الفصل الخامس عشر

ما الذي يجب أن يفعله البِيض

ليندا مارتن ألكوف

خيانة البياض إخلاص للإنسانية.

شعار جريدة «ناكث العرق»

أستكشف في هذا المقال محاولات البيض للتحرك نحو موقفٍ يناصر الفعل والإنجاز ضد العنصرية ليصلوا بذلك إلى ما هو أكثر من النقد الذاتي، وذلك عبر الطرق الثلاث الآتية: تثمين المساجلة داخل المذهب النسوي حول علاقة النساء البيض بالبياض، ومناهج «مران الصحوة البيضاء» التي تطورت بفضل جوديث كاتز وسياسات «ناكث العرق» التي تطورت بفضل إغناتيف وغارفي، ثم دراسة حالة للمراجعية البيضاء وهي محاولة تجري حاليًّا في جامعة ميسيسيبي.

في الفيلم السينمائي «الراقص مع الذئاب» (١٩٩١)، يلعب كيفن كوستنر دورَ جنديٍّ أبيض في الاتحاد مرابط على الحدود الهندية ويمر بعملية تحول سياسي. لقد توصَّل إلى إدراكٍ مفاده أن ميليشياته تنتوي قتل سكان أصليين اتَّضح له أنهم على خلاف الصورة المرسومة لهم، فليسوا همجًا غير متحضرين، وأنهم في الواقع أصحاب حضارة غنية تتفوق من نواحٍ عديدة على حضارته، وهكذا يدرك أنه يقاتل في الجانب الخاطئ، البقية الباقية من الفيلم السينمائي ترسم تطورًا زمانيًّا لنضاله في تحديد هذا الذي أدركه وماذا يعني بالنسبة إليه.

وأحسب أن هذه السردية تمثل تيارًا تحتيًّا جماعيًّا وشبه واعٍ من النضال النفسي والسياسي الذي يحدث الآن في الولايات المتحدة الأمريكية بين عدد كبير من البيض ذوي الأصول الإنجليزية. وعبر تاريخ الولايات المتحدة، انضم بعض الناس البيض تحت لواء مشترك مع الناس الملونين لمحاربة العنصرية والعبودية والإمبريالية، وذلك منذ مؤامرة نيويورك في العام ١٧٤١م،١ حتى انتفاضة جون براون والمناصرين البيض للحقوق المدنية والمعارضين البيض للعنصرية ولحرب فيتنام (Ignative and Garvey 1996, 131). وفي يومنا هذا اتسع مجال ذلك النقض للولاء، ما دامت جحافلُ من البيض راحت تتشكك في مؤسساتٍ معينة للنزعة العرقية أو تتشكك في التفرقة العنصرية، ليس فقط، بل أيضًا يتشككون في السرديات العنصرية الشرعية عن «الحضارة الغربية» والتفوق المزعوم لكل شيءٍ أوروبي.
أما فيلم «الراقص مع الذئاب»، فعلى الرغم من أنه معيب من الناحية السياسية، فإنه في ذلك يكشف في مغزاه عن هذه اليقظة للوعي الأبيض، إذ فاز بالجائزة الأكاديمية لأفضل فيلم في العام ١٩٩١م.٢ غالبًا ما يكون دعم البيض لمناهضة العنصرية معيبًا على هذا النحو: تمزقه ادعاءاتٌ عنصرية بالتفوق ويمتد في بعض الأوقات إلى امتيازٍ للمستعمر في أن يحدِّد ما هو حقٌّ وما هو عدلٌّ وما هو ذو قيمة ثقافية. على أي حال، لا مسوغ للزعم بأن هذه الطبقات العميقة من النزعة العنصرية المستمرة تمثل لبَّ كل ما يتبدى من نزعةٍ بيضاء مناهضة للعنصرية. وعلى الرغم من أهمية، وأحيانًا سهولة، الكشف عن العنصرية المستمرة في جهود مناهضة العنصرية فإننا أيضًا في حاجةٍ إلى تأكيد أن البيض، في بعض الأوقات وفي بعضٍ من الجوانب، وإن يكن ليس في جميعها، يتأكدون ويتوحدون مع غير البيض، ويمقتون سبل التفوق العنصري في إفساد تفاعلاتهم الاجتماعية، ويرحبون بالقيام بتضحياتٍ جسيمة من أجل استئصال شأفة تميز البيض.
وفيما يتعلق بالبيض من أهل أمريكا الشمالية فإنهم مع ذلك قد دفعوا ثمنًا معلومًا لكي يبلغوا موضع امتياز البيض. وبالنسبة إلى الكابتن دنبار الذي لعب دوره كوستنر، كلفه الثمن المدفوع أن يتلقى ضربًا ساخنًا وكاد يفقد حياته. ولكن بالنسبة إلى البيض المعاصرين الثمن المدفوع في الغالب نفسيٌّ. وكما قال جيمس بلدوين منذ سنواتٍ مضت «في الواقع ليس ما يزعج البلد «ثورة يقوم بها الزنوج». ما يزعج البلد مغزى ما لهويتها الخاصة» (Baldwin 1988, 8). والمسألة كما طرحها طالبٌ أبيض، «أعني أنني الآن يجب فعلًا أن أفكر في المسألة. مثلما أشعر الآن بأنني أبيض»، (Gallagher 1994, 165). وعندما يقترن هذا الشعور «أنه أبيض» بنبذ امتياز البيض، يمكنه أن يكبِّل الصورة الإيجابية للذات، وبالمثل كذلك يكبل الرابطة المحسوسة بالمجتمع المحلي وبالتاريخ، ويمكن بشكلٍ عام أن يشوه تشكيل الهوية.

إن السرديات الشوفونية التي نصدق جميعًا عليها ترسم صورةً للمجتمعات القائمة على أساسٍ أوروبي بوصفها الطليعة التقدمية للجنس البشري، وهي تنتج دعمًا غير مرئي تقريبًا لبنية تقدير-الذات الجماعي لكل أولئك الذين قد يستطيعون الزعم بتلك الهوية الأوروبية. في النصف الأول من القرن العشرين، تلقَّت المعقولية البادية لتلك السرديات ضربةً قاصمة بفعل العنف المدفوع بمغانم مادية في الحرب العالمية الأولى وجرائم الإبادة الجماعية المنظمة بفعل التكنولوجيا في الحرب العالمية الثانية، وكرد فعل على خيبة الأمل تلك، تطورت سردياتٌ جديدة، قائمة على نبذٍ شامل للأحقاد الإثنية والطاعة السياسية العمياء في «العالم القديم». إن السرديات التي تحظى بالتصديق العام في «العالم الحديث» أو «الجديد» تجاهر بأن المجتمعات القائمة على أساسٍ أوروبي قد قادت العالم في تعظيم النزعة الفردية والحريات المدنية والرخاء الاقتصادي، والتي يفترض أنها أعلى الخيرات البشرية. بطبيعة الحال، يستطيع العديد من غير البيض أن يساهموا في هذه السرديات وأن يروا أنفسهم ممثلين إلى حدٍّ ما لجانبٍ من جوانب الطليعة التحررية، ولكن لأن هذا التقدم قد استلهم واسترشد بالتقاليد الثقافية والمناهج الاقتصادية لأوروبا والولايات المتحدة، فقد احتلَّ البيض بشكلٍ طبيعي المركز والصدارة، جنبًا إلى جنب مع حلفاء من غير البيض بيد أنهم كانوا في الخلف.

ومرة أخرى في النصف الثاني من القرن العشرين، انبثقت بشدةٍ خيبة أمل جوانية في هذه السرديات التي تضع البيض في الطليعة، مبدئيًّا بسببٍ من حركة الحقوق المدنية وحرب فيتنام، بل وأيضًا في ضوء أحداثٍ وقعت في جنوب أفريقيا وأيرلندا، والآن في وسط أوروبا، وهي أحداث تولَّد عنها الريبة في أن العرق الأبيض قد يكون أقل عنفًا أو أقل في عدم التحضر أو أكثر ديمقراطية، من أيٍّ سواه، وكنتيجةٍ لهذا، تصدعت الآليات الثقافية التي تدعم تقدير الذات بين البيض وتنامت الردة عنها كرد فعل لذلك التهديد النفسي.

على أي حال، ليست الردة وحدها هي الاستجابة البيضاء المعاصرة لانهيار المعقولية الظاهرة في سرديات تفوُّق البيض، ويستكشف هذا المقال أنواعًا أخرى من استجابات البيض، جميعها بطريقةٍ أو بأخرى تعلو على الطليعية التقدمية للبيض وتتجه صوب موقع يناصر العمل الفعال ضد العنصرية الذي سوف يصل إلى ما هو أكثر من مجرد النقد الذاتي.

ومهما يكن الأمر، فإن الهوية البيضاء هي المسألة التي أريد أن أضعها في موضع الصدارة. كثيرون من منظِّري العرق جادلوا بأن النضالات المناهضة للعنصرية تتطلب اعتراف البيض بأنهم بيض، وهذا يعني الاعتراف بأن خبراتهم ومداركهم ووضعهم الاقتصادي تأثرت تأثرًا عميقًا بكونهم قد تشكلوا كبيض (Frankenberg 1993). ربما يكون العرق بنية اجتماعية من دون مشروعية بيولوجية، غير أن تبديل شكل أصول حيواتنا بمجمله إنما هو فعلي وفعَّال بشكلٍ كاف (Alcoff 1996 Gooding–Williams 1995; Taylor 1996). إن جانبًا من امتيازات البيض على وجه الدقة هو قدرة البيض على تجاهل سبل انتفاعهم بهُويتهم العرقية البيضاء.

