الفصل الثالث عشر

القرابين المحروقة للعقلانية: قراءة نسوية لبناء الشعوب الأصلية في نظرية إنريك دوسل عن الحداثة١

ليندا لانغ

بينما يمكن أن تختلف الثقافات في النمط وفي التعقيد، ثمة مغالطة إنشائية في التسليم بأن الأفراد في الثقافات الأقل تعقيدًا هم بشر أقل اكتمالًا أو أقل قدرة على التطور …

ليندا لانغ

يقدم الفيلسوف إنريك دوسل تحليلًا نقديًّا لبناءٍ أوروبي للشعوب الأصلية يسميه «ما-وراء-الحداثي». تتلاءم نظريته بشكلٍ خاص مع اهتمامات النسويين وآخرين التي تدور حول التأثيرات المحتملة التي تعوق المقاربات بعد-الحداثية للفعل السياسي وتطوير النظرية. يقسم دوسل الحداثة إلى نموذجين إرشاديين متزامنين، وباستبصار شأنهما يقترح أنه لا يجوز الفصل الحاد بين مذهب الحداثة ومذهب ما بعد الحداثة. وفي الخاتمة نقارن مقاربته بمقاربة موهانتي.

يتقدم الفيلسوف إنريك دوسل Enrique Dussel في كتابه «اختراع الأمريكتين» The Invention of the Americas (1995) بإسهامٍ في التحليل النقدي للحداثة الأوروبية والاستعمار، وإنه لإسهام مهم ولافت وينطوي على مقاربةٍ في نقد الفلسفة الحديثة. من موقعه المحلي في أمريكا الجنوبية يستجيب بشكلٍ خاص لتاريخ الغزو الإسباني لأمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطى، وهو الغزو الذي يصفه تسفتان تودوروف بأنه أبشع إبادة جماعية شهدها العالم (Todorov 1984, 5). يضع دوسل نظريته بعد-الاستعمارية في مصاف النزعة النسوية، ملتفتًا إلى تداخلٍ بين الاستعمارية والبطريركية يجعل النساء قطاعًا خاصًّا من غنائم الغزو التي خرج بها الرجال الأوروبيون، هذا على الرغم من أنه لا يعمل على توضيح المسائل المتعلقة بالمرأة ولا يشير إلى النصوص النسوية. وعلى أي حال، عند قراءة دوسل من المنظور النسوي الديمقراطي الناقد ينبغي ملاحظة تماثلات عديدة بين مقاربته للنقد بعد-الاستعماري ومقاربة النقد النسوي، وهي تماثلات تشجعنا على الاستفادة من عمله في إنجاز مهام «النسوية بعد-الاستعمارية». إن موقفه المتعلق بالمواجهات الجارية بين «نزعة الحداثة» و«نزعة ما بعد الحداثة» له أهميته الفائقة بالنسبة إلى الناقدات النسويات المقتنعات بالانحياز الجنوسي في العديد من المفاهيم الحداثية والقيم الحداثية، لكنهن معنيات أيضًا بالمضامين السلبية بالنسبة إلى الفعل السياسي التي يبدو أنها تنساب عن أنماطٍ معينة من النزعة بعد-الاستعمارية. ثمة اتفاق أخلاقي على الجهود الرامية لاحترام الثقافات غير-الأوروبية وتجنب مقاربة تاريخ الحداثة على أساسٍ من المركزية الأوروبية، وهو اتفاق يتجاوز الرؤى بعد الاستعمارية التي ترى أن الحقيقة والقيمة لا يمكن أن يتواصلا عبر الثقافات، وعبر اختلافاتٍ في أشكال الحياة من قبيل الجنوسة أو المنزع الجنسي. هناك أوجه تشابه واسع بين مجموعةٍ متنوعة من الانتقادات المسيسة ﻟ «الفلسفة» ماثلة في الوقت الراهن من قبيل النقد النسوي والنقد المضاد للعنصرية، ونقد الشواذ،٢ والنقد بعد الاستعماري. كلها معًا ترمي إلى الكشف عن انحيازات المفاهيم الفلسفية، ولكي تبين بشكلٍ خاص كيف أن المفاهيم الفلسفية التي تعرض بوصفها كونية يمكن أن تكون بشكلٍ ضمني مفاهيم خاصة بالدرجة التي تشكلت على أساسها بفعل الموضعيات المحلية الاقتصادية والسياسية والثقافية وخاصة بالمواضع الثقافية للذين قاموا بابتداعها. وباستعمال المفهوم النقدي المفيد الذي وضعته نانسي توانا (Nancy Tuana 1992) نقول إن هذه النقود جميعها تنزع إلى إظهار هذا الذي «يتموضع داخل النص»؛ أي هذا الذي يتكفل به النص إزاء من يقرؤه، وإزاء الذي يقرأ هذا النص عنه.

ومهما يكن الأمر، أعتقد أن ثمة اختلافات بين هذه النقود جديرة بالذكر، تنسحب إلى اختلافٍ في مضامينها بالنسبة إلى الفلسفة وكذلك بالنسبة إلى الممارسة السياسية. وأنا لا أشير إلى الاختلافات بين المقاربات النسوية والمقاربات المناهضة للعنصرية وسواهما والتي لها هي الأخرى أهميتها، بل أشير إلى اختلافاتٍ فلسفية وإبستمولوجية يمكن أن نجدها في داخل أيٍّ من هذه المقاربات. ومن أجل إيضاح هذه النقطة يمثل عمل دورسان حالة دراسة مهمة. عطفًا على هذا، أجدني معنية بعرض أفكاره فحسب ومناقشة كيف يمكن أن نظفر بأفضل فهم لما تستطيعه ولما تتضمنه بالنسبة إلينا؛ هذا لأن عمل دوسيل غير معروف جيدًا في أمريكا الشمالية مقارنة بعمل أوروبيين في هذا المضمار نفسه.

