تصدير
تعمل الفلسفة النسوية على فضح ومقاومة كل هياكل الهيمنة وأشكال الظلم والقهر والقمع، وتفكيك النماذج والممارسات الاستبدادية، وإعادة الاعتبار للآخر المهمَّش والمقهور، وصياغة الهُويَّة وجوهرية الاختلاف.
اجتمعت على تأليف هذا الكتاب سبع عشرة كاتبة من أنضر الوجوه المُنجزة في الفكر النسوي، والفلسفة النسوية بدورها قد أثبتت وجودها كإضافةٍ حقيقية، وحرث للأرضية العقلية واستنبات لبذورٍ لم تُبذر من قبلُ، وباتت من المعالم البارزة في الفكر الفلسفي الراهن، الأقدر على استنطاق قواه النقدية. تُبرز النسوية قدرة الفلسفة المتوالية على أن تنبعث متجددة، عفية فتية دائمًا، تنفض عن ريشها غبار الذي انقضى، وتنطلق برؤاها الثاقبة لاستشراف آفاق ما هو آتٍ، مُتسلِّحةً بالثابت الديناميكي فيها: مناهجها النقدية التي تُسائل وتُحاوِر، لتستجيب لمستجدات واقع يمكن دائمًا أن يكون أفضل. أوَليست الفلسفة في النهاية هي الانعكاس المجرد الواعي لمرحلتها الحضارية، بقدر ما هي الرؤية النقدية؟
هؤلاء الكاتبات لهنَّ مواقع واتجاهات واهتمامات مختلفة. فجاء كلُّ فصلٍ بمنزلة وحدة مستقلة، يمكن أن يبدأ أو ينفرد بها القارئ. ومع هذا يتجلَّى أحد جمالات هذا الكتاب الكثيرة في حوارٍ داخلي عميق بينهنَّ، يصنع وحدةً عضوية ومنهجية تُحتذى، فتبدأ الكاتبة ممَّا انتهت إليه جهود أخرى، تُنصت إلى قولٍ آخر لتصدِّق عليه أو تستشهد به أو تنقده أو ترفضه، أو تحاول أن تتقدَّم ببديلٍ أفضل. يمتدُّ هذا إلى محاورة أخريات وآخرين وإسهاماتٍ مختلفة ذات صلة بالميدان.
ومن هذه المنطلقات بعد-الحداثية، بعد-الاستعمارية، يتخلق حوارٌ منفتح بين الشمال والجنوب، وبين كل الأطراف في عالمٍ لا مركزية فيه، ليأخذ كل طرف مكانًا له تحت الشمس، وليس في ظلال هيمنة آخر والتبعية له، فهذا الكتاب، أصلًا وهدفًا، من أجل تأكيد وتأصيل التعددية الثقافية، بما تقتضيه من تفهُّمٍ للاختلافات وقبول للآخر، نشدانًا لعالمٍ أكثر عدلًا وأكثر إنسانية، وأكثر خصوبة وثراء.
لم يأتِ هذا الدفاع المشبوب عن التعددية الثقافية في صورة خطاب إنشائي أو طوباوي، بل جاء خطابًا فلسفيًّا رصينًا، مسلحًا بصياغة مفاهيم دقيقة وبترسيم وتحليل استراتيجيات — خطابية وواقعية — فعالة لاستيعاب التعددية والتشاركية واجتثاث المركزية والاستعمارية من جذورها، تنضيدًا لعصر ما بعد الاستعمارية، وإيضاح إيجابياته وفاعليات توظيفها. وأيضًا يتتبع رواسب الاستعمارية الماثلة ومثالبها، ويتلمَّس الطرق للخلاص منها ومن آفات المركزية الغربية التي تبلورت في العنصرية، حتى يستحثَّ البيض على أن يعصفوا بالعنصرية البيضاء ليكونوا «ناكثين لها» غادرين بها، وفي هذا مجدهم وشرفهم.
ويناقش الكتاب استراتيجيات الخطاب العالمي، وحقوق الإنسان ومعوقات الديمقراطية، والمقاومة والقضايا الشائكة المتعلقة باللغة والقومية والهوية والغيرية والآخر واختلاف الثقافات … والمناطق الحدودية حيث تنفصل وتتصل ثقافتان، ويتعرض للاتجاهات الأصولية الصاعدة في الجنوب … هذا فضلًا عن بحث قضايا التنمية المستدامة والبيئة … وطبيعة التقدم العلمي والتقدم الإنساني، وتطوُّر الإبستمولوجيا [فلسفة المعرفة] ووحدة منهج العلم، وقيمه، والزعم بنمطٍ واحد ووحيد للمعرفة الكونية العامة … وكيفية تعظيم الإيجابيات وتقليص السلبيات في هذا، بما يحقِّق مصلحة كل الأطراف، وليس فقط مصلحة «المركز»، أو ما يريد أن يكون هو المركز.
