الفصل الرابع

إسحاق و«الإله الضحاك»

إبَّان بحثنا بدَتْ لنا بعضُ الغوامض التي يمكنُ بحلها أن تلتقي نتائجُها مع ما قلنا حتى الآن وتؤكده؛ ناهيكَ عن كونِ هذا الحلِّ يفسر لنا علاقةَ بني إسرائيل بالهكسوس بتوضيحٍ أكثر إضاءة وإدهاشًا. كما أن بعض الغوامض التي سنتناولها ستعطينا مزيدًا من الأدلة على مدى تغلغل العقائد المصرية في العقائد الإسرائيلية من بعد، مع غرض رئيسي من هذه المباحثات يهدف إلى ربط كل ما وصلنا إليه بما هو آتٍ، خاصة ما تعلق بعلاقة النبي موسى والخروج الإسرائيلي من مصر، بكل هذا الرتل من تلولٍ معلوماتية، جهدنا وراءها زمنًا طويلًا حتى الآن.

وبين أبرز هذه الألغاز المطلوب حلها، هو ما ترويه لنا التوراة حول البطرك إبراهيم، الذي شاخ هو وزوجته سارة، لكن إرادة الله كانت أن ينجبا ولدًا يكون أبًا لنسلٍ كثير، ذلك النسل الذي سيأتي من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ويعقوب هو الذي أسماه الله إسرائيل، ونسله هم «بنو إسرائيل».

ولتحقيق الخطة الإلهية ذهب الرب ليقابل إبراهيم، ويشكو له مما وصل إليه شعب يعيش في مدينتين من المدن الخمس (بنط بوليس) لبلاد آدوم من تدنٍّ خُلقي، إذ يأتون الرجال دون النساء شهوة، ويتعشقون الصبية المُرد، وينفرون من الغيد الحسان. وإبان الحوار الذي دار بين الرب وخليله، حول رغبة الرب في القضاء المبرم على مدينتي عاد وثمود أو عمورة وسدوم الآدوميتين، يخبر الرب خليله بقرار الميلاد العجيب لإسحاق بن إبراهيم: حين يقول الرب لإبراهيم:

أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي داخل الخيمة، فقال: إني أرجع لك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن، وكانت سارة سامعة في باب الخيمة وهو وراءه، وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام، وقد انقطع أن يكون لسارة عادة (حيض [المؤلف]) كالنساء، فضحكت سارة في باطنها قائلة: أبعد فنائي يكون لي تنعم؟ وسيدي قد شاخ؟ (أي إبراهيم [المؤلف])، فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة، ويكون لسارة ابن، فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك لأنها خافت، فقال: لا! بل ضحكت.

(تكوين، ١٨: ٩–١٥)
ومع استمرار القراءة يخبرنا الكتاب المقدس أن سارة قد ولدت في شيخوختها طفلًا:

ودعا إبراهيم ابنه المولود له الذي ولدته له سارة: إسحاق. وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه، وقالت سارة: قد صنع إلي الله ضحكًا، كل من يسمع يضحك لي.

(تكوين، ٢١: ٣–٦)
وهنا ننقل السمع إلى مصادر أخرى، فننصت إلى روايات المسلمين من أصحاب السير والأخبار وقصص الرسل والأنبياء، يحيطوننا علمًا نافعًا يقول:
قال السدي: قالت سارة لجبريل عليه السلام (استبلدت الرواية الإسلامية الإله بجبريل [المؤلف]) لما بشرها بالولد على حالة الكبر: ما آية ذلك؟ فأخذ بيده عودًا يابسًا، فلواه بين أصابعه فاهتزَّ أخضر. وقال مجاهد وعكرمة: فضحكت أي حاضت في الوقت. وتقول العرب: ضحكت الأرنب على الصفا إذا حاضت. وقال السدي وابن يسار وغيرهما من أهل الأخبار: فحملت سارة بإسحاق.١

والعارف بالتوراة لا شك يعلم دأبها على ربط أسماء المواليد (خاصة في العصر البطريركي من إبراهيم إلى موسى)، بأسماء مواضع جغرافية ومدن، أو أن يحمل اسم المولود دلالة على حدثٍ هام أو نادر قد حدث إبَّان ولادته أو ما أشبه، فيعقوب سمي يعقوب؛ لأنه وُلد ممسكًا بعقب شقيقه التوءم عيسو، وسمي يعقوب عندما كبر باسم إسرائيل؛ لأنه صارع الله (إيل)، وعيسو حمل اسمًا ثانيًا بدوره هو آدوم؛ لأن لون عيسو وشعره كان بلون الأدمة، أي لون الأرض الحمراء، أي لون الدم أو الشقرة. وفي الأدمة شق تركيبي موروث هو «دم». وبنيامين بن يعقوب سمي كذلك؛ لأنه ابن اليمين أي الجنوب، فكان الناس يتوجهون لمشرق الشمس لتحديد الجهات الأصلية، فيكون الجنوب إلى يمينهم.

ورواية التوراة هنا تحاول أن تبلغنا بسر تسمية إسحاق ومعنى هذا الاسم، لكن على سرعةٍ وعجل يتسم بالغموض، فيأتي أهل الأخبار من مؤرخي الإسلام؛ ليجلوا لنا المعنى ويوضحوه. فقد كانت سارة عجوزًا قد انقطع حيضها، فلما أراد الله لها الحبل ضحكت؛ أي حاضت على الفور، تهيئة لقبول أعضائها لممارسة عملية الحمل والولادة.

