تصدير

تعمل الفلسفة النسوية على فضح ومقاومة كل هياكل الهيمنة وأشكال الظلم والقهر والقمع، وتفكيك النماذج والممارسات الاستبدادية، وإعادة الاعتبار للآخر المهمَّش والمقهور، وصياغة الهُويَّة وجوهرية الاختلاف.

المترجمة

اجتمعت على تأليف هذا الكتاب سبع عشرة كاتبة من أنضر الوجوه المُنجزة في الفكر النسوي، والفلسفة النسوية بدورها قد أثبتت وجودها كإضافةٍ حقيقية، وحرث للأرضية العقلية واستنبات لبذورٍ لم تُبذر من قبلُ، وباتت من المعالم البارزة في الفكر الفلسفي الراهن، الأقدر على استنطاق قواه النقدية. تُبرز النسوية قدرة الفلسفة المتوالية على أن تنبعث متجددة، عفية فتية دائمًا، تنفض عن ريشها غبار الذي انقضى، وتنطلق برؤاها الثاقبة لاستشراف آفاق ما هو آتٍ، مُتسلِّحةً بالثابت الديناميكي فيها: مناهجها النقدية التي تُسائل وتُحاوِر، لتستجيب لمستجدات واقع يمكن دائمًا أن يكون أفضل. أوَليست الفلسفة في النهاية هي الانعكاس المجرد الواعي لمرحلتها الحضارية، بقدر ما هي الرؤية النقدية؟

هؤلاء الكاتبات لهنَّ مواقع واتجاهات واهتمامات مختلفة. فجاء كلُّ فصلٍ بمنزلة وحدة مستقلة، يمكن أن يبدأ أو ينفرد بها القارئ. ومع هذا يتجلَّى أحد جمالات هذا الكتاب الكثيرة في حوارٍ داخلي عميق بينهنَّ، يصنع وحدةً عضوية ومنهجية تُحتذى، فتبدأ الكاتبة ممَّا انتهت إليه جهود أخرى، تُنصت إلى قولٍ آخر لتصدِّق عليه أو تستشهد به أو تنقده أو ترفضه، أو تحاول أن تتقدَّم ببديلٍ أفضل. يمتدُّ هذا إلى محاورة أخريات وآخرين وإسهاماتٍ مختلفة ذات صلة بالميدان.

وفي النهاية تأتي المحصلة لتسدَّ فراغًا في المكتبة العربية من حيث تُعطي صورةً حيَّةً نابضة لجوانبَ من الفلسفة الأمريكية المعاصرة، ليس في الولايات المتحدة الأمريكية فقط، بل أيضًا فلسفة القارة من كندا إلى المكسيك. ويمتد الحوار المتوهج إلى مناطق في أمريكا الجنوبية، فنتعرف على جوانبَ مثيرة من الفلسفة الأمريكية ومن واقع اللاتين، وأصول ثقافاتهم وعقائدهم وعوائدهم، وإنجازات فلسفية لهم جديرة بأن تستوقفنا، من قبيل نقد إنريك دوسيل الثاقب للتنوير الذي يكشف عن أساطير أوروبية حداثية، في جوهرها استعمارية، تسربلت بأزياء العقلانية الرشيدة والحقائق الموضوعية المطلقة؛ بغيةَ إقصاء الآخر وإحكام مركزية الغرب وهيمنته على العالمين. ويتوشج هذا مع الفلسفة النسوية التي انطلقت لتقويض المركزية الذكورية بما تنطوي عليه من بنيةٍ تراتبية سادت لتعني الأعلى والأدنى، امتدت في الحضارة الغربية من الأسرة إلى الدولة إلى الإنسانية جمعاء، فكانت أعلى صورها في الاستعمارية والإمبريالية. وكان استبعاد المركزية الذكورية استبعادًا للمركزية الغربية، وللاستعمارية والإمبريالية والعنصرية … تحريرًا للشعوب من الهيمنة الغربية. فتعمل النسوية على «فضح ومقاومة كل هياكل الهيمنة وأشكال الظلم والقهر والقمع، وتفكيك النماذج والممارسات الاستبدادية، وإعادة الاعتبار للآخر المهمش والمقهور، والعمل على صياغة الهوية وجوهرية الاختلاف، والبحث عن عمليةٍ من التطور والارتقاء المتناغم، تقلب ما هو مألوف وتؤدي إلى الأكثر توازنًا وعدلًا».١

