الفصل العاشر

الثنائيات والخطاب والتنمية

دروسيلا ك. باركر

إن الموقف بعد-الاستعماري هو الموقف الوحيد الذي يمكن الذود عنه أخلاقيًّا وسياسيًّا.

دروسيلا باركر

هذا المقال استعراض لجماعٍ من الأدبيات في النسوية والتنمية وبناء المعرفة. ترفض هذه الأدبيات البنيات الماهوية للمرأة، وتتحدى عمومية وكونية المنهج العلمي الغربي، وتخلق فضاءً خطابيًّا لإعادة بناء الثنائيات المتضمنة في رؤية العالم الحداثية. ويوعز المقال بأن فهمًا لأنساق المعرفة بخلاف الفهم الحداثي لها يمكن أن يعيننا في بناء إبستمولوجيات تؤدي إلى سبل الإنتاج لمعرفة أقل هيمنة.

نقرأ لغة اقتصاديات التنمية وكأنها فصل من فصول الحلم التنويري؟ الحلم الذي يعِد بتقدم مطردٍ من الفقر والجهالة إلى الوفرة والحداثة. إنه خطابٌ منغرس في المثال التنويري للمعرفة المنزهة، المثال الذي يحجب الدور الأداتي الذي لعبته التنمية في الحفاظ على البنيات العالمية للاستعمارية الجديدة والتبعية. وبدلًا من التقدم والوفرة عانى الجانب الأكبر من العالم من الفقر المدقع، وتزايد عدم المساواة في الدخول، وأعباء الديون الباهظة، والتدهور البيئي. وحتى المناصرون للتنمية، مع ثمانينيات القرن العشرين، أقروا بأن سياساتهم أخفقت كثيرًا. أما التدخلات السياسية الرامية إلى تعزيز النمو الاقتصادي وتقليص الفقر فقد تم التخلي عنها لمصلحة المعتقدات الأصولية الليبرالية الجديدة (Escobar 1995, 73–94). باتت الخصخصة وتحرير التجارة والتقشف المالي هي الاستراتيجيات الجديدة التي سوف تمكِّن رأسمالية السوق الحرة من ممارسة سحرها … على أي حال؟ يغيب عن هذا التحليل أي وعيٍ بالدور الذي يمارسه الخطاب البياني للتنمية وسياساتها في إنتاج التخلف والاستغلال والقمع.١
تأثرت النساء في الجنوب على وجه الخصوص بعملية التنمية. إنهنَّ يشكلن حصة غير متناسبة من فقراء العالم، ويتحملن عبئًا مضاعفًا من العمل المنزلي غير مدفوع الأجر، وفي سوق العمل بأجورٍ متدنية. وعلاوة على ذلك، تزيد تحيزات الجنس والجنوسة في سياسات التنمية السائدة من عمل النساء غير مدفوع الأجر ومن تفاقم ظروف القمع والاستغلال القائمة بالفعل. تقدم الدارسون والناشطون باستجابةٍ لهذه الأوضاع عن طريق تنظير دور النساء في التنمية، والعمل من أجل حلول عملية لتمكين النساء وتحسين وضعهن الاقتصادي والاجتماعي (Boserup 1970, Tinker 1976). تخلق عن هذا العمل المبكر دائرة «المرأة في التنمية» (م. ف. ت)،٢ كمجالٍ شرعي لبحث اقتصاديات التنمية. إنه مجالٌ بحثي يركز على تغيير الأولويات، وعلى ممارسات وكالات التنمية وبالمثل للبنك الدولي. ولا يستجوب قيم وأهداف عملية التنمية أو النموذج الإرشادي للنظرية الاقتصادية الليبرالية.٣ الذي يرتكز عليه خطاب التنمية الاقتصادية وممارساتها (Tinker 1990, 45). ومع الانغماس في القيود المادية لبيروقراطية التنمية والقيود التنظيرية للنظرية الاقتصادية الليبرالية، شارك هذا العمل المبكر في البنية الخطابية لنساء العالم الثالث بوصفهن طائفة سلبية متقاربة معًا ومضطهدة؛ هن مصادر المصالح الاقتصادية للشركات الرأسمالية والمصالح الفكرية لخبراء التنمية.
دارسات أخريات وضعن في الصدارة تحليلًا نسويًّا للروابط بين البطريركية والرأسمالية وقمع النساء. على سبيل المثال، طورت لوردز بنريا Lourdes Beneria وغيتا سن Gita Sen (1981) تحليلًا ماركسيًّا-نسويًّا للعلاقة بين عملية تراكم رأس المال وتقسيم العمل تبعًا للجنس. وفحصت سن وكارن غرون Caren Grown (1987) الرابطة بين خضوع الجنوسة والأشكال الأخرى من القمع، وجادلتا بأن تمكين النساء كان ضروريًّا للتنمية الاقتصادية في العالم الثالث. أبانت هذه الدراسات عن دور الجنوسة في تقسيم العمل تبعًا للجنس، وألقت الضوء على الأهمية الحاسمة للعمل الإنجابي في تحقيق الرفاهية الاقتصادية. وسارت قدمًا لتغدو إسهامًا مهمًّا في فهمنا لحيوات النساء في الجنوب. ولكنها، على أي حال، ترتكز على أسسٍ من الفكر التنويري، ولا تفحص تصورات التقدم الخطي والحداثة الثاوية في خطاب التنمية.
يستعرض هذا المقال هيكلًا من الأدبيات الصادرة أخيرًا حول النسوية والتنمية المستدامة وبناء المعرفة، التي تتناول تساؤلات حول المرأة والتنمية والتحديث، وذلك في قلب نقد صريح للمشروع التنويري. تتحدى تلك الأدبيات سيادة المنهج العلمي الغربي، وتفكك النموذج الإرشادي الذي يجعل التنمية مساوية للتحديث، ويضفي تطبيعًا على مؤسسات وعمليات الرأسمالية الصناعية ويسوِّغ التدهور البيئي. الأدبيات التي نستعرضها هنا بعد-حداثية بمعنى أن كتابها عن وعيٍ يبحثون عن مقارعة ما يبدو من عالمية لمفاهيم التنوير حول الطبيعة البشرية والعقل والحقيقة، ويتحدَّون ثنائيات العقل-المادة والطبيعة-الثقافة والخرافة-المعرفة، وهي الثنائيات التي ألقت أسس المفاهيم الحديثة للعقلانية والعلم. وفضلًا عن هذا، ترفض هذه الأدبيات البناءات الماهوية والعمومية للنساء لمصلحة الحسابات التي يتمخَّض عنها فهمٌ أكثر ثراءً وعمقًا لطريقة النساء في بناء هوياتهن داخل حدود مادية وخطابية خصوصية ومشروطة معًا.٤

