مقدمة
إن تنامي الحركات السياسية النسوية في العديد من الدول-القومية قد منح الاهتمامات النسوية حضورًا عولميًّا متزايدًا.
إن قدرًا لا يستهان به من التفكير النسوي في يومنا هذا إنما يمارس فعله عبر الحدود، بطرقٍ من شأنها أن تزعزع أطرًا فلسفية وسياسية مألوفة. إنه يتجاوز تشكلات المساق التقليدي للدرس النظامي، مستعيرًا المقاربات المنهجية لمجالاته ولأموره العينية معًا، ودامجًا ومبدلًا إياها. فضلًا عن ذلك، تتزايد الكتابات النسوية المعنية بعوامل من قبيل الطبقة والعرق والإثنية والتوجه الجنسي والدين، تلك العوامل التي تشكل بأساليب متعددة حيوات الجماعات المختلفة من النساء والرجال داخل الثقافات المعاصرة والدول-القومية في عصرنا الراهن. وأيضًا تتجاوز الكتابات النسوية حدود الأقاليم والقوميات والقارات، ما دام النسويون قد وجدوا أنه لا بد من «التفكير عالميًّا، والتصرف محليًّا» طبقًا للشعار الرائج. إن ما يحدث «هنا» يمارس تأثيره فيما يمكن التفكير فيه وما يجري فعله «هناك»، والعكس بالعكس. تضطلع هذه النوعية من الكتابات النسوية بالإفصاح عن رؤيةٍ سياسية تتجاوب مع الاختلاف الذي تحدثه مثل تلك الارتباطات المتداخلة في منظورات المنظِّرين النسويين وفي مصالح النساء على السواء. إن هيئة أطر المفاهيم التي ترشد السياسات العامة يمكن أن تكون مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى الرجال والنساء جميعًا، ليس فقط بصفةٍ محلية ولكن أيضًا في الدول القومية الأخرى.
وما هو أكثر دلالة وأهمية، أن هذه المقالات جعلت بؤرة اهتمامها مسائل فلسفية تخلقها زوايا النظر الجديدة في مذاهب نسوية تتنامى من حولنا متبنيةً التعددية الثقافية والعولمة وما بعد-الاستعمارية. ولا يمكن الاقتصار على إضافة اهتمامات هذه المذاهب إلى اهتمامات الاتجاه السائد للفلسفات النسوية في العقود القليلة الماضية من دون قلقلة توجهات ذلك الاتجاه، تمامًا كما لا يمكن إضافة الاتجاه السائد في الفلسفة النسوية إلى مقولات وفرضيات الفلسفة التقليدية من دون قلقلة وضع هذه الأخيرة. والحق أن اهتمامات النسوية بالتعددية الثقافية والعولمة وما بعد الاستعمارية قد بدَّلت أفكار الاتجاه السائد عن الخبرة وحقوق الإنسان وأصول المسائل الفلسفية والاستخدامات الفلسفية للتشبيهات المجازية بالأسرة ومناهضة العنصرية البيضاء والتقدم الإنساني والتقدم العلمي والحداثة ووحدة المنهج العلمي واستصواب دعاوى المعرفة الكونية العامة، ومسائل أخرى أساسية في الفلسفة.
«التعددية الثقافية» و«العولمة» و«ما بعد الاستعمارية» لها في الحياة المعاصرة معانٍ ومدلولات عديدة مختلفة. وبينما تظل هذه المصطلحات ذاتها موضعًا للمحاجَّة والمساجلة، باتت مسائل مركزية في تنظيراتٍ نسوية، وذلك بأساليبَ عديدة ومتباينة. إن تنامي الحركات السياسية النسوية في العديد من الدول-القومية قد منح الاهتمامات النسوية حضورًا عولميًّا متزايدًا. ومسائل من قبيل حقوق الإنسان للمرأة أو التنمية الاقتصادية لا تقتصر على عبور حدود الدول، بل تثير تساؤلات مهمة حول الآثار المستمرة للتاريخ الاستعماري ومثول علاقات الاستعمار-الجديد الاقتصادية والسياسية، وكيف ينبغي أن يفهم النسويون هذا وذاك ويوظفوه. وأيضًا تواصل الحركات النسوية نضالها في سياقاتٍ قومية مختلفة لكي تجعل الأجندات النسوية مستجيبة لاهتمامات السكان والشعوب من القوميات المتغايرة، جاعلة المناظرات حول التعددية الثقافية تحسم أمر نجاحها السياسي.