ولكن، ما هو اعتراف المرء ببياضه؟ هل هو الاعتراف بأن المرء يرتبط ارتباطًا متأصلًا ببنيات الهيمنة والقهر، وأنه لا رجعة عن وجوده في الجانب الخاطئ؟ بعبارةٍ أخرى، هل يمكن أن يُنتج الاعتراف بالبياض نقدًا ذاتيًّا فقط، أم ينتج كذلك العار وكراهية الذات؟ والشعور بأن المرء أبيض هل يمكن أن يكون شيئًا على ما يرام؟

وإني لأزعم أن كل فردٍ في حاجةٍ إلى الشعور بارتباطٍ مع المجتمع المحلي ومع التاريخ ومع مشروعٍ إنساني أوسع من حياته/أو/حياتها الخاصة. ومن دون هذه الارتباط، نحن مجردون من الانشغال بالمستقبل ومن الاستثمار في مصير مجتمعنا المحلي. العدمية هي النتيجة، وإننا لنرى وفرةً من بوادرها تحيط بنا، من جنونٍ استهلاكيٍّ بلا رادع يتجاهل عواقبه المحتملة على المدى البعيد إلى نزعةٍ تحررية فوضوية تتفشى في شراكات الولايات المتحدة على كل المستويات ولا تصنع قيمة إلا للرغبات الفردية الفورية.

إذا صح هذا التحليل، ووجد كل فردٍ في نفسه الحاجة إلى شعورٍ ما بالارتباط مع مجتمعه المحلي بماضيه ومستقبله على السواء، فما الذي يجب أن يفعله البيض في أمريكا الشمالية؟ هل ينبغي عليهم، كما يُحاج دعاة العصر الجديد، استيعاب الثقافات غير الأوروبية بقدر المستطاع، مثلما فعل الكابتن جون دنبار في «الراقص مع الذئاب»؟ هل يجب أن يصبحوا، كما يُحاج نويل إغناتيف وجون غارفي، ناكثين للعرق يتنصلون من سائر مزاعم وارتباطات البياض؟ والتبرؤ التحرري من الهوية العرقية والتنصل من — التعامي عن — الألوان، هل يمكن أن ينجم عنهما الوعي بامتياز البيض الذي تستوجبه مناهضة العنصرية؟ هل تستطيع النزعة الفردية الناقضة للعرقنة أن تقدِّم مغزًى التواصل التاريخي الذي يبدو أن الفعل الأخلاقي يستوجبه؟

إن النسوية قد صاغت على نحوٍ مُجْدٍ الإشكالية في فكرة الهوية البيضاء كوحدةٍ واحدة متراصَّة متآلفة، وذلك عن طريق إثارة مسائل الجنوسة وأحيانًا الطبقة، وسوف أقوم في الجزء التالي بتحليل القيمة المقدرة للبياض لدن النسويات البيض. ثم أقوم في الأجزاء الثلاثة التالية باستكشاف «إجابات» ثلاث أبعد للسؤال عن الأبيض: الإجابة المبكرة، ومناهج «مران الصحوة البيضاء» الفعالة في مناهضة العنصرية كما تطورت بفعل جوديث كاتز وآخرين، وسياسات «ناكث العرق» كما تطورت بفعل إغناتيف وغارفي، وأخيرًا نوع من دراسة حالة للمراجعية …٣ البيضاء وهي محاولة تجري في جامعة ميسيسبي، كلٌّ منها مثال لرد فعل على البيض تطور بفعل بيض.

وقبل أن أواصل المسير قدمًا، أريد أن أقول شيئًا ما عن هُويتي الخاصة بي، وهي مركبة عرقيًّا كشأن هوية آخرين في هذا البلد يتزايد عددهم. في بعض الأماكن بالولايات المتحدة، ينظرون إليَّ على أني «بيضاء» وأفترض أنني بيضاء، في تلك السياقات، يعني هذا أنني بيضاء بمغزًى ما، وبناء عليه لديَّ معرفة بامتياز البيض مستقاة من داخل جماعات البيض. فضلًا عن هذا، فعلى الرغم من مولدي في بنما، نشأت وترعرعت في جنوب الولايات المتحدة (فلوريدا). حيث ساد طوال الشطر الأكبر من طفولتي أوضاع جيم كرو للتفرقة العنصرية بشكلٍ رسمي أو غير رسمي، أمي وزوج أمي من البيض الجنوبيين، بكل ما يمكن أن يتضمنه هذا. على أن أبي كان من اللاتين يحمل في أعطافه ميراثًا إسبانيًّا وهنديًّا وأفريقيًّا. أما عائلته، وبالتالي تلك الناحية من عائلتي لم تغادر بنما قط، وكان حلوله بصفته الخاصة هنا كطالبٍ جامعي. وإذ نشأنا، أختي وأنا، في فلوريدا، فقد كان يتم تقديمنا بشكلٍ عام للوافدين على أننا «الابنتان اللاتينيتان» لأمي؛ وبالتالي عرفت أيضًا شيئًا عن الشوفونية البيضاء، أغلبه ذو نكهة ثقافية (مثلًا، «يجب أن تكوني ممتنة لوجودك في هذا البلد»، وغير ذلك من افتراضاتٍ تصنيفية لا أساس لها).

ذات مرة سمعت دعابة للمنظر القانوني جيرالد توريز G. Torres بأن اللاتين لديهم نزوع نحو الغطرسة بشأن المسائل العرقية؛ لأن اللاتين في العادة مختلطون عرقيًّا، وغالبًا ما يفترضون أنهم يعرفون ماذا يعني أن يكون المرء هنديًّا، وأن يكون أبيض، وأن يكون أسود! وأيضًا يفترض اللاتين أحيانًا أننا غير قادرين على العنصرية المضادة للسود أو المضادة للهنود لأن معظمنا له أسلاف ما من السود أو من السكان الأصليين.٤ لا أريد أن أصطنع هذه الافتراضات، وبالقطع يفرض لون بشرتي عكسها. بَيد أنني حاولت أن أستخدم موضعي التقاطعي كمصدرٍ لأن نأخذ في الاعتبار تعددية «الخبرات المعيشة» للهوية المعرقنة في الولايات المتحدة.٥