ومن هذه المنطلقات بعد-الحداثية، بعد-الاستعمارية، يتخلق حوارٌ منفتح بين الشمال والجنوب، وبين كل الأطراف في عالمٍ لا مركزية فيه، ليأخذ كل طرف مكانًا له تحت الشمس، وليس في ظلال هيمنة آخر والتبعية له، فهذا الكتاب، أصلًا وهدفًا، من أجل تأكيد وتأصيل التعددية الثقافية، بما تقتضيه من تفهُّمٍ للاختلافات وقبول للآخر، نشدانًا لعالمٍ أكثر عدلًا وأكثر إنسانية، وأكثر خصوبة وثراء.

لم يأتِ هذا الدفاع المشبوب عن التعددية الثقافية في صورة خطاب إنشائي أو طوباوي، بل جاء خطابًا فلسفيًّا رصينًا، مسلحًا بصياغة مفاهيم دقيقة وبترسيم وتحليل استراتيجيات — خطابية وواقعية — فعالة لاستيعاب التعددية والتشاركية واجتثاث المركزية والاستعمارية من جذورها، تنضيدًا لعصر ما بعد الاستعمارية، وإيضاح إيجابياته وفاعليات توظيفها. وأيضًا يتتبع رواسب الاستعمارية الماثلة ومثالبها، ويتلمَّس الطرق للخلاص منها ومن آفات المركزية الغربية التي تبلورت في العنصرية، حتى يستحثَّ البيض على أن يعصفوا بالعنصرية البيضاء ليكونوا «ناكثين لها» غادرين بها، وفي هذا مجدهم وشرفهم.

ويناقش الكتاب استراتيجيات الخطاب العالمي، وحقوق الإنسان ومعوقات الديمقراطية، والمقاومة والقضايا الشائكة المتعلقة باللغة والقومية والهوية والغيرية والآخر واختلاف الثقافات … والمناطق الحدودية حيث تنفصل وتتصل ثقافتان، ويتعرض للاتجاهات الأصولية الصاعدة في الجنوب … هذا فضلًا عن بحث قضايا التنمية المستدامة والبيئة … وطبيعة التقدم العلمي والتقدم الإنساني، وتطوُّر الإبستمولوجيا [فلسفة المعرفة] ووحدة منهج العلم، وقيمه، والزعم بنمطٍ واحد ووحيد للمعرفة الكونية العامة … وكيفية تعظيم الإيجابيات وتقليص السلبيات في هذا، بما يحقِّق مصلحة كل الأطراف، وليس فقط مصلحة «المركز»، أو ما يريد أن يكون هو المركز.

وتترسَّم على صفحاتٍ عديدة معالم ومناهج وصعوبات الدعوة لاتحاد نساء الشمال ونساء الجنوب، واستكشاف وتقويم المفاهيم المتعلقة بالمرأة عبر الثقافات المختلفة. ولا ثقافة تفوق الأخرى أو تعتبر نفسها الأرقى؛ فالنسوية قامت أصلًا من أجل تقويض التراتبية الهرمية والبحث عن خطابٍ عولمي جديد تتشارك فيه كل الأطراف، وليس خطابًا موجهًا من المركز إلى الأطراف.

هكذا نستقي من هذا الكتاب كيف تكون الفلسفة حوارًا بين سائر الثقافات التي تشكِّل عالمنا، وضرورة إغلاق عصر المركزية الغربية وأي مركزية أخرى يرتدُّ معها البشر إلى مركز فاعل وأطراف مهمشة، إلى سائدٍ ومسود، من هنا كان العنوان «نقض مركزية المركز».

•••

وقد جاء الخطاب حيًّا نابضًا معيشًا إلى درجةٍ لافتة. ولا غروَ؛ فالنسوية تجسِّد روح الفلسفة الراهنة التي سبق أن انطلقت على مدار القرن العشرين، عازفةً عن بناء أنساقٍ شامخة، فأصبحت مناهج أكثر منها مذاهب؛ أي أسلوبًا للبحث وطريقة للنظر وليست مصفوفة من الحقائق أو بناءً مهيبًا من الأفكار المطلقة. الفلسفة — كما تتبدى لنا الآن — رؤية جماعية وجهد تعاوني وتحليلات متكاملة. وكل جهدٍ مخلص رصين مُقتفٍ للأصول يمكن أن يحتلَّ مكانه في المنظومة، فلم تَعُدِ الفلسفة هي كبد الحقيقة وقد تجلى لعبقرية فرد فريد يعرضها على تلاميذ أو قراء ينصتون ويرددون.

