الباب الخامس عشر

الأب وابنته

يوجد بحجرة المستر جرادجرایند ساعة دقاقة كبيرة، يمكنك سماع صوتها وهي تعمل. جلست لويزا بجانب النافذة قرب مائدة أبيها، فوقع بصرها على مداخن كوكتاون العالية، والدخان يتصاعد منها كثيفًا فيملأ الجو بلون أسود يبعث على الاكتئاب.

قال الأب: «يا عزيزتي لویزا، لدي شيء بالغ الأهمية، أود أن أقوله لكِ، كما أخبرتكِ في الليلة الماضية .. لقد تدربت وتعلمت جيدًا، ولي ثقة تامة في إحساسك المرهف الطيب.»

انتظر الوالد أن تتكلم ابنته، ولكنها لم تنطق بكلمة واحدة. فقال: «يا عزيزتي لويزا، يريد شخصٌ ما أن يتزوجك وها أنتِ ذي قد تسلَّمتِ اقتراحًا بالزواج، فماذا تقولين؟»

انتظر المستر جرادجرايند، مرة أخرى، أن ترد ابنته على سؤاله، ولكنها لم تُجِب بشيء في هذه المرة أيضًا. فأدهش هذا أباها، فكرَّر قوله: «يريد شخص أن يتزوجك يا عزيزتي.»

قالت: «أنا أسمعك يا أبي، أنا مصغية إلى ما تقول.»

أحسَّ المستر جرادجرایند بالانزعاج، ولكنه استطرد يقول: «أخبرني المستر باوندرباي بأنه يريد أن يقدم لك يده للزواج، وقد لاحظ تقدمك بمتعة، وكله أمل، طيلة وقت طويل، أن تأتي الفرصة التي يطلب فيها يدك للزواج، ويأمل كثيرًا في أن تولي طلبه هذا اعتبارك الموافق.»

ساد السكون بين الأب وابنته، وبدا صوت الساعة عاليًا جدًّا، ولاح الدخان البعيد شديد السواد وكثيفًا جدًّا.

تكلَّمَت لويزا، فقالت: «يا أبتاه، أتعتقد أنني أحب المستر باوندرباي؟»

شعر المستر جرادجرايند بالقلق الشديد، فقال: «لا يمكنني الجزم بذلك، يا طفلتي.»

فاستطردت لويزا تقول بنفس الصوت السابق: «أي أبتِ! هل تطلب مني أن أحب المستر باوندرباي؟»

قال: «كلا، كلا يا عزيزتي لويزا، لا أطلب منكِ شيئًا كهذا.»

فاستأنفت لويزا كلامها، تقول: «هل يطلب المستر باوندرباي مني أن أحبه؟»

فقال الأب: «الحقيقة، يا عزيزتي، أنه من الصعب الإجابة على سؤالك.»

قالت: «هل من الصعب الإجابة بنعم، أو لا .. يا أبي؟»

أجاب الوالد بقوله: «نعم، هذا أكيد يا عزيزتي؛ لأن الرد يتوقف على المعنى الذي نسنده إلى السؤال. والآن، أقول لكِ إن المستر باوندرباي لا يطلب منكِ شيئًا خياليًّا. وربما كان استعمال كلمة «حب» خاطئًا قليلًا.»

قالت: «وبماذا تنصحني أن أستعمل بدلًا من كلمة «حب» يا أبي؟»

قال: «يبدو لي يا لويزا أنه ما من كلمة يمكن أن تكون أوضح منها. وموضوع الحقيقة الذي بوسعك أن تفكري فيه، في قراءة نفسك هو: هل يطلب مني المستر باوندرباي أن أتزوجه؟ نعم، هو يطلب ذلك. والسؤال الوحيد، الباقي بعد ذلك، هو: هل أتزوجه؟ لا أظن يا عزيزتي لويزا أن هناك شيئًا سيكون أوضح من ذلك!»

أخذت لويزا تكرِّر قولها ببطء: «هل أتزوجه؟ هل أتزوجه؟»

فقال المستر جرادجرایند: «نعم بالضبط، وهو مقبول بالنسبة لي، بصفتي والدكِ يا عزيزتي لويزا، أعرف أنكِ لن تنظري إلى هذا السؤال بعقل وتفكير كثيرات من النساء.»

قالت: «لن أنظر إليه هكذا يا أبي.»

قال: «أترككِ الآن لتفكِّري في هذا الأمر في هدوء وعلى مهل.»

سحبَتْ لويزا عينَيها من على أبيها، وجلست مدة طويلة تنظر نحو مداخن البلدة، ثم قالت أخيرًا: «يطلب مني المستر باوندرباي، أن أتزوجه، والسؤال الذي أسأل به نفسي هو: هل أتزوجه؟»

– «بالتأكيد، يا عزيزتي.»

قالت: «ليكن هكذا، ماذا يهم؟ فبما أن المستر باوندرباي يريد أن يتزوجني، فأنا موافقة على طلبه، أخبره يا أبي في الوقت الذي تراه ملائمًا، بأن هذا هو ردي، كرِّره حرفًا بحرف إنْ أمكنك؛ لأنني أريده أن يعرف نص ما قلتُه.»

figure
قبَّلَت لويزا أباها، فأمسكها من يدها، وذهبا معًا إلى حجرة الجلوس. وكانت بها مسز جرادجرایند وسيسي.

فقال الأب: «هذا صحيح تمامًا، يا عزيزتي. ولكي أكون واقعيًّا، فسأفعل ما تطلبينه. هل لكِ رغبات بخصوص موعد الزواج؟»

قالت: «كلا، يا أبتِ. فما أهمية هذا؟»

تأثَّر المستر جرادجرايند بنجاحه أعظم التأثر، وسُرَّ سرورًا بالغًا، فقال: «أشكركِ، يا عزيزتي لويزا إذ عوضتني عن عنايتي بكِ. والآن، قبِّليني، يا ابنتي.»

قبَّلت لويزا أباها، فأمسكها من يدها، وذهبا معًا إلى حجرة الجلوس. وكانت بها مسز جرادجرایند وسيسي.

فقال المستر جرادجرایند: «يا مسز جرادجرایند اسمحي لي بأن أقدِّم لك مسز باوندرباي.»

فقالت مسز جرادجرایند: «مرحى! إذَن، فقد سويت الموضوع، أتمنى أن تظل صحتك جيدة، يا لويزا أتمنى ألا تمرضي مثلما مرضت أنا بعد زواجي. لا بد أن أقبِّلك قُبلة التهنئة، ولكن لا تلمسي كتفي اليمنى: أشعر بأن هناك شيئًا يَسْري خلالها ويؤلمني طول اليوم.»

نظرت سيسي إلى لويزا، في عجب، وفي إشفاق، وفي حزن. عرفت لويزا هذا دون أن تنظر مباشرة إلى سيسي. ومنذ تلك اللحظة، ولويزا فخورة وباردة وتنظر إلى سيسي من بعيد. لقد تغيرت نحوها تمامًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