يحدونا الأمل في أن تقدم القضايا المثارة عبر هذه الأوراق مصادر لتفكير أكثر تركيبًا وأكثر إثمارًا داخل الفلسفة النسوية في جميع المجالات وفي سائر أشكال مشاغل هذه الفلسفة. وأيضًا نأمل أن تمثل هذه المسائل تحديًا للقارئ ليتأمل تغيرات العلاقات الاجتماعية وكيف ينشأ عنها دومًا الحاجة لمراجعة الأطر الفلسفية. وما دام الاعتراف بالإنسانية الكاملة ﻟ «الآخرين» المختلفين عن مثال الإنسان الحداثي — الآخرين كالنساء والشعوب من الأعراق والثقافات غير الأوروبية — فينبغي أن نتوقَّع تبدلات في خلفيات فروع الفلسفة الغربية من الميتافيزيقا إلى الإبستمولوجيا والأخلاق والفلسفة السياسية، بل فلسفات العلم أيضًا. وتؤكد هذه المقالات في مجملها درجات ازدياد الثراء والتبدل والتحول الذي طرأ على خلفية الفلسفة المعاصرة بفعل النسوية الرافعة للواء ما بعد الاستعمارية والتعددية الثقافية وانشغالها بمسائلَ ملحَّة على مستوى الفكر والممارسة معًا.
مؤلِّفات هذا الكتاب جميعهنَّ معنيات باستكشاف مؤسسات التعددية الثقافية والعولمة وما بعد الاستعمارية، وثقافاتها وممارساتها، وكيف تخلق فرصًا سانحة لإثارة تساؤلات مستجدة، وللانشغال بأشكالٍ مستجدة من الحوار ومناقشة موضوعات مستجدة مع أطرافٍ جدد، وتنظيم أشكال مختلفة من العلاقات الاجتماعية مغايرة لكل ما كان مألوفًا أو ممكنًا. ويمكن أن نفهم هذه الإسهامات على أنها محاولات لاستبصار ومقاسمة حوارات ديمقراطية ليست إيقانية متزمتة ومفتوحة النهايات، من تلك النوعية التي تعد جوهرية ومصيرية في المحاولات النسوية لتصور وتهيئة مؤسسات وممارسات أكثر شمولية ومساواة. وكثيرًا ما تتعارض الحجج المسوقة عبر هذه الأوراق وعلى نحوٍ نأمل منه أن يستحث التأمل والتفكير إلى آفاقٍ أبعد، وعادة ما تكون هذه التوترات علامة على صعوبة أو استحالة الوصول إلى «إجابات صحيحة» متفردة عن الأسئلة المعقدة المثارة في عالمنا المعاصر.
تدرس جاغار إمكانية الحوار النسوي العالمي، خصوصًا بين مجتمعات النسوية الغربية ومجتمعات العالم الثالث التي تكافح من أجل الارتقاء بمصالح المرأة، وتنشغل بالسؤال العسير حول من يمكن أن يشارك في مثل هذا الخطاب، وهي تحذر من افتراض مجتمع نسوي عالمي يمثل كلًّا واحدًا، وتقيم الحجة على أننا نتعرف على مثل هذا المجتمع بوصفه مكونًا من شبكاتٍ خطابية تتعدد وتتداخل أطرافها. إنه مجتمعٌ دائمًا قيد التكوين، ودائمًا يمكن إعادة تخيله. وتشير جاغار إلى عدَّة أساليب لتبادل الخطاب بين مثل هذه المجتمعات النسوية عبر أرجاء العالم، ويمكن عن طريقها أن تكون محطًّا لانطلاق منظورات نقدية مهمة للمسائل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية الجارية الآن، والتي تحتل مواقع جوهرية في الأجندات النسوية داخل السياقات القومية وعبرها في آنٍ واحد.