وفي هذا غلب الابتعاد عن المطلق والمجرد والذهني الخالص، والميل نحو الواقعي والعيني والجزئي والمعيشي والفعلي والنسبي والهامشي والعرَضي والمتغير والمتموضع، والتمسك بالتوجه المسئول نحو ما هو تطبيقي. وقد باتت الفلسفة التطبيقية٢ من شواغل القرن الحادي والعشرين؛ ومن ثم ينقل لنا الكتاب جوانب نابضة معيشة من واقع الثقافة الأمريكية المعاصرة، بقدر ما ينقل لنا فلسفةً تُدهشنا بتدقيقها في المصطلحات، ومنهجيتها وكيف تتوارد فيها الحجج ويتقابل الرأي والرأي الآخر.

ولئن كانت النسوية تمثيلًا لروح الفلسفة الراهنة بشكلٍ عام، فإنها تحديدًا وتعيينًا تمثيل قوي لما بعد-الحداثة بشكلٍ خاص، فيعرض فلسفةً تختلف روحها عن الروح المعهودة في الفلسفة الحديثة، أو كما تقول المقدمة: «إثارة تساؤلات مستجدة والانشغال بأشكالٍ مستجدة من الحوار ومناقشة موضوعات مستجدة مع أطرافٍ جدد»، وتبعًا للخطوط المستجدة في الفكر الفلسفي الراهن من قبيل الخطاب والخبرة وسردياتها والتفكيك وما إليه. بل إن الكاتبات لا يتورعن عن نقض قديم — أو بالأحرى نقض حديث وحداثي — وقلبه رأسًا على عقب إذا كان حائلًا من دون جديد مثمر مفضٍ إلى الأفضل.

الفلسفة تتجدد دائمًا، وليس أدل على طريقٍ جديد أو بعد-حداثي من أن الفلسفة الغربية الحديثة طويلًا ما لقنتنا أن الهمَّ الفلسفيَّ في صلبه هو «الأسسية»، بمعنى البحث عن أسسٍ بمنأى عن الشك تظل ثابتة ومتفردة لتبرير الأطروحة. وفي مقابل هذا، يأتي الفصل الأول من الكتاب، وهو درس جميل في فلسفة الجمعيات والتجمعات والمجتمعات الصغرى، الفلسفية والفكرية والاجتماعية والمهنية، ليبدأ بتفكيك النزعة الأسسية في فلسفة الأخلاق التي تبحث عن أسسٍ ثابتة عمومية لتبرير القيم والأحكام الخلقية؛ وذلك بحثًا عن فلسفةٍ خلقية جديدة قادرة على استيعاب الأعراف الثقافية والمعايير المحلية المختلفة. ثم يأتي الفصل الأخير من الكتاب، قويًّا ماضيًا، ليقتحم النزعة الأسسية التي هيمنت على الإبستمولوجيا وفلسفة العلوم، حتى الثلث الأخير من القرن العشرين، وما زال لها موضعها الحصين ودورها المهم ولكنه لم يعد الدور الوحيد. إنها الباحثة عن أسسٍ أو مبادئ أولية قادرة على تبرير ما يمكن أن نسميه معرفة، وجدها العلم حاسمة حازمة لازمة في الأسس التجريبية والمنطقية. وذلك لتوضيح كيف استنفدت الأسسية الإبستمولوجية مقتضياتها ووصلت إلى غايتها، ويجب استيعابها وتجاوزها إلى مرحلةٍ جديدة تأخذ في اعتبارها أن العلم بناء اجتماعي ثقافي، لا يهبط من السماء ولا يحلِّق في الفراغ ولا يمارسه فردٌ منعزل، بل ينشأ في إطار ثقافي له متواضعاته وحيثياته وأعرافه التي تلقي بثقلها، وبهذا يكون العلم محملًا بالقيم والأهداف الاجتماعية، ولا بد أن يكون ديمقراطيًّا يقبل التعددية الثقافية والاعتراف بالآخر. وهكذا يمكن أن نتفهم لماذا بات المصطلح الشائع الآن «فلسفات العلم» بدلًا من «فلسفة العلوم».