فالضحك هو ضحك الفم والأسنان، لكنه أيضًا ضحك الفرج أي انفتاحه، فالفم والفرج ينفتح كلاهما عند فعل الضحك أو الحيض. ولأمر معلومٍ لدى دارسي الأساطير القديمة لا بد أن يحيل هذا الإله إلى أرباب الخصب والخضرة؛ فقد كانت آلهة الخصب القديمة هي المسئولة عن نمو المحصول وعن الري، أي عن ولادة الأرض، وعن خصب الحيوان وزيادة نسله كذلك الإنسان. وتحفظ لنا القصة الإسلامية رمز ذلك الإله المخصب في العود اليابس، الذي تحول في القصة إلى عودٍ أخضر، كلونٍ من الإعلان الواضح عن الفعل المطلوب، وهو ممارسة خصبية تؤدي إلى ميلاد إسحاق، الذي ارتبط اسمه بالخصب والضحك ودم الحيض.

وكان معلومًا في تلك الأيام الغوابر أن الدم هو المكون الأساسي والمادة الخام للحياة وخصبها لتكوين الجنين؛ إذ لاحظ الإنسان الابتدائي اختفاء دم الحيض مع الحمل، فربط بين اختفاء الدم والولادة، واعتبر احتباس دم الحيض؛ لأنه يشكل ويبني الجنين، واعتبر الدم معامل الحياة المشترك لكل شيء؛ لذلك كان اختفاؤه النهائي يعني توقف الخصب، وامتناع المرأة عن منح الحياة والولادة.

وفي الفصول السابقة سبق وحددنا إلهًا يعد أهم آلهة الأقوام السامية، ومنهم الهكسوس والإسرائيليون الذين تمركزوا شرقي الدلتا المصرية، هو سيت المصري المتحد ببعل رب الخصب السامي. وقد شهدنا له عدة تجليات، كما في الحية وطائر الفينيق وفي حيوان عناق البونتي، وهنا يكشف الإله عن تجلٍّ جديد، سيرتبط وشيكًا بعد فقراتٍ بإسحاق.

وتقول لنا الأساطير المصرية: إنه من راس سيت — والرأس محل الحكمة والعقل — انبثق الإله تحوت، الذي ينبغي أن ينطق سليمًا (ضحوت Tcheuti) إله مدينة الأشمونين عاصمة الإقليم الثامن بمصر الوسطى. ويبدو أنه كان إلهًا حديثًا بالإقليم؛ لأنه اندمج هناك عند ظهوره بربٍّ قديم للإقليم يحمل اسم «ح ض – و ر»، وكان «حضور» يمثل في رمزين: الأول طائر البلشون/الفينيق IBIS أبي قردان، والثاني هو قرد البابون، لكن هذه الآلهة نفسها رغم صعيديتها؛ فهي ذات منشأ دلتاوي.٢
وما يعنينا هنا هو أن أهم رموز وتجليات الإله «ض ح – و ت» كان القمر، فهو رب القمر، لكنه أيضًا كان ربًّا شمسيًّا؛ لذلك لقبه المصريون القدماء بلقب «سيد الزمان وحاصي السنين»، كذلك كان حامي الكتَّاب والمفكرين، باعتباره مخترع الكتابة في الأساطير. وقد ربط اليونان بينه وبين معبودهم «هرمس Hermes» أو «إرمس» الذي يعود للإسم «إرم» أي الإرمي، واعتبروا ضحوت هو الصورة المصرية للإله هرمس الأرمي، وقد صور المصريون ضحوت إما في صورة رجل برأس أبي قردان (الأيبس)، أو بصورة أبي قردان الكاملة، أو بصورة قرد يضع فوق رأسه قرص القمر في حالة الهلال، يضم بداخله صورة قرص الشمس، مما يؤكد قمرية ضحوت وشمسيته معًا.
figure
شكل رقم «١٤٤»: ضحوت الضحاك إله شمسي قمري يحمل الهلال والشمس فوق رأسه مع طائر الأبيس أو الفينيق.
وكما اعتدنا في عملنا هنا، نعود إلى لسان العرب نبحث عما تركه الزمان متضمنًا داخل معاني المفردات، فنجد الجذر «ضحا» في العربية، هو من طلوع الشمس وارتفاع النهار، لكن الكلمة تُقال أيضًا عن القمر وطلوعه؛ إذ يقول العرب: ليلة ضحياء وإضحيانة أي ليلة مقمرة لا غيم فيها، كما سميت الضحية كذلك؛ لأنها تذبح عند الضُّحى. وفي القرآن الكريم آيات تقسم بظواهر الكون ومنها: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، حيث قرنت الآيات بين الليل والضحى، مما يشير إلى أن الضحى المقصود هنا هو القمر، وبالقلب تصبح «وضح» والثنائي منها «و ض» و«وضأ». و«الوضح» في لغة العرب هو بياض القمر كما هو بياض الصبح.٣
وللمزيد من أجل جمع معانٍ تزيدنا إيضاحًا ووضوحًا، نجد قرد البابون على وجه التحديد هو الرمز المصري القديم للإله ضحوت، دون بقية أنواع الفصيلة القردية. ويسمى في الإنجليزية الوسيطة Babewin والفرنسية القديمة Babuin من اللاتينية الوسيطة Babewynus، لكن المعجم هنا يقدم لنا تقريرًا حول الكلمة موجزًا يقول: وأصل هذه الكلمة مجهول. هنا يذهب الباحث علي خشيم ببراعةٍ نادرة إلى أن تلك الكلمة لها أصل واضح في العربية، فهي مأخوذة من مأمون/ميمون. ويدعم هذا التخريج أن مونتجومري وات يقول: إن معنى Baboon هو سعيد أو محظوظ Lucky. الميمون في العربية هو المبارك أو المحظوظ. وفي العربية نجد الشق الأول من اسم الإله القردي بابون القمري «ضحوت» هو «ض ح»، وهو مقلوب الشق الأول من الإله الذي اندمج معه «ح ض. و ر»، والشق «ح ض» هو بلا خلاف «ح ظ» والحظ يعني السعد واليُمن، ثم إن العربية تسمي قرد البابون «سعدان» من السعد، وميمونًا من اليمن التي تلتقي مع بلاد اليمن بلاد السعد، أو كما سميت «العربية السعيدة». ولم تزل بلاد اليمن إلى يومنا موئلًا للقرد أو سعدان البابون، الذي ينتشر فيها انتشارًا واسعًا، كما لم يزل ينتشر من مواطن ثقيف بالطائف حتى اليمن جنوبًا.
والاصطلاح العلمي الذي يطلق على هذا القرد كتبته اللاتينية: Cyno-Cephauls Hamedryas، وعلى الفور تلحظ أن المقطع الأول Cyno في اليونانية Kuno أي كلب، ثم المقطع الثاني من الكلمة Cephalus وتعني رأسًا، لتصبح الكلمة جميعًا تعني: القرد الكلبي الرأس، وهي الصفة التي تطابق تمامًا قرد البابون، فرأسه أقرب إلى رأس الكلب، أو ربما الضبع.
ويزداد ترابط هذا المعبود الكلبي الرأس بالكلب، عندما نتذكر ملحوظة استرابون عند زياراته لمصر؛ إذ لاحظ أن في مدينة مصرية اسمها اليوناني كينوبوليس، أي مدينة الكلب، كانت تتم عبادة الإله أنوبيس رب الموتى الكلبي، وأنه كانت تُقام هناك مأدبة مقدسة للكلاب، كما لاحظ أن أهل بابليون (منطقة جنوب شرقي القاهرة [المؤلف])، في زمانه كانوا يعظمون الكيبوس وهو القينوقفالس Cyno-Cephalus/القرد الكلبي الرأس.٤
والطريف أن نجد قرد البابون/ ضحوت رب الحكمة، يرتبط تمامًا بمعبود البوادي السامية «ست»، فهو قد خرج من رأسه، ثم نستمع إلى بلوتارك يقول: «ويسمى توفون «الاسم اليوناني لرب الشر المصري سيت» سيت بابون Bebon وسمو Smu وفوق ذلك يسمون الحديد عظم توفون كما ذكر مانيتون.»٥
وهكذا فإن الإله المتعدد الأسماء «سيت/تيفون/بعل حداد/بعل صافون»، يأخذ لقب «سيت بابون»، أي سيت القرد البابوني، وكان له لقب آخر هو «سموه» علامة على السيادة والسلطان. أما الأكثر إضاءة فهو ربط هذا المعبود في عبارة بلوتارك العابرة بموطنه في بلاد مديان، حيث كان القينيون صُناع الحديد، الذي هو في الأسطورة عظام سيت/تيفون. والطريف أن نصوص مصر القديمة كانت تشير إلى الطوائف السامية من الخابيرو/العبيرو بالكلاب،٦ أما العابيرو فكان يصفون أنفسهم بها، وهو ما يرجح أنها كانت صفة مستحبة تيمنًا بالمعبود،٧ لكننا نجد اسم الإله المصري القردي ح ض. و ر Hd. Wr لقبًا أكثر منه اسمًا، وهو ما يفضي إلى ما نقصده مع الإله الضحاك، فالكلمة ح ض. و ر تترجم على التدقيق بالأبيض العظيم «ح ض = أبيض + و ر = عظيم»، فهل يمكن أن يسعفنا لسان العرب في فهم سر تلك التسمية الغريبة تمامًا؟ إن مادة «حضأ» تقول: «حضأت النار التهبت، وحضأت النار سعرتها، وحضو النار تحريك جمرها»، وهو ما يشير إلى طبيعة البابون الشرسة الحادة، خلافًا لبقية الفصيلة القردية كالشمبانزي والنسناس مثلًا.٨
والكلمة «ح ض» أي الأبيض تطابق العربية «ح ي ض» «حيض» دون التباس، لكنها بالقلب تصبح «ض ح» لتشكل الشق الأول من اسم ضحوت، والثلاثي من الثنائي ض ح هو ضحك، أما ضحوت نفسها فهي كلمة واحدة متكاملة، هي ضحوك، أو هي الضحاك، وتحت مادة «ضحك» نقرأ في لسان العرب:

ضحك: الضحك معروف. ضحك يضحك ضحكًا. وفي الحديث يبعث الله السحاب فيضحك أحسن الضحك. وضحكت الأرض: إذا أخرجت نباتها وزهرها. والضاحكة كل سنة من مقدم الأضراس مما يندُّ عند الضحك. والضاحكة السن التي بين الأنياب والأضراس وهي أربع ضواحك. والضواحك الأسنان التي تظهر عند التبسم. والضحك الثغر الأبيض. والضحك الثلج، والضحك أيضًا طلح النخل حين ينشق، وقال ثعلب: هو ما في جوف الطلحة. وضحكت النخلة وأضحكت أخرجت الضحك. وضحكت المرأة إذا حاضت، وبه فسر بعضهم قوله تعالى: فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ، وأنشد تأبط شرًّا:

تضحك الضبع لقتلى هذيل
وترى الذئب بها يستهل

قال أبو العباس: تضحك هنا تكشر، وذلك أن الذئب ينازعها على القتيل، فتكشر في وجهه وعيدًا. قال ابن سيدة: وضحكت الأرنب إذا حاضت، قال:

وضحك الأرنب فوق الصفا
كمثل دم الجوف يوم اللقا

يعني الحيض فيما زعم بعضهم. وقال ابن الأعرابي في قول تأبط شرًّا: تضحك الضبع لقتلى هذيل؛ أي إن الضبع إذا أكلت لحوم الناس أو شربت دماءهم طمثت. وقد أضحكها «أي أطمثها الدم»، وقال الكميت:

وأضحكت الضباع سيوف سعد
لقتلى ما دُفنَّ ولا ودينا

أراد الشاعر أنها تكشر لأكل اللحوم. وقيل: معناه أنها تستبشر بالقتلى إذا أكلتهم فيهر بعضها على بعض، فجعل هريرها ضحكًا، وقيل: أراد أنها تسر بهم، فجعل السرور ضحكًا.