ويتركَّز مقال سوزان أوكين «النسوية وحقوق الإنسان للمرأة والاختلافات الثقافية» حول أوجه النجاح الفعلي في العالم الواقعي، والتي أحزرها مجتمع الخطاب النسوي العابر للقوميات أنه مجتمعٌ من النشطاء والمفكرين المنشغلين ببرامج حقوق الإنسان العالمية والقومية، وكيف يجعلونها مستجيبة لتأزمات المرأة ومصالحها. إن جانبًا من التنمية الناجحة لدعاوى نشطاء حقوق الإنسان النسويين بات في مراسم إضفاء السمة العالمية على دعاواهم، وتشير أوكين إلى بعض التوترات ذات الأهمية بين هذا وبين أوجهٍ معينة من نقد النسوية الغربية للتعميمات المفرطة في قضايا جوهرية. وقد بدت هذه التعميمات مترددة أو متناقضة بشأن توسيع مدى نشر الأفكار التي اكتسبت الصفة العالمية العمومية. وتجادل أوكين بأن أجنداتٍ نسوية من هذا القبيل قد مثَّلت تحديًا لتصور حقوق الإنسان المتفق عليها والذي صاغه جون لوك، وحديثًا صاغه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام ١٩٤٨م. وأيضًا تتحدى تلك الأجندات المناعة المفترضة للأسرة وللممارسات الدينية أمام اعتبارات حقوق الإنسان. إن تحليلات أوكين تؤيد بأشكالٍ عديدة أطروحة جاغار بشأن أهمية مجتمعات الخطاب النسوي التي تتعدد وتتداخل بوصفها منطلقات لتحدياتٍ نقدية سياسية تواجه الأمر الواقع القومي والعابر للقوميات.
وتنشغل لورين كود في مقالها «كيف نفكر تفكيرًا عالميًّا: توسيع حدود الخيال» باعتباراتٍ حول الأجندات النسوية العابرة للقوميات، وكيف نجعلها تتناول مسائل الاختلاف، بما في ذلك الاختلاف الثقافي. تصطنع كود تركيبًا من انجذابها الخاص للنسبوية، مدفوعًا بتحدي الافتراضات الغربية الزاعمة امتلاك «القصة الحقيقة الواحدة والوحيدة». وفي الوقت نفسه تعترف بأن مواقف من قبيل معالجة جماعة طالبان الأصولية في أفغانستان لوضع المرأة، إنما تمثل حالات اختبار عسير لتلك الإغراءات النسبوية. تحلِّل كود استراتيجيات متنوعة يتضمنها توصيف تشاندرا موهانتي للمرأة في مواقعَ شتى في منظومة الاقتصاد العالمي؛ وذلك لكي تستكشف طريقًا للتحليل قد يمكِّن النسويين من التفاوض بشأن المشاكل المستعصية التي تبدو ناجمة عن الاختيار العسير بين العمومية الكونية والنسبوية، وهي تتأمل أيضًا موضعها كمواطنةٍ كندية، وكيف يمكن أن ينقح هذا منظوراتها النسوية لمسائل الاختلاف الثقافي والتعاون النسوي العابر للقوميات.