إنها ملامح فلسفة جديدة للعلم، تتكامل مع رؤية ساندرا هاردنغ، وهي في طليعة فلاسفة العلم المعاصرين أصحاب هذا التوجه نحو ما هو اجتماعي وحضاري معيش. في الفصل الرابع عشر تستكشف أبعاد التفاعل بين مقولاتٍ ثلاث تتميز بأنها بنائية وتحليلية معًا: الجنوسة والبيئة والتنمية المستدامة، وتبين أنها لا ينفصل بعضها عن بعض، وتساهم في فضح جرائم التنوير وحيوداته. وتطرح هاردنغ السؤال الجريء: هل الملايين التي تنفقها وكالات الشمال من أجل التنمية في دول الجنوب، تصب في مصلحة تلك الدول، أم أنها من أجل مواصلة المد الاستعماري الغربي بوسائل أخرى؟

ولا تفوتنا الإشادة بحدَّة أوفيليا شوته في الفصل الثالث في إدانتها للاستعمار الغربي، فتنظر إليه من حيث هو جريمة لا بد من التكفير عنها بالقضاء على كل ما تبقى من آثارها، وتحاول أن تستبين الطريق إلى هذا من خلال القضاء على ثنائية الأنا-الآخر في أنماطٍ للحوار بين الثقافات المختلفة، أو بتعبيرها الحوار العابر للثقافات. وتطرح تساؤلاتٍ من قبيل: هل يمكن للنسوية الغربية المعاصرة أن تتبرأ من القوى التاريخية للاستعمارية الغربية وما تفضي إليه من محوٍ للآخر؟ ما هي نقاط الالتقاء بين النسويات من الأقطار النامية والنسوية الغربية، هل ثمة أمل في طريقٍ جديد للنظر إلى الأشياء بفضل المذاهب النسوية بعد-الاستعمارية؟ ولا تكتفي بطرح هذه الأسئلة النبيلة، فتعمل على تحديد إجابات واضحة، مشددة على أن النسوية بعد-الاستعمارية تختلف عن النقد التقليدي للإمبريالية والاستعمار في أنها «تحاول أن تنأى بنفسها عن ثنائية الأنا-الآخر المتصلبة»، وتحمل الفصول ١١ و١٥ و١٦ موقفًا شبيهًا في مواجهة العنصرية البيضاء. وتعمل ليندا ألكوف على «تحويل احترام-الذات الجمعي من نزعةٍ طليعية عنصرية إلى التزامٍ مخلص بالقضاء على العنصرية» و«مشروع شامل للسعي نحو تطوير تحول جماعي إلى هويةٍ بيضاء لا عنصرية».

ولكن هل العنصرية — مثلًا — مشكلة محلية في الواقع الثقافي الأمريكي ولا تقوم في واقعنا المحلي العربي؟ إن جدلية المحلي والعالمي في صدارة القضايا المطروحة. ولنتذكر اثنين من رواد الأدب العربي: الروائي العظيم نجيب محفوظ. وقد جعل المحلي عالميًّا يفوز بجائزة نوبل، أحيانًا محلي جدًّا في أزقة وحواري القاهرة القديمة. وفي المقابل عميد المسرح العربي توفيق الحكيم حين جعل من العالمي؛ من أوديب وبراكسا وبغماليون … محليًّا نابضًا في ثقافتنا العربية. وهذا التفكير النسوي الباحث عن التعددية الثقافية فيما بعد-الاستعمار وما بعد المركزية الغربية يدرك أن المحلي هو الواقعي المعيش، ويأبى اكتساح العالمي لما هو محلي، أو العكس، فيخوض بحذرٍ بالغ في الحدود بينهما. يطرح السؤال: متى نجعل من المحلي عالميًّا. ومن العالمي محليًّا؟ وكيف يمكن تخطي العقبات المحلية التي تحول دون التفكير العولمي؟ وفي محاولة الفيلسوفة الكندية المتميزة لورين كود٣ لتبين الطريق إلى التفكير العولمي الشامل لكلِّ الأطراف، نجد مناقشةَ التقابل بين النسبوية والمطلقية، في منطق الاختلافات الحضارية، ونتعجب حين نشكو من طغيان الثقافة الأمريكية وتهميشها للثقافة الكندية، وكأن كندا من الدول النامية. ولكن ألا يعني هذا أن المشترك الثقافي أوسع مما نظن؟ وتقف باتريشيا هل كولينز على الفجوة الواسعة بين ما يرفعه الدستور الأمريكي من قيم المساواة للجميع وما يشهده الواقع هناك من تفاوتٍ وظلم وتراتبات هرمية بفعل الجنوسة والعنصرية والطبقة الاجتماعية. إذن الفجوة بين الواقع والمثال همٌّ إنساني مشترك.