(١) النساء البيض والهوية البيضاء

البياض كلٌّ متجانس ومتشظٍّ معًا. وعلى خلاف الهوية اللاتينية التي تفهم على أنها مختلطة، وخلافًا للهوية الأمريكية الأفريقية بحكم القطرة-الواحدة الجامع،٦ يُمنح البياض فقط لأولئك (المفترض أنهم) بيض «خلَّص»، في الماضي التاريخي القريب، لم يكن ذلك قاطع الوضوح بهذه الصورة، ما دام اليهود والإيرلنديون والإيطاليون وآخرون من جنوب أوروبا كان يتم أحيانًا استبعادهم من البياض، وفي أحيانٍ أخرى يستمتعون (خلافًا لأولئك الذين يحملون ميراثًا أفريقيًّا بشكلٍ جزئي، مهما كان يسيرًا) بمنزلةٍ بين بين كالبيض تقريبًا، ولكن ليس المنزلة المكتملة، ولكن الآن، في التيار السائد في أمريكا العادية المألوفة، بات من المفترض أن الحدود المرسومة حول البياض حدود واضحة.
وفي مغزى آخر، كان البياض دائمًا متشظيًا بفعل الطبقة والجنوسة والجنس والإثنية والسن والقدرة الجسمانية. وكانت امتيازات البياض الممنوحة متفاوتة في توزيعها وأيضًا تقتصر على الاختلاف (مثلًا، امتياز الحصول على وظيفةٍ للرجل، وامتياز عدم العمل للمرأة، وهكذا). في كثيرٍ من الأدبيات النسوية، يوصف موضع الذات المهيمنة المعيارية تفصيلًا باعتباره موضع ذات لأبيض ذي نزوع للجنس الآخر من الطبقة الوسطى قادر جسديًّا وذكر. تثقل موازين هذا الشكل المعياري أيضًا في السرد الثقافي لإعادة تشكيل علاقات البيض-السود، وكانت أفلام «الرفقة» السينمائية حول الرجال البيض والرجال السود أكثر كثيرًا من الأفلام التي تستكشف العلاقيات بين النساء.٧ في «الراقص مع الذئاب»، ثمة مراجعة لسردية المصير البادي،٨ مركزها ذكر أبيض معياري لينفذ القصة، ويبدو هذا على أنه إذا كان البياض سوف يُطرح فلا بد إذن من إعادة صياغة وضعه بشكلٍ يخرجه من المركز، والرجل الأبيض الذي يتعلم من جديدٍ مكانه له قوة ثقافية ومغزى محسوس لن يكونا لأي شيءٍ آخر؛ مثلًا، لأي مراجعةٍ مركزها المرأة. ولا بد أن هذا الموقف يثير السؤال، ما هي علاقة النساء البيض بالبياض؟
قدمت النظرية النسوية إجابات عديدة لهذا السؤال، وتمركزت معظم المساجلات حول ما إذا كانت النساء البيض يستفدن على وجه العموم من البياض، أو ما إذا كان البياض حيلة ماكرة لتقسيم النساء والحيلولة بين النساء البيض وبين تفهُّم مصالحهنَّ الحقيقية. جادلت بعض النسويات بأن التحيز الجنساني للذكور أكثر أساسية من النزعة العنصرية، بمعنى أن الهوية الجنسية أهم من الهوية العرقية في تحديد المنزلة الاجتماعية. مثلًا تجادل شولاميث فايرستون S. Firestone (1970) بأن النزعة العنصرية الموجودة بين النساء البيض شكلٌ من أشكال الزيف أو الوعي الزائف الذي لا يتمثل مصالحهن الحقيقية. وبالمثل تجادل مارلي ديلي M. Daly (1978) بأن الاتهامات الموجهة للنسويات بالعنصرية تخدم أغراضًا بطريركية بأن تذكي الانقسامية بين النساء. وتبعًا لديلي، ينبغي أن تنسحب النسويات من تحديدات الهوية بالعرق والقومية والإثنية، وهي تحديدات صنعها الذكور.
نسوياتٌ أخريات انتقدن هذه النظرة. تجادل مارغريت أ. سيمونز M. A. Simons (1979) بأن الدعوى القائلة إن التحيز الجنساني هو الأساس إنما تستهين بالاضطهاد العنصري وتطرح افتراضاتٍ غير صائبة مفادها أن التحيز الجنساني وحده يمكن أن يقدم تفسيرًا كافيًا لجرائم الإبادة الجماعية والحرب (مثلًا، أن الرجال البيض «يؤنثون» الرجال غير البيض أو اليهود). إن وجود صورة من صور التحيز الجنساني في كل مجتمعٍ لا يبرر التصور البطريركي الذي يعمم العلاقات بين الرجال جميعًا والنساء جميعًا في تحليلٍ واحد لا تمايز ولا تفاضل فيه. وفقًا لسيمونز، لا بد أن نفهم هوية النساء البيض من حيث البياض ومن حيث الأنوثة معًا. وأيضًا تجادل غلوريا جوزيف. Joseph (1981) بأن النساء البيض أدوات للنزعة العنصرية ومتبرعات بها في آنٍ واحد، وأن النسويات لا بد أن يعترفن بالوضع الاجتماعي للنساء البيض، ويتصدين له بوصفه قامعًا ومقموعًا معًا. والواقع أن جوزيف تؤكد أنه نظرًا إلى الامتيازات الواسعة للبياض، فإن المصلحة الذاتية الفورية للنساء البيض هي التمسك بالنزعة العنصرية. وتقترح أننا في حاجةٍ إلى استكشاف مفهوم «تفوق الأنثى البيضاء» تمامًا كتفوق الذكر الأبيض.
أما مقال أدريان ريتش A. Rich «خائن للحضارة: النسوية، العنصرية، كراهية النساء» Disloyal to Civilizaion: Feminism, Racism, Gynephobia (1979) فيجري استخدامه على نطاق واسع في مساقات دراسات المرأة، ويتناول هذه القضايا بطريقةٍ تتجه أساسًا إلى جمهورٍ من النسويات البيض. تطور ريتش في هذا المقال مفهوم «الأنا-وحدية البيضاء white solipsism» لكي تصف ممارسة إدراكية تتضمن أخذ منظور البيض كمنظورٍ كوني. وتجادل بأن «التعامي عن الألوان»، أو مثال تجاهل الهويات العنصرية، يقع في أحابيل الأنا-وحدية البيضاء؛ لأن المجتمع العنصري لا يملك منظورًا حقيقيًّا يتعامى عن الألوان ويمكن الأخذ به. أما مطالبة البيض بمنظورٍ يتعامى عن الألوان فإنها مطالبة لا تعمل إلا على إخفاء التحيز في تصوراتهم.

تطرح ريتش نقدًا عميق التبصر للتعامي عن الألوان، وعلى خلاف نسوياتٍ راديكالياتٍ أخريات، تعترف بمغزى عنصرية النساء البيض. على أي حال، تواصل ريتش طريقها لتضع التحيز الجنساني في مركز حياة النساء جميعًا، ولكي ترسم صورةً للنساء البيض بوصفهن أساسًا ضحايا للعنصرية ولسن فاعلات يساعدن في دعمها. تزعم ريتش أن النساء البيض لا يصنعن النزعة العنصرية، ولكنهن مدفوعات دفعًا إلى خدمة المؤسسات العنصرية، وأن أولئك اللاتي يتصورن أنهن مستفيدات من العنصرية مخدوعات. في رأيها، النساء البيض يتلمظن غيظًا لأنهن بلا سلطة ولا قوة، وعنصريتهن متنفس لهذا الغيظ ضل طريقه. وهذه الرؤية مراجعة يسيرة لرؤية فايرستون. وفي تفسيرات ريتش، العبودية أدق وأحق من تفوق البيض في أن توصف بأنها مؤسسة بطريركية، وإلقاء اللوم على النساء البيض هو إعاقة لعملية تشكيل الروابط السياسية والوجدانية بين النساء البيض والنساء غير البيض. أما ما يبدو من حمايةٍ تسبغها البطريركية على بعض النساء البيض فإنها تهبط بمنزلتهن وتفرض عليهن الطفولية وقلة الحيلة؛ ومن ثم تكمن المصالح الحقيقية للنساء البيض في صنع التحالف مع النساء الأخريات، وليس مع الرجال. يوعز هذا التحليل بأن «بياض» النساء البيض ليس البتة هو ذاته «بياض» الرجال البيض.

وعلى النقيض من هذا، اقترحت مارلين فري M. Frye (1983, 1992) أن النساء البيض لم يتملَّصن أبدًا من الامتياز العنصري على الرغم من قسوة التحيز الجنساني، وإنه لأحد ملامح هذا الامتياز العنصري أن النساء البيض أمامهنَّ الاختيار في أن يسمعن أو لا يسمعن — وفي أن يستجبن أو لا يستجبن — لمطالب النساء الملونات ونقودهن. تعمل العنصرية على توزيعٍ متفاوت للسلطة المعرفية العامة لإصدار أحكام وقرارات، منها على سبيل المثال الحكم بأن البيض غالبًا ما يفترضون أن لهم الحق في تقرير الهوية العرقية الحقيقية أو الدقيقة لكل فرد، وحين تجاهر النسويات البيض بأن النساء البيض أساسًا نساء، فإن هذا امتداد لما هو في جوهره امتياز البيض.
ينبغي على النسويات البيض، في رؤية فري ألا يكنَّ مخلصات للبياض؛ لأنه من الممكن تفهُّم أن النساء البيض يردن أن يُعامَلن ككائناتٍ آدمية، وغالبًا ما تأخذ نسويتهنَّ شكل السعي لتحقيق الاستحقاقات الكاملة «للأبيضية whiteliness» وهي ما تُعرفه فري بأنه منزلةٌ مشيدة اجتماعيًّا لتمنح الاستحقاقات والسلطة. مثلًا، مطلب المساواة يعني ضمنيًّا وعمليًّا مطلب المساواة مع الرجال البيض (مطلب المساواة مع أهل بورتوريكا مثلًا من الصعب أن يعني تحريرًا). أما مطلب المساواة مع الرجال البيض فهو بالضرورة مطلب تحقيق «الأبيضية»، وهي منزلة تعتمد في قوتها واستقلاليتها على بنياتٍ عرقية للعلاقات الاجتماعية. وكشأن ريتش وفايرستون، تحاج فري بأن التضامن مع الرجال البيض ليس في النهاية من مصلحة النساء البيض. لقد دفعت العنصرية بالرجال البيض إلى قمع وتقييد الحياة الجنسية للنساء البيض وقدراتهن الإنجابية من أجل ضمان توالد سكان بيض «خلَّص». ولهذا يجب ألا نكون مخلصات للبياض وألا نتلقَّن ما لدينا من فروض «الأبيضية» للاستحقاقات وللسلطة.

ماذا يعني عمليًّا أن «نصبح غير مخلصات؟» بالنسبة إلى فري وريتش، من الواضح أنه لا يمكن أبدًا أن يعني شكلًا ما من أشكال التعامي عن اللون أو عن الفردية، وهذا لن يفعل إلا حجب امتياز البيض والمنظورات البيضاء المتضمنة. إذن، كيف يستطيع البيض أن يكنَّ غير مخلصات للبياض بينما يعترفن بمغزى هويتهنَّ العرقية الخاصة بهن.