في معظم الأحيان لا تبدو الكتابات النسوية في التعددية الثقافية وما بعد الاستعمارية مماثلة كثيرًا للكتابات الفلسفية المعاصرة، لا في الأسلوب ولا في الموضوعات، ومع ذلك فإن كثيرًا من مثل هذه الكتابات يسهم في الفلسفة النسوية باستبصاراتٍ نافذة وتحليلات مهمة. لقد توجَّهنا إلى مؤلِّفاتٍ كثيرات بطلب موجز مفاده أن يستعرضن أمام قراء «هيباثيا» المختلفين ما هو مناسب للفلسفة خصوصًا ضمن ما يحويه جماع الكتابات النسوية الحديثة الوافرة. وتلقي أندريه ناي في مقالها «إنها ليست فلسفة» نظرةً جديدة على بعض الكتابات المؤثرة من حقبة الثمانينيات بأقلام ترينه منه-ها وباتريشيا هل كولينز وغلوريا آنزالدوا وماريا لغونز، والعملين اللَّذين أخرجتهما إليزابيث سبلمان وريجينا هاريسون. إن العديد من فلاسفة النسوية يستخدمن بالفعل استبصاراتٍ واردة في مثل هذه الكتابات لتبديل المقولات والمفاهيم التي تشكِّل فلسفتهنَّ للأخلاق أو الإبستمولوجيا، أو مفهومهن عن النفس. ومع هذا، فإن الممارسة الأسهل والأكثر ذيوعًا هي الاقتصار على ذِكر مثل هذه الكتابات في الهوامش من دون اتخاذ الخطوة المهمة المتمثلة في استخدامها لإعادة التفكير في أنماط المشاريع التي نتعلمها ولا نزال نُسْتَحث على التفكير فيها بوصفها فلسفة متفردة. تلقي تأملات ناي في هذه الأعمال الضوءَ على تلك الأشكال المستجدة من الفكر، وكيف ينبغي في فترات التغير الفكري أن تحتلَّ موضعًا «على رأس سنام إعادة تعريف حب المعرفة» الذي تطرحه هذه الأشكال الجديدة من الفكر.
لعب مفهوم الخبرة دورًا مركزيًّا في العديد الجم من النصوص الفلسفية، واستحضرته النسويات المنشغلات بالكفاح من أجل تحقيق الذات. وفي مقالها «تشاندرا موهانتي وإعادة القيمة للخبرة»، تستخدم شاري ستون-مدياتور عمل تشاندرا موهانتي، وبالمثل عمل غلوريا آنزالدوا وصمويل دِلاني لاستكشاف الإمكانات المطروحة أمام مفهومٍ للخبرة متين ومفيد فلسفيًّا يمكنه تجنب الصعاب الناشئة عن المقاربات التجريبية وعن ملامح معينة في مقاربات بعد-بنيوية. وعلى طول المدى تقوم بتحديد لماذا كانت تلك السرديات حاسمة على هذا النحو في رفع النقاب عن التوترات بين اللغة والخبرة، حتى إنها كثيرًا ما تؤدي إلى استحداث إبداعاتٍ تصورية ذات قيمة.
وتتقدم آيدا أورتادو في مقالها «الأمكنة واللغات: التشيكانيات ينظرن إلى المذاهب النسوية» بما هو مطلوب من نظرةٍ شاملة وتركيب جامع لمختلف مساهمات مذهب النسوية التشيكاني، على مدى يبدأ من حركة نشطاء التشيكانية في ستينيات القرن العشرين وصولًا إلى الكتابات المعاصرة للنسويات التشيكانيات ذات التأثير. وتستثير الدارسين من غير التشيكان بألا ينشغلوا فقط بالنصوص التشيكانية النمطية القليلة، بل أيضًا بالمقاصد المرئية المختلفة الأوسع في مداها من هذه الكتابات، وعبر هذا الطريق تقوم آيدا بتوثيق استخدام النسوية التشيكانية لأشكالٍ مختلفة من مناهج إنتاج المعرفة، وتلفت الانتباهَ إلى التنوع الداخلي في صميم المجتمعات المحلية التشيكانية بالولايات المتحدة الأمريكية، حتى وهي تشير إلى بعض التماثلات شديدة الدهاء لكيفية الخبرة بالتحيز الجنساني، وكيفية إعادة إنتاجها في هذه المجتمعات المحلية.