وفي جدلية المشترك/المختلف لا بد أن يثبت الاختلاف الثقافي ذاته. وتظل الفلسفة الغربية النسوية تحمل اختلافاتها عن منظومة القيم في عالمنا نحن. وقد تمثل التطرف الغربي بشكل عام في مسائل من قبيل امتلاك الإنسان لجسده وحرية الميول الجنسية، إلى درجة الكفاح من أجل اعتبار المثلية الجنسية حقًّا من حقوق الإنسان، وهو ما تصدعنا به وسائل الإعلام وتصريحات كبار المسئولين في الغرب! وثمة أيضًا الاختلاف في منطلقاتٍ أعمق، من قبيل اعتبار المرأة في حد ذاتها مبتدأً وغايةً، جريًا على منوال النزعة الفردية المميزة للحضارة الغربية بجملتها. وتظل حضارتنا لا تقبل التفكيك الغربي لمنظومة الأسرة. إنها ببساطة الاختلافات والتعددية الثقافية.

•••

وكما يقال: من يؤلف كتابًا ينتظر المديح. أما من يترجم كتابًا فحسبه أن ينجو من اللوم. ولم يكن سهلًا أن أنجو من اللوم حين ترجمت مثل هذا الكتاب. وكم قضيتُ أيامًا أفكر وأحاور في مفردةٍ واحدة وأقلِّبها على وجوهها، منذ أول كلمةٍ في الكتاب؛ أو في عنوانه مثلًا! حتى استرحت إلى «نقض المركزية» decentring، ما دام النقض هو إبطال ما سبق أن انعقد، وهو النبذ والمعارضة، وكما يخبرنا معجم المصباح المنير «هو اسم البناء المنقوض إذا هُدم»، وهذا هو عين المقصود.٤

وبالدخول في صلب الكتاب نجد — كما ذكرنا — كاتبات تختلف مشاربهن، بالتالي لكل فصلٍ موضوعه وأسلوبه وخلفياته ومصطلحاته الخاصة وأحيانًا المختلفة، ثم طابعه المختلف. وقد بذلت قصارى الجهد في نقل هذا إلى العربية نقلًا أمينًا مطابقًا نصًّا وروحًا. فضلًا عن أنهن يتعرضن لموضوعاتٍ مستجدة في الفكر الفلسفي، تستدعي لغةً جديدة ونحت تعبيرات فلسفية جديدة ومصطلحات جديدة، فكنَّ يشتققن صيغًا مستحدثة وغير مألوفة في اللغة الإنجليزية، واستلزم هذا أحيانًا استحداث مشتقات عربية على هذه الشاكلة (مثلًا: ناكث العرق والهوية المنكِّثة، العرَّافة-للامتياز، المُروِّغة-للامتياز … في الفصل السادس عشر).