(٢) المران على مناهضة العنصرية

ثمة مقاربة ليبرالية للإجابة عن هذا السؤال، تطورت في كتاب جوديث كاتز المنتمي للكلاسيكية الجديدة «الصحوة البيضاء: كتيب من أجل مران على مناهضة العنصرية» (Katz 1978). وهذا الكتاب تمثيل للمقاربة السيكولوجية الشعبية للنزعة المضادة للعنصرية، وهي مقاربة غالبًا ما تنشأ عن — وتهدف إلى أن تتلاءم مع — نوعيات الورش الداخلية التي تلتقي جماعات تنامت عن الشركات الأمريكية منذ ستينيات القرن العشرين، على الرغم من أن السياق الخاص بكاتز أقرب إلى أوساط الجامعات. كثيرةٌ هي الشركات التي اكتشفت أن العنصرية (في بعض الأحيان) تعوق الإنتاجية. ولهذا تم التعاقد مع استشاريين لإعادة تدريب وتوعية» موظفي الإدارة البيض. وبطبيعة الحال، هذا مجرد جانب من جمهور «المران على مناهضة العنصرية»، وثمة بعض الجامعات ومنظمات الحركات الاجتماعية جربت هذه المقاربة. على أن المواضع الاجتماعية المتعينة ومصادر التمويل الاقتصادي في حاجةٍ إلى أن توضع في الاعتبار حين تحليل مقاربات إعادة التثقيف والتعليم المستخدمة في ورش العمل المناهضة للعنصرية.

يعزو «الصحوة البيضاء» مسئولية واسعة النطاق عن العنصرية على كاهل البيض. وكاتز، مع ذلك شديدة الانتقاد لتثبيت الذنب على البيض؛ لأن هذا تقوقعٌ في الذات، وتشرح لنا كيف أن مثل هذه الانتقادات جعلتها تنتقل من جماعة التقاء البيض-السود إلى جماعاتٍ كلها من البيض. وكذلك تتجنب استخدام أناسٍ ملونين في إعادة تثقيف وتعليم البيض؛ لأنها كما تقول وجدت هذا يدفع البيض إلى التركيز على نوال القبول والغفران من مدربيهم غير البيض.

إن مواجهة العنصرية بفداحتها وعمقها مواجهة موجعة ومحبطة، كأن يفقد المرء إحساسه بالثقة بالنفس، بل وحب الذات. بَيد أن كاتز مع كل هذا ترفع لواء الأمل في أن البيض يمكن أن يصبحوا مناهضين للعنصرية وأننا «قد نجد في نهاية المطاف راحة في حراكنا نحو التحرر» (vii, 1978). إن العنصرية تسبِّب المعاناة للبيض، تشمل مجامع نموهم الفكري والنفسي وتوصد عليهم أبواب «سجن نفسي يقعون كل يومٍ من أيام حياتهم ضحايا له ولقمعه إياهم» (١٩٧٨، ١٤). مثل هذه الدعاوى لا تفضي بطبيعة الحال إلى أن إيذاء العنصرية للبيض أسوأ من إيذائها للجماعات الأخرى أو مساوٍ له. وعبر صفحات الكتاب، تترسم صورة للعنصرية من حيث هي بشكلٍ ما الفاعل الأكبر ذو الأجندة الخاصة به، يمارس فعله بشكلٍ منفصل عن الناس البيض.

تأخذ هذه المشكلة مغزى مضاعفًا نظرًا إلى أن مناهضة العنصرية والمران الحساس صناعة نامية في شركات الولايات المتحدة الآن، وهي الشركات نفسها التي تواصل ثقافتها استخدام العنصرية والشوفونية الثقافية كذريعةٍ لدفع أجور أدنى كثيرًا للملونين عن طريق بخس قيمة عملهم الذي هو في واقع الأمر ذو قيمة مضاهية أو لعله عملٌ أشق. لا تشير كاتز إلى الاستغلال أو إلى الحاجة لإعادة توزيع الموارد، وبدلًا من هذا تعالج العنصرية كمرضٍ نفسي يمكن مداواته من خلال تعديل السلوك. وعلى الرغم من أن العنصرية بلا جدالٍ توهن من عزائم البيض بطرقٍ عديدة، فلن نستطيع أبدًا استجلاء ما يعوزنا فعله للتغلب عليها من دون تحليل لهذا الذي يستفيد من العنصرية ويعمل على إذكائها.

على أي حال، يقوم كتاب «الصحوة البيضاء» بتطوير فعَّال لعملياتٍ يمكن أن تسمح بالاستكشاف الجماعي للوعي العنصري الأبيض والتفكير النقدي فيه. إنه يبني على معرفة البيض أنفسهم الضمنية بالعنصرية، وبالتالي يزكي التفكر في شأنها، يعزز ثقة البيض في قدرتهم الخاصة على الفعل وعلى مواجهة مقاديرهم، وبشكلٍ معين حقًّا يقر بأرجحية استجابات البيض الانفعالية من قبيل الغضب والشعور بالذنب والمقاومة، من دون النظر إليها كمؤشرٍ دالٍّ على عنصريةٍ لا يمكن التغلب عليها. وبدلًا من هذا، يعمل على تطوير عمليات المجموعة والبيئات الداعمة التي يمكنها بث هذه الاستجابات الانفعالية، والعمل من خلالها والتعالي عليها. ولديَّ على أبسط الفروض تقارير تحكي أن هذا الكتاب جرى استخدامه بشكلٍ فعال في سياقات التنظيم السياسي لتلقين البيض مبادئ استكشاف الطبقات العديدة للعنصرية وفرضيات تفوقهم وسيادتهم الكامنة في صلب تفاعلاتهم، والتأمل فيها.

ثمة نقطة ضعف ملحوظة في كتاب «الصحوة البيضاء» وهي أنه لا يطرح هويةً بيضاء تحولية جوهرية. تجادل كاتز ضد إحلال البياض محل الهويات الإثنية على أساس أن هذا يلقي ظلال العتمة على التنظيم المُعَرْقن للتفوق الأبيض؛ وبالتالي تستمسك بالحاجة إلى تحديد الذات بأنها بيضاء. بَيد أن البياض يتقرر في كتاب «الصحوة البيضاء» كمحض هوية لامتيازٍ غير عادل قائم على تفوق البياض، وأنه على خلاف الهويات الإثنية ليس له مضمون ثقافي جوهري آخر. المرحلة الخامسة من عملية المران تسمى «العنصرية الفردية: معنى البياض»، والهدف الأول المدرَك هو مساعدة المشاركين على «استكشاف ثقافتهم البيضاء وتطوير مغزى للتطابق الإيجابي مع بياضهم» (١٣٥، ١٩٧٨). غير أن الورش في هذه المرحلة لا تناقش إلا الرفاهيات والامتيازات المقترنة بالبياض، ومن بين الاتجاهات التي تيسِّر هذا ما هو آتٍ:
ينبغي أن تساعد الجماعة على تعيين ما هو إيجابي في كون الإنسان أبيض. من الضروري بالنسبة إليهم أن يشعروا شعورًا طيبًا تجاه أنفسهم كأناسٍ بيض. كثيرًا ما أنكر البيض بياضهم لأنهم يشعرون أن كون المرء أبيضَ أمرٌ سلبي (Katz 1979, 145).

على أن الكتاب لا يقدم أي عونٍ في تحديد ما يمكن أن تكونه تلك الجوانب الإيجابية. وبالنظر إلى سياقه، لا بد أن يجد القراء صعوبةً في أن يخمنوا كيف يمكن أن تطرح كاتز تحديدًا موضوعيًّا للبياض، اللهم إلا في حدود العنصرية والامتياز غير العادل.

في العام ١٩٩٢م، إبَّان الاحتفال بمرور أربعة قرون على فتح كولومبوس، شاركتُ في سيراكوزا مع المنتدى الإيطالي الأمريكي المحلي المناصر في مساجلةٍ عامة حول المعاني السياسية لذكرى كولومبوس. وزعموا أن الأمريكيين ذوي الأصول الإيطالية يعانون من تمييزٍ مكثَّف ومتواصل في هذا البلد، وأن الاحتفال بذكرى كولومبوس بالغ الأهمية لأنه تصعيدٌ لكبرياء هذا المجتمع المحلي وغرس للاعتراف بالإسهامات المهمة التي قام بها الإيطاليون. وأنا أوافق على توصيفهم للموقف والحاجة إلى رموزٍ ثقافية إيجابية. بَيد أني أتساءل: لماذا لا تكون الرموز المستخدمة ليوناردو دافينشي ومايكل أنجلو أو حتى ماريو كومو بدلًا من رجلٍ مسئول عن جرائم إبادة جماعية عابرة للقارات واستعباد لسكان أمريكا الأصليين؟ لدى الإيطاليين ثروة خاصة من قادة الثقافة المستحقين للإعجاب؛ لذا أجد إصرار المنتدى المستمر على الاحتفال بكولومبوس يوعز إليَّ بأن المرمى أكثر من مجرد تحقيق المساواة للجماعة.

إذا كان للهوية البيضاء أن تتحول، فإنها في حاجةٍ إلى ما يفوق إعادة البناء الجوهرية، بما فيه من مراجعةٍ للسرديات التاريخية والمرتكزات الثقافية. الجزءان التاليان حول محاولتين أحدث لإحداث التحول في البياض، وكلٌّ منهما له اشتباك مع المقاربة الليبرالية.

(٣) ناكثو البياض

في جريدة «ناكث العرق: جريدة حركة المحو٩ الجديدة»: Race Traitor: A Journal of the New Abolitionism يمكن أن نجد المواقف الأكثر راديكالية التي ظهرت في السنوات الأخيرة لمناهضة العنصرية البيضاء. خلقت الجريدة فضاء، يمكن أن يتشارك فيه الراديكاليون البيض مع الملونين وتنتشر الأفكار واسترجاعها ونقدها، ويساعدون في تعليم أنفسهم وقرائهم التاريخ «الحقيقي» للحرب الأهلية والميراث المهدر لمقاومة البيض للعنصرية. يمكنهم أيضًا تطوير تحليلاتهم النقدية لظواهر اجتماعية راهنة، من قبيل التعددية الثقافية وتزايد حالات العبور التحويلي١٠ بين الشباب البيض.

