آدوم وفي سيناء، وفي إشاراتٍ كثيرة ومتعددة، نقتطع بعضها هنا، يصف الكتاب المقدس بلاد فلسطين جميعًا كأرض موعودة لبني إسرائيل، يقول الرب لشعبه:

وأنا أصعدتكم من أرض مصر، وسرت بكم في البرية أربعين سنة، لترثوا أرض الأموري.

(عاموس، ٢: ١٠)
ثم يفيدنا أن جبال سينا وآدوم وفلسطين كانت جبالًا أمورية، وذلك في قوله على لسان موسى، وهو يخاطب شعبه في قادش سيناء:

ثم ارتحلنا من حوريب (اسم للجبل المقدس في شبه جزيرة سيناء [المؤلف])، وسلكنا كل ذلك القفر العظيم المخوف، الذي رأيتم في طريق جبل الأموريين كما أمرنا الرب وجئنا إلى قادش برنيع.

(تثنية، ١: ١٩)
وقد سبق وعلمنا أن قادش برنيع تقع أقصى شرقي سيناء على حدود آدوم (عين قديس حاليًّا)، وها هو المقدس يعود ليصف جبال تلك المنطقة السينائية بأنها «جبل الأموريين». وسنجد الكتاب المقدس يصر على ذلك في عددٍ آخر من النصوص، كما في حديثه عن العبور على جبال آدوم، فوردت مرة باسم جبال آدوم كما أسلفنا في نصوصٍ توراتية عديدة، وذات الجبال تأتي هنا مرة أخرى باسم جبال الأموريين، انظر معي إلى موسى يقول لشعبه:

الرب إلهنا كلمنا في حوريب قائلًا: كفاكم قعودًا في هذا الجبل، تحولوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين، وكل ما يليه من العربة (أي وادي عربة [المؤلف]).

(تثنية، ١: ٦)
هذا عدا نصوص عديدة تشير إلى جبال آدوم وفلسطين باعتبارها مسكنًا للأموريين، وعادة ما ذكرت حديثها حول سكن الأموريين الجبال كما في النص:

جميع ملوك الأموريين الساكنين في الجبل.

(يشوع، ١٠: ٦)
ولتحديد موضع ذلك الجبل الذي يسكنه الأموريون نقرأ عن تمرد الإسرائيليين على قائدهم موسى في سيناء بعد الخروج من مصر، وكيف وقف يقول لهم موسى في قادش سيناء:

وقلتم: الرب بسبب بغضه لنا قد أخرجنا من أرض مصر، ليدفعنا إلى أيدي الأموريين لكي يهلكنا. إلى أين نحن صاعدون؟ قد أذاب إخواننا قلوبنا قائلين: شعب أعظم وأطول منا، مدن عظيمة محصنة إلى السماء، وأيضًا رأينا بني عناق هناك.

(تثنية، ١: ٢٧، ٢٨)

النص كما هو واضح — مع النصوص السابقة — يفصح عن الأموريين كشعب يسكن جبال جنوبي فلسطين، وأنه شعب طويل القامة عظيمها، ومدنه محصنة ترتفع نحو السماء، وأن في هذا الجبل يسكن بنو عناق العناقين العمالقة.

ويتكرر النص الذي يحكي عن الموقعة ذاتها في موضعٍ آخر من التوراة، لكنه يستبدل العمالقة باسمٍ آخر؛ إذ يقول موسى وهو يتذكر ويُذكِّر شعبه عند استقرارهم الطويل في محطة قادش سيناء، على تخوم آدوم، محددًا موقع الموقعة على حدود جبال سعير الآدومية:

فكلمتكم ولم تسمعوا، بل عصيتم قول الرب وطغيتم وصعدتم الجبل، فخرج الأموريون الساكنون في ذلك الجبل للقائكم، وطردوكم كما يفعل النحل، وكسروكم في سعير إلى حرمة، فرجعتم … وقعدتم في قادش أيامًا كثيرة كالأيام التي قعدتم فيها.

