الفصل الحادي عشر

مقاومة حجاب الامتياز: مد جسور الهويات كسياسةٍ أخلاقية للمذاهب النسوية العولمية

آن فيرغسون

سياسات جسر الهوية ترياق ضروري لسموم علاقات الإمبريالية-الجديدة.

آن فيرغسون

الباحثون ومقدمو الخدمات التنموية من أهل الشمال الذين يعتنقون نظرياتٍ حداثية للتنمية في سبيل تفهُّمهم ومساعدتهم أقطارًا وشعوبًا من أهل الجنوب يتجاهلون ما يخص هذه الشعوب من منطلقاتٍ للمعرفة غير الكونية ومصالح راسخة. فهم يرفضون الأخلاقيات الكونية من أجل أخلاقيات موجهة إلى موقفٍ معين، وفي غضون هذا نجد أن نموذج التمكين التنموي المهيأ من أجل مساعدة المرأة في الجنوب على أساسٍ بعد-استعماري يتطلب سياسات مد جسور الهوية من أجل تزكية الديمقراطية التشاركية وتحدي سلطة المعارف الشمالية.

(١) الاحتياج إلى جسر الهويات

يتمسك عددٌ من الباحثات النسويات المعنيات بقضايا التنمية العالمية (راجع آخرين من بينهم Calás and Smircich 1996; Harding 1998) بأن أولئك الذين يمولون الخدمات الاجتماعية المقدمة من الشمال، والباحثين بشكلٍ عام الذين يحاولون التدخل في وضع البشر في بلدان الجنوب، إنما يواجهون تحديات أخلاقية خطيرة …١ جحافل من أولئك البشر، سواء كانوا من السكان الأصليين المحليين في بلدان الجنوب أو الذين يعيشون منهم في بلدان الشمال، يتلقون تمويلاتٍ من الحكومات والمؤسسات والشركات في أوروبا وأمريكا الشمالية، أو تمويلًا قائمًا على مصادر فيها، أو يتلقون الجانب الأكبر من أموالهم من هذه المصادر. التمويل الخارج من هذه المصادر ينزع إلى أن يكون نابعًا من أولئك البشر المتميزين وينزع إلى أن يتَّجه صوب البشر الأقل تميزًا؛ ومن ثم يثير خطر التواطؤ في إنتاج المعارف التي تعلي من قيمة الوضع الماثل من انعدام المساواة اقتصاديًّا وجنوسيًّا وعرقيًّا وثقافيًّا.
وبالصورة التي يتم بها إعداد معظم مشاريع البحوث الاجتماعية، يشارك الباحثون في عمليةٍ محكومة بحيث تجعلهم جزءًا من فريق خبراء في «مواد تُدرس للمعرفة» يبحثون أناسًا آخرين بوصفهم «موضوعات للمعرفة». حتى حينما يتأتى التمويل من منظماتٍ غير حكومية (NGOs)، من قبيل جماعات كنيسية أو منظمات تقدمية، فإن الأجور التي يتلقاها أولئك الباحثون والمقالات والكتب التي يكتبونها في الأغلب تخلق وتحفظ تفاوتًا طبقيًّا اقتصاديًّا بين الباحثين أنفسهم وأولئك الذين يدرسونهم. وعلاوة على هذا، فإن غالبية الباحثين ومقدمي الخدمات الاجتماعية من الشمال، حتى وإن كانوا مناهضين للإمبريالية ومناصرين للعدالة الاجتماعية، يغشاهم أفقٌ من الجهالة يخيم على «الآخرية» في ممارساتهم الخاصة وعلى الامتيازات التي تشوه ممارساتهم هم في البحث وفي تقديم الخدمات.
لقد أقمت الحجَّة في مقالٍ سابق (Ferguson 1996) على أننا في حاجةٍ إلى الربط بين الانتقادات الأخلاقية والسياسية لسياسات الهوية النسوية المؤسسة على فروضٍ حداثية، وبين النقد بعد-البنيوي لباحثين، نحن أنفسنا من بينهم، ينخرطون في إنتاج بحث أكاديمي أو سياسي يخلق «سلطة/المعارف». في ذلك المقال وضعت تخطيطًا سياسيًّا/أخلاقيًّا لما أسميته «بناء جسور الهويات»، وهو عملية استجواب-ذاتي وممارسة لرفض وإعادة بناء هوياتنا الاجتماعية المسلم بها في سياق إنتاج المعارف الجديدة. تتطلب مثل هذه السياسة-الأخلاقية فهمًا للسياسات النسوية العالمية من حيث هي عملية للربط البيني وإنتاج معارف تعددية قائمة على كلٍّ من التفهُّمات والأفعال في السياق المحلي وعلى بعض المقولات التحليلية أو المنطلقات العامة المشتركة.

أما في هذا المقال، فإني أُجمل النقود النسوية وبدائل نماذج التنمية الحداثية وفرضياتها الأخلاقية المطروحة في ذلك المقال السابق. وأمضي قدمًا لأدرس بشكلٍ أكثر اكتمالًا ما تنطوي عليه سياسات مد جسور الهوية وكيف أنها قائمة على فلسفةٍ أخلاقية أكثر تموضعًا وتقاوم ناموس الأخلاقية الحداثية.

(٢) أخلاقيات الحداثة وتأثيرها في التنمية

الباحثون من الشمال، وكذلك الذين درسوا فيه أو تأثروا بأفكاره، يتشاركون بشكلٍ عام في مجموعةٍ من الفرضيات الأخلاقية والسياسية والميتافيزيقية المأخوذة من التنوير الأوروبي والتي يُطلق عليها اسم «الحداثة». وأيضًا لم يقتصر التشارك في هذه الفرضيات الحداثية على مفكري التيار السائد الذين هم من ناحيةٍ أخرى يختلفون اختلافًا شديدًا حول السياسة الاقتصادية والاجتماعية، بل أيضًا تتشارك فيها غالبية الباحثات النسويات. تدعم تلك الفرضيات أخلاقيات التقدم التي تكمن وراء إضفاء مزيد من المشروعية على ممارسات التمويل، ليس فقط ممارسات المؤسسات المهيمنة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بل كذلك ممارسات المنظمات غير الحكومية شمالية الأرومة التي تمول مشاريع التنمية في الجنوب.