الأولوية مبدئيًّا لترجمة المصطلح، لكن لا ضير من التعريب، فإن كان أوفى ولا يوجد بديل أفضل فهو مفردة جديدة أضيفت. في الحد الأعلى القرآن الكريم ذاته احتوى تعريبًا لألفاظٍ غير عربية (سندس، إستبرق، قسورة …)، وفي الحد الأدنى عَربت التداولية واللغة الجارية ألفاظًا وأفرطت في استعمالها إلى درجةٍ تجعل ترجمتها تكلفًا وتصنعًا، مثل مصطلح «فلسفة»٥ ذاته. وقياسًا على هذا لا مانع من استخدام مصطلحات من قبيل استراتيجية وأجندة وإبستمية وإبستمولوجيا وسيناريو وميستيزية (تمازج الأعراق) … وأضفنا هوامش شارحة للمصطلحات المستجدة والمحورية مثل هذا الأخير. وفي بعض الأحيان لا مانع من استخدام الترجمة والتعريب كليهما، مثلًا باراديم أو نموذج إرشادي … تكنولوجيا أو تقانة، وفق ما يقضي السياق ويفيد في نقل روح النص، ولا يصلح الالتجاء لقاعدةٍ آلية جامعة مانعة. كل جملة تُعامل بما يفضي إلى استقرارها في نص الترجمة الذي هو إعادة بناء للنص الأصلي. وتظل ترجمة النصوص العميقة ذات المضمون الثري إبداعًا إنسانيًّا، وليست إنجازًا آليًّا. وإذا كانت ما بعد-الحداثة التي ندور في فلكها الآن قد أعلنت موت المؤلف؛ فذلك يعني تعاظم المسئولية العسيرة للمترجم؛ ومن ثم كل مصطلحٍ يحتاج إلى قرارٍ خاص مسئول.
لذا، فعلى الرغم من شيوع تعريب المصطلح المحوري والأساسي هنا أي Postcolonialism فيقال كثيرًا «ما بعد-الكولونيالية»، فقد بدا لي من الضروري جدًّا ترجمته إلى «ما بعد-الاستعمارية». ليس فقط لأن الترجمة العربية دقيقة ووافية، لكن أيضًا وقبلًا لأن نقل روح الفكر بعد-الاستعماري يحتاج إلى سيمانطيقة لفظ «الاستعمار» في الثقافة العربية وما يرتبط من دلالةٍ سلبية وميراث ممقوت. نحن الذين عانينا الاستعمار طويلًا، علينا أن نرحب بالفكر ما بعد-الاستعماري بمجامع أنفسنا ومجامع لغتنا العربية، فلماذا هذا اللفظ الناعم: كولونيالية؟! وعلى العكس بدا تعريب patriarchy إلى «البطريركية» أفضل من ترجمتها إلى «الأبوية» التي قد يخالطها إيحاء إيجابي عذب، لا يساعد في إدانة النظام البطريركي التي ينشد النص شحذها في ذهن القارئ.
الفيصل فيما ينقل روح النص والمغزى والدلالة. أما المرهق حقًّا من أجل تدقيق الترجمة، فكان في التمييز في كل موضعٍ حين ترجمة مصطلح feminists، فهل يقتضي السياق أن تأتي «نسويون» أم «نسويات»؟ فهذا ما لا تفصح عنه الإنجليزية دائمًا، عكس العربية. وليست الفلسفة النسوية مقصورة على النساء حصريًّا؛ فهناك دارسون ومفكرون كُثْر تحمسوا لقضاياها وأسهموا فيها إسهامًا وفيرًا، وثمة الرجال النسويون — توقفت إزاءهم ساندرا هاردنغ — والرجال أصحاب النظريات والرؤى والإسهامات التي توشجت بالفكر النسوي واعتمدت عليهم الكاتبات اعتمادًا كبيرًا، واضعات إياهم في صلب الحلبة، من الفلاسفة العظام، أمثال: جون ستيوارت مل وكواين وتوماس كون وفييرآبند وفوكو ولاكان … حتى علماء الاقتصاد والأنثروبولوجيا والمفكرون ما بعد-الاستعماريين، أمثال: أمارتيا سن وستيفن مارجلين وآرتورو سكوبار، وإنريك دوسيل وآيم سيزير ودي بويس، وجيمس سكوت الذي بحث مقاومة الفنون للهيمنة وصمويل دلاني … وجمع آخر غفير، وهؤلاء وسواهم، وأيضًا الأعلام الكثر المذكورة أسماؤهم في «المقدمة» التالية، سوف يتعرف القارئ عليهم وعلى إسهاماتهم في الصفحات المقبلة، إما في سياق المتن، أو في هوامش أضفتُها لكي تكتمل الصورة أمام القارئ العربي.

•••

هكذا يعرض الكتاب للقارئ العربي جانبًا من الفكر ما بعد-الحداثي، يتجسد في فلسفاتٍ تودع المركزية الغربية وتوصد وراءها الأبواب وتتفتَّح للتعددية، من حيث تودع ما ساد الحداثة من حتميةٍ ميكانيكية وواحدية مادية ساحقة وعلمانية فجَّة، تعمل على إقصاء كل ما هو آخر سوى المادة، وعلى إنكارٍ للقيمة بكل أبعادها أو تحييد القيم. أصبحت المنظورات الفلسفية الراهنة أكثر مرونة وخصوبة وإنسانية وتفتحًا. وكما قال فييرآبند: ليس العلم نظامًا مقدسًا يستلزم الكفر بما عداه، بل هو نظام عقلاني ينمو ويزدهر وسط الأنظمة المعرفية الأخرى، وليس ذريعة لفرض النموذج الحضاري الغربي ووأد الثقافات الأخرى، فتحرم البشرية من خصوبةٍ وثراء وتعدد جوانب. إن نعمت بها تنعم بالعلم أكثر. وكما سنرى كانت الفلسفات النسوية من أشد السائرين فيه إصرارًا وأعلاهم صوتًا. وسوف تعرض الصفحات المقبلة جانبًا من استراتيجيات الدفاع الباسل عن الثقافات المختلفة وحمايتها من الغزو الثقافي وقهر ثقافة الآخر لها وتدميرها، ومن إحلالها بالثقافة الغازية المنتصرة، ثقافة المركز.