(تثنية، ١: ٤٣–٤٦)
وفي زمن الفرعون المصري ستي الأول، نشاهد ضمن المنحوتات البارزة في معبد الكرنك (في طيبة/الأقصر حاليًّا)، مشهدًا يصور حِصاره لمدينة قادش العاصي، ويشير إليها باسم البلاد الأمورية حيث دون تحت النقش نصًّا يقول: «صعود الفرعون لتدمير قادش وبلاد أمورو»، وقد تم العثور هناك على حجرٍ تذكاري للفرعون سيتي يؤكد صدق المدون الطيبي.٩
وسيرًا على خطِّنا نعود إلى لغة العرب، نستنطق لسانها ما حواه من ذكريات الماضي وحفائر المعاني الدارس منها والباقي، حول شأن بلاد آدوم الحورية الكوشية الآرامية الأمورية (أو العمورية أو بني عمرو) السوداء الحمراء البيضاء، بلاد المعز والخيل، ومدينتها الثانية حويلة العريشة، ومدينتها الأولى المنبسطة في سهلٍ تحرسه أعلام سعير باسم الصخرة، بأيكها المضيء وثعابينها الطائرة وطيورها العنقاء ووحشها المعبود عناق البونتي، الذي انتسب إليه عمالقتها بالنسب والبنوة، فنجد في لسان العرب، ونحن نبحث عن الحوريين تحت مادة حرر:

الحرة: هي التي أعلاها سود وأسفلها بيض، والحر: حية. وزعموا أنه الأبيض من الحيات. والحر: طائر. وحر: زجر للمعز.

وتحت مادة حور نقرأ:

الحور: أن يشتد بياض العين وسواد سوادها، والحور: شدة سواد المقلة في شدة بياضها. وقال كراع: الحور أن يكون البياض محدقًا بالسواد. والأحوري: الأبيض الناعم. والحور: الأديم المصبوغ بحمرة. وقال الجوهري: الحور جلود حمر. والحائر المكان المطمئن يجتمع فيه الماء، فيتحير فلا يخرج منه. وتحيرت الأرض بالماء: إذا امتلأت. وطريق مستحير يأخذ في عرضه مسافة لا يدري أين منفذه. والحارة: كل محلة دنت منازلهم فهم أهل حارة. والحير بالفتح: شبه الحظيرة.

هكذا تحمل كلمة «حور» في طيات حفرياتها الدلالية ذكريات أيام أوائل، ونحن نعلم أن العربية تطورت عن النبطية التي تطورت بدورها عن الآرامية، وأنها جميعًا تداخلت مع لغات المنطقة وبخاصة المصرية؛ لذلك نجد مادة حور تعطينا الأحمر أو الأبيض مع الأسود دومًا، ثم الحور هو الأديم، والأديم هو تراب الأرض الأحمر، ومنها جاء اسم بلاد آدوم، والحائر هو مكان البحيرات الناتجة عن عيون، ونلاحظ أن بحر وبحيرة ذات علاقة واضحة بالحر وبالحور، ثم الحير هو الحظيرة أو العشيش أو العريش.

ووراء آدوم موطن الأحلاف الذين توافقوا واتفقوا ما بين زنجي وأحمر وأسمر عند شجر الأيك في جبلٍ عظيم هو سعير بجواره واد عظيم هو عربة، موطن الآرامي والعموري أو بني عمرو، نتابع البحث في لجج وثراء اللسان العربي، فيفصح تحت مادة أدم:

الأدمة: القرابة، وقيل الأدمة: الخلط، وقيل: الموافقة، والأدم: الألفة والاتفاق. قال الكسائي: يؤدم بينكما؛ يعني: أن تكون بينهما المحبة والاتفاق. والأديم: الأحمر. وأديم النهار: بياضه. والأدمة: السمرة. قال ابن سيده: الأدمة في الإبل لون مشرب سوادًا وبياضًا. والأدمة في الإبل: البياض مع سواد المقلتين، قال: وهي في الناس السمرة الشديدة. والآدم من الظباء: بيض تعلوهن حدد فيهن غبرة. فإن كانت خالصة البياض؛ فهي الأرام. والأدمة هو الأبيض والأسود المقلتين. والإدمان شجرة. الإيدامة: الأرض الصلبة. قال ساعدة بن جؤية:

كأن بني عمرو يراد بدارهم
بنعمان راع في أديمة معزب

يقول: كأنهم في امتناعهم على من أرادهم، في جبل، وإن كانوا في السهل.

figure
شكل رقم «١٢٦»: خريطة فلسطين وفق التقسيم التوراتي.

وهكذا أصبحت أدوم تاريخًا يشتق منه معاني اختلاط الناس ببعضهم، وموافقتهم واتفاقهم وقرابتهم، وأن الأديم يعني الأحمر والأبيض والأسود، لكنا نرتكز على اللسان وهو يمنحنا تأكيده أن البيض بين هؤلاء كانوا الآراميين لقوله: «فإن كانت خالصة البياض فهي الأرام»، وهو ما سنحاول التيقن منه لاحقًا. أما بنو عمرو العموريون؛ فقوم أشد منعة من بقية الناس؛ لأنهم يسكنون في سهلٍ يمتنع بالجبال.