تقوم رؤية العالم الحداثية على أساسٍ من المعتقدات التالية: أن الطبيعة الإنسانية رشيدة وتبحث عن مصالحها الذاتية، وأن كل فردٍ إنساني، ذكرًا أو أنثى، له حقوق إنسانية فطرية بصرف النظر عن أصول ثقافته، وأن التنمية الاقتصادية الرأسمالية جيدة لأنها تؤدي إلى التقدم، وأن مثل هذه التنمية على المدى البعيد سوف تفيد البشر أجمعين، وأن الأخلاقيات والمعارف الإنسانية يمكنها أن تتطور من منطلقٍ كوني غير متحيز. بطبيعة الحال، الحق في التمثيل العادل في حكومةٍ دستورية والحق في الحصول على استثماراتٍ في السوق الرأسمالية لم ينطبقا أبدًا على البشر أجمعين. وفي مراحل تاريخية مختلفة، جرى إنكار المواطنة الكاملة عن جملة السكان الأصليين وعن العبيد وأحفادهم وعن النساء وطبقات العمال والمهاجرين، بالتالي إنكار استحقاقهم لكامل حقوق الإنسان، على أساس أنهم ليسوا بشرًا بالمعنى الكامل. ومع هذا، فإن حركات اجتماعية عديدة من أجل العدالة، من قبيل حركة محو العبودية abolitionism وحركة المرأة وحركة الحقوق المدنية وحركة العمال، استخدمت زعم الليبرالية الكلاسيكية أنها تتقدم بأساسٍ لأخلاقيات كونية للعدالة، وذلك لكي تطالب بمد نطاق حقوق الإنسان لتشمل البشر جميعًا. وعلى هذا النحو قدمت النظرية طريقةً للطعن في الممارسة المتحيزة لهذه الجماعات الحاكمة التي تنكر تلك الحقوق على الذين يخضعون لها.
وبينما يتمثَّل الجانب الإيجابي لهذه الفرضيات في أنها تربط الإيمان بالمساواة الأساسية بين البشر، فإن جانبها السلبي يتمثل فيما تتضمنه من أن البلدان الأكثر تطورًا من الناحية الاقتصادية (بمغزى الأسواق الرأسمالية). ولهذا السبب ذاته، قطعت شوطًا أبعد مما قطعته البلدان الأخرى على الطريق نحو المثال الإنساني الرشيد للتقدم والمساواة. وهذا يوعز بأن العلاقة البطريركية [الأبوية] بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب لها ما يبررها أخلاقيًّا؛ فالأمر كما أوضحه جون ستيوارت مل، من أن كامل الحق في الحرية الإنسانية ليس مطروحًا للذوات الإنسانية «في قصورها وعدم نضجها» أو طفولتها، وقد اعتقد أن هذا يصدق على أولئك الذين يحيون في المجتمعات قبل-الصناعية (Mill [1859] 1975).
معلقون من مشارب مختلفة عارضوا الباحثين الحداثيين من أهل الشمال لأنهم يتجاهلون مصالحهم هم المتحيزة للغاية في إنتاج معارف «خطاب التنمية» (Escobar 1995; Harding 1998; Mohanty Russo, and Torres 1991) وبالمثل كذلك، أجادل هنا بأن تلك الفرضيات الخطابية الأخلاقية الحداثية أعمت مثل أولئك الباحثين، ومن ضمنهم النسويون الغربيون، عن فهم تواطئنا الأخلاقي في استبقاء علاقات الاستعمارية الجديدة المهيمنة بين الشمال والجنوب.
داخل النموذج الإرشادي الحداثي ثمة تبريران أخلاقيان أساسيان لإضفاء المشروعية على أي استراتيجية: فإما المقاربة الكانطية القائمة على حقوق الإنسان والمبادئ العامة، أو المقاربة النفعية القائمة على دعاوى تحقيق أقصى قدر من السعادة لجميع أو معظم المعنيين مقارنة بالبدائل الأخرى.٢ تبدأ هاتان الاستراتيجيتان التبريريتان كلتاهما مما أسماه ميشيل فوكو مقاربة «ناموس الأخلاقية code ethics»، ما دامتا تفترضان أننا نستطيع تطوير أخلاقيات كونية قائمة على ناموس اتباع مبادئ عامة ينبغي تطبيقها على أي سياق أو قواعد عامة مأخوذة بحكم التجربة نفترض أنها بدورها تعزز السعادة العامة في هذه النوعية من السياق (Foucault 1985).٣
الثقافات الشمالية والأديان والمؤسسات الاجتماعية المتأثرة بالشمال تعمل على التنشئة الاجتماعية لأهلها في ظل ناموس مُعمَّم للأخلاقية، سوف يساعد بعد ذلك على تشكيل أفق جهالة الباحثين المتأثرين بها. يسمح هذا الناموس للباحثين ومقدمي الخدمات من مثل تلك السياقات بأن يتجاهلوا ما هو محل للارتياب في الأعم الأغلب، أي علاقاتهم السياقية مع البشر الذين هم موضوعات أبحاثهم والذين يتلقون خدماتهم. يجب أن تطور الباحثات النسويات أخلاقيات أكثر سياقية قائمة على التفهُّم الموضعي وليس على ناموسٍ معرفي كلي (Walker 1989). على تفكير حواري وليس على تفكير تمارسه الأنا وحدها (Jaggar, 1997). وبالمثل كذلك على «ممارسات الحرية»، وهذا يعني ممارسات الذات لإعادة بناء المرء لفهم ذاته وللعلاقات الأخلاقية مع الآخرين (Foucault 1985, 1989).
وفي مقابل المعتقدات الحداثية حول الطبيعة الإنسانية، فإن مقاربة النسوية، المادية التاريخية والجماعاتية communitarian الراديكالية، من شأنها أن تقيم الحجة على أن الطبيعة الإنسانية متأصلة في المجتمع بوصفها أحرى من أن تكون متأصلة في المصالح الذاتية (قارن Ferguson 1995). وكشأن الماركسية الكلاسيكية، الدعوى هي أن الطبيعة الإنسانية ذات بنية اجتماعية وتاريخية. وهكذا تكون «المصالح الذاتية الرشيدة» بوصفها مقابلة ﻟ «مصالح جاري» أو ﻟ «الخير الجمعي» مفاهيم لا تتطور إلا تحت ظلال الرأسمالية الغربية، وليست مفاهيم كونية. إن الطعن في الحجج الاقتصادية القائمة على الطبيعة الإنسانية يقوض المزاعم حول تفوق الأسواق الرأسمالية، وبالمثل كذلك يقوض تسويغ الحكومات المستمدة من نظرية العقد الاجتماعي، سواء الكانطية أو النفعية.
وعلى الرغم من أن الأخلاقيات النسوية المادية ترفض المقاربة العمومية الثابتة لقيمٍ أخلاقية تكون قائمة على طبيعةٍ إنسانية راسخة «أصيلة»، فلا يتبع هذا أن قيم الأخلاقيات ذاتية بالكلية أو نسبية تمامًا. كل مرحلةٍ تاريخية وكل نمطٍ للتنظيم الاجتماعي يطور نظامه من الأخلاقيات التي يمكن جعلها كونية عامة، على الرغم من أنها لا تحقق في واقع الأمر القيم التي تدعي تعزيزها. وعلى هذا نستطيع نقد اقتصاد التنمية العولمي الرأسمالي لإخفاقه في تحقيق القيم المتطورة عبر التاريخ التي يزعم المنافحون عنه أنها قيمٌ مشروعة، وعلى وجه الخصوص مثال الديمقراطية وحق تقرير المصير للجميع. في الواقع، ما تفضي إليه عميلة التحديث الرأسمالية هو دفع ضريبة في صورة الكلام عن ديمقراطيةٍ شكلية للجميع على حساب ديمقراطية جوهرية للغالبية العظمى من أولئك الذين لا يتحكمون في ملكية تخلق فائضًا للقيمة. وأحد الجوانب المفتاحية للديمقراطية الجوهرية في قدرة الغالبية بشكلٍ جماعي على تحديد القرارات المتعلقة بالسياسة الاجتماعية التي تؤثر على حياتهم، ليس فقط من خلال الديمقراطية النيابية، ولكن من خلال الديمقراطية التشاركية.٤ وعلى هذا النحو، تتخفى في عملية التحديث مقايضة للقيم حيث تحل الديمقراطية الشكلية (للحفاظ على الحقوق المدنية في مواجهة الدولة، والتصويت على الحكومة النيابية) محل الديمقراطية التشاركية، أو محل المقدرة على أن يكون ثمة تأثير حقيقي في الاقتصاد والقرارات السياسية الأخرى. ويدور التنظيم النسوي العالمي المترابط عبر العالم حول مسائل تهم المرأة على المستوى المحلي، ويتزايد اعترافه بأهمية المطالبة بعمليةٍ ديمقراطية تشاركية في صنع القرارات التي تساهم في تمكين المرأة، على اعتبار أن هذا مطلب رئيسي يمكن أن نتحدث حوله.٥