يشارك دوسل في تخوم ما بعد الحداثة الراديكالية الإيجابية من الناحية السياسية، التي هي تأكيد على كرامة وشرعية «الآخر». والواقع انه اعتاد على أن يسمِّي نفسه بعد حداثي. وهو على أي حال، يعرض الآن نظرية في الحداثة (يسميها «ما-وراء-الحداثي transmodern»)، تؤكد على: «أن العقلانية يمكنها تأسيس حوار مع العقل الرشيد للآخر، بوصفه عقلًا رشيدًا بديلًا» (Dussel 1995, 132). وفي الوقت ذاته، يبدو لي أنه يضفي أعماقًا على تقييم الصعوبة التي تواجهنا في كبح جماح منظور المركزية الأوروبية، وذلك بطريقة توائم «النسوية الأوروبية البيضاء»، وتوائم بالمثل المركزية الأوروبية الذكورية. يمكننا أن نتصوره يقول لنا: «أجل يمكن من حيث المبدأ أن نكبح جماح نزعة المركزية الأوروبية بالوسائل العقلية الرشيدة والتخيلية، بيد أن هذا أصعب من كل ما نتصور.»
وفقًا لدوسل، ليس فقط المناصرون أو المدافعون عن روح الحداثة الأوروبية، بل أيضًا كثير من النقاد بعد الحداثيين وبعد الاستعماريين، يبقون على المركزية الأوروبية على قدر ما يظلون مفترضين قبلًا، سواء سلبًا أو إيجابًا، أن هناك ديناميكية جوانية في الحداثة الأوروبية كانت سببًا في أن تكون لها قوة فائقة أو تأثير مهيب على الشعوب غير الأوروبية. وعلى هذا يكون التأكيد الكلاسيكي على التفوق الأوروبي الذي يعتبر مفيدًا؛ مثلًا تأكيد ماكس فيبر، هو تأكيد على أنه في «التربة الغربية» فقط توجد ظواهر ثقافية أنتجت علائم «التقدم التطوري والصحة الكونية» (Sociologie, Westgeschichtliche Analyzen, Politik) (علم الاجتماع، تحليل تاريخ الغبر، السياسة). مقتبس في Dussel 1995, 10. وقد يتناقض هذا مع رؤيةٍ بعد-استعمارية تفترض هي الأخرى قبلًا ديناميكية جوانية خالصة في الحداثة الأوروبية؛ مثلًا رؤية الأفريقي صاحب النزعة الإنسانية إيمي سيزير Aime Cesaire، أنه «لا يمكن الدفاع عن أوروبا»، والاستعمار، الذي هو في خاتمة المطاف ليس إلا «تبجحًا» كما يسميه، وهو سم «محقون في الشرايين الأوروبية، فسارت القارة قدمًا، ببطءٍ لكن بيقين، نحو الوحشية» (١٣، ١٩٧٢).٣ وعلى الرغم من أن كتابات سيزير آتية من أفريقيا، فقد كان يحتفظ في ذهنه بأشياء عديدة، منها محارق الإبادة الجماعية التي حدثت أواسط القرن العشرين داخل حدود أوروبا ذاتها. غير أن قوة الحداثة، وفقًا لدوسل (وهو لا يقصد إنكارها) هي النتيجة وليست السبب؛ نتيجة لمركزية أوروبا في العالم أو في النظام العولمي. نجاح الغزو المسلح واستعمار الأمريكتين وأفريقيا منحا أوروبا الغربية ميزة هائلة تتفوق بها على الشرق غير المسيحي. وبهذا نشأت أصول الحداثة الأوروبية وانبنت عن طريق علاقة جدلية مع غير أوروبا. وعلى الرغم من أن هذه الرؤية لانبناء الحداثة الأوروبية قد عرضت في مساقاتٍ بحثية عديدة، فإن دوسل يقترح أنها يمكن أن تنطبق بالمثل على طبيعة الفلسفة الأوروبية الحديثة على وجه التعيين.

يتمسك دوسل بنظرةٍ (مضادة لنظراتٍ بعد حداثية عديدة) مفادها أن أداة الإرهاب لم تكن عقلانية الفلسفة الحديثة أو العقلانية العلمية، بل هي تحديدًا أسطورة أوروبية حديثة لا عقلانية تمخضت في خضم الإرهاب عما أسماه «العنف الفدائي». وعلى هذا يميز دوسل بين نموذجين إرشاديين متزامنين للحداثة، أحدهما عقلاني رشيد، وهو المضمون التحرري لمفاهيم الحداثة. والآخر هو الأسطورة السلبية اللاعقلانية، التي يقتفي فيها دوسل أصول تبرير العنف الاستعماري ليصل إلى «مغالطة تنموية». ترتكز هذه المغالطة على رؤية أوروبا نقطة النهاية لعمليةٍ تنموية كونية، كل الشعوب الأخرى يجب أن تسير نحوها وسوف تفعل هذا. وما هو ذو صلة خاصة بالفلاسفة (النسويين وغيرهم) اكتشاف دوسل أن الفلسفة ذاتها تمثل نسخة من هذه «الأسطورة اللاعقلانية». ولهذا ينبغي ألا ننظر إليها بوصفها «أسطورة ثقافية»، بالإشارة إلى هذا الذي وقفت منه الفلسفة الحديثة موقف الناقد. إن وضع دوسل ﻟ «أسطورة الحداثة اللاعقلانية» مناقض لاندراج الفلسفة الحديثة بوصفها متميزة عن «الأسطورة» ومناقضة لها. هذه فتنة مثيرة للفضول من حيث هي نقد من شخصٍ ينأى بنفسه الآن عما بعد الحداثة.

يتمسك دوسل بأن المغالطة التنموية لا تزال ماثلة في الجانب الأكبر من الفلسفة، لكنني على أي حالٍ أرى نظريته، ولو حتى في هيكلها المجرد بخطوطها المعروضة حتى الآن، تنطوي على مقصده في أن يتعافى العقل الفلسفي الرشيد. في ضوء هذا، لا يمكن أن يكون النقد بعد-الاستعماري موجهًا إلى الفلسفة الحديثة بما هي عليه في عمومها، يمكنه فقط أن يقصد نصوصًا بعينها، يوعز عمل دوسل بأن المسألة ليست في أن الفلسفة لا يمكنها أن تقف موقف الناقد من الثقافة على أساسٍ من العقل الرشيد، بل في أن الجانب الأكبر منها لم يفعل هذا. وهو لهذا يتجنب ما أسميه «نقد-بان» …٤ تأثير ما بعد الحداثة المتمثل في نقدٍ شامل يصيب صميم فكرة الفلسفة بالعجز. وتحاشي هذا يجعل من الممكن أن نعتبر النقد بعد الاستعماري والنقد النسوي وسواهما من نقودٍ مسيسة للفلسفة هي ذاتها «فلسفة» (أو أنني أستمسك بهذا).
كيف يمكن أن يكون النقد بعد الاستعماري للنصوص ذا مفعول؟ أولًا قد يعرض لنا أن الأوروبيين نظروا إلى غير الأوروبيين في حدود مقولاتهم الخاصة بهم، وهذا في حد ذاته لا يدهشنا. على أي حال، من دون أن نفترض مسبقًا التفوق الأوروبي، فإن النتيجة المحتملة لهذه الملحوظة هي تعيين هوية مقولات التفكير الأوروبية بوصفها خصوصية استثنائية من الناحية التاريخية، عن طريق المقارنات بالنماذج الإرشادية الثقافية الأخرى التي لها مقولات غير متطابقة. هذا خط من خطوط التفكير إذا أخذناه بجدية، فسوف يفيد بأن العالم يتم إدراكه طبق الأصل من المنظورات المختلفة، ولا يخضع لتأويل، في ابتسار يحدث بطرقٍ مختلفة.٥ ويمكن أن تصل هذه النظرة إلى الدعوى بأن مقولة أوروبية ما وضعت بوصفها «كونية» هي في الواقع «خاصة» بالثقافة العقلية الأوروبية. ويحاج دوسل بأن الأوروبيين نظروا إلى غير الأوروبيين حصريًّا في حدود مقولات الفكر الخاصة بهم، لا سيما في مراحل الاتصال المبكرة إبان القرن السادس عشر. وكان إدراك الإسبان للشعوب الأصلية في الأمريكتين يعود بجملته إلى المرجعية الذاتية للإسبان: وبالمعنى الحرفي للكلمة لم يدركوا الآخر بوصفه «آخر»، بل بالأحرى بوصفه أمثلة منقوصة ﻟ «الأنا». وبناء على هذا لا يمكن، وفقًا لدوسل، القول إن الإسبان اكتشفوهم. والأحرى أنهم اخترعوهم: أولًا كآسيويين، ثم كشعوبٍ أدنى مختلفة، لعلها تستفيد من وصول الأوروبيين إليها. في المواجهة إبان قرنها الأول كانت المرجعية-الذاتية الإسبانية قوية ماضية حتى إنه كان الدليل الباهر على نماءٍ حضري يشيع بين الأزتك والأنكا، وكان يفوق ما عرفه الإسبان في أوروبا. وقد أخفق في أن يوعز لهم بأنه من الأفضل التفكير في تلك الشعوب فقط بوصفها مختلفة عنهم، وليس بوصفها أدنى منهم. ثم يتكرر هذا مجددًا، فلئن أمكن تفسير وضع بطاقة «الهنود» للدلالة على شعوب الأمريكتين بأنه خطأ مبدئي، فماذا عن التصاق هذا الاسم بها لأكثر من خمسمائة عام، وأي عمق في المرجعية الذاتية يمكنه أن يفسر هذا؟
على هذا النحو كانت أمريكا الوسطى والجنوبية «مخترعة» بوصفها متخلفة، بصرف النظر عن المستويات الفعلية لتطور الشعوب المختلفة، والتي تكشف شواهدها عن اختلافاتٍ واسعة. ثم منح هذا الاختراع ضمانًا إبستمولوجيًّا فظًّا، من حيث تحولت المدن الكبرى إلى أنقاض، وأجبروا البشر على العمل العبودي، وتعرَّض القسم الأعظم من السكان للهلاك، فلم يبقَ إلا قطاعٌ صغير من حجمهم السابق.٦
ثمة استراتيجية أخرى للنقد بعد الاستعماري، وهي إظهار الحركة في نصوص علاقات الهيمنة والتبعية. لقد تطور مفهوم نانسي توانا عن «التموضع داخل النص» من أجل النقد النسوي. وقد يمكن استخدامه لتحليل هذا الذي يتحدث إليه النص وهذا الذي يتحدث عنه. أولئك الذين يكون الحديث عنهم لكن لا يتَّجه إليهم مباشرة هم التابعون في النص لأولئك الذين يتَّجه إليهم النص. على هذا النحو نجد نظريةً عن الشعوب الأصلية في الأمريكتين وأفريقيا قد طورها الأوروبيون من أجل الأوروبيين، وليس البتة في تواصلٍ خطابي مع الشعوب الأصلية نفسها. قد نعتقد أن دوسل يقوم أيضًا بتعيين ما يسمَّى في الدراسات الثقافية «التحديق the gaze»، على الرغم من أنه لم يستخدم بنفسه هذا المصطلح، يعطينا «التحديق» مثالًا على اللاتماثل الجوهري بين أولئك الذين ينظرون، يحملقون بجرأة، وأولئك الذين يحملقون فيهم ويجري تصنيفهم. يشبه هذا قليلًا وضع شيء ما على لوحةٍ بواسطة دبوس — فليس مطروحًا التفاعل بين الذاتيات. في حالة البشر، هذا اللاتماثل، الذي يمكن تعيينه في النصوص وفي الممارسات الاجتماعية على السواء، هو نمط من اللامساواة العميقة مألوف كثيرًا لدى النقاد النسويين. لا يمكن أن تفعل الشعوب الأصلية شيئًا ما ليعد دليلًا فعليًّا على مرحلةٍ عالية من التطور أو البراعة السياسية أو الأخلاقية الحقيقية؛ لأنها في عيون الأوروبيين تفتقر بحكم تعريفها إلى هذه الأشياء.