ووراء الأموري نبحث في اللسان تحت مادة أمر فيقول:

الأمر معروف، نقيض النهي. والأمير: ذو الأمر، والأمير: الآمر. قال أبو عبيدة في قوله «مهرة مأمورة»: أنها كثيرة النتاج والنسل. يقولون: أمر الله المهرة؛ أي: كثر ولدها وأمر القوم أي كثروا. والأمر: الصغير من الحملان. والأنثى إمره، وقيل: هما الصغيران من أولاد المعز. قال ثعلب: رجل إمر قال يشبه بالجدي، والأمر الحجارة واحدتها أمرة. والأمر بالتحريك: جمع أمرة، وهي العلم. والأمرة: الرابية. قال ابن شميل: الأمرة مثل المنارة فوق الجبل، عريض مثل البيت وأعظم، طوله في السماء أربعون قامة، صنعت على عهد عاد وإرم. والتامورة عريشة الأسد، وقيل أصل هذه الكلمة سريانية.

وهكذا ورثت لغة العرب اقتران السيادة بالأموريين، والتي احتسبناها سيادة هكسوسية في إمبراطوريةٍ عظمى، وأن من معاني الأموري كثرة النسل، وأنه له علاقة بالماعز والجدي، وأنها تعني الحجارة، ولمزيدٍ من الإيضاح يذكر العرب أثرًا فوق علم (جبل) عريض كالبيت، يرتفع في السماء أربعين قامة (فهل يكون ذلك مطابقًا لأم البيارة في البتراء؟)، وأن ذلك الأثر صُنع منذ عهد عاد وإرم، ثم يكرر أن من معانيها العريش، وأن أصل الكلمة سريانية، أي آرامية.

ولأن الأموري هو العموري، نقرأ تحت مادة «عمر»:

عمري الشجرة القديمة: وقيل: هو العبري من السدر، والميم بدل، قال الأصمعي: العمري والعبري من السدر القديم. يقال للسدر العظيم النابت على الأنهار: عمري وعبري على التعاقب. والعمار والعمارة كل شيء على الرأس من عمامة أو قلنسوة أو تاج، والعمار الآس. وقيل: كل ريحان عمار. والعمارة: القبلية والعشيرة. والعوامر: الحيات. والعومرة: الاختلاط. واليعمور: الجدي. والعمر: ضرب من النخيل هو السحوق الطويل. وأم عمرو وأم عامر هي: الضبع. يقال للضبع أم عامر، كأن ولدها عامر.

وهكذا يصل ثراء ما تحفظه مورثات جينات اللغة حدًّا، احتوت معه أسماء بطون القرابات، فالعموري هو العمري؛ ولأن الميم تختلط بالباء فهو العبري «والعبريون — حسب التوراة — هم قبيلة إسرائيل»، وأن لهؤلاء العموريين ميزة التاج أو السيادة والقلنسوة. وسنرى فيما بعد أهمية تلك القلنسوة الأمورية، ثم إن لهم علاقة بالآس، ولعلنا لم ننسَ بعدُ الآس والإله آش، ثم إن من معاني الاسم «عموري» اختلاط الناس ببعضهم أحلافًا، وأن لهم علاقة بالجدي والماعز، وبالعملقة لأن العمر نخل طويل، وأم عمرو هي الضبع، وهو ما يستدعي عناق البونتي ذا الوجه الضبعي، وأن العموريين ينتسبون إليه كأنهم أولاده، فالعموريون يعبدون ربًّا أشبه بالضباع تسموا باسمه.

وللمزيد يفيدنا «ابن قتيبة» بقوله عن سلف قبيلة سبأ المعروف باسم سبأ، وعرفناه نحن أنثى اسمها الزباء أو الملكة سبأ، فيقول: «واسم سبأ عامر».١٠ وفي مادة ضبع يقول لسان العرب:

ضبعت أسرعت، وفرس ضابع شديد الجري، والضبع الجور، وفلان يضبع أي يجور. والضبع: ضرب من السباع أنثى. وفي قصة إبراهيم عليه السلام وشفاعته في أبيه، فيمسخه الله ضبعانًا أمدر، والضبعان ذكر الضباع. وجار الضبع المطر الشديد.

ولنلحظ هنا عبارة «شديد الجري»؛ لأنها ترتبط بفصلٍ آتٍ عن الشاسو، أما الأهم فهو أن يظهر لنا إبراهيم الآرامي العبري، من نسل رجل مُسخ ضبعًا فهو ابن الضبع، أو هو من نسل عناق البونتي.