(٣) القيم والاستراتيجيات في نماذج مختلفة للتنمية

التحديث والجنوسة والتعديلات النسوية
تفترض نظرية التحديث أن السياسات التي تفتح الأبواب لاقتصادٍ ما لكي يكون اقتصادًا صناعيًّا سوف تفيد السكان أجمعين. بَيد أن الجهود المبذولة لتوسيع الأسواق الرأسمالية تركز على توسيع نطاق العمل المأجور. مثل هذا التركيز يتجاهل عادة مشاركة النساء غير المتكافئة في العمل المأجور المستجد بسبب عملهنَّ غير المدفوع الأجر في مجال الإعاشة، وهو عمل مركزي في تلبية احتياجات البشر المادية، لا سيما في اقتصادات الإنتاج الريفي (Boserup 1970). على هذا النحو، غالبًا ما يجعل التصنيع أوضاع النساء من الناحيتين الحكومية التي تتلقى التمويل، أو حتى كامل هيئتها. مثل أولئك النساء، لهنَّ مصالح راسخة في التعتيم على الفوارق الطبقية التي تمنحهنَّ دونًا عن نساء الطبقة العاملة الفقيرات مزيدًا من السلطة في تحديد ما سوف يتم تمويله من مشاريع التنمية.
تضع مقاربة التمكين هدفًا للتنمية، ألا وهو تمكين النساء بوصفهن أفرادًا عن طريق التأكيد على الديمقراطية التشاركية كعمليةٍ قيمية، سواء في التخطيط الأوَّلي أو في المحتوى — ويجب أن يشمل المحتوى ورش عمل لتوعية المستفيدات بوصفه مكونًا رئيسيًّا. ويجب أن تؤكد مثل هذه المشاريع على التحليل السياقي والتقاطعي، وليس التحليل الكمي، لفهم الجنوسة والعرق والطبقة والهيمنة الجنسية والقومية (Spelman, 1988). بهذه الطريقة، تستطيع النساء المعنيات تحديد أوضاعهنَّ شخصيًّا في سائر تحليلات الهيمنة الاجتماعية. وهكذا، بدلًا من قَبول الاختيار بين نمطين من ناموس الأخلاقية (الكانطي أو النفعي)، اقترح أولئك الذين يطورون نموذج التمكين أدناه أخلاقيات عملية سياقية قائمة على «استراتيجية تكاملية»؛ أي قائمة على جعل الوسائل غير متمايزة عن الغايات، وعدم السماح بالانفصالات القيمية بين الشخصي والسياسي (انظر Miles 1996).
إن ورش العمل للتخطيط والتوعية المؤطرة في النموذج الإرشادي للتمكين، كثيرًا ما تنخرط في التربية والتعليم العام مستخدمة المفاهيم التحليلية للجنوسة والعرق والطبقة والجنسانية والإمبريالية. وعلى أي حالٍ يمكن لكلٍّ من هذه المفاهيم أن يكون معقولًا بوصفه مفهومًا للهوية بنيويًّا أو رمزيًّا أو سياقيًّا (راجع Ferguson 1997b). وما دامت هذه المفاهيم تفضي إلى تحليلاتٍ مختلفة، فمن المهم التمييز بينها. إن المقصود من «الجنوسة البنيوية structural gender» تقسيم العمل المأجور وغير المأجور على أساس الجنس، بينما تشير «الجنوسة الرمزية symbolic gender» إلى مواقع الكلام حصريًّا والمعايير الاجتماعية المرتبطة بالذكورة والأنوثة، في المنظومات الرمزية للهيمنة والتبعية معًا. وعلى أي حال، نجد الهوية الجنوسية السياقية، من حيث إنها أيضًا مقيدة بعلاقات الهيمنة الطبقية والعرقية والجنسية والقومية، غير قابلة للرد إلى أيٍّ من الجنوستين البنيوية أو الرمزية. تحليلات العالم البنيوية والرمزية لكل علاقةٍ من علاقات الهيمنة تلك يمكن تيسيرها ورسم السبيل إليها عن طريق هيئة من المدربين العاملين بأجر. ومع ذلك، فإن التشديد على قيمة الديمقراطية التشاركية وعلى أهداف هذه العملية غير-التراتبية، ورفض الفصل بين قيم الوسائل وقيم الغايات، يفضيان إلى نمطٍ لورشة عمل مثالية: مزيج متساوٍ من المعلومات الاسترجاعية التجريبية، تشدد على السياقات المختلفة التي أتت منها المستفيدات (أي: على تنوُّع هوياتهن الجنوسية العينية القائمة على اختلافاتٍ في العرق والإثنية والطبقة والسياقات الأخرى). والتشارك في لحظات صنع القرار والتقويم والتخطيط للورش والمشاريع في المستقبل.٦،٧،٨
وعلى العكس من النموذج الإرشادي للتحديث الذي يفترضه النسويون المساهمون في «المرأة في التنمية»، فإن النسويين في النموذج الإرشادي للتمكين يميلون إلى افتراض أن نظام العالم المعاصر يشمل مجتمعات بينها صراعات اجتماعية أو تناقضات داخلية وخارجية. ومن ثم، ينطوي تحويل وضع المجتمع على تغييرٍ جذري؛ ولن يفضي التغيير التطوري إلى تحقيق أهداف العدالة الاجتماعية. وبدلًا من افتراض أن الجميع متساوون في السوق الرأسمالي، يبحث تحليل التمكين عن البنيات الاجتماعية — مثلًا، استمرارية التوزيع غير العادل للملكية ورأس المال — التي تتركز فيها السلطة بشكلٍ متفاوت، وثمة اعتقاد بأن التغير الاجتماعي ممكن على الرغم من علاقات القوة غير العادلة على هذه الشاكلة؛ وذلك بسبب من الصراعات البنيوية والتناقضات البنيوية التي تستبقي القوى غير قادرة على التحكم في مثل تلك الصراعات. ومن الأمثلة على هذا دائرة الأعمال التجارية الحرة، التي تجعل الاقتصاد الرأسمالي العولمي غير مستقر. وأخيرًا، مع التسليم بهذا التحليل تتطلب العدالة الاجتماعية تحدِّيًا لصنوف الظلم البنيوية، من قبيل التقسيم غير العادل للسلطة والملكية في المجتمع أو تقسيم العمل على أساس الجنس (Paulston 1976, Moser 1993, Cohen 1995).
إن الانتقادات بعد-البنيوية والتفكيكية تُفصح عمَّا أسمته أنجيلا ميلز Angela Miles (1996) الاتجاه الاختزالي الذي لا يعترف بالضرورة الملحَّة لما أطلقت عليه غاياتري سبيفاك اسم «الماهوية الاستراتيجية» حتى في الخطابات التي تتخذ موضعًا محددًا في التاريخ (Spivak 1993, Fuss 1989). جاكوي ألكسندر وتشاندرا موهانتي (١٩٩٧) تجادلان في أن الممارسة بعد-الحداثية النسبوية يمكن أن تفضي إلى إنكار مقولة «العرق» وامتيازاته؛ تسليمًا بأنه لا أحد منا يختار الخطابات التي تميزنا، وأن بياض البشرة مقولة مبنية اجتماعيًّا شأنها شأن المقولات الاجتماعية الأخرى.
وفضلًا عن هذا، يميل بعد-الحداثيين.٩ إلى تجاهل لحظاتهم الماهوية الخاصة بهم، أو منطلقاتهم. مثلًا، مفهوم فوكو الخاص عن السلطة بوصفها نظامًا تأديبيًّا، ولا يعترف فوكو أبدًا بأن مفهومه قد ارتبط بممارساتٍ خطابية، ومنتجًا لصميم الأشياء التي يزعم الخطاب أنه اكتشفها، الدرس والمراقبة، إنه في حد ذاته نقطة الانطلاق التأسيسية، من حيث إن فوكو بوصفه من منظِّري الغرب الأكاديميين في القرن العشرين صاحب مصلحة أكيدة في تعزيز هذا المفهوم. وعلى الرغم من أن أرتورو إسكوبار ينقد خطاب التنمية الحداثي، فإن نقده الخاص به بعد-البنيوي يقترب بشكلٍ خطير من تقليد تقديم النساء غير الأكاديميات، كالقرويات، بوصفهنَّ ضحايا لهذه السلطة/المعرفة، وهن بالتالي موضوعات للمعرفة بدلًا من أن يكنَّ ذواتًا للمقاومة. وأخيرًا، فكما أفصحت ليندا ألكوف ونانسي هارتسوك، لا يمكن لمحض انتقادات تفكيكية أو جينيالوجية أن ترضي النسوية من حيث هي منطلق للاشتغال، بل لا بد من تطوير رؤًى إيجابية واستراتيجيات أخلاقية-سياسية لتحدي الهيمنة الاجتماعية (Alcoff 1990; Hartsock 1990).
الحق أن الخطابات النسوية المتعددة المراكز حول التنمية العولمية هي خطابات متنامية من حيث إنها في الوقت نفسه نقد-ذاتي لمنطلقاتها الخاصة بها في السلطة/المعرفة، وقائمة على أسس تاريخية وسياقية، وهي مع ذلك لا تعتذر عن أنها تكاملية وإيجابية فيما يتعلق بالاحتياج إلى تقديم توجيهات نحو المستقبل قائمة على أساس الوضع الراهن الفعلي والمحتمل لشبكات الاضطهاد والتضامن بين النساء في الشمال والجنوب أو بين العالم الأول وثلثي العالم (Deschamps 1997; Harcourt 1994; Mies 1986, Shiva 1989).١٠