وثمة استراتيجيات أخرى لعلها تلقي الضوء على فهمٍ نقدي بعد استعماري بشكلٍ أو بآخر. إن دوسل يستخدم أولئك (كمن وصفناهم آنفًا) الذين هم مهيئون للفهم السياسي والفعل السياسي، فمن سمات عمله مزيد من الاستعداد للألفة مع العمل السياسي، وهذا يبعده عن بعض المقاربات بعد الاستعمارية الأكثر وضوحًا.

ومن مكامن الدهاء في مقاربة دوسل أنه لا ينكر وجود مستويات مختلفة من التطور كانت في الماضي (وكائنة في الحاضر)، ويمكن اعتبارها مستويات مختلفة من القيمة؛ مثلًا في تكنولوجيا الإنتاج، أو في تعقد أو تطور الإدارة الاجتماعية. إنه يتجنب تطرف الدافع بعد الاستعماري الذي لا يطبق أي مقارناتٍ، ولكن يطلق عنان «الاختلاف»، غير أنه مع ذلك ينكر أن يكون النموذج الأوروبي للتنمية هو النموذج الوحيد. وثمة حد معين لمغالطة التنمية في أنها تفترض مسبقًا آدميين أدنى في مراحل من التطور أقل تعقيدًا، بل إن شعوب الثقافات الأقل تطورًا مستحقة للوم على ظروف حياتها. يقتبس دوسل من نصٍّ لكانط يعود إلى العام ١٧٨٤م أن: «التنوير هو المنفذ الذي نخرج منه إلى رحاب الإنسانية … نخرج من حالة عدم النضج الملومة … الكسل والجبن علتان يربطان القطاع الأعظم من البشر بأغلال حالة عدم النضج التافهة» («إجابة على السؤال: ما التنوير»، مقتبسة في Dussel 1995, 19-20). وعلى الرغم من أن دوسل ناقد للتفكير التنويري، فإنه صاحب نزعة إنسانية في تشديده على أن التطور الإنساني (وأحسب أنه يقصد به كل ما يجعلنا مختلفين عن الكائنات الأخرى) قد تحقق بشكلٍ طيب وأكثر اكتمالًا بصورته الماثلة في ثقافات العصر الحجري الحديث. وفي رأيي، بينما يمكن أن تختلف الثقافات في النمط وفي التعقيد، فثمة مغالطة إنشائية في التسليم بأن الأفراد في الثقافات الأقل تعقيدًا هم بشر أقل اكتمالًا أو أقل قدرة على التطور مقارنة بالأفراد في الثقافات الأكثر تعقيدًا.

أما عن حركة العلاقات بين الهيمنة والتبعية في النصوص، فإن دوسل يشير بشكلٍ خاص إلى عدم ملاءمة «أخلاقيات التواصل» (ويذكر في هذا هابرماس وآبل)، التي لا تأخذ في اعتبارها لا تماثلَ عميقًا في فعالية حديث الهيمنة وحجتها. يماثل هذا النقد نقدًا أثارته أليسون جاغار من المنظور النسوي فيما يتعلق بحديث المرأة. ويضع دوسل تحديدًا مفيدًا لما يسمى «شروط الدخول» في مجتمعٍ خطابي، لافتًا الانتباه إلى إقصاءٍ قاسٍ وشامل للسكان الأصليين من المجتمعات الخطابية للهيمنة الأوروبية، وهو إقصاء لم يخرق بشكلٍ ملحوظ حتى ما بعد أواسط القرن العشرين. وسوف يعود فكر دوسل مرة أخرى إلى شروط الدخول في فحصه لمغالطة التنمية من كثبٍ أكثر، حيث يمكن النظر إلى «شروط دخول» المجتمع الخطابي بوصفها نقاطًا أساسية في عدم اتِّساق المثل العليا التي تتصورها المجتمعات الخطابية الأوروبية، ويبقي دوسل على تمييزٍ حداثي (أو على الأقل «ليس بعد حداثي») بين التمسك العقلاني بالمعتقد (الذي يمكن أن يكون خاطئًا) وبين الأسطورة اللاعقلانية. وعلى أي حال، يكمن جانبٌ من القوة في عمله فيما أرى في الطريقة التي أظهر بها أن النقطة التي ينقلب فيها «المعتقد العقلاني» إلى «أسطورةٍ لا عقلانية» قد يصعب تبينها.