وإذ تتَّخذ هذه المناقشات وضعها داخل سياق المساجلات حول العلاقة بين النساء والتنمية المستدامة، فإنها تسلط الضوء على أهمية المادي والرمزي معًا، وتصوِّب الانتباه إلى فكرةٍ مفادها أن البنائية الاجتماعية ليست ضربًا من المثالية. وكذلك، نجد التشديد على السياق والتجسد وتشكيل الهوية يوضح لماذا لم يكن رفض مفهوم الحقيقة التنويري ضربًا من النسبوية. النسبوية غير ممكنة في موضوعٍ واقع ومتجسد. تناولنا أيضًا المساجلة حول ما إذا كانت النسوية بعد-الحداثية تنفي إمكانية بناء تحالفات من أجل الفعل السياسي المنجز. وينبثق حافزٌ عن هذه القراءات، وهو على الرغم من أنه ليس ثمة خاصية ماهوية-بيولوجية أو اجتماعية أو ثقافية، تتقاسمها النساء، خاصية تربطهن جميعًا معًا في قضيةٍ مشتركة، فإن إدراك هذا لا يحول دون تأسيس روابط تاريخية ومعرفية ومتغيرة. وعطفًا على هذا، نرفض الخصائص الثابتة للماهوية من أجل الوصول إلى التنظير السديد لعلاقات القمع المتعددة.

سوف أبدأ بفحص كتاب «النساء والبيئة والتنمية المستدامة: نحو تركيبٍ نظري: Women, the Environment and Sustainable Development Towards a Theoretical Synthesis (Braidotti et al. 1994)»؛ لأن استكشاف هذا الكتاب للعلاقات المتبادلة بين النساء والبيئة والتنمية المستديمة يمكن أن يشكل إطارًا لموضوعاتٍ عديدة ذات أهمية في تلك الأعمال التي نستعرضها. إن كاتبات هذا الكتاب يصلن إلى تركيبٍ نظري عن طريق استغلال عدسات المادية بعد-الحداثية لفحص مجموعات عديدة من الأدبيات، النقد النسوي للعلم، والبدائل النسوية للتنمية، والإيكولوجيا العميقة، والإيكولوجيا الاجتماعية، والإيكولوجيا النسوية. يشرح الفصل الذي كتبته روزي برايدوتي Rosi Braidotti الخطوط العريضة للحظات الحاسمة والمساجلات المهمة في نقد النسوية للعلم وفي الإبستمولوجيات النسوية، ليلقي الأسس النظرية لتصور الكاتبة للمادية بعد-الحداثية. إنها تجادل بأن ما على المحكِّ حقيقة في هذه المساجلات هو ما إذا كان لزامًا على النسويات أن يبقين على الولاء للتقليد الإنساني في التنوير ويبحثن عن توسيع مجال العقلانية العلمية، أم ينبغي عليهنَّ تبنِّي شكل راديكالي للإبستمولوجيا التي تنكر إمكانية الولوج إلى العالم الواقعي بشكلٍ مستقل عن الخطاب. وفيما ترى برايدوتي، فحص الجوانب الدنيا الدنيئة في التركة التاريخية للتنوير — الإبادة الجماعية، والاستعمارية، والعبودية والتدهور البيئي — إنما تتقدم بالرد: ألا إن الموقف بعد-الاستعماري هو الموقف الوحيد الذي يمكن الذود عنه أخلاقيًّا وسياسيًّا.
تعتمد برايدوتي على عمل ساندرا هاردنغ (١٩٩١) ودونا هاراوي (١٩٩١) لكي تجسد بعضًا من المعالم المهمة لإبستمولوجيا راديكالية يمكن أن تنسجم مع المقاربة المادية بعد الحداثية. وفي موضوعٍ يتردد كثيرًا عبر صفحات العمل الذي نستعرضه ها هنا؟ تجادل برايدوتي بأن مثل هذه المقاربة ضرورية لأنه لا يمكن إصلاح المنطق الداخلي للهيمنة بمجرد عكس اتجاه توازن القوى: إن عكسًا من هذا القبيل يترك النقيض الديالكتيكي٥ مصونًا، تكمن ثنائيات الجنوسة في صلب المشروع التنويري، ويتطلب تذويبها أو إعادة النظر فيها إزالة الفوارق في ذلك التراتب الهرمي للقيم وإعادة تشكيل رؤية لذاتية الأنثى، تعترف بمحاورها المتعددة، وكذلك بطبيعة ذات الأنثى التي تتخذ مواضع شتى وتتجسد بأشكالٍ شتى.

التشديد على الطبيعة المتجسدة للموضوع النسوي لا يفضي إلى الماهوية؛ لأن الخبرة الجسدية ليست بيولوجية خالصة، ولا هي اجتماعية خالصة. الجسد هو موضع التقاطع بين الطبيعي والثقافي، ولا يمكن طرح تفسير كامل للجسد عن طريق أيهما، يوعز هذا التشديد بفكرةٍ رئيسية أخرى يتكرر ورودها في هذا العمل: ثنائية العقل-الجسد التي تميز العقلانية الديكارتية بناء محدد ثقافيًّا. إنه جزءٌ لا يتجزأ من رؤية العالم العلمية التي تعتبر الجسم والعالم الطبيعي آلات ميكانيكية، خلوًا من الإدراك والإبداع، وليست تماثل الكائنات العضوية الحية.