(٤) استراتيجية التمكين المعدلة

منظمات نسوية شتى في العالم الثالث، من قبيل DAWN (التنمية والنساء من أجل حقبة جديدة) في جزر الهند الغربية، تستخدم الآن نموذجًا إرشاديًّا معدلًا للتمكين كبديلٍ للنظريات التي هي أكثر كونية وعمومية، وبالتالي أكثر اقترابًا من الحداثة، وهي نظريات عن تحرير المرأة من خلال التنمية، وتتضمن «النساء في التنمية» WID والمقاربات المبكرة للتمكين والماركسية التقليدية. يشدد ذلك النموذج الإرشادي البديل على البحث والتحري على الصعيد الميداني وعلى برامج التنمية التي تتخذ موضعها في قلب دوائر الواقع الخاصة بالنساء بدلًا من المزاعم الكونية العامة. وعلى خلاف أخلاقيات النسوية الشمالية بعد-الحداثية التي هي أخلاقيات سياقية في جملتها، تشدد السياسة-الأخلاقية لمثل تلك المقاربة، مهما يكن الأمر (Walker 1989, Flax 1998)، على تطوير رؤًى عمومية للعدالة الاجتماعية (مثلًا، أن حقوق المرأة هي حقوق الإنسان). بَيد أنها لا تفعل هذا عن طريق التجريد البعيد عن السياقات المحلية، بدلًا من ذلك، يكون المنطلق هو أن عملاء المشاريع التنموية لا بد أن ينخرطوا في عملية إنتاج للمعرفة بحيث يساعدون في تحديد ما الذي نعتبره حقوقًا للمرأة وللإنسان في السياقات الخاصة بهم وباللغة التي يستطيعون الحديث بها، وما هي الأولويات المحلية في السعي من أجل تفعيل هذه الحقوق.
يؤكد النموذج الإرشادي المعدل للتمكين على الآتي: استراتيجيات البحث والتحري التي تنطلق من وضع النساء الراهن وأهدافهن موضوعات للبحث، والمناهج التي تمثل الطرق المفهومة محليًّا للإفصاح عن المفاهيم والأفكار والقيم لسائر النسوة المشاركات، واحترام الطرق البديلة لتمثيل المعارف المتموضعة في خبرات النساء. ويمكن النظر إلى هذه المنهجية باعتبارها مماثلة لمنهجية البحث عن طريق العمل المشارك، مع ميزةٍ إضافية وهي أنها تصر على عملية استجواب ذاتي يمولها الباحثون، واعتراف بوضعهم السلطوي في بناء المعارف قيد البحث. الهدف من ذلك هو أن الممارسات التشاركية يمكن أن تحاول موازنة سلطة الباحثين عن طريق التأكيد على عملية انعكاس-ذاتي جماعية لتصويب النتائج التي تعكس هذه السلطة الكامنة. يتم تنظيم مشاريع البحث بشكلٍ واعٍ، حتى إن الباحثين ومنسقي المشروع يطورون ممارسةً للاستجواب الذاتي تواصل زعزعة استقرار هوياتهم المسلم بها وتفضح آفاق جهلهم. وأخيرًا، نجد منظِّري نموذج التمكين المعدل الذين يتشككون في النماذج الإرشادية الحداثية للبحث من حيث الجانب الخاص ﺑ السلطة/المعرفة فيها يقاومون السعي في إصلاح ذات البين إبستمولوجيًّا، بين نظرية الحداثة التي تمثل التيار السائد والتنمية المستدامة التي يطرحها كثيرٌ من أنصار الاقتصاد الأخضر.١١ وأولئك المذكورون أخيرًا يتجاهلون القضايا النسوية ويتجاهلون الانتقادات بعد-الحداثية لخطاب التنمية على السواء (Antrobus 1996; Cohen 1995; Sachs 1992; Mies and Shiva 1993).

إن فكرة سياسة «جسر الهوية» هي استراتيجية لكي يسلك الباحثون النسويون الشماليون مسلك مقاربة التمكين المعدلة. مثل هذه السياسة من شأنها أن تسمح بتطوير أساس معارف موضعية إلا أنها ليست نسبوية، تغذيها ما بعد-البنيوية بيد أنها تتجاوز موقف هذه الأخيرة المقتصر على النقد. إن الباحثين الذين يربطون دعاويهم ربطًا وثيقًا بالممارسة السياسية المتحالفة مع النساء المتعينات في مجتمعاتٍ محيلة لها وضعها الخاص، يمكنهم تبرير دعاويهم المعرفية النظرية والإمبيريقية بأنها نواتج مشتركة خرجت عن فكر الباحثين الشماليين وعن التوعية وإنتاج-الإجماع في حركات السكان الأصليين. ويصدق هذا بشكلٍ خاص إذا عمل الباحثون في سياقاتٍ تسمح لهم بإبراز تنامي الإجماع في أجندات بحوثهم. وهذا سوف يفسح المجال لبحثٍ قائم على أساس القيمة العملية للديمقراطية التشاركية.

(٥) مقاومة حجاب الامتياز: بناء جسور الهويات

ما هي ممارسات الاستجواب-الذاتي التي يحتاجها الباحثون النسويون ومنسقو المشاريع لكي يزعزعوا استقرار الهويات ويفضحوا آفاق الجهالة؟ إننا نطالب باستراتيجيةٍ أخلاقية-سياسية بديلة تقاوم التبسيطات في سياسات هوية كمية غير تاريخية، تتعامى عن الاختلافات الموضعية بين المشاركين. وكما رأينا، تميل النسويات المساهمات في «المرأة في التنمية» إلى افتراض أختية بلا إشكاليات قائمة على سياسة الهوية التي تحجب عن العيان الموقف البطريركي الخاص بهنَّ. إن ارتكانهن على ناموسٍ أخلاقياتي كوني يسمح لهنَّ بأن يخلصن إلى موقف الامتياز الخاص بهن بوصفهن منشئات المعارف وممولات المشاريع. ومن الناحية الأخرى، يجب أن نرفض أيضًا نسبوية النقاد بعد-البنيويين الذين قد يتركوننا إزاء ديمقراطية تشاركية متعددة وسياقية لدرجة أنها تفتقر إلى أي أساسٍ يمكن تعميمه من أجل سياسات التضامن.