وتترسَّم على صفحاتٍ عديدة معالم ومناهج وصعوبات الدعوة لاتحاد نساء الشمال ونساء الجنوب، واستكشاف وتقويم المفاهيم المتعلقة بالمرأة عبر الثقافات المختلفة. ولا ثقافة تفوق الأخرى أو تعتبر نفسها الأرقى؛ فالنسوية قامت أصلًا من أجل تقويض التراتبية الهرمية والبحث عن خطابٍ عولمي جديد تتشارك فيه كل الأطراف، وليس خطابًا موجهًا من المركز إلى الأطراف.
هكذا نستقي من هذا الكتاب كيف تكون الفلسفة حوارًا بين سائر الثقافات التي تشكِّل عالمنا، وضرورة إغلاق عصر المركزية الغربية وأي مركزية أخرى يرتدُّ معها البشر إلى مركز فاعل وأطراف مهمشة، إلى سائدٍ ومسود، من هنا كان العنوان «نقض مركزية المركز».
•••
وقد جاء الخطاب حيًّا نابضًا معيشًا إلى درجةٍ لافتة. ولا غروَ؛ فالنسوية تجسِّد روح الفلسفة الراهنة التي سبق أن انطلقت على مدار القرن العشرين، عازفةً عن بناء أنساقٍ شامخة، فأصبحت مناهج أكثر منها مذاهب؛ أي أسلوبًا للبحث وطريقة للنظر وليست مصفوفة من الحقائق أو بناءً مهيبًا من الأفكار المطلقة. الفلسفة — كما تتبدى لنا الآن — رؤية جماعية وجهد تعاوني وتحليلات متكاملة. وكل جهدٍ مخلص رصين مُقتفٍ للأصول يمكن أن يحتلَّ مكانه في المنظومة، فلم تَعُدِ الفلسفة هي كبد الحقيقة وقد تجلى لعبقرية فرد فريد يعرضها على تلاميذ أو قراء ينصتون ويرددون.
ولئن كانت النسوية تمثيلًا لروح الفلسفة الراهنة بشكلٍ عام، فإنها تحديدًا وتعيينًا تمثيل قوي لما بعد-الحداثة بشكلٍ خاص، فيعرض فلسفةً تختلف روحها عن الروح المعهودة في الفلسفة الحديثة، أو كما تقول المقدمة: «إثارة تساؤلات مستجدة والانشغال بأشكالٍ مستجدة من الحوار ومناقشة موضوعات مستجدة مع أطرافٍ جدد»، وتبعًا للخطوط المستجدة في الفكر الفلسفي الراهن من قبيل الخطاب والخبرة وسردياتها والتفكيك وما إليه. بل إن الكاتبات لا يتورعن عن نقض قديم — أو بالأحرى نقض حديث وحداثي — وقلبه رأسًا على عقب إذا كان حائلًا من دون جديد مثمر مفضٍ إلى الأفضل.