ويمضي كتاب «النساء والبيئة والتنمية المستدامة» قدمًا ليتتبع تطور خطاب النساء والبيئة والتنمية (ن. ب. ت). يطوي هذه الخطاب بين جناحيه العديد من مدارس الفكر — النسوية، والبيئية، والمرأة والتنمية — وبالمثل العديد من الحركات الاجتماعية في القاعدة المحلية. إنه يعتلي صهوة نقد لمجمل عملية التنمية ولسيادة الخطاب العلمي الغربي، ويتقدم بمنظورٍ يشدِّد على العلاقات المتبادلة بين البشر ومجتمعاتهم المحلية ومنظومات دعم حياتهم. تأثر خطاب (ن. ب. ت) تأثرًا بالغًا بأعمال نصيرتَي النسوية البيئية فاندانا شيفا Vandana Shiva (1989) وماريا ميس Maria Mies (1988). تطرح شيفا وميس كلتاهما النظريات من موقعٍ يُعلي قيمة العلاقات الجوهرية بين المرأة والطبيعة، ويناصر العودة بالجملة إلى قطاع الزراعة المعيشية كجانبٍ ضروري في أي حلٍّ لمشاكل الفقر والتدهور البيئي. وبينما كان عمل ميس وشيفا تأسيسيًّا في تعيين ما ينجم عن النموذج الغربي للتنمية من صنوف العنف والاستغلال، لا يطمئن كتاب برايدوتي وأخريات إلى ما يضمره من نزعةٍ ماهوية، من حيث تشديده على العلاقة الوثقى بين النساء والطبيعة، وكونه يؤمثل الزراعة التقليدية. وبدلًا من هذا، يجادلن من أجل مقاربة تشبه تلك التي تقترحها بينا أغروال Bina Agarwal (1991) التي تقيم الحجة على أن المسألة المهمة هي تفكيك بنية السلطة التي تعزز الأيديولوجيا البطريركية؟ وتدمج المرأة بالطبيعة؟ وتخلق تقسيمًا معينًا للعمل وفقًا للجنس. أولئك المؤلفات يقدمن تركيبًا نظريًّا من أجل بلوغ هذه الغاية.
ويبدأ كتاب «المنظورات النسوية في التنمية المستدامة Feminist, Perspectives on Sustainable Development (Harcourt 1994b)» بمقال لويندي هاركوت (Harcourt 1994a) يؤطر القضايا في حدود نقد معاصر للتنمية يتحدى لغة خطاب التنمية وما يتضمنه من علاقات القوة. إن الذين يكتبون في هذا التقليد.٦ (Escobar 1992, Sachs 1992) يرفضون تسليع البشر وتسليع البيئة ويشددون على أهمية خلق فضاء خطابي من أجل البشر الخاضعين ومعارفهم. ينظر هذا التحليل إلى النساء بوصفهن صوت المقاومة حيث مستودعات المعرفة والإبداع. تشير هاركورت إلى الثنائية المتوارية في حججهم: بينما يلفتون الانتباه للقسمات الثنائية في خطاب التنمية، يبدون وكأنهم يعكسون المقولات ويستحضرون تصورات «العالم التقليدي قبل الحداثي الخيِّر، العالم الثالث المقاوم النبيل، والعالم الصناعي الحديث الشرير، والغربي الجشع الأرعن» (Harcourt, 1994a, 17). تحاج هاركورت بأنه لم يعد من الممكن وضع الطبيعة والتقاليد في مقابل الثقافة والحداثة؛ لأن البشر أجمعين الآن جزء من عالمٍ تعاظمت تقنياته وحوسبته. وعلى هذا بات من الضروري أن نعيد بناء الثنائية بطريقةٍ تؤكد الجانبين كليهما ونعيد صياغة تصورات العلاقة بينهما بأساليب ليست تراتبية هرمية. تتمسك هاركورت بأن الحداثة، بكل آفاتها الماثلة، يمكن أن تظل خطابًا تحريريًّا في ظروفٍ معينة.
لعل الفكرة المهيمنة على هذا الكتاب هي إمكانية التحرك خارج المتقابلات الثنائية عن طريق فهم أوجه الالتقاء بين الحداثة وأشكال الإدراك التقليدية غير الحداثية. وكمثالٍ بارع على هذا ثمة مقال فردريكا آبفل-مارجلين Frédérique Apffel-Marglin وسوزان سيمون Suzanne Simon 1994. إنهما يتبعان التواصل التاريخي بين قدرة خطاب «المرأة في التنمية» (م. ف. ت) على فهم نساء العالم وقدرة النساء الفيكتوريات على فهم المرأة المستعمرة. ترسم السرديات الاستعمارية نساء المستعمرات في صورة ضحايا التخلف والهمجية في ثقافاتهن. كانت معاملة النساء هي مقياس التحضر، والنسائية البريطانية الفيكتورية هي المعيار الذي تقاس به الأخريات جميعهنَّ، وكان الجانب الأكبر من الحيثيات الأخلاقية للمشروع الاستعماري يتركز في تحرير النساء من قمع ثقافاتهن الخاصة.