(١) حجاج أسطورة

لكي ننظر عن كثبٍ إلى الدعوى باللاعقلانية فيما يتعلق بالمعتقدات الأوروبية عن التطور، يحتاج الأمر إلى فحص مراحل محاجة أسطورة الحداثة. يعطينا الفيلسوف واللاهوتي الإسباني من القرن السادس عشر جينس دي سيبولفيدا Gines de Sepulveda مثالًا يلقي الضوء على اللاعقلانية وكيف يمكن أن تنص عليها أفكار معينة للمفكر.

وتبعًا لدوسل، الحداثة بمضامينها الثانوية والأسطورية تبرر الممارسة اللاعقلانية للعنف، على الرغم من مثال المجتمع الخطابي فيها الذي ينبذ القهر. وأولًا وقبل كل شيء تتفهَّم أوروبا ذاتها على أنها الأكثر تطورًا، وحضارتها تفوق حضارات الآخرين. إنها تفتقد الوعي بخصوصيتها التاريخية. ويمكن أن تُعزى هذه الصورة الذاتية إلى مركزية أوروبا الفعلية في نظام العالم بالاقتران مع امتلاكها مفاهيم بالغة التطور ﻟ «الكونية» و«التجرد» و«الموضوعية».

وفي ضوء تلك المرحلة الأولى الأساسية، تأتي الخطوة الحجاجية الثانية في أن هجران الثقافة لاختلافاتها «البربرية»، إنما ينطق بمفردات «التقدم والتطور والرفاهة والتحرر لتلك الثقافة» (Dussel 1995, 66). وعلى هذا النحو يمكن أن يدافع المرء عن هيمنة أوروبا على الثقافات الأخرى بوصفها، بتعبير دوسل «عنفًا بيداغوجيًّا …٧ ضروريًّا»، يمكن أن يتخذ شكل «حرب عادلة». أما الكرب الذي تعانيه الثقافة الأخرى فتبريره أنه الثمن الضروري المدفوع من أجل الحضارة والتحديث، فضلًا عن أنه كفارة عن عدم نضج تلام عليه. وما دام البرابرة يقاومون دائمًا عملية التحضر، فإن التطبيق العملي للحداثة مضطر، عن حقٍّ تام، إلى ممارسة العنف كحلٍّ أخير من أجل التغلب على العقبات التي تحول دون التحديث. وفي كل حال، يخطئ البرابرة في معارضتهم لعملية التحضر. إذا يستطيع أبطال التحضر أن يبرروا معاملة ضحاياهم بأنها «تضحية»، «فعل يشبه ممارسة الشعائر» من أجل خلاص الضحايا. يسميها دوسل «محارق الإبادة من أجل التضحية الخلاصية». وهو يستخدم مصطلح «محارق الإبادة holocaust» بمعناه العام القديم أي «قرابين الفداء التي تلتهمها النيران تمامًا، وهي من ثم تضحية أو فناء كامل أو شامل» (Webster’s New International Dictionary). وأخيرًا، تعتبر معاناة وتضحية الشعوب المتخلفة وغير الناضجة ثمنًا لا بد من دفعه من أجل التحديث. والمسألة كما يطرحها دوسل، «أسطورة الحداثة تجاهر أن الآخر هو الذي يدفع إلى جعله ضحية وهو الملوم على هذا، والذات الحديثة في حلٍّ من الشعور بأي ذنبٍ لأنها خلقت ضحايا» (Dussel 1995, 64).
أما بالنظر إلى الفلسفة، حالة هيغل على سبيل المثال، فليست النقطة الأساسية عند دوسل، كما قد نتوقع، أن فلسفة هيغل ساعدت على استلهام وتبرير الاستعمارية. (وبالقطع هذا جانب مما كان يبحث عن إظهاره، وهو في حد ذاته يصعب الخوض فيه). وعلى أي حال، حجة دوسل الأكثر أصالة هي أنه ينبغي فهم فلسفة هيغل بوصفها نتيجة للاستعمار الأوروبي الناجح للشعوب غير الأوروبية، وليست بوصفها مصدرًا أيديولوجيًّا أساسيًّا لاتجاهاتٍ بعينها. وكان غزو المكسيك فاتحة لعمليةٍ جعلت من الممكن أن يأتينا فيلسوفٌ مثل هيغل؛ لأن الهيمنة الأوروبية التي باتت أمرًا واقعًا جعلت من الممكن أن يبدو الاعتقاد القائل إن أوروبا مركز العالم ونقطة المرجعية لأي شيءٍ آخر اعتقادًا معقولًا وسليمًا ومألوفًا، ولننظر إلى الاقتباسات التالية من هيغل:

التاريخ العالمي يسير من الشرق إلى الغرب، وأوروبا هي النهاية المطلقة للتاريخ العالمي.

حين ننظر إلى أمريكا، وخصوصًا المكسيك أو بيرو، ودرجة التحضر فيها، تشير معلوماتنا إلى أن ثقافاتها تستنفد لحظة اقتراب الروح … تدني هؤلاء الأفراد في سائر الجوانب يبدو جليًّا.

أفريقيا … لا يلائمها أن يكون لها تاريخ؛ لهذا السبب نصرف النظر عنها، ولن يرد ذكرها مرة أخرى (في Dussel 1995, 20–22).

ماذا لو أن مثقفًا من غرب أفريقيا، أو أواسط أمريكا الجنوبية، كتب هذه الأشياء نفسها في الإشارة إلى تلك الثقافات، وعلاقتها بالثقافات والمواقع الأخرى؟ لن يكون هذا دراسة لافتة ذائعة لنصٍّ عسير، سوف يؤخذ على أنه هذيان مخبول، أليست هذه حالها؟ ومهما كانت رؤيتنا لعمل دوسل، ألن يسألنا سائلٌ حقًّا وفعلًا: ما هي الظروف التي تمكن شخصًا ما من أن يفكر بهذه الطريقة ليؤخذ تفكيره مأخذًا جادًّا؟

بصرف النظر عن الفلسفة، وبصرف النظر عن العبرة في أعمال السلب والنهب خصوصًا في بواكير الاحتلال الإسباني، ثمة دلائل وافرة على أن الأغلبية العظمى من المبشرين الأوروبيين ومدبري الاستعمار الأوروبي عبر الأمريكتين وأفريقيا قد آمنوا بضرورة تدمير الثقافات الأصلية، حتى لو كان ثمن هذا معاناة هائلة يتكبدها البشر قبل أن يصبحوا «متحضرين»، ومتعلمين ومستعدين لاعتناق مسيحية تخلِّصهم. أما الاعتقاد الحداثي بأنه داخل المجتمع الخطابي تكون المحاجة هي فقط الملاءمة، فدوسل يتمسك بأنه كان بالفعل مسلمًا به من حيث المبدأ في إسبانيا القرن الخامس عشر، وهو يؤكد تأكيدًا على تسويغ العنف وتطويعه داخل أوروبا (كروحٍ عامة) لا بد لهذا أن يكون عنفًا حول كيفية دخول المجتمع الخطابي وليس حول كيفية التصرف داخله.