محررَا الجريدة نويل إغناتيف وجون غارفي مناهضان للرأسمالية، ويؤمنان بأننا يجب أن نرحب بدعوى نزع السلاح. ولعل أفضل تصنيف لسياستهما هو الفوضوية التحررية، وهذه لها جرائد فوضوية أخرى كثيرًا ما تعيد نشر مواد من جريدة «ناكث العرق» أو تشير إليها. يستبسل المحرران من أجل منظورٍ سياسي قوي للطبقة العاملة، وقد تمكنا من تطوير احتواء الطبقة في صفوف كتاب الجريدة، وهذه خاصية نادرًا ما تتصف بها جرائد يسارية من أي نوع. وبشكلٍ مثير للاهتمام، قليلًا ما بذلا الجهد لصنع التحالف بين النسويين أو النشطاء المثليين؛ ربما لأنهما يريان هذه المسائل غير ذات اتصال مركزي بتفوق البيض. وهذا ما نتج عن تحليلٍ يتواتر بانتظامٍ في الجريدة مفاده أن «تفوق البيض» كان إلى حدٍّ كبير أيديولوجيا استخدمها الأثرياء والأقوياء لخداع البيض الفقراء، فيجعلون ولاءهم للعرق أقوى من ولائهم للطبقة، وهكذا يعمونهم عن مصالحهم الخاصة. وعلى أي حال، يمكن كما رأينا اصطناع حالة مماثلة بالنسبة إلى النساء البيض وكذلك بالنسبة إلى المثليين البيض.

أكثر الجوانب أهمية في هذه المقاربة هو مجاهرتها بأن البيض بؤرتها. وعلى خلاف منشوراتٍ يسارية أخرى تسعى إلى تنمية جماعات متعددة الأعراق، تبدو جريدة «ناكث العرق» مؤمنة بالاحتياج إلى شبكة عمل سياسية للناكثين البيض من أجل التركيز على استرجاع التاريخ الأبيض المضاد للعنصرية، وتعميق تحليل البياض والعنصرية، وتشجيع الاتجاه المحدود لكن النامي بين الشباب البيض للتمرد ضد التراتبيات الثقافية العنصرية وفرض التفرقة العنصرية. ولننظر إلى تقرير المحررين عن موضوع الخبر التالي:
وفقًا للتقارير الصحافية وتقارير مراسلينا، تبدو على العرق الأبيض معالم التشظي في المناطق الريفية في غرب الوسط. العديد من طالبات مدرسة نورث نيوتن العليا بالقرب من موروكو بإنديانا، من المستجدات والقدامى، اللاتي يطلقن على أنفسهن جماعة «حرة في أن أكون أنا»، شرعن أخيرًا في جدْل شعورهن في كتلةٍ من ضفائر وارتداء سراويل الجينز الفضفاضة والأحذية العسكرية ذات الرقاب. إنه طراز الزي المقترن بثقافة الهيب هوب. أما موروكو فهي مجتمع محلي في مزرعةٍ صغيرة تبعد سبعين ميلًا جنوب شيكاغو، ومن بين ثمانمائة وخمسين طالبًا وطالبة بالمدرسة ثمة اثنان من السود. البيض في البلدة اتهموا الجماعة بأنها «تفعل فعل السود»، وكان رد فعل الطلبة الذكور بإطلاق أسماء عليهن والبصق في جوههن، ولكمهن ودفعهن إلى الخزانات، وتهديدهن بالمزيد من العنف. ومنذ أواسط شهر نوفمبر رُحن يتلقين تهديدات بالقتل وتخويفًا بالقنابل واجتماعًا حاشدًا لكو كلوكس كلان بالمدرسة. وقال أحد الطلاب الذكور البالغ من العمر ستة عشر عامًا: «هذا مجتمع محلي للبيض. وإذا كن لا يرغبن في أن يكنَّ بيضًا، فعليهنَّ أن يرحلن» (Ignatiev and Garvey 1996, flyleaf).

لم يقتصر الأمر على أن تواجه الطالبات معارضةً عنيفةً، بل إن إدارة المدرسة أوقفت قيدهنَّ بحجة «انتهاكاتهن للزي المدرسي». حظي هذا المثال بتغطيةٍ إعلامية واسعة في برنامج المنوعات «ويليام مونتل شو». ومن الواضح أنه نوعٌ من التمرد التلقائي الذي «ينطلق في وجهك»، وهو ما تصبو جريدة «ناكث العرق» إلى تشجيعه، وكان تعليق المحررين: «تكشف هذه الحادثة عن القوة الهائلة لثقافة العبور المحلي في تقويض تضامن البيض وسلطة الذكور معًا.»

من المهم أن نتفهَّم لماذا وجدت جريدة «ناكث العرق» أن حدثًا من هذا النوع باعث للأمل على هذا النحو، بدلًا من أن تنظر إلى أحداث أكثر شيوعًا وبالقطع داجنة أكثر، ينظمها البيض المناهضون للعنصرية في حرم الجامعات ودعم البيض لجهودٍ سياسية في هذا الصدد من قبيل حملة إطلاق سراح موميا أبو-جمال.١١ والحملات الاتحادية، والمسيرات في ذكرى مارتن لوثر كنغ. يختلف ما حدث في موروكو بإنديانا عن هذه الأحداث في أنه كان تمردًا تلقائيًّا (والتلقائية هي ما يحلم به كل فوضوي) ينطوي على رفضٍ للهوية البيضاء.
حجر الزاوية في موقف جريدة «ناكث العرق»، هو «ألا نقبل بأقل من محو عزم العرق الأبيض على وضع أسس انطلاقة جديدة» (١٩٩٦، ٢). والشعار الرئيسي للجريدة هو «خيانة البياض إخلاص للإنسانية» (١٩٩٦، ١٠). إن البيض في حاجةٍ إلى تحدي «سلسلة العمليات المألوفة» ﻟ «المؤسسات التي تعيد إنتاج العرق كمقولةٍ اجتماعية»١٢ يجادل المحرران، على طريقة ما يقوله فوكو في بعض الأحيان، بأن البياض يتحول إلى شيءٍ واقعي من خلال الممارسات الاجتماعية التي تحدث في التفاعلات الاجتماعية اليومية التي لا حصر لها، وأن هذه العملية تمارس فعلها فقط؛ لأنها تفترض أن الناس الذين يخططون لأمر البياض سوف يقومون بدورهم وفقًا للقواعد، «على أن قواعد المنتدى إذا خرقها عددٌ كافٍ من أولئك الذين يبدون بيضًا» فإن شيئًا كهذا، على سبيل المثال، «يجعل الشرطة تتشكك في قدرتها على التعرف على الشخص الأبيض»، وهذا يمكن أن يعرقل الآلية بجملتها، وقد ينمحي البياض (١٣، ١٩٩٦). ما هو عدد المنشقين البيض الذي يتطلبه مثل هذا؟ بالنسبة إلى فريجينا يكفيها جون براون واحد — على خلفيةٍ من مقاومة العبيد (١٣، ١٩٩٦). كانت فعلته «حلقة من سلسلةٍ من الأحداث تضمنت أفعالًا وردود فعل متبادلة تجاوز مداها ما يمكن أن يتوقعه أي شخص — حتى اندلعت الحرب (١٣، ١٩٩٦)». هكذا، مع إصرار الملونين على المقاومة، قد تكون أفعال البيض في خيانة العرق هي كل المطلوب لإشعال حرب أهيلة، وهي ما يمكن أن تكون في هذه المرة حربًا ثورية أيضًا.

من الواضح أن مثل هذا التفكير الاستراتيجي يمثِّل رجعَ الصدى لحساسيات ما بعد الحداثة لدن الشباب الراديكالي الآن، وفيما أعتقد يفسِّر جانبًا من جوانب الاهتمام المتزايد بالنظريات الفوضوية في التغير الاجتماعي. هذا يعني أن ما بعد الحداثة والفوضوية، كليهما، يقدمان تبريرًا نظريًّا للاعتقاد الراهن بأن «حروب المواقف» من الطراز القديم الذي يتخذ شكل المواجهة بين فريقين ميئوس منها في تغيير تضاريس القوة الرأسمالية، حيث إن مصادر هذه القوة ذاتها لا تتمتع بأي شكلٍ من أشكال الثبات، سواء من حيث مركزها أو من حيث توزيعها الجغرافي. ويمكن أن نأمل في أن تكون أحداث كافية على شاكلة حدث موروكو، هي المحفز الذي نحتاج إليه، في موقفٍ لا يمكن فيه رسم خريطة للقوة السياسية، وتوجد القوة الاقتصادية من دون قاعدةٍ تنظيمية راسخة، ولا تتميز العلاقات السببية بين السياسة والاقتصاد والثقافة بأي ثبات.