تحاجَّ آبفل-مارجلين وسيمون بأن النسوية التي تغذي خطاب (م. ف. ت) تنحدر مباشرة عن النسوية الاستعمارية الفيكتورية. جرى تعريف التقاليد والقيود الاجتماعية بأنها الحواجز التي تحول دون دخول المرأة السوق. وسوف يتأتى تحرير النساء من خلال الحديث والاندماج في الرأسمالية الصناعية. يطرح هذا الخطاب صورةً عمومية لخضوع النساء جعلوها ماهوية ورفعوا من شأن التنمية بوصفها قاطرة استئصال التحيز الجنسي. وعلى هذا النحو يكون قمع النساء، كما هو وارد في الأدبيات الاستعمارية؛ تبريرًا للحاجة إلى التدخل من أجل التنمية وتغيير سبل الحياة بجملتها في الجنوب. في خطاب التنمية البياني، يحتل الفقر المنزلة عينها التي للسوتي أو الحجاب أو الختان — رموز القهر والبطريركية التي لا بد من استئصالها، إذا ما كان للنساء أن يتحررن. مرةً أخرى، نحكم على المرأة في العالم الثالث بمرجعياتٍ تحرر المرأة في العالم الأول: المرأة المستقلة بذاتها، غير المعتمدة اقتصاديًّا على أحد والمتحررة من القيود والالتزامات التقليدية.

وفقًا لآبفل-مارجلين وسيمون، فهْم الغربيين الحداثيين للمرأة غير البيضاء فهْمٌ معيب منقوص لأنه قائمٌ على أساس رفع قيمة نمط من الشخصانية خاص بالرأسمالية الصناعية؛ فالفرد الحديث هو شخص منفصل عن الأشخاص الآخرين المماثلين له، وفي صراعٍ معهم، يمتلك قدرته الخاصة على العمل وقادر على بيعها في السوق، ويتوفز ضد بيئةٍ خاملة لا بدَّ من استخراج الموارد منها. الجسد جزءٌ من الطبيعة، آلة ميكانيكية تعمل بطاقة المشاعر المحكومة بالعقلانية الديكارتية. لغة النزعة الإنسانية الليبرالية المحدثة — الحقوق والمساواة والاستقلال الذاتي — قائمة على هذا التصور للفرد المسلَّع.

من الناحية التاريخية، تمثِّل قدرة أجساد النساء على الإنجاب بعضًا من المشاكل الخاصة بهذا الإنشاء. بالنسبة إلى النساء، التحكم في قدرتهنَّ على الإنجاب يفضي إلى تسليعها وإمكان اغترابها من خلال الأجور المدفوعة. ويخلق هذا تناقضًا لأن الرجال يصرون على حقوقهم كمشاركين في ملكيات ناتج العمل الإنجابي للمرأة. على هذا النحو جرى اعتبار الإنجاب جانبًا من المجال البيولوجي-الطبيعي، لا يمكنه الوصول إلى عقول النساء. أصبح الإنجاب نشاطًا خلوًا من الوعي والعقلانية. يتضمن هذا الفهم الحداثي انفصامًا أساسيًّا بين العمليات الطبيعية (أو البيولوجية) التي تقوم بها النساء وبين قدراتهن الثقافية (أو الرمزية). وعلى قدر ما يُنظر إلى القدرة الإنجابية كشأنٍ بيولوجي خالص، على قدر ما تظل الهوة بين العالم الإنساني والعالم غير الإنساني غير قابلة للالتئام. الطبيعة وأجساد النساء كلاهما موارد ينبغي التعامل بشأنهما بروحٍ أداتية.

تجادل آبفل-مارجلين وسيمون بأننا إذا استمعنا لأصوات الشعوب غير الغربية، سنستطيع أن نتعلم أساليب غير حداثية للوجود في هذا العالم، أي أساليب لن نعرف فيها ذلك الصدع بين الطبيعة والثقافة، وحيث الأنشطة الولادية للنساء لا تنفصل عن أنشطتهنَّ الثقافية. إنها رؤية للعالم حيث الذات غير منغلقة على ذاتها، بل تنغمس في علاقاتٍ مع الآخرين ومع العالم غير الإنساني. وبالمثل، ليس الجسد آلة ميكانيكية، بل هو بالأحرى مكان تسكنه الأرواح والآلهة، تخلَّق من العناصر ذاتها التي تخلق منها العالم غير الإنساني. إنه أسلوبٌ للحياة لا يُعلي من شأن الطبيعة فوق الثقافة، بل بالأحرى يصف طريقة للوجود من دون القسمة الثنائية بين الإنساني والعالم غير الإنساني، بين رفاهة الإنسان ورفاهة البيئة.