وثمة إمكانية لخيارٍ ثالث: لا يزال يوجد نوعٌ من سياسات الهوية، بيد أنه نوع شديد الاختلاف عن الأشكال الماهوية. وأنا أسمِّي مثل تلك الأشكال الماهوية سياسات الهوية الموجبة، وهي تفترض خصائص أصيلة عامة تسري في جماعاتٍ اجتماعية معينة. بَيد أنها تتجاهل ما يتقاطع معها من اختلافاتٍ اجتماعية وسياقات تقوض مثل تلك التعميمات. لا تستطيع سياسات الهوية الموجبة من هذه الشاكلة أن تأخذ في اعتبارها السلطات والامتيازات التي يستمتع بها بعض أعضاء جماعة الهوية دونًا عن الآخرين: مثلًا، سياسات الهوية الجنوسية النسوية الموجبة تقلل من أهمية الاختلافات الطبقية والعنصرية والقومية/الإثنية والجنسية بين النساء. وأخيرًا، كما أكَّد النقاد بعد-البنيويين، تميل سياسات الهوية الموجبة إلى إعادة تأسيس الثنائيات ذاتها مثلما يفعل أولئك الذين يتبوءون مواقع الهيمنة الاجتماعية؛ مثلًا، بين الرجل والمرأة، بين الأبيض والأسود (أو «الملون»)، بين ذي الميل إلى الجنس الآخر والمثلي. يعمل هذا على تهميش أولئك الذين لا يتلاءمون بشكلٍ مريح مع تصنيفاتٍ من هذا القبيل، مثل المخنثين والمتحولين جنسيًّا وذوي الأعراق المختلطة. فهل يمكن لسياسات التحرير التي تستمسك بحدودٍ للعضوية فيها (انظر Butler 1993) أن تنجح حقًّا؟

منظومات عديدة للهيمنة الاجتماعية مسئولة عن هذه الاختلافات في السلطة الاجتماعية. وعلى هذا نجد أن ثمة عملية تاريخية لإعادة بناء الهويات يجب أن نخرج منها بتصورٍ لسياسات الهوية القائمة على الالتزام بأشكالٍ متعددة من التحرير الاجتماعي من كل أشكال الهيمنة. سوف تنطوي هذه العملية على جانبين منفصلين يعتمدان على وضعٍ اجتماعي واحد. سوف يكون الجانب الأول بناءً موجبًا للهوية لأولئك الذين هم أعضاء في جماعات مقموعة في علاقتها بجماعات أخرى (وهو ما يمكن أن نطلق عليه «سياسات الهوية للجماعة المستهدفة»). الجانب الثاني هو «الهوية السالبة» أو عملية خلخلة-الهوية لأولئك الذين هم في الجماعات المهيمنة (وهو ما يمكن أن نطلق عليه «سياسات هوية الحليف»). العملية الشاملة مربكة، من حيث إن معظم الناس سوف يكونون في موقف المقموع وفي موقف المهيمن معًا، وذلك في علاقاتهم المتزامنة بجماعاتٍ أخرى؛ لذلك لا بد أن تنطبق عليهم سياسات الهويتين الموجبة والسالبة كلتيهما فيما يتعلق بالجماعات المختلفة من البشر، غالبًا بشكلٍ متزامن. على أي حال، كلا الشكلين لبناء الشخصية يجب تفسيره بشكلٍ مختلف عما كان عليه الوضع في ظل الأشكال الماهوية لسياسات الهوية.