اعتقد الغزاة الفاتحون الإسبان في القرن السادس عشر أنهم مبشرون ومحررون، أو على الأقل كانت هذه هي صورة الذات المتاحة لهم ثقافيًّا حين كان من الضروري أن يخامرهم شعورٌ بالاحتياج إلى تبريرٍ ذاتي. ونظرًا إلى المعرفة العابرة بما فعلوه بالشعوب الأصلية، تغدو تلك الصورة للذات في مواجهة هذه المعرفة غير مفهومة تقريبًا. وحتى الآن لا يوجد تفسيرٌ تاريخي معقول لهذا، لكن في ضوء تحليل دوسل، يمكن أن يقدم — ولو تفسيرًا للصلات بين هذا التوجه والنزعة الإنسانية والنزعة الفردية الحديثتين — مبينًا كيف يمكن تضمين بعض من مبادئهما الفلسفية الأساسية في أسطورة الحداثة اللاعقلانية.

كيف يمكن أن يكون أهل العنف من الغزاة حاملين للإنجيل ومحررين؟ في بواكير القرن الثامن، بدأت حركة من أجل المسيحية الإسبانية، من أجل «استعادة» ما هو الآن إسبانيا من أيدي المسلمين الأشداء فاتحي الأندلس. استغرقت هذه العملية سبعمائة عام كاملة؛ قرون عديدة أطول من الفترة التي استغرقتها الحداثة التي نناقشها الآن! تبعًا لدوسل، عبر القرون تطورت عن ذلك الغزو أو الفتح conquista ثقافة إسبانية قانونية-عسكرية، إذ كان لأولئك الغزاة الفاتحين conquistadores هوية إيجابية للغاية. اكتمل غزو مستعاد مستعيد في العام ١٤٩٢م، هنا كان الغزاة الفاتحون محررين للشعب الإسباني وأنصارًا للمسيحية في مواجهة أشداء لا يعتنقونها. وعلى الفور طرد الإسبان اليهود جميعًا من إسبانيا، بمعية المسلمين الغزاة، في العام نفسه الذي شهد قصة «اكتشاف» أمريكا. لم يطرأ تحول في قيم الغازي الفاتح لكي يتعاملوا مع شعوبٍ تصورها مبدئيًّا بوصفها «مشرقية»، مثل المسلمين فاتحي الأندلس، ومن دون مساءلة الكفار غير التائبين.
ويجد دوسل تعبيرًا «كلاسيكيًّا بالغ الوضوح» عن أسطورة الحداثة اللاعقلانية في فكر اللاهوتي خوان جينس دي سيبولفيدا. ويعتبره دوسل صاحب نزعة إنسانية حديثة؛ لأنه يعبر بتلقائيةٍ عن أسطورة اللاعقلانية للحداثة وعن المضمون العقلاني الإيجابي في الحداثة فيما يرى دوسل. انخرط سيبولفيدا في مناظرةٍ شهيرة مع بارتولومي دي لاس كاساس Bartolome de las Casas. وعلى الرغم من أن لاس كاساس آمن بقيمة التبشير بالمسيحية بين الشعوب الأصلية في أمريكا، فقد كان مع ذلك مدافعًا عنهم في مواجهة قوى الغزو المسلح والاستغلال. وفي العام ١٥٥٠م نشر سيبولفيدا دفاعًا عن «السبب العادل للحرب ضد الهنود».٨
إن مقاربة سيبولفيدا خليطٌ من الأرسطية والنزعة الإنسانية، بل النزعة الفردية الليبرالية الحديثة أيضًا (وليس من الشائع أن تختلط هذه معًا في الفلسفة الحديثة المبكرة والمتأخرة). ووفقًا للمؤرخ أنطوني باغدن (Anthony Pagaden 1987) كانت ثمة أصوات أخرى في هذه المناظرة بجوار سيبولفيدا ولاس كاساس. وقد رفض لاهوتيون لهم ثقلهم مفهوم أرسطو عن «العبودية الطبيعية» الذي ارتكن إليه سيبولفيدا. على أي حال، يمكن أن نبرر تركيز دوسل على فكر سيبولفيدا تبريرًا مفعمًا بالشجون؛ لأن وجهة نظر سيبولفيدا كانت هي التي انتصبت في ذلك العصر. علاوة على ذلك، من الثاقب حقًّا أن نلاحظ كيف كان سيبولفيدا اللاهوتي الأكثر «حداثة وتنويرًا» في تلك المناظرة، وليس أقل ما في هذا استخدامه للفلسفة القديمة. انتقده زملاؤه بسبب نزع مقاربته الأغلب نحو التاريخ والفلسفة، وكان اللاهوتيون التقليديون هم الذين أقاموا الحجة دفاعًا عن الحقوق الفطرية لهنود الأمريكتين لأنهم بشر. واستطاع سيبولفيدا بالارتكان إلى أرسطو أن يقيم الحجة على أن الهنود «خدم بالفطرة»؛ لهذا يكون الخير والحق لهم في أن يحكمهم البشر الذين هم أفضل منهم لكونهم العقلانيين الأكثر اكتمالًا في تقدمهم. أما التقارب المتوقع بين مقاومة المرأة ومقاومة الجماعات الأخرى المقهورة فيمكن ملاحظته فيما قام به سيبولفيدا من دمجٍ أرسطي ناعم لمجالٍ واسع من أشكال الهيمنة في رمزٍ متفرد هو الذكر الأوروبي النخبوي.
هذه الحرب وهذا الغزو عادلان للجميع؛ لأن أولئك البرابرة الجهلة الهمج (الهنود) خدم بالفطرة. من الطبيعي أن يرفضوا حكم الأكثر تبصرًا والأقوى؛ حكم البشر الأكمل تطورًا الذي يعود عليهم بالخير العميم. بحكم الطبيعة ومن أجل الخير للجميع، ينبغي أن تطيع المادة الصورة، والجسد يطيع الروح، والمتوحشون يرضخون للآدميين، وتطيع المرأة زوجها، والناقص يطيع الكامل، والأسوأ يرضخ للأفضل (Dussel 1995, 63).

وبينما قد يبدو هذا غير إنساني بالمرة، وأقل كثيرًا من مثل الحرية أواخر القرن العشرين، فدائمًا ما كان من المفترض التمسك بقيم مركزية في الفلسفة الأخلاقية والسياسة الليبرالية الحديثة، مثلًا إن سائر الأفراد على قدم المساواة معنويًّا ومستحقون جميعًا للحكم الذاتي بسبب فضيلة العقلانية الرشيدة المفطورة فيهم، ويضع اشتراط الطبيعة العقلانية الرشيدة حدًّا لهذه القيم (أي، إذا كان الفرد من نمطٍ معين، فإنه إذن …)، وفعلًا اعتقد سائر الفلاسفة المحدثين أن بعض جماعات البشر تخفق في استيفاء الشرط، تضم هذه الجماعات النساء والبشر المعدمين غير ذوي الملكية وغير المسيحيين والملونين. ولا تزال كل هذه الإقصاءات تستدعي الطعن فيها.