وقال الأخطل فيه بمعنى الحيض:

تضحك الضبع من دماء سليم
إذ رأتها على الحداب تمور

والضحوك من الطرق: ما وضح واستبان. والضاحك: حجر أبيض يبدو في الجبل، والضحوك: الطريق الواسع. ويقال: إن القرد يضحك إذ صوت. والضحاك بن عدنان، زعم ابن دأب المدني أنه هو الذي ملك الأرض.

وعليه فإن الضحك هو الجلاء والوضوح والبيان، وظهور الثنايا من الفرح واتساع الطريق، وله علاقة وطيدة بخصب الأرض والزرع والحيوان كالأرنب والضبع، وكذلك بخصوبة الإنسان، والقرد يضحك إذا كشر عن أنيابه هياجًا أو سرورًا، ولقب القرد في مصر القديمة «ح ض»، وتعني الحضاء أو البسام، وتضاف لها «ور = كبير»، فيصبح: الضحاك الكبير. وهو بالضبط ما تعنيه عبارة «الأبيض الكبير»؛ لأن الضحك يكشف عن بياض الأسنان ويبين عنها، واتساع الطريق يشير إلى اتساع أعضاء المرأة عند الحيض.

ونموذجًا لذلك كمثالٍ آخر نجد ضمن آلهة مصر القديمة، إله السمك «سمك» أو «سبك» وهو التمساح، ونجد اليوم قرية من أعمال المنوفية لم تزَلْ تحمل اسمه؛ فهي «سبك الضحاك»، مما يشير إلى أنه قد حمل صفة الضحاك؛ لأن التمساح يفتح فمه ساعات طويلة؛ ليفصح عن أسنانه البيضاء.

وهكذا نجد نظريتنا تتدعم بجديدٍ، يؤكد صحة ما وصلنا إليه في الفصول السابقة، فاللغة العربية أكثر ما خصت الضبع بالضحك وبالحيض، ولعلنا لم نزَلْ نذكر عناق البونتي الشبيه بالضباع، وكيف قرنه لسان العرب بتصويت القرد «ضحوت»، وضحوت هو البابون ذو الرأس الضبعي، كما لو كان قردًا قد مسخ ضبعًا أو العكس، ناهيك عن الشبه الواضح للقرد بالإنسان. وهو ما انعكس في اعتقاد عن مسخٍ آخر هو مسخ البشر إلى قردة. ونتذكر أيضًا طائر الفينيق آكل الحيات القادم من بلاد العنز العربية؛ لأن الأبيس أبا قردان المصري يسمى في الأقطار العربية «أبو حنش، أبو منجل، حارس، عنز»، واللاتينية تسميه Ibis religiosa أو Sacred Ibis أي أبيس المقدس. وهذه الفصيلة بالتحديد من نوع طيور أبي منجل «أي أبي قردان»، قد أطلقت عليه المصرية القديمة الاسم «ﻫ ب H B»، وأخذتها اليونانية وصرفتها اسميًّا، فاسمه «ﻫ ب ي س» أو «أبيس»، وهنا لا بد أن نتذكر أيضًا إله الريح «هبا» وزوجته «هيبات». وأبو منجل طائر يسابق الريح، ولونه أبيض واضح، و«هب» تعني ما يعنيه اسم ضحوت (البياض)؛ لأن من كلمة هب تأتي كلمة «هبهب»، والهبهبة هي البياض والصفاء والبيان، ويقال في لسان العرب: هب النجم إذا طلع (ﻫ ب)، وهي على النسبة Hby. والطريف أن المصري لا يسمي صوت الكلب نباحًا، ولم يزل حتى اليوم يربط «هب» بالفصيلة الكلبية، مُبقيًا على الصيغة المصرية القديمة، فهو يطلق على نباح الكلاب «هبهبة» الكلاب.

هكذا يمكننا أن نفهم السر وراء اعتبار المصري للقرد البابون وطائر أبي قردان معًا، رغم تباعدهما النوعي بين الأحياء، رمزين للإله ضحوت.

figure
شكل رقم «١٤٥»: الأبيس ضحوت/هبني/أبو قردان/الفينيق.
figure
شكل رقم «١٤٦»: ضحوت من تل العمارنة زمن إخناتون، وأمامه الكاتب جالس القرفصاء؛ تعبيرًا عن كونه رب الحكمة والكتابة/المتحف المصري.
ولمزيدٍ من الفهم سنجد أن الكلمة المصرية القديمة HBY، قد أدت إلى «ﻫ ب ن ي Hbny» و«ﻫ ب ي ن Hbyn» كما عند بدج، ونقلتها اليونانية إلى لغتها في الاسم أبينوس أو هبينوس Ebenos أي أبنوس، وهو الخشب الأسود الصلب. وبهذا الشكل يكون بالمسألة خلل؛ لأن الأبنوس أسود بينما أصل الكلمة المصرية يعني الأبيض الناصع. هنا يقول معجم أوكسفورد: إن الكلمة الإنجليزية ebony تعني أبنوس. لكن المعجم يستمر شارحًا، فيقول: إنها ربما كانت تحريفًا للكلمة Evory أي عاج، والعاج/سن الفيل، ناصع البياض، لكن هذا بالتحديد يشكل دليلًا على نظريتنا، نُضيفه إلى رصيد أدلتنا، إذ يتضح مجيء النقيضين من مركز تصدير واحد، مع الأبيض والأسود من الناس، فحملت اللغة السامية وهي تتطور هناك في بلاد آدوم جينات وراثية، تشير إلى المنابت والأصول. لقد اشتقت اليونانية كلمة Ebenos الدالة على الخشب الأسود، من الكلمة المصرية Hbny طائر ضحوت أبي قردان شقيق زميله البونتي «ب ن و»، رمز الشروق والضياء القادم من أرض الإله في الشرق، كما سبق وحدثنا المصري القديم.
وللطرافة ولمزيدٍ من التأكيد، نجد الكلمة العبرية سن الفيل هي «شن ﻫ بين Shen habbin»، أي العاج الأبيض الناصع، لكن «ﻫ بين» وحدها تعني أبنوس. لقد حملت الكلمات أيضًا تداخلات عناصر وأجناس الأحلاف الأخلامو ما بين البيض والسود.
وطائر «هبني» يسميه المصريون اليوم «أبو قردان»، وهي التسمية التي جمعت بين اسم ضحوت ورمزية القرد مع طائر الأيبس، فهي من مقطعين: «أبو = ﻫ ب ى hby + المقطع الثاني وهو تفعيل لكلمة قرد/قردان»، بل إن اسم قردان يعود بدوره إلى المصرية القديمة الواضحة باللفظ والفوناتيك؛ لأن المصري القديم كان يطلق على جميع أنواع القردة الاسم «ق. ن. د».