تستكشف ماريا-ليزا شفانتس Marja-Lüsa Swantz (1994) مؤثرات تخطيط التنمية على المجتمعات المحلية الأمومية في جنوب تنزانيا، المجتمعات المحلية التي هي تقليدية أو غير حداثية، بالمعنى الذي وصفته آبفل-مارجلين وسيمون. تسوق شفانتس الحجج على أن التنمية كثيرًا ما تخلق تناقضات في حياة الناس غير قابلة للفكاك. وعلى الرغم من رغبة التنزانيين في اللحاق بالحياة الحديثة، فإنهم يخشون فقدان القدرة على بعث الحياة الجديدة في مجتمعاتهم المحلية. بالنسبة إليهم، مشروع بعث الحياة الجديدة رمزي وفيزيقي، ولحاقهم بالحياة الحديثة يحمل تهديدًا لبعث الحياة الجديدة ولاستمرارية الحياة. تضع شفانتس إطارًا لهذه القضية بلغة خبرات النساء الجسدية، وتتخذ مثالًا من محاولات إعادة تدريب القابلات التقليديات على الممارسات الطبية الحديثة، الفلسفة الكامنة خلف هذا البرنامج هي تعزيز الاعتماد على الذات والتدخل بأقل قدرٍ ممكن في الممارسات التقليدية. تحدث الولادة عادة في المنزل، ووفقًا للتقاليد، تتقدم الأسرة بالأدوات وتكافئ القابلة بالجعة والهدايا. على أي حال، لا تتلقى النساء اللاتي يُعاد تدريبهن أجرًا من الحكومة ولا مكافأة من الأسر، ولا يتم حتى تزويدهن بالأدوات. إن التدريب الطبي الغربي، في نظرة مجتمعهن المحلي، ومهما كان في حده الأدنى، ينقل القابلات من دائرة بعث الحياة الجديدة، ويحيلهن إلى الدائرة المحدثة؛ دائرة الإنجاب؛ وبالتالي يفصلهن عن علاقات مجتمعهن المحلي والمسئولية التي يتقاسمها.
يستخدم تحليل شفانتس دراسة هذه الحالة وحالات أخرى لإلقاء الضوء على التصادم بين أنساق المعرفة التقليدية والمحدثة. وحجتها هي أن تكامل الأنساق المعرفية يستغرق وقتًا، وما لم تتغير أنساق المعرفة المهيمنة، تكون الأنساق التقليدية مهددة بخطر الزوال قبل أن تأخذ الوقت الكافي لتصبح جزءًا لا يتجزأ من التغير. بالنسبة إلى المجتمعات التقليدية، يمثل هذا الفقدان خطرًا يهدد صميم معنى الحياة، و«لا بد من إدراك أن استمرارية الحياة ذاتها مهددة ما لم تعطِ قوى بعث الحياة الأولوية على قوى الإنتاج وقوى السوق» (Swantz 1994, 105). لا يمكن أن تنجح التنمية إذا فُهمت فقط في حدود الإنتاج السوقي والاستهلاك؛ لأن هذا النمط من الفهم المحدود يعزز السياسات التي تهدد الأسس الوجودية للناس وقدرتهم على أن يحيوا حيواتٍ ذات معنى.
أما مقالات كتاب «النسوية/ما بعد الحداثة/التنمية (Feminism/Postmodernism/Development (Marchand and Parpart 1995))»، فتتناول السبل التي يستطيع الفكر النسوي بعد-الحداثي أن يساهم من خلالها في بناء خطاب للتمكين والتنمية التحويلية. إنها تدعو إلى استجواب دَور خبير التنمية، واستقصاء الصلات بين السيطرة على الخطاب وبين مزاعم السلطة، واستعادة معارف النساء وأصواتهن ورفع قيمتها. هذه الاستعادة مشروعٌ معقد يفضي إلى تحليلٍ لكيفية بناء النساء لهوياتهنَّ داخل القيود المادية والخطابية التي تقيِّد حيواتهن. تجعل هذه المقالات من مفهوم «المرأة في العالم الثالث» مفهومًا استشكاليًّا، ويتبنى مقاربة تتجنَّب الماهوية وتعترف بالهويات المتعددة وبالمحاور — العرق، الطبقة، السن، الثقافة — التي تشكل حيوات النساء. تتناول هذه المقالات أيضًا قضية كيفية بناء تحالفات فعَّالة للعمل من أجل التغيير المادي، حينما تكون الهويات متشظية والمعارف جزئية ومنصبَّة على حالةٍ معينة.
يُلقي مقال ميتو هيرشمان Mitu Hirshman 1995 الضوءَ على النسوية بعد-الحداثية، وكيف تستطيع أن تُجلي العمومية والماهوية. وقد تكونان مطمورتين في إبستمولوجيا الموقف النسوي عن غير قصد. تعرض هيرشمان مناقشةً نقدية لدراسة سن وغرون المتخصصة والمشهودة «التنمية والأزمات والرؤى البديلة Development, Crises, and Alternative Visions (Sen and Grown 1987)»٧ تجادل سن وغرون بأنه بينما يشكل النساء غالبية الفقراء والأكثر حرمانًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا، فإن عملهنَّ هو الذي يضفي الصلة الإنسانية على توفير مصادر الغذاء والماء والطاقة لبقاعٍ عديدة في العالم؛ لذلك ينبغي أن ينطلق التخطيط التنموي من موقف النساء الفقيرات. تعترف هيرشمان بأن المشروع الذي انشغلت به سن وجرون لهو مشروعٌ نبيل؛ إنه تحسين الوضع البشري، الهدف الأقصى للمشروع الإنساني. وبالنسبة إلى العمل العالمي للنسويات لتحقيق هذا الهدف، السؤال الشائك يدور حول كيفية تفعيل إصلاح ذات البين فيما نفترضه من طبيعةٍ عمومية للقهر الجنوسي، وبين خبرات النساء الفردية العينية. تتوشج هذه الخبرات في صلب عضوياتهن في طوائف اجتماعية وسياسية شتى، وبالمثل كذلك في إسهامهن في ممارساتٍ ثقافية وأشكال رمزية شتى. الإجابة عن هذا السؤال عند سن وجرون، وبالمثل كذلك عند العديد من المنظِّرين والنشطاء النسويين، تتمثَّل في الاعتماد على المعارضة المشتركة للاضطهاد الجنوسي وللتراتبية الهرمية. بالنسبة لأولئك المنظِّرين، تقسيم العمل بين الجنسين يوفر أساسًا لتفهم ذاك الاضطهاد.
تسوق هرشمان الحجج على الإدانة بالماهوية التي يحملها طرح التقسيم الجنسي للعمل كمقولةٍ عمومية كونية تشكل تصنيفًا للنساء. إنها ماهوية قائمة على عمومياتٍ سوسيولوجية وأنثروبولوجية، تشكِّل التقسيم الجنسي للعمل. هذه الاستراتيجية خاطئة؛ لأنها تفشل في الإقرار بأن مفاهيم العمل والإنتاج ذاتها تضرب بجذورها في ثقافة الرأسمالية والحداثة، وهي لهذا غير ملائمة في أداء مهام توصيف المجتمعات غير الحداثية. وفضلًا عن هذا، تتضمن تلك التصنيفات أيديولوجيا إنتاجية ترى البشر كعمالةٍ تسعى إلى تحقيق غرضها في غزو الطبيعة. تفضي هذه الأيديولوجيا إلى اعتقادٍ ضمني مفاده أن الحاجات المادية تشكل المُحدِّد الأوحد للوجود الإنساني، وهذا الاعتقاد يهبط بما هو ثقافي ورمزي إلى مرتبة الدرجة الثانية.٨
العديد من المقالات التي تشكِّل هذا الكتاب تتحدث عن أهمية الثقافي والرمزي في تفهم الاستراتيجيات المادية والخطابية معًا التي تستخدمها النساء غير الأوروبيات في العالم بعد-الصناعي وبعد-الاستعماري. مثلًا، يحلل مقال كاترين ريسيغييه Catherine Raissiguier (1995) عملية تكوين الهوية لدى فتيات الطبقة العاملة من أصولٍ جزائرية في مدرسةٍ فرنسية. يحاول هذا المقال الاستفزازي أن يرسم أطر تحليل لاماهوي لبناء الذاتية، يفسح المجال لفاعلية أولئك الشابات وكذلك يعترف بوجود الحدود المادية والخطابية التي يشكلن ذاتيتهنَّ داخلها. إن موضع أولئك الفتيات لهو في صلب تقاطع طرق خطابات عديدة متنافرة. وحلول أولئك الفتيات المتعين في هذا الموضع يخلق إمكانية الوعي المتمرد وفي الوقت نفسه يجعلهنَّ مشدودات لبعض القيم التقليدية في مجتمعاتهنَّ المحلية. يبين تحليل ريسيغييه أن الاهتمام الإمبيريقي المحكم بعملية تشكيل الهوية قد يجعلنا مستطيعين استكشاف ما يتجاوز الثنائيات المحددة في المقاومة-التكيف والحرية-الحتمية، ومستطيعين تفهُّم كيف أن حدودًا معينة مادية وخطابية تؤطِّر النضال من أجل إعادة خلق الهويات، بين النساء الشماليات والنساء الجنوبيات معًا.
تتحدى مقالات كتاب «نقض استعمارية المعرفة: من التنمية إلى الحوار Decolonizing Knowledge: From Development to Dialogue (Apffel-Marglin and Marglin 1996)» مزاعم العقلانية الديكارتية بالعمومية، وذلك عن طريق تبيان السياق التاريخي المعين لهذا النمط من العرفان، ووضعه في مقابلةٍ مع أشكالٍ أخرى من العرفان تضرب بجذورها في سياقاتٍ ثقافية مختلفة، وخلق فضاء خطابي للتنظير للمعارف الحداثية بوصفها شكلًا خاصًّا من أشكال المعرفة المحلية. ثمة فكرة رئيسية مشتركة بين هذه المقالات، وهي أن القسمة الأنطولوجية بين العقل وبين العالم والجسد، الأساسية في العقلانية الديكارتية، إنما هي بناءٌ ثقافي تاريخي متعين كأحرى من أن تكون حقيقة كونية، والفكرة الرئيسية المشتركة هي الأخرى هي التمييز الإبستمي/التقني الذي اصطنعه ستيفن مارجلين Stephen Marglin،٩ يشير الإبستمي episteme إلى المعرفة المجردة التحليلية، القائمة على الاستنباط المنطقي من المبادئ الأولى. وفي مقابل هذا، يكون التقني techne هو المعرفة العينية، المختصة بالطبيعة ووثيقة الارتباط بالزمان والمكان، المحك الإبستمولوجي للتقني هو الكفاءة العملية وليس صحة المنهج.

