الباب الثاني

قتل الأبرياء

اعتاد ثوماس جرادجرايند Thomas Gradgrind أن يقدِّم نفسَه، دائمًا، بنفس الألفاظ.

«ثوماس جرادجرايند، يا سيدي! رجل الوقائع. رجل الحقائق والحسابات. رجل يسير على مبدأ أن اثنين واثنين، تكون أربعة ولا أكثر من ذلك. رجل لا يسمح بإمكان وجود شيء أكثر. ثوماس جرادجرايند، يا سيدي. يضع في جيبه، دائمًا، مسطرة وكفتَي ميزان، يا سيدي، مستعدًا ليزن ويقيس أيَّ طرد من الطبيعة البشرية، ويخبرك بماهيته بالضبط. إنها مسألة أرقام، وحالة حساب بسيط؛ يمكنك أن تأمل في إدخال اعتقاد غير معقول في رأس جورج جرادجرايند، أو في رأس جون جرادجرايند، أما في رأس ثوماس جرادجرايند، فلا، يا سيدي!»

ثبَّتَ ثوماس جرادجرايند عينَيه بإمعان على الأطفال الجالسين أمامه، والذين سيملؤهم تمامًا بالحقائق. كان نوعًا من مدفع ضخم محشوٍّ بالحقائق، متأهِّبًا لإطلاقها على الأطفال في طلقة واحدة.

قال المستر جرادجرايند: «الفتاة رقم عشرين.»

وهو يشير إليها بالضبط، بإصبعه الثابتة. «لست أعرف هذه الفتاة، مَن هي تلك الفتاة؟»

فقالت رقم عشرين: «أنا سيسي جوب Sissy Jupe يا سيدي». واحمرَّ وجهها بشدة عندما وقفت.
فقال المستر جرادجرايند: «سيسي ليس اسمًا، لا تُطلقي على نفسك اسم سيسي، وإنما أطلِقي عليها سيسيليا Cecilia

فأجابت الفتاة الصغيرة بصوت مضطرب، فقالت: «أبي هو الذي سماني سيسي، يا سيدي.»

فقال المستر جرادجرايند: «لا يحق له أن يسميك هكذا. أخبريه يا سيسيليا جوب بأنه لا يحق له أن يسميك هكذا. ولننظر الآن، ما مهنة والدك؟»

– «إن طاب لك أن تعرف، يا سيدي، إنه يدرب الخيول للسيرك.»

بدا المستر جرادجرايند مُستاءً، وأشار بيده معبِّرًا عن امتعاضه من هذه المهنة البغيضة.

– «لا نريد أن نعرف شيئًا عن مسارح السيرك هنا. والآن، يا سيسيليا، بماذا تعرفين الحصان؟»

ارتبكت سيسي جوب أعظم ارتباك بهذا الطلب.

فقال المستر جرادجرايند: «لا تستطيع الفتاة رقم عشرين تعريف الحصان. لا تعرف الفتاة رقم عشرين أية حقائق عن حيوان من أكثر الحيوانات شيوعًا. هل يستطيع أحد الأولاد تعريف الحصان؟ عرِّفه لنا، يا بيتزر Bitzer

تحرَّكت الإصبع الثابتة، هنا وهناك، ثم توقفت فجأة وهي تشير إلى بيتزر. ربما لأن بيتزر تصادف أن كان يجلس في نفس مسار شعاع الشمس الساقط على سيسي. كانت سيسي في نهاية صف البنات، في الجانب المشمس من تلك الحجرة الواسعة العارية، وبيتزر في نهاية صف الأولاد من الجانب الآخَر تسقط عليه نهاية شعاع الشمس، وإذ كانت سيسي سوداء العينيين، وفاحمة الشعر، بدت تنال أحلك لون من ضوء الشمس، بينما كان ذلك الغلام زاهي العينين، وزاهي الشعر، حتى إن نفس الأشعة بدت تأخذ منه قليلًا من اللون الذي يملكه. كانت عيناه زاهيتين وباردتين، وبشرته بيضاء تبدو كما لو كانت ستنزف دمًا أبيض إن جُرِحت. ويكاد شعره القصير يكون بلون بشرته.

figure
تحرَّكَت الإصبع الثابتة، هنا وهناك.