وقد ورد بلسان العرب كما قلنا من هنيهة أن الضحاك أيضًا هو اسم لشخصٍ محدد هو الضحاك بن عدنان، وعدنان هو أبو العرب الشمالية المستعربة، ثم ساق اللسان زعمًا يقول: إن الضحاك هذا هو الذي ملك على الأرض جميعًا، وكان مقر حكمه في بابل، محتفظًا في الذكرى بإمبراطوريةٍ كبرى، كان لعرب الشمال «وادي عربة» نصيب فيها.

وهناك أسطورة فارسية معروفة حدثتنا عن ملكٍ باسم الضحاك، حكم من عاصمته في الرافدين القديم، وكانت الرافدين تحسب فارسية حتى الفتح الإسلامي العربي لها، فيروي لنا الفردوسي في رائعته المعروفة بالشاهنامه أن الكتاب الزرادشتي المقدس قد ذكر الضحاك باسم «إس – ت – حاك» أو «إزي – د – ﻫ ا ك ﻫ»، وكتب الأخبار الإسلامية تقول: إن الضحاك كان ملكًا من ملوك النبط، لكنه كان كلدانيًّا حكم في بلاد الكلدانيين/الرافدين القديمة (؟!) والأنباط كما عرفنا هم السلالة الأخيرة في التطور نحو الجنس العربي واللغة العربية؟! قبل ظهور العرب الصرحاء والعربية الصريحة، وأنهم سكنوا بلاد العرب أو وادي عربة في آدوم. والطبري يرى أن النمرود الزنجي كان منوبًا على حكم الرافدين من قبل ملك العالم الضحاك، وأن الأصل الوطني للضحاك هو بلاد اليمن، وأنه هجرها واستقر في بيت المقدس/أورشليم، تلك التي قال لنا يوسفيوس إنها المدينة التي بناها، واستقر فيها الهكسوس بعد طردهم من مصر.

وهنا نقتطع من «مظفر نادوثي» فقرةً شاردة، لم يقصد بها شيئًا محددًا، لكنها تعني لنا هنا الشيء الكثير، فهو يقول:
يؤكد الفرس أن العرب كانوا حكام العراق وبابل الأقدمين، وأنه بعد جامشيد Gumshid الذي كان معاصرًا لسام بن نوح، احتل دهاق Dahak العربي هذه البلاد، ويؤكد العرب أنفسهم ذلك؛ إذ يقول الطبري المؤرخ العربي المشهور: يدعي أهل اليمن أن الملك دهاق بن علوان ينتمي إليهم، كما يقال أيضًا إن الدهاق هو النمرود، الذي وُلد في عهده سيدنا إبراهيم، وأنه هو الذي أمر بإحراقه، وقد وصف الفردوسي أكبر الثقات من المؤرخين الفارسيين مملكة الدهاق، التي استمرَّت ألف سنة في شاهنامته.٩

ثم يضيف:

ويرى المؤرخ الألماني الشهير دنكر Duncher، أن كلمة كوش Cuch المستعملة في سفر التكوين، تشمل جميع الأمم التي عاشت في الأراضي الجنوبية كالأثيوبيين والنوبيين. أما قبائل جنوب العرب فيقصد بهم سلالة كوش الذين أسسوا بابل، والذين استقروا على الخليج الفارسي أيضًا.١٠
وبغض النظر عن تزمين حكم الكوشيين أو الكاشيين، الذين أسسوا بابل بألف عامٍ، ممثلة ترميزًا في شخصية الضحاك، لترمز إلى ربٍّ بعينه لجمهرةٍ حاكمة بذاتها. فإن هناك تزمينًا آخر ينقله «نادوثي» عن المؤرخ البابلي «بيرسوس Brushes»، الذي عاش في بابل سنة ٤٠٠ق.م. وأرخ لبلاده، وتسربت من كتبه المفقودة إلى المؤرخين الكلاسيك واليهود، وما ينقله نادوثي يعنينا منه فقرة يقول فيها بيروسوس:
كان عدد ملوك بابل العرب تسعة، بلغت مدة حكمهم نحوًا من ٢٢٥ عامًا.١١

ومدة ٢٢٥ سنة سنكتشف في الفصول المقبلة، أنها كانت الزمن الذي أمكننا تدقيقه لوجود الهكسوس في مصر، على سدة حكم مصر بدورها (كما سلف وكما سيأتي مزيد يؤيده).