الفلسفة تتجدد دائمًا، وليس أدل على طريقٍ جديد أو بعد-حداثي من أن الفلسفة الغربية الحديثة طويلًا ما لقنتنا أن الهمَّ الفلسفيَّ في صلبه هو «الأسسية»، بمعنى البحث عن أسسٍ بمنأى عن الشك تظل ثابتة ومتفردة لتبرير الأطروحة. وفي مقابل هذا، يأتي الفصل الأول من الكتاب، وهو درس جميل في فلسفة الجمعيات والتجمعات والمجتمعات الصغرى، الفلسفية والفكرية والاجتماعية والمهنية، ليبدأ بتفكيك النزعة الأسسية في فلسفة الأخلاق التي تبحث عن أسسٍ ثابتة عمومية لتبرير القيم والأحكام الخلقية؛ وذلك بحثًا عن فلسفةٍ خلقية جديدة قادرة على استيعاب الأعراف الثقافية والمعايير المحلية المختلفة. ثم يأتي الفصل الأخير من الكتاب، قويًّا ماضيًا، ليقتحم النزعة الأسسية التي هيمنت على الإبستمولوجيا وفلسفة العلوم، حتى الثلث الأخير من القرن العشرين، وما زال لها موضعها الحصين ودورها المهم ولكنه لم يعد الدور الوحيد. إنها الباحثة عن أسسٍ أو مبادئ أولية قادرة على تبرير ما يمكن أن نسميه معرفة، وجدها العلم حاسمة حازمة لازمة في الأسس التجريبية والمنطقية. وذلك لتوضيح كيف استنفدت الأسسية الإبستمولوجية مقتضياتها ووصلت إلى غايتها، ويجب استيعابها وتجاوزها إلى مرحلةٍ جديدة تأخذ في اعتبارها أن العلم بناء اجتماعي ثقافي، لا يهبط من السماء ولا يحلِّق في الفراغ ولا يمارسه فردٌ منعزل، بل ينشأ في إطار ثقافي له متواضعاته وحيثياته وأعرافه التي تلقي بثقلها، وبهذا يكون العلم محملًا بالقيم والأهداف الاجتماعية، ولا بد أن يكون ديمقراطيًّا يقبل التعددية الثقافية والاعتراف بالآخر. وهكذا يمكن أن نتفهم لماذا بات المصطلح الشائع الآن «فلسفات العلم» بدلًا من «فلسفة العلوم».
إنها ملامح فلسفة جديدة للعلم، تتكامل مع رؤية ساندرا هاردنغ، وهي في طليعة فلاسفة العلم المعاصرين أصحاب هذا التوجه نحو ما هو اجتماعي وحضاري معيش. في الفصل الرابع عشر تستكشف أبعاد التفاعل بين مقولاتٍ ثلاث تتميز بأنها بنائية وتحليلية معًا: الجنوسة والبيئة والتنمية المستدامة، وتبين أنها لا ينفصل بعضها عن بعض، وتساهم في فضح جرائم التنوير وحيوداته. وتطرح هاردنغ السؤال الجريء: هل الملايين التي تنفقها وكالات الشمال من أجل التنمية في دول الجنوب، تصب في مصلحة تلك الدول، أم أنها من أجل مواصلة المد الاستعماري الغربي بوسائل أخرى؟
ولا تفوتنا الإشادة بحدَّة أوفيليا شوته في الفصل الثالث في إدانتها للاستعمار الغربي، فتنظر إليه من حيث هو جريمة لا بد من التكفير عنها بالقضاء على كل ما تبقى من آثارها، وتحاول أن تستبين الطريق إلى هذا من خلال القضاء على ثنائية الأنا-الآخر في أنماطٍ للحوار بين الثقافات المختلفة، أو بتعبيرها الحوار العابر للثقافات. وتطرح تساؤلاتٍ من قبيل: هل يمكن للنسوية الغربية المعاصرة أن تتبرأ من القوى التاريخية للاستعمارية الغربية وما تفضي إليه من محوٍ للآخر؟ ما هي نقاط الالتقاء بين النسويات من الأقطار النامية والنسوية الغربية، هل ثمة أمل في طريقٍ جديد للنظر إلى الأشياء بفضل المذاهب النسوية بعد-الاستعمارية؟ ولا تكتفي بطرح هذه الأسئلة النبيلة، فتعمل على تحديد إجابات واضحة، مشددة على أن النسوية بعد-الاستعمارية تختلف عن النقد التقليدي للإمبريالية والاستعمار في أنها «تحاول أن تنأى بنفسها عن ثنائية الأنا-الآخر المتصلبة»، وتحمل الفصول ١١ و١٥ و١٦ موقفًا شبيهًا في مواجهة العنصرية البيضاء. وتعمل ليندا ألكوف على «تحويل احترام-الذات الجمعي من نزعةٍ طليعية عنصرية إلى التزامٍ مخلص بالقضاء على العنصرية» و«مشروع شامل للسعي نحو تطوير تحول جماعي إلى هويةٍ بيضاء لا عنصرية».