يوضح مقال ستيفن مارجلين (١٩٩٦) التفاعلات بين العلم وأيديولوجيا العلم والاقتصاد السياسي في التنمية والانتشار العالمي للتقانة المتقدمة في الزراعة ونشأة الثورة الخضراء. تمخضت الثورة الخضراء عن ازديادٍ هائل في إنتاج الغذاء، ولكن في مقابل ثمن بيئي واجتماعي باهظ. تقلصت معها القاعدة الجينية بشكلٍ خطير، وتزايد الاعتماد على الماء، وعلى الأسمدة الكيميائية والمبيدات الحشرية، وتبدلت العلاقيات الاقتصادية الزراعية. وكما يبين مارجلين، على الرغم من وجود طرق بديلة لزيادة الغلال ونقاد موقرين للتقانة المتقدمة، فقد تم تجاهل هذا وذاك. تتضمن الطرق البديلة لفت الانتباه للممارسات المحلية والإيكولوجيات. على أي حال، كانت تلك الممارسات جزءًا من الثقافات القروية التقليدية، وكان صناع السياسات مفتونين بالعلم والتقانة لدرجةٍ منعتهم من أخذها مأخذًا جادًّا. وفضلًا عن هذا، نجد البذور المهجنة التي هي أساسية في الزراعة عالية التقنية تستلزم إعادة إنتاجها من جديدٍ مع كل جيل، لتصنع دورًا مستجدًّا لشركات البذور وفرصًا مستجدة للتربح من تسليع المعرفة وإضفاء الطابع التجاري على الزراعة.