ونعود للشهنامه لنجدها تحوك أسطورة حول الضحاك، تقول: إنه نبتت في كتفه حيتان، لا تهدآن إلا بالاغتذاء على أمخاخ البشر، فكان رمزه الثعبان، أو كان قرينًا لثعبانٍ أسطوري معبود.١٢
ومن جهتهم يصر المؤرخون العرب القدامى، على أن الضحاك كان ملكًا على بلاد الرافدين القديم، لكنه كان يمنيًّا، فما أبعد الشقة، وما أقربها في ضوء حدوث ذلك زمن إمبراطورية كبرى من حلفاء كبار! لذلك يعقب المسعودي بقوله: «إن اليمانية من العرب تدَّعي الضحاك (أي تنسبه لليمن [المؤلف])، وتزعم أنه من الأزد. وقد ذهب كثير من ذوي المعرفة بأخبار الأمم السالفة وملوكها، إلى أن الضحاك كان من أول أوائل ملوك الكلدانيين النبط.»١٣

ونعود للشهنامة التي تخبرنا أن ملك الضحاك، قد سقط على يد رمز الخير في الأسطورة «إفريدون»، الذي اعتقل الضحاك وسجنه في مغارةٍ مظلمة، في شعبٍ يقع بين جبلين متناطحين، يضيق ما بينهما حتى يرى في النهار الشامس كالليل الدامس.

وإفريدون في الشهامة هو أول طبيب، فقد أنزلت إليه عشرة آلاف من الأعشاب الشافية، كانت تلتف في غيضةٍ حول شجرة هوم البيضاء.١٤ والأبيض هو اللبان، واللبن واللبان من جذرٍ لغوي واحد، يشير إلى الإبانة والوضح والجلاء؛ لذلك يكون منطقيًّا أن من هزم الثعبان طبيب؛ لأن المرض عادة ما كان يُعزى لسم الثعبان ونفثاته، لكن منها أيضًا تؤخذ العقاقير العلاجية، ولم يزل رمز الدواء ثعبانًا ينفث سمه في كأس. والمدهش أن الشهنامة تقول إن إفريدون رُزق بحفيدٍ أسماه مناجهر، ومعناه عندما تترجمه من الفارسية إلى العربية، يلتقي تمامًا مع المعاني المصرية القديمة فهو «الأبيض الضاحك». وحتى تكتمل اللوحة نقرأ المراجع الإخبارية العربية، فتفيدنا خبرًا نافعًا هو: إن هذا الأبيض الضاحك أو «الضحاك»، كان حفيدًا لإسحاق بن إبراهيم، إسحاق دون غيره، وبالذات؛ فلماذا لا يكون هو إسحاق بالتحديد (؟!) إذن بذلك نكون قد حققنا اسم إسحاق بحسبانه هو ذات عين اسم الضحاك معنًى ومبنًى، بل وفيما تضمنته جينات اللغة الحاملة للصفات الوراثية عبر تطورها التاريخي الطويل.
وننتقل نقلةً أخرى، فنربط بين اسم إسحاق بالضحك، وبالضحاك الذي ملك على الأرض جميعًا، (وهو ما يعبر عن سيادته على إمبراطوريةٍ كبرى) وبخصب الأرض والحيض والنبت والولادة، وبين اسم الملك الهكسوسي الذي حكم على إمبراطورية عظمى مترامية الأطراف، وهو ما انتهينا إليه في الفصول السابقة، الملك الهكسوسي الثاني على مصر، والذي جاءنا اسمه عند مانيتون (بنون Benon)، ونقله عنه يوليوس الإغريقي ويوسفيوس (بيبون)، وهو ما لا بد أن يذكرنا بميمون/البابون، وأن الملك بنون جاء اسمه في بردية تورين باسم «بنيم»، ووصلنا اسمه على الآثار المصرية بالرسم «سكا»، والسكة هي حديدة المحراث. والسكة عادة ما ترمز للقضيب الذكوري، ويكنى بها عن القضيب؛ لأنها تشق تربة الأرض كما يشق القضيب الفرج فيدمى. فالسكة هي التي تجعل الأرض تحيض وتلد، تجعلها تضحك، فسكا هو صانع الحيض أو صانع الضحك، هو الضحاك. ويدعمنا بشدةٍ هنا أن الكتابة الهيروغليفية التصويرية، تكتب أول حروف اسم سكا من اليمين، حرفًا على هيئة رجل يمسك محراثًا ، وبإهمال الحاء المخففة في اسم إسحاق/سحق يصبح سك، وهنا فورًا نتذكر عنصرًا هسكوسيًّا في مصر، كان يحمل اسم «السكاسك»، ومنه فيما نرى جاء اسم مدينة الزقازيق. ثم علينا ألا ننسى أن حكام الهكسوس كانوا بالأصل في الأغلب عبَدَة للقمر، ومع هبوطهم مناطق الخصب عبدوا الشمس أيضًا، وتُسمَّى ملوكهم في مصر بأسماء تنتسب إلى رب الشمس المصري القديم «رع»، لقد كان سكا شمسيًّا وقمريًّا في ذات الوقت كما هو «ضحوت».

وهذا بالطبع لا يعني أن إسحاق المقصود، هو إسحاق التوراة بن إبراهيم تحديدًا، وكل ما نعنيه أن جميعهم كانوا ذوي قرابات وأسماء متقاربة، وأن الحاكم الهكسوسي «البابون/ميمون/سكا/الضحاك» كان ملكًا هكسوسيًّا، حكم في إمبراطوريةٍ كبرى، وربما كان هو أصل الأساطير العربية، عن عظيم من اليمن باسم الضحاك، الذي جمع صفة الشكل الآدمي مع الضبع عناق البونتي.

ونقف نعجب من اللغة المصرية القديمة، وهي تطلق على قرد البابون الأسود القاتم اسم الأبيض الكبير، وما في معناها الضحاك العظيم، وأن يقال في العاج الناصع البياض أبنوس وهو شديد السواد، وأن تكنى العربية عن الصفة المعيبة بعكسها، فتقول عن الأعمى «أبو بصير» و«الشواف» وعن الكسيح «أبو سريع». وإذا تصورنا فعلًا أن الملك النمرود ربما هو الضحاك، فهي الصفة العكسية لعلمنا لماذا حمل هذا الاسم؛ لأن كتبنا التراثية تصوره زنجيًّا شديد القبح حتى شبهته بالقرود. (وكانت آدوم موئلًا لقردة البابون بكثرة).