ولكن ما هي الأنماط الأخرى من خيانة الأبيض التي يمكن أن ينخرط فيها المرء الآن؟ يرفض الأفراد البيض في حركة الحقوق المدنية تضامن البيض وفقًا لقوانين جيم كرو، جلسوا لتناول الغداء في مواجهة الأمريكان الأفارقة، وركبوا في مؤخرة الحافلة، وساروا في معارضةٍ مفتوحة لمجتمعاتهم المحلية. كانت هذه بلا ريب أفعالًا سياسية من أفعال الخيانة الاجتماعية. وقد استفزت ردود فعل عنيفة تماثل في وحشيتها ردود الفعل التي يعاني منها السود أنفسهم. وفي غياب حركة اجتماعية من هذا القبيل، ثمة أفعال أخرى يمكن أن يتَّخذها البيض قد لا تكون درامية هكذا، لكنها تبعث رسائل مماثلة، من قبيل ارتداء ملابس كالأزياء التي اختارتها جماعة «حرة في أن أكون أنا» في موروكو، أو في اختيار المدارس والأحياء السكنية، وأفعال أصحاب العقارات وغيرها من الخدمات والأعمال. على أي حال، قليلًا ما يمكن التنبؤ بمعانٍ مثل هذه الأفعال خارج سياق حركة سياسية واسعة الانتشار إعلاميًّا، بل ويمكن أن تكون لها نتائج غير متوقعة وضارة، كما يحدث عند اختيار حي أقلية من البيض تساعد فعلًا في تجميله وترميمه. وفي حالة موروكو، تعرض واحدٌ من الطالبين الأسودين للتهديد والتحرش، وهاجم رجلان من البيض أمه حين كانت تتسوق في المدينة وأوسعاها ضربًا. هكذا واجهت الأسرتان السوداوان في المدرسة الجانب الأكبر من العنف، وهما أسرتان لم يستشرهما أحدٌ وربما لم تستعدا للهجوم. وإذ نفتقد التحكم الشامل في مدلولات وآثار أفعالنا، ومع غياب حركة سياسية ﻟ «خيانة الأبيض» تتمتع بالانتشار الإعلامي الواسع ويمكنها تداول المعاني، تظل النتائج الفعلية لأفعال الأفراد غير مؤكدة.

وعلى أي حال، تظل المشكلة الكبرى في اقتراح جريدة «ناكث العرق» هي أن البيض، بمعنًى ما له أهميته، لا يستطيعون التنكر للبياض. ومظهر المرء من حيث هو أبيض، يمارس فعله في منحه الامتياز بسبلٍ عديدة لها أهميتها، والمجاهرة بالخيانة لا تجعل البيض غير حاملين لتلك الامتيازات حتى لو بذلوا الجهد الجهيد لتجنبها. وفي مقالةٍ كتبها إدوارد إ. بيبلز للجريدة، نجده يعاود تفسير حادثة صغيرة حدثت له أمام حامل لعرض الصحف في ريتشموند العام ١٩٧٦م. حين أراد أن يبتاع جريدةً من جرائد الأمريكيين الأفارقة، نظرت إليه البائعة البيضاء وراحت تشرح له: «أنت لست في حاجةٍ إلى هذه الجريدة، إنها جريدة ملونين.» فكان أن رد عليها بيبلز بصوتٍ عالٍ بما يكفي ليسمعه آخرون في المحل: «لا بد أنك تفكرين في أنني أبيض!» وهو يشرح ما حدث بعد ذلك:

بُهتت البائعة، ولكن في غضون ثوانٍ معدودة كانت قد أدركت أن هذه الكلمات البسيطة تمثل فعلًا عميقًا من أفعال الفتنة العنصرية. لقد غدرتُ ﺑ «عرقها الأبيض» كريم المحتد … هاجت البائعة وماجت. لكن كان من الواضح أنها عجزت عن التصرف إزاء هذا الغدار. (مقتبسة في Ignatiev and Garvey 1996, 82)

لا يخامرني شكٌّ في أن هذه الفعلة في الجنوب مثَّلت فتنة عميقة. ولكن مثل هذه الممارسة لا يمكنها أن تستبعد تمامًا عملية الامتياز الأبيض، للأسباب التي سبق ذكرها. وبعض البيض «الغدارين»، أصحاب الامتيازات البيض التي لا تزال تمارس فعلها إلى حدٍّ كبير، قد يشعرون حينئذٍ بأن من حقهم فك الارتباط بالبياض من دون الشعور بأي صلةٍ بالمسئولية عن فظائع العنصرية البيضاء في الماضي، أو ربما يعتبرون المجاهرة بأنهم «ليسوا بيضًا» حلًّا كافيًا للعنصرية من دون هموم الفعل النظامي أو الجماعي. وقد يصل هذا الموقف إلى نهايةٍ غير مريحة مماثلة لاتجاه «التعامي عن اللون» الذي يتظاهر بتجاهل هوية المرء الخاصة به البيضاء ويرفض تحمل المسئولية.

ترتبط هذه المخاوف بملمحٍ آخر من الملامح التي أجدها في جريدة «ناكث العرق»، ألا وهو الميل إلى التأكيد على أن الأغلبية العظمى من البيض لم ترتكب أعمال العنف العنصري (انظر؛ مثلًا ١٦-١٧). طور الكاتبان استراتيجيةً بلاغية مقصدها تزكية عدم الارتباط وعدم التوحد بين البيض (خصوصًا من الطبقة العاملة) وبين المؤسسات العنصرية، في الواقع يعني هذا أن نقول: «ليس هذا هو تاريخك الحقيقي، فلماذا تدافع عنه؟» من ناحية، تقوم هذه الاستراتيجية على روايةٍ لتاريخ الجنوب أدق من الرواية التي تعلمتها أنا نفسي في صفوف المدرسة: لم يخبرني أحدٌ البتة بأن هناك عددًا كبيرًا من البيض الفارين والمنشقين إبان الحرب الأهلية. في أوساط البيض في الجنوب، كان القول الشائع خلال حركة الحقوق المدنية أن البيض الذين انشقوا عن التضامن العنصري وناصروا «غوغائية-الرعاع»، أمثال الدكتور مارتن لوثر كنغ، كانوا شماليين (من اليانكي!) بالإضافة إلى اليهود. إن المراجعة الدقيقة للتاريخ الأبيض يمكن أن تكون استنارةً وتشجيعًا للبيض ذوي التوجهات المناهضة للعنصرية.

غير أن ثمة خطرًا في فك ارتباط العمال البيض بماضي العنف العنصري: بعض العمال البيض شاركوا فعلًا في مثل هذا العنف. ومع الطبيعة السرية لنشاط كو كلوكس كلان، من الصعب معرفة عددهم. أمَّا الحكم انطلاقًا من البلاغات العامة الموثقة ومحافل الإعدام خارج نطاق القانون، كما هو الأمر حين يصف دوبويس بأسفٍ بالغ تمرير أصبع سوداء مقطوعة معروضة على الجمهور حين كان في طريقه للعمل في أطلانطا، فعلينا أن نستنتج، كما فعل سكان ألمانيا إبَّان فترة الحكم النازي، أن الناس البيض من الطبقة العاملة في الجنوب وفي كل مكانٍ كانوا يعرفون عن الفظائع ويوافقون عليها إلى حدٍّ كبير.

قبيل أن يتوفى جدي أنا، اكتشفت أنه في شبابه شارك في أعمال عنف كلان،١٣ كان مزارعًا بالمشاركة، شبه أميٍّ، عاش فقيرًا ومات فقيرًا، عمل بالسخرة لحساب الأثرياء الذين كان يعمل عندهم، ولكن أيضًا أعتقد أن إحساسه بالتفوق الأبيض لا بد قد أعانه على الخروج بثقةٍ بالنفس استغرقتها عودته للدراسة وهو بالغ لكي يتعلم القراءة والكتابة والحساب بما يكفي لتطوير مهاراته الوظيفية؛ لذلك فعلى الرغم من أنني مثل إغناتيف وغارفي أعتقد بإمكانية بناء حجة مفادها أنه ليس من المصلحة الاقتصادية الشاملة لفقراء البيض التمسك بالنزعة العنصرية (قطعًا، حين نأخذ أكثر من جيلٍ واحد في الاعتبار). فأحسب أن هذين الكاتبين قد نحَّوا جانبًا مسألة الجرم الأخلاقي وعلاقتها بالهوية الاجتماعية، يكتب غارفي قائلًا: «إنها عقيدتنا … غالبية من يسمون بالبيض في هذا البلد ليسوا ملتزمين بالتفوق الأبيض لا بعمقٍ ولا عن وعي، كمعظم بني البشر في أغلب الأمكنة والأزمنة، سوف يفعلون الشيء الصحيح. إن كان هذا موائمًا». بيدَ أن التمسك بالتفوق الأبيض قد يكون عميقًا لأنه غير واعٍ. إن البنيات الجماعية لتشكيل الهوية ضرورية لخلق الإحساس الإيجابي بالذات — الذات القادرة على أن تكون محبوبة — وإذا كانت تستدعي العنصرية، فإن تصحيح التوازن هنا لن يكون إلا عن طريق خلق بنياتٍ جديدة لتشكيل الهوية، ويبدو أن العنصرية لها رواسب عميقة في نفوس البيض وتتخلق بعمليةٍ تتجدد كل يوم.