يضع مارجلين تفسيراته في إطار مصطلحات التفاعل بين إبستمية الخبير وتقنية المزارع. ويجادل مارجلين بأن مجمل المعرفة والفعل مزيجٌ من الإبستمي والتقني معًا. تنشأ خصائص الإمبريالية والهيمنة للعلم الغربي حين تأبى الإبستمية أن تكون تابعة للكوزمولوجيا،١٠ وتفترض أنها هي ذاتها كوزمولوجيا، نظرية للواقع. وعلى هذا النحو لا تدع مجالًا لأنساق المعرفة الأخرى، ولا تفسح حيزًا لتقنيةٍ محلية أو معينة. إنها إبستمية من حيث هي كوزمولوجيا تحول دون التعايش السلمي للعلم الغربي مع أنساق المعرفة الأخرى.
في كتاب «العقلانية والجسد والعالم: من الإنتاج إلى بعث الحياة Rationality, the Body, and the World: From Production to Regeneration (1996)» تقدم آبفل-مارجلين للقارئ الحيوات والخبرات المعاصرة غير-الحداثية للقرويين في قرية أوريا بالهند. وكتوطئةٍ لعرضها، تقدم موجزًا تاريخيًّا لنشأة العقلانية الديكارتي من أجل إبراز الطبيعة الثقافية والتاريخية المتعينة لمقولاتٍ من قبيل «البيولوجيا» و«الطقوس». في الفكر الغربي، يقف البيولوجي أو الطبيعي كمقابلٍ للثقافي أو الرمزي، وهو على هذا النحو مقولةٌ خلوٌ من الإدراك. وبالمثل الطقوس مقولةٌ خلوٌ من الفعل العقلاني المؤثر. تجادل آبفل-مارجلين بأن تلك المقولات خاصة بالعقلانية الديكارتية، وأن استخدامها كأنها محايدة وكونية عامة، إنما هو انتهاكٌ مستتر لأشكالٍ مختلفة من الواقع، يسلبها إمكانية النظر إليها كبدائل للحداثة. باحثون من مشارب شتى عملوا على استكشاف العلاقة بين نشأة العقلانية الديكارتية وتسليع النفس والرأسمالية الصناعية. وما يجعل عرض آبفل-مارجلين فريدًا هو تحليلها للتناقضات التي خلقتها هذه العملية بالنسبة إلى النساء والدور المحدد للجسد في خلق تلك التناقضات.

تجادل بأن الأنثروبولوجيين حينما صادفتهم تلك الثقافات التي لا تفصل بين مجال الطبيعي ومجال الثقافي، باتت تلك الثقافات بشكلٍ عام يُنظر إليها على أنها شكلٌ أدنى من المعارف المحلية البدائية. يضرب هذا الموقف بجذوره في الفكرة الخاطئة القائلة إن ثنائية العقل-الجسد في العقلانية الديكارتية بنية كونية وليست بنية ثقافية. تبدي ثقافات أخرى غير حداثية أن البيولوجيا حين ينغرس فيها العقل، تتماوه الحدود فيها بين العقل والجسد، وتتسايل الأجساد وتتلاشى الثنائية. إن الطبيعة شيءٌ ما مسَّه العقل البشري وتحول من جانبه. تنظِّر آبفل-مارجلين لمهرجان الحيض (راجا باريا) بين القرويين في أوريا كنموذجٍ للإدراك في ثقافةٍ لها مفهوم للنفس غير تسليعي ونمط للإدراك غير ديكارتي.

يحتفل المهرجان بالحيض السنوي للإلهة هاراساندي. تتردد ممارسات المهرجان في الدورة الشهرية للنساء. اتباع هذه القواعد والممارسات يضمن استمرارية الحياة؛ لأنه بالنسبة إلى القرويين في أوريا، الهوية الواحدة للنساء والأرض والإلهة جوهرية كأحرى من أن تكون رمزية. ليست مسألة معتقد فحسب. إنها ما أسمته آبفل-مارجلين «الإدراك المفعل». يتجسد الإدراك المفعل وينشأ عن النشاط البشري المتفاعل مع الآخرين ومع العالم. الحيض ومراقبة قواعد الحيض، كلاهما يجعل النظام الإنساني متراكبًا على نظام الفصول ويضمن نظام الحياة واستمراريتها (من المهم ملاحظة أن الرجال أيضًا لهم دور في هذه الممارسات). بدلًا من أن تكون الطبيعة أو البيئة شيئًا ما مُسلَّمًا موضوعيًّا، فإنها تنشأ عن التفاعل بين الناس، ذكورًا وإناثًا وبين العالم. إذن، الإدراك المفعل إبستمولوجيا، يعلو على ثنائيات العقل-الجسد، الثقافة-الطبيعة، الذهن-العاطفة، الرمزي-المادي، التي تتضمنها العقلانية الديكارتية، وتعمل على تذويبها.

ليست الرسالة التي خرجتُ بها من الأدبيات التي نوقشت في هذا المقال هي أننا ينبغي أن نستبدل بالعقلانية الديكارتية الإدراك المفعل، ونستبدل بالإبستمي التقني، بل هي أن قراءة أساليب غير حداثية للوجود في العالم قراءة خلاقة متعاطفة يمكن أن يعيننا في بناء إبستمولوجيات راديكالية تتمخَّض عن أساليب غير مهيمنة لإنتاج المعارف. إن هذه الإبستمولوجيات والمنهجيات المستجدة ضرورية إذا ما كان للنساء والرجال من مختلف الطبقات والإثنيات والمواقع الثقافية أن ينخرطوا في مشاريع تحررية جماعية من دون إعادة إنتاج نماذج للتراتبية الهرمية والهيمنة. الفقر والديون في العالم الثالث والتدهور البيئي الحاد والعلاقات غير المتساوية بين الشمال والجنوب هي جزء لا يتجزأ من الميراث التنويري. تحتاج إلى حلول هذه المشاكل إلى أن تتأتى من مواقف نسوية تفكك ذلك الميراث وتُعلي من قيمة أنساق المعارف المحلية من دون إضفاء الصبغة الرومانتيكية عليها.