ولنتأمل الآن صورة الإله ست التي رسمها المصري القديم، ولا ننسى أن عم تعني قوم، وبالنسبة إلى عناق يصبح المنتسب إليه ابن عناق أو عناقيًّا، وقد عرفنا أن العناقيين هم العمالقة.

وفي التوراة نجد الجبل الذي عبره الخارجون من مصر تحت قيادة موسى يسمى جبل الأموريين، وفي مواضع أخرى بالتوراة يسمى هو ذاته جبل العمالقة، ففي رحلة الخروج يقف موسى في قادش بسيناء يخطب في رجاله قائلًا:

ثم ارتحلنا من حوريب، وسلكنا كل ذلك القفر العظيم المخوف، الذي رأيتم في طريق جبل الأموريين … وقلتم الرب بسبب بغضه لنا أخرجنا من أرض مصر، ليدفعنا إلى أيدي الأموريين ليهلكنا.

(تثنية، ١: ١٩، ٢٧)
وفي قاموس الكتاب المقدس تحت مادة عمالقة نقرأ:

وكان العماليق يتجولون من مكانٍ لآخر، وكان مجال تجولهم وسيعًا، من حدود مصر إلى شمال العربية إلى بادية فلسطين (صموئيل أول، ١٥: ٧ و٢٧: ٨) … وآخر ذكر لهم كان أيام حزقيا الذي طارد دخولهم من جبل سعير (أخبار أيام أول، ٤: ٤٣).

وتحت مادة جبل العمالقة يقول القاموس:

جبل العمالقة كان من نصيب إفرايم، وقد حمل اسمه نسبة إلى العمالقة الذين سكنوه (قضاة ٥: ١٢، ١٥).

لكن عنصرًا من بينهم وصف بالعملقة، لا شك أنه كان القادم من إفريقيا السوداء، أو هجينًا منهم ومن أهل جنوب الجزيرة.

لقد كانت بلاد آدوم كما قلنا وأكدنا وزدنا وأعدنا، موئلًا لجماعاتٍ وعناصر جنسية متباعدة، فكان فيها الكوشي العملاق الزنجي، ثم كان فيها الحامي المصري القادم بالضرورة عبر سيناء في صلاتٍ دائمة، ثم كان فيها الآرامي القادم من شمال الرافدين وبلاد أرمينيا عند أرارات، وهو الشعب الذي أولد بني إسرائيل من بعد، ثم ذلك القادم من جنوبي الجزيرة الحميري، والذي ربما اختص باسم العامو أو العموريين العمالقة، قبل أن يصبح اسمًا عامًّا يُطلق على جماعة الأحلاف.

(انظر الشجرة الربة الإلهية في مصر القديمة، الشكل رقم «٩٥، ٩٦».)

ملحق

إبان مراجعة بروفات الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وكانت بروفة هذا الفصل بين يديَّ أضفت هذه الفقرات، بعد أن طالعت بصحيفة الأهرام القاهرية بتاريخ ١٩٩٧/١١/١٢م الخبر التالي، وقد رأيت أن أضعه كما هو «بالتصوير»:

figure
شكل رقم «١٢٧»: والخبر إذ يؤكد ما قلنا حتى الآن، فإن القول بمجيء الإسرائيليين الآراميين من أرمينيا، قد سبق ووصلنا إليه في كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول» المنشور في طبعته الأولى بتاريخ ١٩٩٠م عن دار سيناء بالقاهرة، قبل أن تكتشفه تلك الدراسة الفرنسية بسبع سنين.
١  زينون كاسيدوفسكي، الأسطورة … سبق ذكره، ص٥٧.
٢  يوسف سامي، تاريخ فلسطين … سبق ذكره، ص٢٥.
٣  أحمد سوسة، العرب واليهود … سبق ذكره، ص٩.
٤  روجيه جارودي، فلسطين أرض … سبق ذكره، ص٧٥، ٧٦.
٥  Kupper, Les Nomades en mesoptamie au Temps der rois de rori, 1957.
انظر أيضًا: طه باقر الوجيز … ص١٤٠.
٦  علي القيم، المرأة في حضارات بلاد الشام القديمة، الأهالي دمشق، ١٩٨٧م، ص٩١، ٩٢.
٧  غطاس الخشبة، رحلة … سبق ذكره، ص٧٨.
٨  طه باقر، الوجيز … سبق ذكره، ص٣٩٢.
٩  Wilson. J. A., Egyptian Historical textes in James Pritchard Ancient Near Eastern Textes, p. 27.
١٠  ابن قتيبة، المعارف … سبق ذكره، ص١٠١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