ولا يفوتنا التنبيه إلى أن لسان العرب نسب الضحاك إلى عدنان، فقال الضحاك بن عدنان، وعدنان هو أبو العرب المستعربة، ثم هذا كله يفسر بقايا ذكريات ربطت بين الجنس الإسرائيلي وبين جنس القردة، وتواتر ذلك عبر الأزمنة، حتى جاء عنهم في القرآن:
فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (البقرة: ٦٥)
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (الأعراف: ١٦٦)
مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ (المائدة: ٦٠)
وفي موضعٍ آخر بالشاهنامه رواية أسطورية تتحدث عن العنقاء، التي كانت — في الرواية المصرية — تسافر من بلاد العرب حاملةً أبيها إلى منف، لكن الشاهنامه هنا تحدثنا عن شخصٍ باسم «سام»، أنجب ولدًا شعره أبيض (مما يذكرنا بعيسو آدوم في الرواية التوراتية)، فألقاه أبوه على جبل العنقاء، فقامت العنقاء بتربية الطفل بين صغارها، ثم حملته بعد أن شب صبيًّا إلى أبيه، ليصير ملكًا من بعده، وأعطته ريشًا من جناحها يمكنه أن يستدعيها بحرق ريشة منه إذا حزبه أمر.١٥ والرواية هنا قريبة مما رُوي عن رحيل الفينيق لأداء رسالةٍ مشابهة. والترميز يربط بين موطن العنقاء وموطن الوليد الأحمر، وبين كليهما وبين مصر، في رمزٍ واضح يشير إلى أن ابن العنقاء بالتبني، ابن الفينيق، ابن الأيبس، ابن ضحوت، ابن القرد، الضحاك، قد صار ملكًا عظيمًا.

وقد أصبح الآن لدينا عدد من التجليات لرب سيناء وآدوم، ومنها ذلك القرد القمري ضحوت، الذي حمل وجه سيت عناق البونتي، ونلاحظ أن البابون في نقوش رحلة حتشبسوت إلى بونت، كان يتربع على صواري السفن، والشق «بي» و«بو» المصرية القديمة تعني «فم»، فهو «بي – بون» أو الفم البونتي. وهو الفم المعلوم الأمر للمصري القديم؛ لأنه فم عناق البونتي. ومن هنا لا يكون أصل كلمة بابون مجهولًا، إنما كان معلومًا في مصر وآدوم، ولم يزل ملاعبو القرود المتسولون في مصر حتى الآن، يقفون في المناطق الشعبية يلاعبون قردتهم بالنداء: «العب يا ميمون.»

وقد سبق وقدمنا محاولة تفسير لاسم بلاد بونت عند المصريين القدماء، فقلنا إنه الحجر، استنادًا إلى اسم الحجر الهرمي بن بن، وأنه البلاد الخماسية. وهنا اقتراح آخر لتفسير اسم بونت، فربما جاء منسوبًا إلى الفم البوني (البابون). ثم نعلم أن مشروب القهوة/البن كان منتوجًا من جنوبي الجزيرة/يمنيًّا. ولا شك أنه قد وجد طريقة مع التجار إلى بلاد آدوم، التي كانت تصدره كمادةٍ عطرية ومادةٍ علاجية، ويدخل البن في معظم التركيبات العلاجية الشعبية، ولم يزل يُستخدم في قرى مصر كمجلط للدم وحابس للنزيف. وربما حمل هذا النبات اسم البن؛ لعلاقته بالفم البوني/البابون، وربما كان قرد البابون وراء اسم بونت، خاصة إذا علمنا أن الكلمة اللاتينية، التي تدل على البن هي «كوفي» و«كافي»، وهي اختصار بالأحرف الأولى لاسم البابون Ceno-Cephalus، ثم إنها بالضبط «قهوة» العربية لتبادل الفاء مع الواو؛ فالقهوة هي الكوفي هي القهفة/الكهفة، فهل ثمة علاقة بين هذا الاسم وبين الكهف والكهوف مساكن آدوم القديمة؟ ومن قهوة لدينا مدينة «قها» في مصر. والعجيب أن تدهشك اللغة بقدرتها على حمل كل تلك الذكريات؛ لأن قها كانت أحد أهم مقار عبادة الإله الضحاك ضحوت. والأغرب أن تبقى الذكريات بشكلٍ لا واعي، ويحفظ العامة اليوم مأثورًا عن علاقة «قها» بفعل الضحك، فيطلقون على البلدة من باب التفكه «بلد النصف ضحكة»، باحتساب الضحكة الكاملة هي قهاقها.
والدارس للأساطير يعلم أن رب القمر كان على علاقةٍ وطيدة بالمرأة، حتى عدَّته بعض الأساطير إلهة أنثى، وذلك لتناغم تقلب أوجهه مع إيقاعات المرأة البيولوجية في دورتها الشهرية الحيضية، وكان ربًّا للهواء والريح، وهو ما يستدعي «هوا» رب الريح و«يهوه» كأرباب خصوبة، وهو ما يفسر لنا الضحك باعتباره حيضًا؛ لأن الضحاك الكبير ضحوت، كان هو القمر قرين الحيض الأنثوي. ومع حيض نقرأ تحت مادة حضض باللسان:

حضض: الحض ضرب من الحث في السير. وهو عقار مكي ومنه هندي، وهو عصارة شجر معروف. وقال ابن دريد: الحضض صمغ من نحو الصنوبر والمر. وأحمر حضي: شديد الحرمة، قال ابن خالويه: يقال حاضت ونفست ودرست وطمثت وضحكت وكادت وأكبرت وصامت، قال المبرد: سمي الحيض حيضًا من قولهم حاض السيل إذا فاض. وقيل: الحيض الدم نفسه.

