الباب السابع

فلسفة

عاد الجميع إلى فسطاط السيرك.

فقال المستر جرادجرايند مكتئبًا وحزينًا: «هل لك قلب، يا بيتزر؟»

فأجاب بيتزر يقول: «لا يعيش أي إنسان بدون قلب.»

فقال المستر جرادجرايند: «إذَن، فما الدافع الذي يجعلك تمنع هروب هذا الشاب؟ انظر إلى أخته هذه، واعطف علينا.»

فقال بيتزر: «يا سيدي، سأصحب توم الصغير إلى كوكتاون، وأسلمه إلى المستر باوندرباي، ومن المؤكد أن هذا الأخير، سيعطيني وظيفة توم، وهذه ترقية لي.»

وقفت لويزا وسيسي تبكيان.

لما سمع المستر سليري كل ما دار بين المستر جرادجرايند، وبيتزر من حديث، فتح فاه، وثبَّت عينه المتحركة على بيتزر، وقال: «يا مستر جرادجرايند، لم أعرف أن ابنك سرق مصرفًا، هذه مسألة بالغة الخطورة؛ ولذلك فأنا أوافق هذا الشاب، الآن. وسأنقل ابنك وهذا الشاب، في عربتي إلى المحطة، ولا يمكنني أن أفعل أكثر من هذا.»

ولكنهم عندما خرجوا مرة ثانية، همس المستر سليري يقول لسيسي: «بما أن المستر جرادجرايند، وقف إلى جانبك، فسأقف أنا إلى جانبه. هذه ليلة حالكة الظلام. عندي حصان يفعل كل شيء ما عدا الكلام، وعندي مهر أصغر منه يسير بسرعة أربعة وعشرين كيلومترًا في الساعة، وعندي كلب يمكنه أن يحتفظ بأي إنسان في مكانه لمدة أربع وعشرين ساعة ولا يدعه يفلت منه. فأخبري المستر توم الصغير بهذا؛ عندما يرى الحصان الذي يجر عربتنا، يبدأ يرقص، يجب عليه أن يتطلع إلى الطريق حتى يرى حصانًا أصغر، يجر عربية أخرى، فلما تقترب منه هذه العربة الأخيرة الصغيرة، عليه أن يقفز من عربتنا ويركب العربة الصغيرة، فتنقله بسرعة إلى ليفربول، وعند ذلك لن يسمح كلبي لموظف البنك هذا بأن يتحرك من مكانه مسافة سنتيمتر واحد، ولن يتحرك حصاني من المكان الذي بدأ يرقص فيه .. أسرعي.»

بعد عشر دقائق، كان حصان المستر سليري وعربته جاهزين، فركب بيتزر وتوم هذه العربة، والكلب ينبح حولها، فأشار المستر سليري للكلب بعينه لكي يجعل بيتزر هدفه الخاص؛ وسرعان ما انطلقت العربة بعد أن خيم الظلام بدياجيره، فبدءوا رحلتهم، وثبَّت الكلب عينه على بيتزر، وقبع إلى جانب العجلة التي بجانب هذا الشاب. كان ذلك الحيوان الماهر المدرب، على استعداد للهجوم على بيتزر إن بدرت من هذا الأخير أية بادرة تنبئ عن محاولته النزول من العربة.

جلست سيسي ولويزا مع المستر جرادجرايند في الفندق الذي نزلوا به في تلك البلدة، وظلوا فيه طول الليل، وفي الساعة الخامسة من الصباح التالي، ظهر المستر سليري وكلبه، مرة ثانية، مبتهجين.

فقال المستر سليري: «كل شيء على خير ما يرام، يا مستر جرادجرايند، لا بد أن يكون ابنك على ظهر السفينة الآن، أخذه موظفي المستر تشايلدرز Childers إلى السفينة بعد ساعة ونصف من مغادرتنا هذا المكان في الليلة الماضية. طفق الحصان يرقص حتى كاد يموت. فلما قلت له الكلمة، نام، وعندما حاول ذلك الشاب بيتزر النزول من العربة، تعلق الكلب بياقة سترته، فذُعر بيتزر وانتفض، واضطر إلى البقاء حيث هو، إلى أن أدرت رأس الحصان، ورجعنا إلى هنا في هذا الصباح.»
figure
شرب المستر سليري ما في قدحه من الويسكي.

شكره المستر جرادجرايند من كل قلبه، وعرض عليه أن يعطيه مكافأة مالية.

فقال المستر سليري: «لا أريد أية نقود، أنا نفسي، يا مستر جرادجرايند، ولكن المستر تشايلدرز ذو أسرة، فإن أعطيته ورقة مالية بخمسة جنيهات، رحب بها وفرح، كذلك إن رغبت في شراء طوق للكلب، ومجموعة أجراس للحصان، فسأقبلها بسرور. وأنا يعجبني أن أشرب الويسكي بالماء.»

قدم المستر جرادجرايند، عن طيب خاطر، كافة أمارات الشكر وعرفان الجميل هذه، ولو أنه اعتقد أنها ضئيلة جدًّا بالنسبة إلى تلك الخدمة الجليلة، التي أداها له المستر سليري وأتباعه.

فقال المستر سليري: «إذَن، فأنا أطلب منك، يا مستر جرادجرايند، أن تتكلم بخير عن رجال السيرك ونسائه وحيواناته، وبذا تقدم لنا خدمة، أكثر مما تستحق.»

صحب المستر سليري، المستر جرادجرايند، إلى حجرة أخرى ليفضي إليه بحديث سرى عن والد سيسي، فأخبره بأنه يعتقد أن والد سيسي قد مات، لأن كلبه العجوز، رجع متعبًا من وعثاء السفر، ومريضًا، ثم ما لبث أن مات. وفي اعتقاده، أن الكلب جاء من مسافة بعيدة ليعرِّفهم بأن صاحبه فارق الدنيا.

قال المستر سليري: «يا مستر جرادجرايند قررنا ألا نكتب إلى سيسي، وألا نخبرها بهذا؛ فنحن لا نعرف بصفة قاطعة ما إذا كان أبوها قد تحسر في وحدته لأنه تركها ولم يأخذها معه. الواقع أننا لا نعرف ذلك، ولن نعرفه، ولكن الأرجح، أنه مات.»

نظر المستر سليري إلى قاع قدح الويسكي، وقال: «يبدو أنه يمثل شيئين للمرء، أليس كذلك؟ الأول؛ أن هناك محبة متبادلة، في العالم، ليست كلها منفعة شخصية. والثاني؛ أن لكل إنسان طريقته الخاصة في الحساب أو عدم الحساب.»

شرب المستر سليري كل ما في قدحه من الويسكي، وطلب من السيدتين أن تدخلا.

لما دخلت سيسي ولويزا، ودع المستر سليري الجميع. وآخر ملاحظة أبداها للمستر جرادجرايند هي: «صافحني، يا سيدي! ولا تشمئز منا، نحن متجولو السيرك المساكين، فلا بد للناس من التسلية لا يمكنهم أن يتعلموا أو يعملوا باستمرار، فلم يُخلقوا لذلك، لا بد لكم منا، يا سيدي، فأنتم بحاجة إلينا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