إن سيبولفيدا واضحٌ تمامًا في أنه حتى لو أخذنا في الاعتبار مدن الأزتك والأنكا البديعة، يظل الدليل على اللاعقلانية فيهم ماثلًا في واقعٍ مفاده أنهم لا يحق لهم التملك ونقل الملكية لورثتهم البيولوجيين، وفي فشلهم بمقاومة سلطة الحكام الذين يملكون عليهم مثل هذا السلطان. بعبارةٍ أخرى هم، وفقًا لدوسل، قد أخفقوا في اعتناق الخصائص العليا المميزة للحداثة-الحرية الذاتية والمقاومة المحكومة ذاتيًّا لتعسف الحكام (Dussel 1995, 65). إن نقد التعسفية في أشكال السلطة قد جرى تعريفه عن صوابٍ وحق أنه فكرةٌ رمزية في الحداثة وذات نزعة إنسانية. وفضلًا عن هذا، يبدو أن النقاد بعد الحداثيين الأشد تعنتًا قد سلموا بهذا؛ مما يجعل هذا جميعه يثير المزيد من القلق في أن نرى ما يفعله سبيولفيدا بهذه المبادئ الحديثة ذاتها.
يضع سيبولفيدا تبريرًا للعنف بأنه وسيلةٌ لرفع شعوب السكان الأصليين إلى مستوى المجتمع الخطابي الأوروبي الحديث، على الرغم من أن الحكم الذاتي الرشيد وحرية الذات هما لب المثل العليا لهذا المجتمع. كيف؟ إنه مثالٌ حديث للمساواة يفرض السلطان Power على الآخرين، ولكي يغدو السلطان مشروعًا ومقبولًا معنويًّا لا ينبغي اقتصار الأمر على أن تضع له النخبة من الفلاسفة تبريرًا عقلانيًّا، بل يجب تبريره من حيث المبدأ لكل أفراد المجتمع في حدود صورة من صور «المصلحة-الشخصية الرشيدة» لكلٍّ منهم. ترتكز المساواة في الفلسفة العلمانية الحديثة على القدرة الفطرية العقلانية في كل شخصٍ على تحديد مصلحته، أو مصلحتها، الشخصية، وليس أن تكون هذه المصلحة مفروضة عليه/عليها من قِبل شخصٍ ما آخر، بصرف النظر عن مدى حسن نيته. ينبغي ألا يكون السلطان مجرد قمع ناجح، أو عادات وتقاليد لا تخضع لتقويمٍ ووجدناها مقبولة. من المفترض أن رضا أولئك الذين يعيشون في كنف السلطان نابعٌ من تبرير السلطان في حدود الخير الخاص بهم، مثلما يرضى أولئك الذين هم راشدون عما يبدو رشيدًا، بحكم التعريف. ومهما يكن الأمر، فكما هو مذكورٌ عاليه تكيفت المثل العليا الحداثية للمساواة منذ بدايتها مع اشتراط ما الذي تكونه العقلانية الرشيدة، ودائمًا ما استثنت الحداثة بعض أنماط من البشر من هذا المثال الأعلى «الكوني». فماذا عنهم؟ قد يكون المثال الأعلى للرضا مواصلة لدفع ضريبة كلامية. على أي حال، لا يعود رضاهم، أو الافتقار إلى الرضا، هو الاعتبار الأول، بل بالأحرى يغدو هدفًا، كيف يمكن لنا نحن «الراشدين» أن «نجعلهم» يبصرون النور والرضا؟
قام سيبولفيدا بالربط بين التبرير العقلاني للسلطان ودعاوى جوهرية معينة خاصة بالعقلانية الرشيدة من المعروف أنها حديثة ومنتمية للنزعة الفردية، عاقدًا قران هذه الدعاوى مع أخرى أرسطية خاصة بلا مساواة فطرية بين القدرات العقلية. وفي رأيه، إذا كان أولئك المميزون بملاءمتهم للسلطان ليسوا في مواقع السلطان بالفعل، فلديهم مبررات لاستخدام القوة من أجل ترتيب الأوضاع بما يمكنهم من ممارسة الحكم، بما يشبه كثيرًا حماية الأبوين لأطفالهما ومراقبة ما يفعلونه «من أجل مصلحة الأطفال».٩

من منظورنا، الخطأ اللافت أكثر من سواه في هذه الحجة فيما يتعلق بشعوب السكان الأصليين إنما هو في المفهوم الأرسطي القائل بإمكان وجود شيء ما من قبيل «خدم أو عبيد بالفطرة من بين البشر». ومع ذلك يصح، فيما أرى، تحليل دوسل النقدي حتى لو استبعدنا هذا العنصر الأرسطي؛ لأن مغالطة التنمية لا تتطلب فعلًا دونية فطرية. كانت ثمة مناظرات في إسبانيا القرن السادس عشر حول ما إذا كان الهنود أدنى بالفطرة من الأوروبيين (وبالتالي يظلون هكذا دائمًا). أم أنهم فقط يفتقرون إلى التربية والتعليم والثقافة التي قد تمكِّنهم من أن يكونوا «متحضرين» مثل الأوروبيين. إذا سلمنا، كما فعل كثيرون، بالنظرة القائلة بانتماء الهنود إلى ثقافةٍ جهولة ونسق غشوم من المعتقدات بحيث إنهم لن يرحبوا أبدًا باعتناق القيم الأوروبية (على الرغم من أنهم قادرون من حيث المبدأ على هذا)، فسوف يظل من الممكن تبرير قسر مبدئي من أجل وضعهم في هذا الطريق. حينئذٍ تصبح هذه الحجة، من حيث هي مبرر للتدخل القسري في ثقافات السكان الأصليين، يمكن تمييزها مثلما نميز موقف الحكومات؛ مثلًا في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، في القرون التالية.

في رأيي، قد يمكن القول بملء الفم إن هذه المواقف تقترب كثيرًا من معتقداتٍ حسنة النية في أواخر القرن العشرين بشأن رسالة الروح السياسية الليبرالية فيسهل استبعادها من حيث إنها بداهة من النواتج الأثيمة لعصر الاستعمار.١٠ إن الحركات المعاصرة التي تدعو إلى الحكم الذاتي لشعوب السكان الأصليين في أمريكا الشمالية تتعرض للنقد من قبل أشد مؤيديها تعاطفًا معها لإخفاقها في أن تُعنى عنايةً حاسمة بالحرية الذاتية أو الحقوق الفردية، كما تفعل الحركات الليبرالية الغربية. ومن ثم تواصل الحجة مسارها بالتساؤل عما إذا كان ينبغي «أن نسمح لهم» بالحكم الذاتي قبل أن يوافقوا؛ مثلًا، على معايير النسوية الأوروبية للمساواة بين الجنسين، أو أن يقبلوا بمبادئ الحقوق الفردية والحريات الليبرالية كأولوية. ربما تتعارض هذه المعايير تمامًا مع التميز الثقافي الذي هو أساس رغبتهم في الحكم الذاتي. وهناك خيط رفيع يفصل بين التأييد (المعنوي أو العملي) لتطلعات النساء والجماعات المضطهدة الأخرى في المجتمعات التي تكافح في الوقت نفسه من أجل تقرير المصير، وإنكار حق تقرير المصير للجماعة بأسرها. هذا الأخير يعني الإبقاء على التحكم، مع الإيحاء الضمني غير المعترف به بأن المجتمع موضع النظر غير قادر إلى حدٍّ ما على حل صراعاته الداخلية، مقارنة بنا «نحن الأوروبيين» الأقدر على حل صراعاتنا الداخلية، وأن ذلك المجتمع يستفيد فعلًا وحقًّا من تحكمنا المستمر. ليس هناك أي سبب (باستثناء تصور مبسط جدًّا «للتقدم») لافتراض أن المستعمرين والمبشرين من أوروبا الحديثة، ككل، أقل وعيًا بنواياهم الحسنة مما نحن عليه الآن.
عند سيبولفيدا، الطبيعة الراشدة لأهل السلطان هي التبرير لعدم تعسف السلطان، إنهم الذين يملكون المقدرة، أو السلطان، لتزكية أعلى أشكال التطور الإنساني؛ ومن ثم ينهضون بأولئك الذين لا تتبدى لديهم مثل هذه المقدرة أو السلطان. هناك إذن مراوغة في مصطلح «السلطان power»؛ فقد يشير إلى خاصيةٍ فطرية أو إلى أمرٍ واقع في الوضع الاجتماعي. من الواضح أن قادة السكان الأصليين يتبوءون السلطان بوصفه مسألة أمر واقع؛ لذلك لا يمكن أن يكون السلطان فحسب هو الذي يبرر ذاته من المنظور الحداثي. وكمحصلةٍ لهذا يبدو أن صميم مفهوم العقلانية الرشيدة كما يعتنقه سيبولفيدا، هو الذي يبرر تولي السلطان بكل الوسائل الضرورية من جانب هؤلاء الذين لديهم الرؤية «الرشيدة» و«الصائبة» للمجتمع. وعلى هذا لا تستطيع الشعوب الأصلية، فيما دخلت فيه من علاقاتٍ مع الأوروبيين، إلَّا أن تسعى إلى تبيان عقلانيتها الرشيدة؛ وبالتالي حقها في الحرية الذاتية والرضا؛ وذلك عن طريق الوسائل المتضاربة لقبول هيمنة الإسبان طوعًا! إنهم في ضوء المبادئ الجامعة المانعة «يجبرون على أن يكونوا أحرارًا» بيد أن هذا التصور في حدِّ ذاته متناقض، ونظرًا إلى شروط دخولهم، فسوف يتم ضمهم في الواقع إلى أشكالٍ من التبعية الأوروبية (أو كما يمكن أن يطرح دوسل المسألة «استيعابهم»، «شمولهم»). في وضعٍ يماثل وضع البشر من العمال أو المعدمين غير ذوي الملكية، أو النساء أو بعض الأقليات الإثنية والدينية في الداخل وهلمَّ جرًّا. وفعلًا أصبح هذا إلى حدٍّ بعيد هو مصير الشعوب الأصلية في الأمريكتين. إنها نبوءة تحقق ذاتها، نبوءة بتصورٍ لاعقلاني لتنميةٍ أُجبروا عليها قسرًا في علاقتهم بأولئك ذوي الأصول الأوروبية في موقف «لا ظفر» فيه.