وهكذا أجملت اللفظة معانيها فأوعبتها، فالحيض الذي هو فعل الضحك، الذي يسببه الضحاك الكبير القمر، رب الخصب والطريق الوسيع، فهو يفتح الأرض لتنجب، ويفتح فرج الأنثى فتحيض وتلد، ويفتح شجرة المر فتنتج لبانها، واللبان والصمغ والمر كلها تسيل، كالحيض من جرح في الشجرة ينفلق تلقائيًّا. وبين معاني حاضت: درست، والدرس هو استخدام السكة في شق الأرض. وكان الفرعون الهكسوسي الثاني على مصر يحمل اسم سكا، وللتأكيد تم تدوين نفسه اسمه برمز فلاح يحرث الأرض بسكته.

وفي القصص الإسلامي حكايات عن النبي موسى لم تعرفها التوراة على الإطلاق، ويبدو أنها كانت مأثورًا تاريخيًّا شفاهيًّا، لم يجد طريقه إلى التدوين بالكتاب المقدس، استمر متواترًا حتى زمن الدعوة الإسلامية، حيث أعلمنا به القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة. ومن نماذج تلك الحكايا قصة التقاء موسى، في موضعٍ يسمى مفرق البحرين، بشخصيةٍ تراثية باسم الخضر، الذي صورته الآيات بحسبانه حكيمًا عظيمًا يعلم الغيب، كما أضافت إليه الشروح صفاتٍ تفسر اسمه بشكلٍ يشير إلى أنه كان في الأصل ربًّا للخضرة والزرع؛ فقد كان إذا جلس على فروةٍ بيضاء اخضرَّت، وأن الأرض تخضرُّ تحت قدميه بالنبات عند مسيره، وأنه حيٌّ غائب، حيٌّ خالد في هذه الحياة الدنيا، لكنه مختفٍ عنا، فقط يظهر كل حين لتحقيق غرضٍ قدسي محدد كلقائه بموسى.

ونحن نعلم أن أوزيريس المصري كان ربًّا للخضرة والزرع والنيل، وربًّا أيضًا للحكمة، يمكنه اتخاذ هيئة ضحوت الضحاك رب الحكمة في أي وقت. كما نعلم أنه قد مات شهيدًا، لكنه قام حيًّا من بين الأموات في اليوم الثالث، يوم القيامة المجيدة، ونعلم أنه خالدٌ في هذه الدنيا؛ لأنه يحكم في عالمه التحت أرضي، لكنه كان على استعدادٍ للعودة إلى الأرض دومًا، لتخصيبها بمائه المخصب ولإنقاذ المصريين من الخطوب.

ويبدو الخضر في الروايات الإسلامية ربًّا أيضًا للسمك، فهو يركب على ظهر حوت، وكان الحوت دليل موسى إليه ليلقاه، وكان أوزيريس بدوره حوتًا أو ربًّا للسمك وكل كائن مائي حي، كذلك كان ذو الشرى المعبود الآدومي، الذي كان يصوره في هيئة رجل نصفه الأعلى إنسان ونصفه الأسفل سمكة، كذلك داجون الذي عبد في فلسطين في عسقلان، والغريب أن جميع هذه الآلهة كانت أربابًا أيضًا للحنطة رمز الشبع والخير والخصب، حتى داجون نفسه من اسم الحنطة «دجن».

وكان بإمكان أوزير كرب للحكمة، أن يتحد بالإله ضحوت الضحاك إسحاق، الذي هو المختص بالحكمة، وساعتها سيحمل اسمه الثاني حضور، والحضور ظهور النبت هو الخضور هو الخضرة هو الخضر.

لكن المصريين من جانبهم رأوا في الحاكم الهكسوسي الأعظم رأيًا آخر، فقد أطلقوا عليه اسم الشيطان «أبوفيس» الحية، والكتاب المقدس وكتب الأخبار الإسلامية، ترى الشيطان متجسدًا في الحية. ولو رجعنا إلى يوليوس الإفريقي سنجده يقول لنا إن الملك الهكسوسي الملقب بلقب «أبوفيس» هذا كان يحمل اسم «ستان» أو الشيطان، بينما يوسفيوس يسجل لنا اسمه «سكا»، والسكة تعني الحارث. ولو فتحنا لسان العرب لطالعنا بذات المعاني؛ لأن الحارث اسم من أسماء الشيطان! ومن أسماء أبي قردان في البلدان العربية، كما سبقت الإشارة «أبو حنش، أبو منجل، حارس، عنز». وفي الأساطير المصرية أن ضحوت خرج من رأس ست، الذي يمثل الشيطان أو هو ذاته.

١  الثعلبي، عرائس المجالس … سبق ذكره، ص٨١.
٢  علي فهمي خشيم، آلهة مصر … سبق ذكره، ج٢، ص٣٥١.
٣  نفسه، ص٣٢٥، ٣٥٣.
٤  استرابون، استرابون في مصر … سبق ذكره، ص١٠٤، ١٠٥.
٥  بلوتارك، إيزيس وأوزيريس، سبق ذكره، ص٩٣.
٦  زياد منى، جغرافية … سبق ذكره، ص٧٤.
٧  فليكوفسكي، عصور في فوضى … سبق ذكره، ص٢٦٨–٢٧٠.
٨  خشيم، آلهة مصر … سبق ذكره، ص٣٥٥، ٣٥٦.
٩  مظفر نادوثي، التاريخ الجغرافي للقرآن … سبق ذكره، ص١٤١، ١٤٢.
١٠  نفسه، ص١٤٢.
١١  نفسه، ص١٤٣.
١٢  الفردوسي، الشاهنامه، ترجمة الفتح بن علي البنداري، تحقيق د. عبد الوهاب عزام، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، ط٢، ١٩٩٣م، ج١، ص٢٥، ٢٦، ٢٩.
١٣  المسعودي، التنبيه والإشراف … سبق ذكره، ص٩٢، ٩١.
١٤  الشاهنامه، سبق ذكره، ص٣٨.
١٥  نفسه، ص٥٢–٥٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