وفي جدلية المشترك/المختلف لا بد أن يثبت الاختلاف الثقافي ذاته. وتظل الفلسفة الغربية النسوية تحمل اختلافاتها عن منظومة القيم في عالمنا نحن. وقد تمثل التطرف الغربي بشكل عام في مسائل من قبيل امتلاك الإنسان لجسده وحرية الميول الجنسية، إلى درجة الكفاح من أجل اعتبار المثلية الجنسية حقًّا من حقوق الإنسان، وهو ما تصدعنا به وسائل الإعلام وتصريحات كبار المسئولين في الغرب! وثمة أيضًا الاختلاف في منطلقاتٍ أعمق، من قبيل اعتبار المرأة في حد ذاتها مبتدأً وغايةً، جريًا على منوال النزعة الفردية المميزة للحضارة الغربية بجملتها. وتظل حضارتنا لا تقبل التفكيك الغربي لمنظومة الأسرة. إنها ببساطة الاختلافات والتعددية الثقافية.
•••
وبالدخول في صلب الكتاب نجد — كما ذكرنا — كاتبات تختلف مشاربهن، بالتالي لكل فصلٍ موضوعه وأسلوبه وخلفياته ومصطلحاته الخاصة وأحيانًا المختلفة، ثم طابعه المختلف. وقد بذلت قصارى الجهد في نقل هذا إلى العربية نقلًا أمينًا مطابقًا نصًّا وروحًا. فضلًا عن أنهن يتعرضن لموضوعاتٍ مستجدة في الفكر الفلسفي، تستدعي لغةً جديدة ونحت تعبيرات فلسفية جديدة ومصطلحات جديدة، فكنَّ يشتققن صيغًا مستحدثة وغير مألوفة في اللغة الإنجليزية، واستلزم هذا أحيانًا استحداث مشتقات عربية على هذه الشاكلة (مثلًا: ناكث العرق والهوية المنكِّثة، العرَّافة-للامتياز، المُروِّغة-للامتياز … في الفصل السادس عشر).
•••
هكذا يعرض الكتاب للقارئ العربي جانبًا من الفكر ما بعد-الحداثي، يتجسد في فلسفاتٍ تودع المركزية الغربية وتوصد وراءها الأبواب وتتفتَّح للتعددية، من حيث تودع ما ساد الحداثة من حتميةٍ ميكانيكية وواحدية مادية ساحقة وعلمانية فجَّة، تعمل على إقصاء كل ما هو آخر سوى المادة، وعلى إنكارٍ للقيمة بكل أبعادها أو تحييد القيم. أصبحت المنظورات الفلسفية الراهنة أكثر مرونة وخصوبة وإنسانية وتفتحًا. وكما قال فييرآبند: ليس العلم نظامًا مقدسًا يستلزم الكفر بما عداه، بل هو نظام عقلاني ينمو ويزدهر وسط الأنظمة المعرفية الأخرى، وليس ذريعة لفرض النموذج الحضاري الغربي ووأد الثقافات الأخرى، فتحرم البشرية من خصوبةٍ وثراء وتعدد جوانب. إن نعمت بها تنعم بالعلم أكثر. وكما سنرى كانت الفلسفات النسوية من أشد السائرين فيه إصرارًا وأعلاهم صوتًا. وسوف تعرض الصفحات المقبلة جانبًا من استراتيجيات الدفاع الباسل عن الثقافات المختلفة وحمايتها من الغزو الثقافي وقهر ثقافة الآخر لها وتدميرها، ومن إحلالها بالثقافة الغازية المنتصرة، ثقافة المركز.
وأخيرًا، ينبغي ألا يظل نقض المركزية والتعددية الثقافية، مجرد تعرف على ثقافة الآخر أو ترديدًا لفكرٍ غربي، لا بدَّ من الاستفادة والتوظيف والتفعيل في خدمة ثقافة الأنا الحضاري، بعبارةٍ أخرى توظيف الفلسفة وجهود التنمية الفكرية من أجل تأكيد هويتنا، لا سيما في أخطر فعاليات العصر وفارس الحلبة المعرفية فيه؛ أي المنهج العلمي الذي لم يعد منفصلًا بحالٍ عن قيمه وأخلاقياته ومسئولياته الحضارية.
وحين نستطيع توطين البحث العلمي وموجهات التنمية توطينًا متجذرًا في أصول حضارتنا العربية الإسلامية ومنطلق التطلعات لتحقيق أهدافنا … فنخرج من وضع الأطراف ونحقق ذاتًا حضارية متميزة، مثلما تحققت في الصين أو في اليابان وسواهما، فسيكون ذلكم هو التحرير الفعال للشعوب العربية والإسلامية وربيعها اليانع، والترجمة الحقيقية ﻟ «نقض مركزية المركز».
القاهرة، في ٣١ أغسطس ٢٠١٢م