وهكذا، فإن مسألة المواءمة نفتقدها للأسف في هذه النقطة. وربما يكون إغناتيف على صواب، فيما يتعلق بالأفعال العنصرية التي يتم تحديدها بشكلٍ واضح على أنها مرتكبة عن نيةٍ ووعي. بَيد أن هذا التصور يمكن أن يتعايش مع فكرةٍ مفادها أن إحساس الناس البيض بكينونتهم في العالم، وخصوصًا في هذا البلد، يعتمد اعتمادًا عميقًا على التفوق الأبيض. وهذا الاعتماد بدَوره قد يقوم في الأعم الأغلب لأنهم هم أنفسهم تحديدًا مقموعون؛ معنى ذلك أن علاقات المهاجرين كانت شديدة التواضع وخلوًا من أي مصادر ثقافية أخرى يمكن من خلالها تحديد معنًى للاستحقاق. قد يكون التفوق الأبيض هو كل ما يمكن أن يتمسك به البيض الفقراء. كي يحتفظوا بمغزًى لحب الذات، وصميم جينالوجيا البياض كانت منذ بدايتها متشابكة مع تراتبيةٍ هرمية عنصرية، يمكن أن نجدها في كل سرديةٍ ثقافية كبرى من كريستوفر كولومبوس إلى المصير البيِّن وصولًا إلى سباق غزو الفضاء وثورة الحاسوب. كثيرًا ما يكون البقاء في الطليعة غير مُوَاتٍ، فأن تظل في «المقدمة» يتطلب حروبًا وتضحيةً جسيمة. ومع ذلك يظل الناس دائمًا يتعقبونه، تحديدًا لأنه ضروري من أجل إمكانية حب-الذات، هكذا نجد المأزق ها هنا: لا بد أن نبلغ بالقصة الكاملة للعنصرية البيضاء بكل تعقيدها، ولا يمكن فك أضابير هذا التعقيد من خلال التحليل الطبقي الذي يعزل الذنب وكأنه مقتصر على الأغنياء. غير أن مواجهة واقع الجريرة الأخلاقية للبيض يهدد صميم قدرتهم على التمسك بالأخلاقية الآن؛ لأنه يهدد قدرتهم على تصور أنفسهم كأصحاب علاقات اجتماعية مترابطة بماضٍ وبمستقبل يمكن أن يشعر كل فردٍ بأنه مشدود إليه.

ربما كانت عناية جريدة «ناكث العرق» بثقافة العبور التحويلي مدفوعة بهذا الهمِّ، على أمل أن تستطيع هوية ثقافية «مختلطة» أن تحل محل البياض؛ وبالتالي تتفادى ميراثه الأخلاقي. وإنها لمفارقةٌ في أن «ناكث العرق» متفائلة كثيرًا بشأن ثقافة العبور التحويلي، والمساهمين فيها ينتقدون كل متغيرات التعددية الثقافية؛ وذلك لأسبابٍ عديدة من بينها أنها تنحو نحو الحديث عن القمع والاضطهاد من دون أن تسمي أيًّا من القامعين. يعترف المحرران بأن «الترحيب بالاستعارة من ثقافة السود لا يعادل خيانة العرق». غير أنهما يؤوِّلان التزايد في العبور التحويلي الأبيض بأنه يشير إلى تشظي التفوق الأبيض. وعلى هذا المستوى يزعم فيل روبيو Phil Rubio أن الاندماج الثقافي الأبيض … هو بالفعل شكل من أشكال اليقظة السياسية (في Ignatiev and Garvey 1996, 161).
إن هذا الموقف ينتزع الشكية من صدور بعض القراء الملونين الذين تنشر الجريدة انتقاداتهم، عبَّر سالم واشنطون S. Washington وبول غارون P. Garon، كلاهما، عن قلقهما من الرومانسية التي صيغت بها أمثلة ناكثي العرق. وأشار واشنطون إلى أن الفنانين السود تتواصل «معاناتهم من خلال تضاؤل فرص الدخول إلى وسائل الإنتاج الثقافي والتحكم فيها (Ignatiev and Garvey 1996, 166). ولن ينصلح هذا بمجرد تقدير تأثير السود على الثقافة السائدة والاعتراف به. وبالمثل يشدد غارون على أن النتائج الاقتصادية المألوفة للعبور التحويلي هي أن يزداد العازفون البيض ثراءً وتتضاءل فرص العازفين السود في مجرد كسب قوتهم. وأيضًا يطعن غارون (وليس هذا بالضرورة هو موقف روبيو) في الرأي القائل إن الموسيقى لن تفقد عنصرًا جوهريًّا حين يقوم العازفون البيض بعزف البلوز،١٤ السياق يؤثر في المعنى الذي لا يتجزأ، وفي رأي غارون العرق ملمح ساكن في السياق الموسيقي.

هذه المسألة تُلقي الضوءَ على الصعوبات في تحويل الأبيض. فمتى يتلاشى التعالي على الشوفونية الثقافية في خضم الاستيلاء الثقافي؟ في المجتمع الاستهلاكي على وجه الخصوص لب امتياز البيض هو القدرة على استهلاك أي شيءٍ وأي شخصٍ بأي طريقة، والرغبة في العبور التحويلي في حدِّ ذاتها لها حدود مشتركة مع الرغبة الاستعمارية في الاستيلاء وصولًا إلى حصار الذات الاجتماعية.

أحيانًا تقدم الموسيقى المعاصرة نموذجًا مثاليًّا للعولمة، فسرعان ما يتم الاستعارة منها وفي اتجاهاتٍ متعددة، حتى إن مفاهيم «الأصل» و«الهوية»، وكذلك «الملكية الفكرية» تفقد وضوح معناها. وليس يعني هذا أن صناعة الثقافة تعلو على التراتبيات الهرمية في الاقتصاد السياسي الكائن، والأصول المهجنة للأشكال الثقافية لا ينجم عنها توزيع مناظر للنجاح الاقتصادي. وعلى أي حال، حين نحاول التغلب على التوزيع غير العادل للموارد المالية أو فرص الدخول في مجال الإنتاج الثقافي، فليس من الواقعية افتراض تفرقة عنصرية ذاتية تنمُّ عن إرادةٍ حرة، أو مثلًا أن البيض سوف يتمسكون بالموسيقى البيضاء. إن الأصول المهجنة؛ وبالتالي العبور التحويلي، قوة لا يمكن إيقافها. والعنصرية، بشكلٍ عام، لم تعمل على إبطاء التهجين الثقافي. وهذا يعني أن التهجين الثقافي ليس علة كافية لمناهضة العنصرية ولا حتى مؤشرًا ضروريًّا عليها.

ولكي نحلل التضمنات السياسية لثقافة العبور التحويلي، قد يكون مفيدًا أن نستخدم تحليل سارتر للنظرة ودورها في العلاقات الاجتماعية. وفقًا لسارتر، في نظرة الآخر نحن ندرك الوعي الذاتي للآخر؛ وهذا يعني أن الحياة الجوانية للآخر مماثلة للحياة الجوانية الخاصة بنا. وندرك أيضًا وجودنا-للآخرين، أو ما لنا من معنى وقيمة في عيون الآخر. وكما جادل لويس غوردان أخيرًا في كتابه الشائق «سوء النية والعنصرية المناهضة للسود» Bad Faith and Antiblack Racism، تستند العنصرية البيضاء بشكلٍ عام على حاجة البيض إلى تشتيت نظرة الآخر الأسود ورغبتهم في هذا. إنها نظرة تكشف عن الذنب والإدانة والانحطاط الخلقي (Gordon 1995، وخصوصًا الفصل ١٤). وإذا كانت العنصرية محاولة لتشتيت النظرة السوداء، فما هو العبور التحويلي إذن؟

كان سارتر مشهورًا بتشاؤمه بشأن المساواة الممكنة في العلاقات الإنسانية. وقد عرض لخيارين يمكن الأخذ بهما حيال الآخر. الأول يتضمن محاولة للعلو على تعالي الآخر، أو سلب الحرية الخاصة بالآخر، لا سيما الحرية في إصدار الحكم وفي القيمة. وهذا النمط مميز للكراهية وللسادية. وينطوي النمط الثاني على محاولةٍ للاندماج في تعالي الآخر؛ وهذا يعني أن يكون لك حب الآخر. بَيد أنك في حلٍّ من اختياراته، وتلك هي مفارقة الحب: نحن نريد الآخر ليحبنا بطريقةٍ تكون مطلقة ثابتة موثوقًا بها، ولكننا نريد أن يكون حبه معطًى بحريةٍ من دون إجبار. ومن ثم نريد أن يكون الحب لا مشروطًا ومشروطًا في آنٍ واحد. يضع سارتر تشخيصًا لهذا بأنه الرغبة في إدماج حرية الآخر داخلي، حتى إن احتياجاتي ورغباتي تظل في المركز ويوجد الآخر فقط كجزءٍ من عالمي المرتب من دون استقلالٍ ذاتي حقيقي.