يوعز تحليل دوسل بإمكان التعرف على اللاعقلانية والتناقض الذاتي في المغالطة التنموية للحداثة حتى لو نظرنا إليها «من الداخل»، أي بمعايير العقلانية والنموذج الإرشادي التحريري للحداثة. إنه لا يريد الابتعاد عن مشاكل التبرير بتقمص روح ما بعد الحداثة حيث يمكن وضع «خطاب» بجوار آخر، ولكن لا يمكن أن توجد معايير شمولية أو قيم جامعة للمقارنة بين الخطابين. وعلى أي حال تستثار في ذهني شكوك من الطريقة التي يبرر بها شخص مثل سيبولفيدا العنف والهيمنة على شعوبٍ بأسرها — شخص يتمسك بالقيمة الحداثية القائلة إن المحاجة فقط الملائمة للمجتمع الخطابي، وبما يقترب كثيرًا من هذا أتشكك في فصل دوسل البات بين المضمون التصوري العقلاني الرشيد والتحرري للحداثة من جهة، وبين الأسطورة السلبية اللاعقلانية للتنمية من جهةٍ أخرى. هذان النموذجان الإرشاديان للحداثة يبدوان متشابكين أكثر كثيرًا مما يريد دوسل الإقرار به.

يتنكَّر دوسل لمصطلح «ما بعد الحداثة»؛ ربما لأنه يحمل في طياته ارتباطات إبستمولوجية وسياسية غير مرغوبة. ومع ذلك ثمة ملحوظة من أخص خصائص ما بعد الحداثة قد تبدو تدعيمًا لتحليله للحداثة: الاعتقاد القائل إن امتلاك المرء «حقيقة كونية» من أي نوعٍ يمكن أن يكون بمنزلةٍ خلفية مكينة تدعم أي دافعٍ لفرض وجهة نظر معينة للعقلانية الرشيدة، وتنحو نحو إسكات أولئك الذين لا يعتنقونها.١١ وعلى الرغم من أنه لا يبغي مصطلح ما بعد الحداثة، تأتي استنتاجاته دقيقة لدرجة احتذاء ما قد لا تراه العين المجردة ويظل من الممكن أن نسميها استنتاجات بعد-حداثية، على قدر ما تقدم بديلًا لمعالم في الحداثة حرضت على ارتكاب جريمة الاستعمار والبطريركية الحديثة عن طريق تتويجهما بفلسفاتٍ لتأكيد الذات، على أي حال، يبتغي دوسل استعادة «حقيقة» عابرة-للثقافات cross–cultural، حتى تستطيع المجاهرة بأن تدمير المستعمرات كان خطيئة وتستطيع تقديم رؤية إيجابية للمستقبل.
يفيد هذا الكتاب فقط بوصفه مقدمة تاريخية-فلسفية لحوارٍ بين الثقافات سوف يضوي تحت جناحيه مواقف استشرافية شتى، سياسية واقتصادية ولاهوتية وإبستمولوجية متنوعة. لا يسعى مثل هذا الخطاب إلى بناء كونية مجردة، بل إلى بناء عالم عيني مماثل تساهم فيه كل الثقافات والفلسفات واللاهوتيات إسهامًا يتجه صوب المستقبل والتعددية الإنسانية (Dussel 1995, 132).

وفي تفكيري الخاص، عند هذه المرحلة يوعز لي تحليل دوسل بأن وضع «الحداثة» و«ما بعد الحداثة» في مقابلةٍ حادة إنما هو مسألة عقيمة. يبدو أن دوسل يعرض للاعتقاد القائل إن الفصل النقدي في الفلسفة ممكن على الأقل. بَيد أن تحليله يحمل أيضًا ملاحظة تحذيرية مهمة. فالاعتراف الأصيل بأولئك الذين يمثلون «آخر» بالنسبة إلى ثقافتنا الخاصة بنا هو أصعب مما يمكن أن نتصور، والعقبات أمامه قد تشمل ما نتمسك بأنه أفضل ما في قيمنا، وليس ما نحن أكثر استعدادًا للاعتراف بأنه إمكانات تحيزنا الثقافي.

ولعل قناعاتنا النسوية من بين ما نتمسك به بوصفه الأفضل، حتى ولو كانت تنطبق (فيما نفترضه بنوايا طيبة) على جماعاتٍ من النساء لهنَّ ما هو أقل كثيرًا مما لدى نساء الطبقة الوسطى في الغرب من امتيازات. مثلًا، يتَّسق تحليل دوسل مع حجة تشاندرا موهانتي ويزيدها جلاء، حجتها الخاصة بمعالجة النسويات ﻟ «نساء العالم الثالث». تحاج موهانتي بأن الطرح المبدئي ﻟ «النساء» كمقولةٍ واحدية متجانسة، وهو الطرح المميز للنسوية في الغرب الليبرالية والراديكالية على السواء، هو الذي يؤدي إلى خلق مقولة أخرى واحدية متجانسة هي: «نساء العالم الثالث». نساء النسوية الغربية يعرضن أنفسهن ضمنيًّا بوصفهن علمانيات ورشيدات وعارفات بمسائل «الواقع»، مقارنة ﺑ «نساء العالم الثالث» اللاتي يعتقد أنهنَّ مقموعات أكثر بفعل الدين والأسرة والتقاليد، مما ينمُّ عن الفرضية الحداثية بالذاتية المتفوقة. تشير موهانتي إلى أن العرض الذاتي الخطابي للنسويات الغربيات بوصفهن «متحررات» و«يتحكَّمن في حيواتهن الخاصة» من شأنه أن يكون إشكاليًّا بغير إحباط «نساء العالم الثالث»؛ لأنه لا يطابق واقع النساء في «العالم الأول». وأود أن أشير أيضًا إلى أن الاستراتيجية الخطابية بطرح وضع ذات ما باعتبارها العنصر الأكثر وعيًا ضمن مجموعةٍ متجانسة من المضطهدات إنما تقف عقبة في طريق التحليل المادي والسياسي لمدى استفادة النساء أنفسهنَّ في «العالم الأول» من الإمبريالية.