وفي مقالها «كل شيء في الأسرة: تقاطعات الجنوسية والعرق والقومية»، تفحص باتريشيا هيل كولينز الاستعارات التشبيهية بالأسرة وكيف زوَّدتنا بطرقٍ للتفكير في جوانب مختلفة من التنظيم الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية-من بنيات الهيمنة ومن خطابات المقاومة على السواء. تفحص كولينز أبعاد الجنس في مثال الأسرة التقليدية الذي امتدَّ بوصفه تشبيهًا مجازيًّا يغطي الأشكال الأخرى من العلاقات، بدءًا من استخدام «روابط الدم» لبناء تصورات الأسر النووية وشبكات علاقات القرابة. ليس هذا فحسب، بل أيضًا تصورات «الأسر العرقية» و«القوميات الإثنية» تلك التي تُستخدم لتعريف الانتماء للولايات المتحدة كأمةٍ سياسية. وبتفريغ مضامين التشبيهات المجازية الأسرية الأخرى، تدرس كولينز الأدوار التي يمارسها المكان والأرض والأفكار في تطبيع التراتب الهرمي، والتبريرات المعيارية لتوزيع الثروة الاجتماعية التي تنتج التراتبات الطبقية، والتجليات المؤمثلة للحقوق والمسئوليات التي تضع تعريفات العضوية في الأسرة. وتختتم كولينز مقالَها بمناقشة التشبيهات المجازية ﻟ «تنظيم الأسرة» التي تسرَّبت إلى السياسات العامة، متراوحة بين المبادئ التاريخية لليوجينيا؛ أي التهجين العرقي من أجل تحسين سلالة البشر، وصولًا إلى قيم الروابط الأسرية المعاصرة وإلى الأسئلة المتَّصلة بجودة الحياة والفقر والإنجاب. وأيضًا تتطرق اهتمامات كولينز هنا إلى الطريقة التي تجعل التشبيهات المجازية للأسرة ذاتها تلقي الضوءَ على تقاطعات العرق والجنوسة والقومية، وعلاقات اجتماعية أخرى على هذا النحو، بنيوية ورمزية.
في صفحاتٍ أسبق جرى التلميح إلى مسائل تتعلق بما يسمى التنمية في العالم الثالث. بَيد أن مجموعة المقالات التالية تلقي نظرةً مباشرة وأكثر تركيزًا صوب المكنونات الفلسفية لعمليات إعادة تقويم مشاريع التنمية في العالم الثالث التي ظهرت في السنوات القليلة الماضية، تنسحب معالجاتها إلى أدبيات مختلفة وتنطوي على اهتماماتٍ متعينة بمسائل متفرقة. النسوية الجنوبية والنسوية الشمالية كلتاهما ساهمت في هذه التقريرات والتقويمات. وتتقدم تقريرات باركر وفيرغسون ورايت ولانغ وهاردنغ بزوايا جديدة للنظر في المقولات والفرضيات المعهودة في الأخلاق والميتافيزيقا والإبستمولوجيا وفلسفات العلم.
وطلبنا من دروسيلا ك. باركر المتخصصة في اقتصاديات التنمية أن تقدم تعريفاتٍ موجزة لبعض الدعاوى الفلسفية المطروحة في أحدث الكتابات عن الجنوسة والبيئة والتنمية؛ وذلك لقراء دورية «هيباثيا»، وهم قد لا يكونون على إلف بمثل هذه الدعاوى. وعن طريق التركيز على الإبستمولوجيا، أشارت باركر إلى السردية الرومانتيكية ﻟ «حلم عصر التنوير» حيث يتواصل عمل الاقتصاد التنموي، وإلى منظومات المعرفة غير الحداثية بوصفها مصدرًا لبناء إبستمولوجيات من أجل «مشروعات تحررية جماعية من دون استنساخ أنماط التراتب الهرمي والهيمنة»، المهمة، إذن، هي تحديد مصادر كلا النوعين من منظومات المعرفة بغير إضفاء الصبغة الرومانتيكية على أيهما.