هوامش

(١) لقراءاتٍ أوسع انظر إسكوبار Escobar (1995). تقدم دراسته المتخصصة في هذا الموضوع «مواجهة للتنمية» Encountering Development بحثًا نقديًّا لخطاب التنمية وممارستها. إنه يبحث التنمية من حيث أشكال المعرفة التي تضع تعريفًا لها، وأنساق السلطة التي تحكم ممارستها، وأشكال الخضوع التي تترسخ بفعل ممارساتها الخطابية.
(٢) (م. ف. ت) هي الحروف الأولى من العنوان (المرأة في التنمية)، والمقابل العربي للحروف WID التي وضعتها الكاتبة، وفيما بعد سيتكرر اختصار الإشارة بالاقتصاد على الحروف الأولى. [المترجمة]
(٣) وكيف يستجوبنها أو يستجوبن قيمها وأهدافها؟ وقد كان النسويون والنسويات الليبراليون هم الذين قاموا بصياغة وتطوير باراديم أو النموذج الإرشادي ﻟ «المرأة في التنمية» (م. ف. ت). [المترجمة]
(٤) انظر (Chandra Mohanty 1991, 1995) في تحليلٍ بليغ للبناء الخطابي ﻟ «نساء العالم الثالث» في نصوص النسوية الغربية.
(٥) الديالكتيك أو الجدل، منهاج وضعه هيغل في صورةٍ مثالية، وتبعه ماركس في تطبيق مادي له: يعني معالجة الأمر عبر مراحله الثلاث التي تتمثل في الانتقال من: (١) القضية، إلى (٢) نقيضها، إلى (٣) مركب جدلي شامل يجمع خير ما في القضية ونقيضها ويتجاوزهما إلى الأفضل. يمكن أن يتحول هذا المركب بدوره إلى قضيةٍ تنقلب إلى نقيضها، ثم المركب الشامل، وهكذا دواليك. وعلى هذا الأساس ذهب ماركس في ماديته الجدلية الشهيرة إلى أن عصر الإقطاع انقلب إلى نقيضه الديالكتيكي وهو عصر البرجوازية، ليغدو العصر الشيوعي خير ما في النقيضين ويتجاوزهما إلى الأفضل، وهو عصر آتٍ حتمًا من حيث هو المركب الجدلي الذي لا بد أن يتمخض عنه انقلاب القضية إلى نقيضها. الماركسية أشهر تطبيق للمنهج الديالكتيكي أو الجدلي. على أنه منهاجٌ يثبت فعاليته في تناول ظواهر شتى، من الأمثلة على هذا تطور تفسير طبيعة الضوء من التفسير الجسيمي إلى نقيضه وهو التفسير الموجي، إلى المركب الجدلي وهو التفسير المزدوج. مثالٌ آخر، المادية المفرطة في اليهودية انقلبت إلى نقيضها الجدلي (الديالكتيكي) في روحانية المسيحية، ليمثل الإسلام مركبًا جدليًّا يجمع خير ما في القضية ونقيضها. يثبت المنهج الجدلي كفاءته لا سيما في معالجة الظواهر الإنسانية حيث لا يعود التغير والتقدم مجرد سلب بسيط أو عكس ميكانيكي. [المترجمة]
(٦) ها هنا لا بد من الخروج عن نون النسوة، لأنها سوف تتحدث عن كل الذين يكتبون في هذا المجال، رجالًا ونساءً، وهذه الجملة تحديدًا مرجعها الموثق أرتورو إسكوبار وهو رجل أنثروبولوجي وناقد اجتماعي بعد-بنيوي، سيتعرض له الفصل المقبل بتفصيلٍ أكثر. [المترجمة]
(٧) دراسة سن وغرون Sen and Grown (1987) المتخصصة في هذا الموضوع كانت تكليفًا من جماعة DAWN؛ أي بدائل النساء للتنمية من أجل حقبةٍ جديدة Development Alternatives with Women for a New Era، وهي جماعة من النشطاء والباحثين وصناع السياسات، تشكلت الجماعة من أجل تحديد قضايا التنمية من منظورات النساء، وتم التكليف بهذه الدراسة المتخصصة في الإعداد لمؤتمر الأمم المتحدة لختام عِقد المرأة العالمي في نيروبي.
(٨) هذه الإدانة لاعتقادٍ يعطي الأولوية للاحتياجات المادية، والانتصار لأهمية الثقافي والرمزي، وهو اتجاهٌ بات الأكثر شيوعًا في النسوية الراهنة. يفيدنا بأن الكاتبة دروسيلا باركر لا تتعاطف كثيرًا مع النسوية الماركسية والاشتراكية، من حيث إن الماركسية بالذات تؤكد أن كل ما هو ثقافي ورمزي مجرد بنية فوقية، وفي البنية التحتية الفاعلة تكمن الاحتياجات المادية، إن منطلق دروسيلا باركر الأساسي هو ما بعد الحداثية. [المترجمة]
(٩) هو أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد العريقة، وواحد من أصغر من تبوَّءوا منصب أستاذ متفرغ فيها، وعضو في مجلس المستقبل العالمي الذي تأسس في هامبورغ بألمانيا في العام ٢٠٠٧م، ليرشد السياسات ذات المرامي المستقبلية، عني عنايةً بالغة بنقد وتفكيك الاقتصاديات الاستعمارية أو بالأحرى فضحها، وكان في هذا فيلسوفًا بقدر ما هو عالم اقتصاد. لقد شغل الأوساط الأكاديمية منذ أن نشر بحثه «ماذا يفعل أرباب العمل؟ What do bosses do» في العام ١٩٧٤م، فضلًا عما تلاها، وهو متزوج من عالمة الأنثروبولوجيا الثقافية فردريكا-آبفل مارجلين، التي ورد ذكرها وذكر أعمال لها فيما سبق، وسيرد فيما هو آت، فضلًا عن أنها تشاركه تحرير الكتاب المطروح آنفًا للمناقشة، وتشارك في الكتابة فيه، هذان الزوجان الرائعان ثنائي بعد-استعماري بكل ما في الكلمة من معنى، إنهما ثنائية إيجابية وردت ضمنًا في سياق فصل يرصد ثنائيات سلبية جمة في الحداثة والتنوير والاستعمارية. [المترجمة]
(١٠) الكوزمولوجيا cosmology علم الكونيات أو علم الهيئة، علم نظام الكون أو هيئته العامة المنتظمة. [المترجمة]

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