تشدِّد موهانتي كذلك على أن هناك اختلافًا واسعًا بين النساء في «العالم الثالث»، ليس فقط بفعل الثقافة، ولكن أيضًا بفعل الطبقة والأشكال الأخرى من القوة الاجتماعية. وكمحصلةٍ لهذا، شمل نقدها النساء الأكثر امتيازًا في «العالم الثالث» اللائي يكتبن عن نساء الطبقة الدنيا الفقيرات أو الريفيات باستخدام الأشكال الخطابية ذاتها المتأثرة بالغرب. إنها تضع تمييزًا بين النساء ليس بفعل «الهوية»، بل بفعل الظروف المادية والسياق الثقافي والسياسات. وهي لهذا، مثل دوسل، لا ينحو تحليلها نحو طرح «اختلافات ثقافية» نأمل أن نستطيع «تقديرها» ولا يمكننا أن نتجاوز هذا، ولكنه بدلًا من ذلك يوعز على الأقل إمكان التحليل النقدي الشامل الذي يساعد في تحفيز الفعل السياسي.

مع قراءة دوسل من منظور النسوية الديمقراطية، تذكرنا بشاعة محارق الإبادة للشعوب الأصلية في الأمريكتين مجددًا، بأنه من المستحيل أن نتصور أي قطبية ذات مغزى بين «النساء» و«الرجال» على هذا النحو. إن الالتفات إلى اختلافات الطبقة والعرق والاستعمار يكشف لنا لا محالة عن أنه في هذه الآونة التي نفترض أنها بعد استعمارية، ولو من داخل الاضطهاد النسبي الخاص بها، نساء الطبقة الوسطى والعليا من ذوات الأصول الأوروبية لا يزال لديهنَّ امتيازات وقوة أوسع كثيرًا مما تستمتع به جماعات كثيرة من النساء والرجال معًا.

هوامش

(١) أعددت هذا البحث في أصله من أجل «العولمة من أسفل» وهو مؤتمر عقدته رابطة الفلسفة الراديكالية في ١٤–١٧ نوفمبر ١٩٩٦م، والشكر موجه إلى محكمي مجلة «هيباثيا» المجهلين؛ لأن ملاحظاتهم الثاقبة جعلت هذا البحث أفضل.
(٢) (نقد الشواذ critique queer ينبثق عن نظرية الشواذ أو الاختلاف، وهي نظرية نقدية بعد بنيوية ظهرت مطلع التسعينيات. يمكن القول إنها أساسًا مثلية، ولديها ارتباطها بالنسوية معًا. تستفيد كثيرًا من انتقادات بعض اتجاهات النسوية لاعتبار الجنوسة جانبًا جوهريًّا من جوانب الماهية. ومن حيث هي مثلية تنحو بالتحليل والنقد على مفاهيم الشذوذ والانحراف الجنسي والسلوك الجنسي غير السوي أو غير الطبيعي، لتتساءل: ما هو السوي أصلًا ومن أو ما الذي يحدد هذا الاستواء، ليغدو كل ما يختلف عنه شذوذًا وانحرافًا مدانًا؟! بعبارةٍ موجزة، تهدف إلى نسف الاختلاف المصطلح عليه بين السلوك الجنسي السوي والسلوك الجنسي الشاذ، فلا يعود هذا الأخير مدانًا، من الواضح أنها نظرية متهوسة تجسد أكثر من سواها خواء الحضارة الغربية وانفلاتها فيما يخص هذه الزاوية. [المترجمة]
(٣) «إشباعًا لشهوانيةٍ سادية متوترة، عمد الرجال الإسبان إلى تنفيس رغبتهم الجنسية الذكورية الخالصة من خلال الإخضاع المثير للآخر كالنساء الهنديات» (١٩٩٥، ٤٦).
(٤) المقطع Pan يفيد الشمول والآفاق المترامية، فهو نسبة إلى بان Pan وهو إله الصيد والقنص والبراري عند الإغريق، فتقصد الكاتبة من هذه الاستعارة النقد الذي يقتنص كل صغيرةٍ وكبيرة. [المترجمة]
(٥) على الرغم من أن دعوى من هذا النمط قد يشحنها المغزى السياسي، فإنها لن تكون جديدة على أي شخصٍ درس دبليو. في. أو. كواين W. V. O. Quine أو أعمال ريتشارد رورتي Richard Rorty المبكرة أو بول تشرشلاند في مجالات الإبستمولوجيا وفلسفة العلوم في بضعة العقود الأخيرة.
(٦) مسألة الضمان الإبستمولوجي المشار إليه طرحتها أناندي هاتينغادي Anandi Hattiangadi في حلقة بحث لطلابي.
(٧) يمكن القول أيضًا «العنف التربوي»؛ فالبيداغوجيا هي علوم التربية والتعليم؛ وبالتالي يكون العنف الأوروبي والحروب الاستعمارية الضارية ومصها دماء الآخرين من أجل تربية وترقية الثقافات الأخرى وتعليمها الحداثة. [المترجمة]
(٨) نشر كتاب Gines de Sepuveda’s De lajusta causa de la Guerra contra los indios في روما العام ١٥٥٠م. وتعود إحالات دوسل المرجعية إلى الطبعة الإسبانية التي نشرها في المكسيك Fondo de Cultura Economica, 1987.
(٩) في كندا إبان القرن العشرين، كان الإبعاد القسري لأطفال السكان الأصليين من بيوتهم ومجتمعاتهم المحلية إلى مدارس داخلية محكوم بهذا المنطق؛ فأخذهم بعيدًا عن التأثير «المتخلف» للثقافات الخاصة بهم وإجبارهم على تعلم اللغة والثقافة الأوروبيتين لهو مثالٌ جيد على عملية «العنف البيداجوجي الضروري» المقصود منها إدراجهم داخل أوروبا.
(١٠) إن دوسل نفسه قد رأى هذا الموقف عاملًا خلال حرب الخليج (Dussel 1995, 64)، فقد بدا أن العنف في حده الأقصى — وقد نصب نفسه حقًّا «عاصفة» من العنف — كان الممارسة العادلة لأولئك الذين يرفعون لواء الحرية الذاتية بوصفها مبدأهم الظاهر الصريح.
(١١) أجل يمكن اعتبار هذا المعتقد تحديدًا من البواعث الأساسية التي انطلقت ما بعد الحداثة للثورة عليه ورفضه، وهو — تحديدًا أيضًا — صلب ما يأخذه دوسل على أنه جريمة المشروع الحداثي الكبرى في حق الشعوب الأصلية، أو أسطورته اللاعقلانية … خرافته الآثمة، وهو ببساطة إقصاء الآخر ورفض التعددية الثقافية، الأنا الغربية المركزية فقط. [المترجمة]

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