أما مقال آن فيرغسون «مقاومة حجاب الامتياز: مد جسور الهُويات كسياسةٍ أخلاقية للمذاهب النسوية العولمية»، فيستكشف طائفةً من المسائل تتوازى بشكلٍ مثير حقًّا مع ما تستكشفه ألكوف وبيلي (انظر الوارد لاحقًا). على أي حال، تركِّز فيرغسون على المشاكل التي يثيرها تميُّز هُويات الشماليين الذين يعملون في سياقاتٍ مختلفة في الجنوب العولمي. وتقيم فيرغسون الحجة على أن الباحثين والدارسين النسويين من أهل الشمال، وبالمثل الشماليون العاملون بمشاريع التنمية في الجنوب، ربما كانوا في حاجةٍ إلى التفكير في مواضعهم ذات الامتيازات والعمل ضدَّها. وأشارت إلى أن مؤسساتٍ مثل هيئة المعونة الدولية والبنك الدولي والمنظمات غير الحكومية التي أنشئت في الشمال، ليس فحسب، بل وأيضًا معظم الباحثين النسويين، يفترضون أن أخلاقيات التنوير الحداثية مرغوبة دومًا ولا تثير مشاكل. وتحاج فيرغسون أن الشماليين قد تمَّت قولبتهم اجتماعيًّا وفقًا ﻟ «شفرة أخلاقيات كونية معمَّمة باتت قطاعًا من آفاق جهل» الباحثين والدارسين. لا بدَّ أن يطوِّر الباحثون النسويون أخلاقيات تتَّخذ موقعها بحيث تتحاشى أن تصبح جانبًا من المشاكل التي كدرت أهداف استراتيجيات الشماليين للتنمية. وتبيِّن فيرغسون أن «عملية سياسات الهُوية السلبية» يمكن أن تكون منبعًا ﻟ «سياسات مد جسور الهوية» التي تفيد في مشروعٍ من هذا القبيل.
وفي مقالها «الجنوسة والتنمية وفلسفات العلم بعد-التنويرية» تُعنى ساندرا هاردنغ بأحدث الكتابات في الجنوسة والبيئة والتنمية المستدامة وتحديد الطرق التي تسلكها لكي تلقي الضوءَ على المشاكل الكامنة في فلسفات العلم التنويرية، وهي فلسفات لا تزال سائدة. يركِّز مقال هاردنغ على جذور هذه التقريرات في نقودٍ أخرى حديثة للتنمية، وكيف أن هذه التحليلات ترسِّخ وتمدُّ نطاق الحجج التي تسوقها مدارس أخرى لها تأثيرها المستحدث في دراسات ظاهرة العلم. تقيم هاردنغ الحجة على أن فلسفات العلم الملائمة لتلك الأشكال الجديدة لفهم الطبيعة والعلم والفلسفة يمكنها هجران مثال الدعاوى العلمية الصحيحة على مستوى العالم بأسره، ويمكنها أن تطوِّر تمثيلات أكثر واقعية للعارف ولمنظومات المعرفة، وأن تقاوم النسبوية والمثالية مقاومةً ناجحة، وتفهم الطبيعة من حيث هي موضوع ويتخللها ما هو اجتماعي، ومن حيث هي سؤال ينبثق دائمًا، وتجعل الأخلاق الديمقراطية والسياسة الديمقراطية صفة ذاتية في صميم العلم وفي صميم فلسفات العلم-على السواء.
ويضطلع مقال ليندا ألكوف «ما الذي ينبغي أن يفعله البيض؟» بتقدير قيمة قوى وحدود المداخل المختلفة المقترحة للمقاومة التي يبديها البيض ضد الامتيازات الخاصة بالبيض. تعي ألكوف جيدًا كيف أن جهود البيض المناهضين للعنصرية كثيرًا ما تشوبها النقائص. بَيد أنها ترغب أيضًا في تأكيد واستكشاف الممكنات المتاحة أمام الجهود الصادقة والمخلصة المناهضة للعنصرية في مواجهة امتيازات البيض؛ هذه الجهود التي تتجاوز نقد الذات لتصل إلى موقفٍ يناصر الفاعلية والإنجاز. تستكشف ألكوف استراتيجياتٍ مختلفة اقتُرحت من أجل أن «نصبح غير مخلصين لبياض البشرة». تقدم ألكوف تحليلًا نقديًّا للمساجلة النسوية، ولمداخلة جوديث كاتز الليبرالية، ولمداخلة إغناتيف وغارفي الأكثر راديكالية، ولاستراتيجيات مناهضة العنصرية التي اقترحها مايكل هارينغتون. وتستأنف ألكوف هذا باقتراحٍ مفاده أن البيض في حاجةٍ إلى توليد الصور الخاصة بهم من «الوعي المزدوج» لدى الأمريكيين الأفارقة الذي عينه و. إ. ب دي بويس. وهذه الصورة المزدوجة من شأنها أن تواصل تمييزها لبنيات هُوية البيض في النماذج المعاصرة من اللامساواة والاستغلال. بَيد أنها أيضًا ستظل تذكرنا بالعديد الجم من «البيض الناكثين لامتياز البيض» الذين ناضلوا منذ عهد جون براون وما قبله، من أجل خلق مجتمع إنساني شامل.