فقال المستر جرادجرايند: «ما هو تعريفك للحصان، يا بيتزر؟»

– «حيوان من ذوات الأربع، له أربعون سنًّا، يفقد جلده في الربيع، نعرف عمره بعلامات في الفم.»

هكذا (وأكثر من هذا) يا بيتزر.

فقال المستر جرادجرايند: «والآن، يا فتاة رقم عشرين، ها أنتِ ذي تعرفين ما هو الحصان.»

قالت: «نعم يا سيدي». وكان لونها ستشتد حمرته إن أمكن ذلك. وجلس بيتزر ثانية.

خطا الشخص الثالث إلى الأمام، وكان رجلًا عظيمًا، موظفًا حكوميًّا، ولديه دائمًا خطة يرغم الحاضرين على قبولها، كما لو كانت دواء يبتلعونه.

قال: «والآن، افرضوا أنكم ذهبتم لشراء طنفسة لحجرة، فهل تشترون طنفسة مزخرفة بأزهار؟»

فقال معظم الأولاد: «لا»، ولم يقُل «نعم» سوى القليل، ومنهم سيسي جوب.

فقال ذلك الرجل: «يا فتاة رقم عشرين». فوقفت، وقد احمرَّ لونها بشدة.

قال: «إذَن، فهل ستضعين طنفسة في حجرتك أو في حجرة زوجك، مزخرفة بالأزهار؟ لماذا ذلك؟»

فأجابت الفتاة تقول: «من فضلك يا سيدي، أنا مولعة جدًّا بالأزهار.»

– «هل هذا هو السبب في أن تضعي عليها الموائد والمقاعد، وتسمحي للناس بأن يمشوا فوقها بأحذية ثقيلة؟»

– «ذلك لا يضر الأزهار، يا سيدي. ستكون صورًا لما هو جميل جدًّا، وسار وأتصور …»

فصاح الرجل وقد سره تمامًا الوصول سعيدًا إلى ما يريد. فقال: «يجب ألا تتصوري … ينبغي ألا تتصوري.»

فقال ثوماس جرادجرايند، بجدية: «ينبغي ألا تفعلي أي شيء من هذا القبيل يا سيسيليا جوب.»

فقال الرجل: «الحقيقة، الحقيقة، الحقيقة» وكرَّرَ ثوماس جرادجرايند قوله: «الحقيقة، الحقيقة، الحقيقة.»

ثم قال ذلك الرجل: «يجب أن تسيري على نظام الحقيقة، وتحكمك الحقيقة. ينبغي أن تنسي كلمة تصور تمام النسيان. الواقع أنكِ لا تسيرين فوق أزهار. ولذا، لا يسمح لكِ بالسير فوق أزهار في الطنافس.»

جلست سيسي، وكانت صغيرة السن جدًّا وبدت كما لو كانت خائفة من موضوع عالم الحقيقة الماثل أمامها.

استدار الموظف الحكومي، نحو المستر جرادجرايند، وقال: «إنْ جاء المستر م. تشوكامتشايلد M. Choakumchild إلى هنا، وشرع يُلقي أول درس له، فسأكون سعيدًا لملاحظة طريقته.»

أخذ المدرس، وهو رجل اسكتلندي، يُدعى م. تشوكامتشايلد، أخذ يُلقي الدرس، بأحسن طريقة لديه .. لقد تخرَّج حديثًا هو ومائة وأربعون مُدرِّسًا آخرين، في نفس الوقت، وفي نفس المعهد، وبنفس المبدأ كأنهم أرجل معزف متشابهة. درس العديد من الحقائق عن عدة موضوعات. ولو درس أقل من ذلك، فماذا يمكنه أن يعلم أكثر من هذا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