إنني أطلق على هذا النمط من المشاريع اسم مشروع بناء جسر الهويات (راجع Ferguson, 1996). إنه يفترض احتياجنا إلى إعادة بناء هويتنا بوصفها أحرى من إعادة تأكيد وتثبيت قيمة الأصالة الكامنة في الهوية، كما تفترض سياسات الهوية الماهوية. إنه هدفٌ لا يتم إحرازه بخطوةٍ واحدة، بل ينطوي على عمليةٍ ذات مراحل متعددة ووجوه شتى. الاختلاف في عملية الهويات المستهدفة والهويات الحليفة هو أن الأسبق تتضمن خطوة أولى مختلفة. الخطوة ١ للهويات المستهدفة (أولئك الذين يدخلون في علاقات التبعية أو القمع مع جماعةٍ اجتماعية أخرى). تنطوي على سياسات تأكيد الهوية، التأكيد البسيط على القيمة المحتملة للمرء في حدِّ ذاته بوصفه عضوًا في جماعةٍ اجتماعية. وخلافًا لسياسات الهوية الموجبة، مثل هذه السياسة لتأكيد الهوية يمكنها تفادي أن تصبح ماهوية عن طريق رفض استرجاع الخطاب الثنائي المستخدم في قمع الجماعة (مثلًا، حيثما يكون الأبيض جيدًا والأسود سيئًا، الآن يمكن تأكيد هوية الأسود على أنه جيد، والأبيض على أنه سيئ). بدلًا من هذا، يمكنها الطعن في تثبيت القيمة السلبية للمرء من حيث هو عضو في الجماعة الاجتماعية المستهدفة عن طريق إعادة تأويل تاريخ الجماعة والخصائص المعزوة لها: بعبارةٍ أخرى، تجعل إعادة التقويم تحدث (hooks 1990, Hoagland 1988). وعلى العكس من هذا، بالنسبة إلى أولئك الذين هم في وضع الهيمنة ويرغبون في أن يكونوا متحالفين في مواجهة قمع الجماعة المستهدفة، الخطوة الأولى هي اصطناع نقد للجوانب السلبية الماثلة حتى الآن في هوية المرء الاجتماعية؛ أي الغض من قيمة التفوق الأخلاقي المفترض في المرء.
إن مقاربتَي الجماعة المستهدفة والجماعة المهيمنة كلتيهما بهذا النوع من تخفيض القيمة والمطالبة بإعادة التقويم يمكن النظر إليهما بوصفهما نمطًا من سياسات الهوية السالبة، بوصفها مقابلة لنمط سياسة الهوية الموجبة التي تهدف إلى الكشف عن مضمون معين للتفوق الأخلاقي المعزو إلى هويةٍ كانت «مستلبة»، أو يُنكر تعبيرها «الأصيل» تحت ظلال الهيمنة الاجتماعية. ما الذي تتضمنه سياسات الهوية السالبة على وجه الدقة؟ كما قال ميشيل فوكو ذات مرة في مقابلة: يجب علينا أن «نرفض ما نحن عليه» بدلًا من أن نحاول التأكيد على ما نكونه (Foucault 1989; Halperin 1995; Rajchman 1991). أما بالنسبة إلينا كنساءٍ ملتزمات بإعادة بناء ذواتهن بوصفهن نسويات، فهذا يعني أنه بدلًا من أن نحاول أولًا رفع قيمة الأنثوية، ينبغي علينا مقاومة الطغيان الرمزي للأنثوية المرفوع فوق رءوسنا وذلك بأن نصبح «خونة للجنوسة» (Heldke 1998). ينطوي هذا على تحدٍّ لسنن الجنوسة التقليدية، وبدلًا من رافعات لواء الجنوسة اللائي يقتصرن على قَبول الثنائية الجنوسية بل يحاولن تثبيت قيمة الأنثوية، فإننا قد تلقينا الدرس. نستطيع أيضًا أن نعيد تأويل أنثوية راديكالية أو نعاود الإفصاح عنها، وهي قابلة لإعادة البناء في ظل علاقات مختلفة للجنوسة والطبقة، ككيانٍ يمكن أن يساعد في تحدي الهيمنة الاجتماعية، وفي هذا لا نمنح العناية١٢ لأسرنا فحسب بل أيضًا للغرباء ولأولئك الذين أصبحوا «آخرين» بالنسبة إلينا بفعل الطبقة الاجتماعية أو العرق أو التقسيمات القومية (Ferguson 1995).
ثانيًا: يجب أن نعترف بالطيات الداخلية المتأصلة التي ليست محض إضافة كمية لهوياتنا الجنوسية المتعينة، أنا لست محض امرأة، بل بيضاء، وأمريكية-أوروبية ومن الطبقة الوسطى وأكاديمية، وإعادة بناء هذه الهوية السياقية تتطلب علاقة خئون، ليس فقط للسنن الثقافية النسائية، بل أيضًا خئون لافتراض الامتياز الأكاديمي والطبقي للأمريكية البيضاء. وهكذا، فعلى الرغم من أنني قد أكون، وبالتشارك مع نساءٍ أمريكيات أخريات خاضعة لسننٍ جنوسية رمزية سائدة، فإن طبقتي وعرقي وموضعي الأكاديمي قد تجعل إحراز منزلة «المرأة الجيدة» أقرب إليَّ مما هو لأخرياتٍ كثيرات يوضعن بشكلٍ تلقائي في خانة «نساء سيئات». وعلاوة على هذا، قد تكون ثمة سنن معينة تلزمني بموقفي السياقي بوصفي امرأة بيضاء، أمريكية-أوروبية وبروتستانتية من الطبقة الوسطى وتقوض من تقديري لذاتي بطرقٍ لا تنطبق على أولئك النساء اللائي لا يدخلن في هذا التصنيف (مثل النساء الأمريكيات الأفارقة أو اليهود). من الناحية الأخرى، قد أكون خاضعة لبعض القيود الجنوسية المادية العابرة لمثل تلك الاختلافات، من قبيل كوني أمًّا عزباء (Ferguson 1997a).
قد تتخذ سياسات الهوية السالبة واحدًا من متجهاتٍ عديدة، كلٌّ منها تتحدى استراتيجية سياسات الهُوية الأكثر تعميمية. وبينما تهدف هذه الأخيرة إلى تثمين الأنثوية عن طريق كشف قوًى خبيئة في الصوت الأخلاقي النسائي الفريد (Gilligan 1982). أو في شخصيات النساء الجنوسية التي هي اندماجية وليست تعارضية (Chodorow 1978). أو في قيم التفكير النسائي الأمومي (Ruddick 1989)، فإن سياسات الهوية السالبة تقاوم تلقائيًّا أي خصائص مسلم بها للشخصية بوصفها مواطن قوة مسلمًا بها يمكن أن تتحالف حولها النساء (Hoagland 1991). فسواء تبنَّت الواحدة منا سياسات هوية موضعية (Dr Lauretis 1987; Riley 1990; hooks 1990 Alcoff 1988)، أو ناصرت سياسات الشواذ، فإنها في هذا وذاك ترفض أي نقطة انطلاق موضعية ثابتة لسياسات المرء (Butler 1993; Wamer 1993). وكما فسرت ألكوف ودي لورتي وريلي وهوكس فكرة الهوية الموضعية، فإنها الهوية التي نجد أنفسنا مختصات بها بحكم التعريف الاجتماعي، عادة عن طريق التقابل مع تصنيفٍ اجتماعي آخر، مثل «المرأة» = «ليست الرجل»، و«البيضاء» = «ليست السوداء»، و«الطبقة-الوسطى» = «ليست الطبقة العليا وليست طبقة العمال أو الفقراء». نستطيع أن نطور سياسات هوية قائمة على الموضعية الاجتماعية التي تقاوم تشكيل ماهية جديدة للأنثوية، ولسواد البشرة، وللتعدد الثقافي لذوات البشرة البيضاء، وصولًا إلى قابلية طبقة العمال للحراك. وبدلًا من هذا، نستطيع تشكيل سياساتنا عن طريق الاتفاق مع الأخريات اللائي لهن موضعية التعريف ذاتها لكي نحارب من أجل مطالب معينة للعدالة الاجتماعية، مثل حق الإجهاض والتحرر من العنف الذكوري، ورعاية الأطفال بأجرٍ معقول والبحث الملائم في مسائل صحة المرأة.
ولعلَّ سياسات هوية سلبية مختلفة إلى حدٍّ ما تقاوم الانتظام حول موضعياتٍ مسلم بها، على أساس أنها لا تزال تستبعد أناسًا من الجماعة التي يتصورها كثيرون بوصفهم حلفاء «طبيعيين». مثلًا، استبعاد ذوي السلوك الجنسي المنحرف.١٣ ولكي نقاوم مثل هذا الاستعباد، فإن السياسات المحايدة إزاء السلوك الجنسي هي محاولة لصنع الترابط عبر الثنائيات الاجتماعية المطروحة القائمة على مغزًى محسوس للانحراف أو للتضامن مع أولئك الذين جرى تعريفهم بأنهم المنحرفون الذين يتصرفون بوصفهم خائنين للجنوسة (Heldke 1998; Ferguson 1995). ويقوضون دعائم السلوكيات الجنوسية التي تم تنصيبها معيارًا (Bulter 1990; Warner 1993). وثمة استراتيجية مماثلة لتحدي العنصرية تقترحها ليندا ألكوف ونعومي زاك (Alcoff 1995; Zack 1993)، لعلها تخلق هويةً ثالثة أو تبث في أعطافها الحياة؛ هُوية العِرْق-المختلط أو «المستيزا». بهذه الطريقة، يتم الطعن في التعريف المعياري ﻟ «الأبيض» من حيث هو نقي أو غير موصوم، خصوصًا إذا كان من أولئك البيض الذين ليس لهم أي أسلافٍ ملونين وراحوا في تعريف أنفسهم بأنهم متعددو الأعراق بسبب صداقاتهم أو من علاقات قرابة اختاروها أو صلات أسرية.
ولا تكفي المرحلة الأولى من عملية سياسات الهوية السالبة، أو من عملية رفض ما تم بناؤنا اجتماعيًّا لكي نكونه، على الرغم من أنها ضرورية لتحدي الهيمنة الاجتماعية. يصدق هذا بشكلٍ خاص على أولئك الذين تتضمن هويتهم السياقية المركبة واحدة أو أكثر من مقولات الهيمنة الاجتماعية؛ هوية بياض البشرة وأمريكية-أوروبية تنتمي إلى الطبقة الوسطى أو الطبقة العليا تميل إلى الجنس الآخر وأكاديمية. وهذه الهوية كانت ملائمة بشكلٍ خاص لمناقشاتنا، هوية مواطنة من الشمال في علاقتها بمواطنين من الجنوب، المهيمنون اجتماعيًّا لا بد أن يرفضوا ما نحن بصدده من كشف النقاب عن آفاق الجهالة التي تحيط بالبنيات والأيديولوجيات، وبالمثل كذلك عن عوائد سلوك الفرد التي تديم امتيازنا الاجتماعي. ينطوي هذا على تنظيمٍ متوالٍ وعلى العمل الفردي في شبكاتٍ مع أقراننا الذين هم في أوضاع التبعية الاجتماعية في ممارساتٍ تنضد امتيازهم المعرفي في تحدي ما لا نعترف به من عنصرية، وتحيز جنساني وخصائص أخرى. وأيضًا لا بدَّ أن نُلزم أنفسنا بتغيير ما درجنا عليه من تفرقةٍ عنصرية في صداقتنا وشبكاتنا للعمل الاقتصادي والحب وأنماط المعيشة التي تحفظ امتيازنا المتواري عنا. وهذا يعني تأسيس شبكات عمل للاتحاد الحميم مع أصدقائنا وزملائنا في العمل المنخرطين في أنماطٍ مماثلة من بناء جسر الهوية المناصر للعدل (Haraway 1985). كل هذه الممارسات التي تواصل طريقها قُدمًا هي ما كان فوكو سيطلق عليها اسم «ممارسات الحرية» أو «ممارسات رعاية الذات» (Foucault 1985, 1989) بالنسبة إلى الذي يرغب في إعادة بناء ذاتية المرء بوصفها مقاومة للتصنيفات ومعايير الأخلاقيات المتجسدة في الهويات المسلم بها اجتماعيًّا للفرد …١٤
وثمة مثال على الجهود المبذولة أخيرًا من أجل الطعن في الامتياز المعرفي للبشرة البيضاء، انطوى على نظريةٍ وتواريخ تبين أن فكرة وهوية البياض ليستا شعارًا تنميطيًّا عرقيًّا فطريًّا قائمًا على لون البشرة والخصائص البيولوجية التي يمكن التعرف عليها. بدلًا من هذا، هو تصنيف قانوني واقتصادي كان قد تنامى من الناحية التاريخية في التشكيل العنصري للولايات المتحدة عن طريق الممارسات الإمبريالية للغزاة الأوروبيين في علاقتهم بشعوب السكان الأصليين، والممارسات الاقتصادية للعبودية العنصرية التي استخدمت السود المجلوبين من أفريقيا، والممارسات القانونية التي استهدفت السكان «من الملونين» وتؤدي إلى إنكار حقوق المواطنة، وتقييد الزواج بين الأعراق المختلفة والهجرة القانونية. أما من نعتبرهم «سكانًا ملونين»؛ فذلك ما قد تغير في المراحل المختلفة لبناء الأمة العرقية، ولم يقتصر على الأفارقة السود والآسيويين من ذوي البشرة الصفراء والداكنة، بل تضمن أيضًا مختلطي الأعراق والبيض من ذوي الأصول الإسبانية اللاتينية والأيرلنديين والإيطاليين واليهود والعرب (Alien 1991; Roediger 1991; Rrankenberg 1994; Omi and Winant 1994).
إن ما أسماه فوكو «ممارسات الحرية» (١٩٨٩) لإعادة بناء جسر الهوية «البيضاء» أو جسر الهوية الشمالية يجب ألا يقتصر على إعادة تعلم التاريخ الاجتماعي لهوية جماعات المرء، بل يتضمن أيضًا ممارسات جسدية مختلفة لبناء عروة وثقى تتجاوز الطبقة والعرق والتقسيمات القومية، التي أصبحت من المحرمات. ولعلها لا بد أن تتضمن مناشط وجدانية من شأنها أن تخلق عوائد جديدة لتحديد المجتمعات الصغرى لمصالح المرء، حتى إن المرء يكتسب مزيدًا من التحديد والتعريف بالمجتمعات الصغرى المعارضة التي تتحدى الامتياز في وضعه بوصفه باحثًا «في المعرفة»، أو أمريكيًّا «عاديًّا» أو نسويًّا أكثر «تقدمًا» (Ferguson 1995). قد أمكن لبعضٍ من هذه المناشط أن تتضمن منظمات، مثل الجمعيات الاقتصادية للمستهلكين، يمكنها أن تشيد أشكالًا من الديمقراطية التشاركية في صنعها للقرار وفي ألا تسمح في الكلمة الأخيرة التي تأتي محصلة لجهود صنع القرار بأن يكون للثروة أو للخبراء ثقل أكثر مما للأعضاء الذين لا يتمتعون بهذين الامتيازين. وقد استطاعت أيضًا أن تطوي تحت لوائها ممارسات المنظمات الأهلية غير الحكومية في تواصل صنع القرار وتواتر المساعي تأسيسًا على بنيات الديمقراطية التشاركية بدلًا من الديمقراطية النيابية فحسب. والأكثر أهمية، أن عملية الديمقراطية التشاركية كان لزامًا عليها أن تعبِّد طريقًا جديدًا لمتلقي العون في الجنوب لكي يطوروا صوتهم الخاص وفهمهم النظري وأولوياتهم القيمية، كي لا تنبثق السيطرة الشمالية مجددًا من خلال التأثير العام ﻟ «المعارف/السلطة» الشمالية (انظر Foucault 1977b).