وأخيرًا، ينبغي ألا يظل نقض المركزية والتعددية الثقافية، مجرد تعرف على ثقافة الآخر أو ترديدًا لفكرٍ غربي، لا بدَّ من الاستفادة والتوظيف والتفعيل في خدمة ثقافة الأنا الحضاري، بعبارةٍ أخرى توظيف الفلسفة وجهود التنمية الفكرية من أجل تأكيد هويتنا، لا سيما في أخطر فعاليات العصر وفارس الحلبة المعرفية فيه؛ أي المنهج العلمي الذي لم يعد منفصلًا بحالٍ عن قيمه وأخلاقياته ومسئولياته الحضارية.

وحين نستطيع توطين البحث العلمي وموجهات التنمية توطينًا متجذرًا في أصول حضارتنا العربية الإسلامية ومنطلق التطلعات لتحقيق أهدافنا … فنخرج من وضع الأطراف ونحقق ذاتًا حضارية متميزة، مثلما تحققت في الصين أو في اليابان وسواهما، فسيكون ذلكم هو التحرير الفعال للشعوب العربية والإسلامية وربيعها اليانع، والترجمة الحقيقية ﻟ «نقض مركزية المركز».

يمنى طريف الخولي
القاهرة، في ٣١ أغسطس ٢٠١٢م

هوامش

(١) هذا ما عنيته في بحثي: النسوية وفلسفة العالم، في مجلة «عالم الفكر»، المجلد ٣٤، العدد الثاني، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أكتوبر–ديسمبر ٢٠٠٥م، ص٩–٦٩، ثم يأتي كتاب «نقض مركزية المركز» المصداق البليغ على هذا.
(٢) في كلية الآداب بجامعة القاهرة، فضلًا عن الاهتمام بتعيين أهمية الفلسفة التطبيقية في المقررات الدراسية ذات الصلة، تم استحداث دبلوم دراسات عليا في «الفلسفة التطبيقية»، وتنظيم برنامج في التعليم المفتوح للفلسفة النظرية والتطبيقية.
(٣) لورين كود فيلسوفة نسوية متميزة؛ لأن الجمعية الأمريكية للنساء الفلاسفة (أو للنساء في الفلسفة) منحتها لقب المرأة الفيلسوفة المتميزة للعام ٢٠٠٩م. وكود لها قول ثاقب في تبيانه لتطابق المركزية الذكورية والاستعمارية، وهو أن الظلم الذي نراه في معالجة أرسطو للنساء والعبيد هو عينه الظلم في معالجة شعوب العالم الثالث. إنه «تصنيف البشر والكيل بمكيالين»، وقد حررت كود موسوعةً ضخمة وافية للفلسفة النسوية، صدرت طبعتها الأولى العام ٢٠٠٠م، ثم توالت طبعاتها، وهي: Lorraine Code (ed.), Encyclopedia of Feminist Theories, Routledge & Kegan Paul, London & New York.
(٤) من ناحيةٍ أخرى حين نتأمل هذا العنوان «نقض مركزية المركز» ندرك حصافة ما ارتاح إليه الخطاب العربي طويلًا، من الاستعانة بالمصدر الصناعي في صياغة المصطلحات مثل حتمية ومثالية وإنسانية … فالأصح نقض المركزية، وليس نقض المركز، وقياسًا على هذا كثيرًا ما بدت لي «ما بعد الاستعمارية» أفضل من «ما بعد الاستعمار».
(٥) تم إدماج مصطلح «فيلوصوفيا» (أي حب الحكمة) الإغريقي في معظم لغات العالمين، ولكن ليس في جميعها. اليابان مثلًا صاحبة تجربة نهضوية وحضارية تُحتذى، حين تعرفت على الفلسفة، فقط في أواسط القرن التاسع عشر، ابتدعوا لها اسمًا يابانيًّا هو «تتسو جاكو» أي «علم الحكمة»، وهو المصطلح الساري هناك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