ويستكشف مقال أليسون بيلي «تعيين موضع الهُويات المنكثة: نحو رؤية لشخصية البيض العرافة للامتياز» كيف يمكن تفهُّم الموضع الاجتماعي لهويات البيض الناكثة لامتياز البيض. تدرس بيلي في هذا المقال بعض التضمنات المستشكلة في إطار الموقف الاستشرافي لساندرا هاردنغ لوصف البيض الناكثين أنهم «أصبحوا هامشيين». وتقيم بيلي الحجة على أنه قد يمكن تفهُّم موضع البيض الناكثين تفهمًا أفضل في حدود «نقضهم لمركزية المركز». وهي تميز بين «العرافين للامتياز» و«المروجين للامتياز». وبمقاربة عمل مارلين فري وآن برادن، تفسر بيلي التناقض بين إدراك وسلوك البيض الذين يحيون سيناريو من نمطٍ واحد، وبين إدراك وسلوك هؤلاء البيض الذين يناضلون من أجل صياغة النمط الآخر: تستخدم بيلي توصيف ماريا لغونز للهوية وتصورات «الطواف بالعالم» و«الإدراك الودود» لكي توضح طرقًا يمكن عن طريقها للبيض، وللنسوية البيضاء خصوصًا، أن ترعى شخصيةً منكثة تؤدي إلى سياساتٍ مناهضة للعنصرية.
وفي مقالها «التعددية الثقافية كفضيلةٍ للممارسة العملية»، تثبت آن كد إمكانية فهم التعددية الثقافية كفضيلةٍ معرفية بغير أن تهجر الإطار التحليلي المتفق عليه الذي لا يزال يجذب القطاع الأكبر من الفلسفة الأنجلو-أمريكية. إنها تبين كيف تحسن التعددية الثقافية مضمون العلم وبالمثل دعواه بالموضوعية، وتأخذ أمثلتها من علم الاقتصاد: تحليلات أمارتيا سن لأسباب المجاعة والاقتصاد السياسي للأسر.
نأمل أن يستمتع القراء بهذه المقالات مثلما استمتعنا نحن بجمعها معًا في دورية «هيباثيا»، والآن في هذا الكتاب.
هوامش
قد يُترجم هذا المصطلح «جوهرية». بَيد أن الجوهر substance من المصطلحات العمدة في الفلسفة ولا يجوز خلطه أو إبداله. [المترجمة]
قام هذا المشروع في أواسط الستينيات بمبادرةٍ من الحكومة المكسيكية لحل مشكلة البطالة في المناطق الحدودية، لكن سرعان ما بات جاذبًا للشركات الأمريكية من حيث إنه يوفر العمالة الرخيصة والإنتاج الكثيف وسرعة دورة رأس المال. وبالنسبة إلى المكسيك أصبحت ماكيلادورا منذ أواسط الثمانينيات أكبر مصدر للعملات الأجنبية وتفوقت في هذا على السياحة. وفي أواسط التسعينيات أصبحت ثانية أكبر الصناعات بعد الصناعات البترولية. عظم شأن ماكيلادورا وفاعليتها وحيويتها، حتى دخلت الكلمة «ماكيلادورا» في سياق اللغة الجارية في بعض المواقع، وباتت تعني العمل الشاق المضني والمثمر، فضلًا عن معناها الأصلي وهو إعداد المنتجات للتصدير. [المترجمة]