الخاتمة

سياسات جسر الهوية ترياق ضروري لسموم علاقات الإمبريالية-الجديدة التي توجد بين أهل الشمال، بلدانًا وممولين وباحثين وعاملين في مشروعاتٍ من جهة، وبين المواطنين الذين هم موضوعات للدراسة وللمعونة في الجنوب من جهةٍ أخرى. شبكات العمل الوثيقة والممارسات الحميمة المقترحة كطريقٍ لمعارضة ونفي «المعارف/السلطة» الشمالية أو القائمة على أساس الطبقة إنما تستطيع تمكين أولئك المضطهدين من الناحية التاريخية وتغيير وتحسين هيئة أولئك القابعين في مواقع السلطة الاجتماعية وجعلوا من أنفسهم حلفاء. وهي بهذا المغزى، تستطيع إحراز هدف سياسي-أخلاقي سبقت الإيماءة إليه وهو إقرار شرعية علاقات المساواتية التي لا تهدف إلى فصل الوسائل عن الغايات في التغيير الاجتماعي. إن النموذج الإرشادي المعدل للتمكين الذي يرتبط بسياسات جسر الهوية يميل إلى سياسة الاحتواء والاستيعاب، وليس إلى أجندات الإقصاء. النسوية الاستيعابية أو التكاملية التي يدعمها إنما تضع تعريفًا للنسوية العولمية بوصفها تضامنًا بين النساء يجب أن نحارب من أجله بدلًا من أن نتلقاه بشكلٍ تلقائي (Hools 1984; Miles 1986). إنه التضامن الذي يعزز التحالف لمحاربة أي علاقات هيمنة اجتماعية أخرى ذات أهمية ومغزى لأولئك الماكثين في شبكات العمل الحميمة للمرء (من قبيل حركات التحرر القومي والحفاظ على البيئة وكفاحات لاهوت التحرير وحقوق نقابات العمال وحقوق الحفاظ على الموارد من قبيل المياه والأراضي الزراعية). هذه الأخلاقيات النسوية للتنمية العالمية ليست ناموسًا كونيًّا مجردًا، ولا هي دفاعًا نفعيًّا عن الأسواق الحرة بوصفها وسيلة للحيرة أو الديمقراطية أو السعادة العامة. إنها أخلاقيات متموضعة تؤكد عملية سارت من الناحية التاريخية في صمتٍ عبر العالم بأسره لتحقق أهداف الديمقراطية التشابكية والمساواتية بوصفها جانبًا من الكفاح لبناء جسر الهوية، وهو كفاح طابعه إعادة البناء.

هوامش

(١) منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ودخول الصين إلى السوق الرأسمالية العالمية، حل التشوش والارتباك في التمييز بين العالم الأول الذي يضم الأقطار الصناعية الرأسمالية في أوروبا وأمريكا الشمالية، والعالم الثاني بأقطاره الاشتراكية (الاتحاد السوفييتي والصين، والدول التي تدور في فلكهما)، وأقطار العالم الثالث الزراعية، ومعظمها مستعمرات سابقة للعالم الأول. في هذا المقال سوف أتبع الاستخدام الذي يعرف الأقطار الرأسمالية الصناعية وبعد الصناعية في أوروبا، جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة، بأنها أقطار الشمال، وسائر الأقطار الأخرى بأنها أقطار الجنوب (وبهذا التعريف يغدو المصطلح الذي تستخدمه الكاتبة في هذا المقال، وإن كان هو الشائع في الخطاب الراهن، لا يقل تشوشًا — أو بالأحرى قصورًا — عن سابقه؛ فأين اليابان التي تربعت طويلًا على عرش القوة الاقتصادية الثانية في العالم بأسره وفي العالم الأول أو الاقتصاد الرأسمالي على السواء؟ وإن بدت الصين الآن تنتزع من اليابان عرش القوة الاقتصادية الثانية في العالم، فسوف تظل اليابان دائمًا قوة اقتصادية وتجربة حضارية ومثالًا يفرض ذاته دائمًا واحترامه، ولا يصح أبدًا أن يغيب عن الاعتبار. [المترجمة])
إن التركز المتزايد لرأس المال العالمي والموارد العالمية في أيدي الأقطار الشمالية يمثل المَعْلَم المميز لعدم المساواة الاقتصادية العنصرية بين الشمال والجنوب.
(٢) التنظير النفعي، القائم على افتراض مفاده أن تنمية الأسواق الرأسمالية سوف تفيد الأقطار المعنية، جرى استخدامه في أساليب للاستجداء. مثلًا، الدفاع عن متطلبات التكيف الهيكلي لحصول الدول الفقيرة على قروضٍ من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، مبدئيًّا على أساس أن الاقتصادات ذات المجال الأوسع للسوق الرأسمالية والأقل للإنفاق الحكومي الاجتماعي من شأنها أن تعزز أكبر قدر من السعادة أو المنفعة لأكبر عددٍ من الناس على المدى الطويل. وقد أشارت مارتا كالاس وليندا سمركيتش (Calas and Smircich 1997) إلى أن الممارسة الأكاديمية للتيار السائد في أخلاقيات الأعمال التجارية، التي يسيطر عليها الفلاسفة التحليليون والمدافعون عن الوضع الراهن للشركات الإدارية، قد استخدموا أيضًا الفروض القبلية الكانطية والنفعية في أساليب للاستجداء. على سبيل المثال، تفترض هذه الممارسة أن الشركات ليست فقط شخوصًا قانونية، بل أيضًا شخوص أخلاقية، من المنظور الكانطي؛ وبالتالي لها حقوق أخلاقية في الامتلاك، أو تطرح حججًا على النمط النفعي غير معقولة للتهوين من العواقب الاجتماعية السلبية لصافي الربح الرأسمالي من ممارسات الأعمال التجارية؛ عواقب مثل التلوث والبطالة ونزع الملكية من الفلاحين.
(٣) لا أقصد أن هذا يعني أن أخلاقيات الليبرالية الغربية فقط هي الناموس الأخلاقي. فقطعًا يمكن القول إن ثمة ناموسًا أخلاقيًّا في الإسلام، وربما في بعض الأديان الشرقية. ولكن من الناحية التاريخية لم يستعمل المستعمرون هذه الأديان من منظور الناموس الأخلاقي لتبرير أو لمنع المعونة الأجنبية عن الأقطار المستعمَرة. ومن ثم، فإن السؤال حول الافتراضات الأخلاقية الأولية للباحثين أو للممولين المنخرطين في مشروعاتٍ للمعونة من هذا القبيل لم يصبح قضيةً مطروحة.
(٤) في الخطاب المعاصر يطلق أحيانًا على الديمقراطية التشاركية participatory democracy اسم أو مصطلح الديمقراطية المباشرة، من حيث إنها مقابلة للديمقراطية النيابية أو التمثيلية التي تكون من خلال وسطاء أو نواب أو عن طريق اختيارهم. [المترجمة]
(٥) قارن أيضًا حجة إريس يونغ (I. Young 1990) لكون العدالة الاجتماعية قيمية تنطوي على ترجيحٍ لبنيات الديمقراطية التشاركية.
(٦) أنا ممتنة لنيتا كراوفورد N. Crawford، فثمة صورة أسبق من هذا البحث، تضمنت نقدًا لتمييز ماكسين مولينو، في المصالح الجنوسية للمرأة بين المصالح الاستراتيجية والمصالح العملية، بتطبيقه على النساء في نيكاراغوا (Molyneux 1985). وأشارت كراوفورد إلى أن تلك الصورة للبحث إنما تتناقض فعليًّا مع سياسات جسر الهوية التي أتبناها هنا. وأنا أخطط لتطوير أسلوب مختلف لنقد مولينو في بحثٍ لاحق.
(٧) تقترح ماري هوكسورث M. Hawkesworth أن ثمة خطرًا عامًّا عند استخدام مقولات عامة من قبيل الجنوسة ويمكن تفاديه، فينبغي أن يتجنب المنظِّرون بناء السرديات التي تعمل على تعميم علة كامنة في وظائف اجتماعية معينة تؤديها الجنوسة، مثل هذه التفسيرات تنقل حال الجنوسة من علامةٍ دالة على الموضع، تحليلية ومساعدة على الكشف، يعوزها أن يتم تعيينها تاريخيًّا، إلى حالٍ أنطولوجي لا يقبل البرهنة، كما يحدث عند الزعماء بأن الجنوسة تعمل في نطاق مصالح تأكيد تناسل الأنواع أو تزكية الهيمنة الذكورية (Hawkesworth 1997)، وبالمثل، الزعم بأن مصالح المرأة الجنوسية الاستراتيجية تتضمن في سياقاتٍ معينة الاهتمام بتحديد النسل، حتى حينما تكون النساء في تلك السياقات غير متفقات حول هذه الدعوى المحملة بالقيم، تبدو دعوى غير قابلة للدحض أو الإثبات، وتفقد بهذا منفعتها في السياسة، وفقط حينما شرعت النساء في تطوير رؤية لنمطٍ حياتي مختلف يتضمن علاقات مختلفة مع الرجال والأطفال والأسرة والنساء الأخريات، استطعن أن يستبصرن هدف إنجاب أطفال أقل بوصفه مزية؛ وبالتالي في مصلحتهن.
(٨) تضع أنجيلا ميلز Angela Miles توصيفًا مماثلًا لأخلاقيات ما أسمته ﺑ «النسوية التكاملية integrative feminism» وتحاج بأن ثمة نسويات العالم الأول ونسويات العالم الثالث (أي نسويات الشمال ونسويات الجنوب) في سائر الاتجاهات المعيارية من النسوية-الليبرالية والماركسية والراديكالية والاشتراكية وبعد-الحداثية وأنهنَّ نسويات تكامليات، بوصفهن مقابلات لمن أسمتهن «نسويات اختزاليات» (Miles 1996).
(٩) من الأفضل أن نعتبر «بعد-الحداثيين» كلمة واحدة مرفوعة بالواو بوصفها فاعلًا، وليس «الحداثيون» مضافًا إليه ليجر بالياء. [المترجمة]
(١٠) تستخدم ميلز (١٩٩٦) هذا التعبير للإشارة إلى الناس في جنوب العالم، من حيث هم في تقابلٍ مع البلدان الشمالية بعد-الصناعية.
(١١) المقصود بالاقتصاد الأخضر —أو العلم الأخضر أو الفلسفة الخضراء أو السياسة الخضراء أو حزب الخضر أو أي شيءٍ أخضر في الخطاب الراهن — هو ذلك الذي يضع نصب عينيه هدفًا استراتيجيًّا أوليًّا هو قضايا البيئة والحفاظ على البيئة ووقف التدهور البيئي. [المترجمة]
(١٢) مذهب فلسفة الأخلاق الذي أنتجته الفلسفة النسوية أو الذي ارتبط بها هو ما يعرف باسم «أخلاق العناية The Ethics of Care». وقد أخرجت سلسلة عالم المعرفة ترجمة لكتابٍ بهذا الاسم، كان العدد ٣٥٦، أكتوبر ٢٠٠٨م. [المترجمة]
(١٣) لم تقل الكاتبة «ذوي السلوك الجنسي المنحرف» حرفيَّا، بل ضربت مثالها عبر ما يزيد على سطرٍ كامل، بطائفةٍ من السحاقيات ورفضهن العلاقة أو التضامن مع طائفةٍ معينة من اللواطيين ومن المخنثات.
لقد رأينا من آن فيرغسون الخوض الجميل والنبيل في منهجية العلوم الإنسانية كي لا يشوهها استعلاء من الباحث أو تبعية من المبحوث، خصوصًا حين يكون البحث مرتبطًا بمنح للتنمية، وفضلًا عن البُعد الإنساني والحضاري الجميل في هذا، ثمة البعد المنهجي أو الميثودولوجي المتين الذي يذكرنا بهيزنبرغ ومبدئه العظيم «مبدأ اللاتعين» الذي يفنن أثر البحث والباحث وأدوات البحث على الظاهرة المبحوثة. ثم تأبى فيرغسون إلا أن تثير على كل هذا غبار الانشغال الأمريكي الراهن والمحموم بتطبيع المثلية الجنسية والبحث عن حقوق المثليين في أن يمارسوا حياتهم بشكلٍ طبيعي. [المترجمة]
(١٤) في هذه الفقرة، كما في مواضع أخرى عديدة من هذا الكتاب، قد يأتي الحديث من منطلقاتٍ نسوية، لكنه يجسد قيمًا نبيلة، من الأفضل أن تشمل النساء والرجال معًا. [المترجمة]

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