ربما تقع محاولات البيض للاستيلاء على ثقافة السود في هذا التصنيف، من حيث هي استراتيجية لا تبحث عن تشتيت نظرة السود أو قمعها في خواء الخضوع وبدلًا من هذا تبحث عن دمج نظرة السود في داخل ذات الأنا. بعبارةٍ أخرى، محاولات البيض لاستيعاب السواد استيعابًا كاملًا قد تكون مدفوعة بالرغبة في جعل نظرة السود — أو ذاتية السود وهي ما تدلُّ عليه النظرة — تنعم بسلامٍ داخلي وبالتالي لا تمثل تهديدًا للأنا. إن الاعتراف باختلافٍ غير قابل للرد، اختلاف يحاول العبور التحويلي أن يتغلب عليه، قد يتمسك بنقطة الافتراق الخاصة بالآخر، فضاء الحكم المستقل الخاص بالآخر، وبالتالي إمكانية الاعتراف المتبادل حقًّا بالذاتية الكاملة.

لا يتطلب مثل هذا التحليل رفضًا بالجملة للعبور التحويلي، بيد أنه ينصح بالتدقيق الحذر في مواقف العبور التحويلي التي ستسعى لمحو الفارق. وثمة مثال لمثل هذه المواقف، في واحدٍ عرضَّه غارون لمنظار النقد، وهو النظرة القائلة إن أنغام البلوز شكل ثقافي عابر للأعراق، سهل المنال على مستوى العالم. ثمة عدم ارتياح وتخوف بشأن ما يمكن أن تدل عليه التعبيرات عن معاناة السود خصوصًا بالنسبة إلى مستمعين بيض، وربما كان هذا هو الدافع إلى إنكار أن أنغام البلوز من خصوصيات السود، بمعية الحجة القائلة إن المعاناة مطروحة عبر الأعراق. ليست المعاناة العمومية اتهامًا. أما معاناة السود فهي اتهام صريح، بمجرد الإشارة إلى تاريخهم. ومن ثم، فإن إدماج البلوز كشكلٍ ثقافي ملائم للحياة الأمريكية المعيشة من دون خصوصية عرقية يفيد في تشتيت معنى تعيين البلوز بأنها سوداء … المعنى بالنسبة إلى البيض. وليس يفضي هذا إلى أن البيض المناهضين للعنصرية ينبغي ألا يطربوا أبدًا لأنغام البلوز، أو أنهم لا يستطيعون تطوير أشكال جديدة من البلوز. بَيد أن سواد البلوز أو على الأقل أصول نشأتها الثقافية، لا يجوز رفضه باعتباره غير ذي صلة.

(٤) تقاليد جديدة في ولاية ميسيسبي

إذا كانت المشكلة الرئيسية مع كتاب كاتز «الصحوة البيضاء» هي افتقاده سياقًا اجتماعيًّا وتاريخيًّا أو تحليلًا طبقيًّا، فإن جريدة «ناكث العرق» تتقدم بتحليلٍ طبقي من دون العناية الكافية بالعمليات الثقافية لتشكيل الهوية. والمثال الأخير للأبيض المضاد للعنصرية الذي سوف أناقشه هنا جاء بصورةٍ واعية أكثر ليحتل موضعه في سياقٍ معين ويهدف إلى تحويل الفهم الذاتي عند البيض.

توعز نتائج دراسة فرانكنبرغ الإثنوجرافية للنساء البيض أن البياض بالنسبة إلى البيض هوية عنصرية غير مرئية (Frankenberg 1993). وبالمثل تجادل كاتز بأن المهمة الأولى لنزعة مناهضة العنصرية بالنسبة إلى البيض هي أن يصلوا إلى فهم أنهم بيض. ولكن في المكان الذي شببت فيه عن الطوق كان البياض هوية عرقية جوهرية، امتيازاتها السياسية معروفة جيدًا وفي الأعم الأغلب تعتبر مبررة. كان الجوهر الثقافي للبياض يتألف من عناصر مثل شرائك مشروب «كولا التاج الملكي» بمبلغٍ زهيد وانطلاق سيارتك بأعلى سرعة. وكانت هناك طريقة بيضاء معروفة للرقص واحتساء الخمر والغناء في الكنيسة. وتخضع الاختلافات العنصرية بين البيض لتحديداتٍ عرقية لها كل الأهمية وتؤمن موقع المرء في مجتمع التفرقة العنصرية؛ ولأن البيض الجنوبيين كان لهم درجة عالية من الوعي الذاتي العنصري، فلعلهم يمثلون موقعًا بناءً لرصد محاولاتهم في التحول المناهض للعنصرية.
منذ ما يقرب من عشر سنوات خلون، قررت جامعة ميسيسبي أن تخوض استباقًا في مناهضة العنصرية، وكذلك في مناهضة التحيز الجنساني، وذلك عن طريق إقامة دورات تدريبية إلزامية للطلاب الجدد جميعًا، وطلبوا من مايكل ﻟ. هارينغتون M. L. Harrington رئيس قسم الفلسفة أن يضع تصميمًا ملائمًا لمقرراتها الدراسية. أسمى هارينغتون هذا المقرر دراسات جامعية ١٠١، قام هو نفسه بتدريسه لعدة سنوات، عاملًا على تطوير كتاب دراسي لا يزال رهن الاستخدام. إن هارينغتون جنوبي أبيض يعرف جيدًا عقلية الميسيسيبيين البيض، وأيضًا حارب العنصرية في الجنوب وفي جامعة الميسيسيبي منذ ستينيات القرن العشرين. أما وقد طلبوا منه تصميم ذلك المقرر الدراسي، فتلك هي على وجه التحديد الفرصة التي كان يتحينها.
إن جامعة الميسيسيبي، أو «أولي ميس» كما يطلق عليها محبوها، لواحدة من أعتى المؤسسات العنصرية في الجنوب. مارست أدوارًا رئيسية في محاربة الإصلاحيين، وفي الحفاظ على التفرقة العنصرية، وفي العام ١٩٦٣م استغرق الأمر أكثر من ثلاثين ألفًا من الجنود الفدراليين لفرض قبول أول طالب من الأمريكيين الأفارقة في «أولي ميس»، وهو جيمس ميرديث. عندما صدر أمرٌ من المحكمة بقبول ميرديث جاء إلى حرم الجامعة صفوف منظمة من البيض المقيمين في أكسفورد؛ البلدة التي أحيت ذكرى بوب ديلان، وهم يحملون السلاح، لاقى العديد من الصحافيين والجنود حتفهم قبل أن تنتهي أعمال الشغب. وحتى بعد هذا، واصلت إدارة الجامعة نشاطها لمعارضة التوحيد بين البيض والسود. استغرق الأمر عشر سنوات أخرى حتى يستطيع أعضاء هيئة التدريس الحديث لصالح التوحيد بينهما من دون أن يفتقدوا وظائفهم. وحتى يوم الناس هذا، لا تزال «أولي ميس» تحتفظ بسمعتها التي تطبق الخافقين في الجنوب بوصفها مدرسة يستطيع فيها البيض المجاهرة علنًا بعنصريتهم، ولا يزال يسطع بذاكرتي مثل هذا حين كنت في مدرستي الثانوية بفلوريدا إبَّان احتفالية بخريجيها ومحادثتي مع واحدةٍ منهم قررت أن تلتحق بإحدى كليات «أولي ميس». وفيها لا تزال أعلام التمرد ترفرف في المناسبات الرياضية وتتدلى من نوافذ عنابر النوم، يلعب فريق الجامعة «ديكسي».١٥ وهو يردد أنشودة حرب.١٦ هكذا باتت الأسباب واضحة؛ ففي ولاية يشكِّل الأمريكيون الأفارقة ما يقرب من نصف سكانها، يمثل مجمل الطلبة السود في «أولي ميس» أقل من عشرة في المائة من الطلاب. في هذه البيئة، من المؤكد أن تدريس مناهضة العنصرية في مقررٍ إلزامي إنما هو انخراطٌ للنضال في باطن الوحش.
كانت استراتيجية هارينغتون أن يضع رسالةً مناهضة للعنصرية وللتحيز الجنساني في مقررٍ دراسي يبدو في ظاهره منتظمًا حول موضوع الحياة الجامعية، وما الذي تكونه الجامعة وما هي متطلبات ازدهار هذا المجتمع المحلي المثقف؟ بهذه الطريقة يمكن تأطير الرسالة في شكل سلسلة من الأوامر بدلًا من أن تكون سلسلة من النواهي. مثلًا، الاحتفاظ بمستوى عالٍ للجامعة مسألة تهم كل طالب، حماية وتطوير جامعة على هذه الشاكلة يستلزم من طلابها احترام التنوع الثقافي والمساواة بين الجنسين. تقاليد الجامعة في التنوع الذهني والحرية الأكاديمية تتطلب قدرًا كافيًا من التسامح إزاء التنوع حتى يمكن تنمية المساجلة النقدية. على هذا النحو كان الكتاب الدراسي «التقاليد والتغيرات: جامعة ميسيسبي من حيث المبدأ ومن حيث الممارسة Traditions and Changes: The University of Mississippi in Principle and in Practice»، يعرض ثلاثة فصول كاملة قبل أن يتطرق لموضوع العنصرية. إذن، خضع الكتاب الدراسي ومقرر الدورة، كلاهما، لتفكيرٍ شامل وتنظيم استراتيجيين كما حدث مع ورش العمل في «الصحوة البيضاء»، حيث يتم تنظيم كل هذا لإنتاج تغيرات مستدامة في تفكير البيض وفي سلوكهم.
لم يخجل هارينغتون من وضع تاريخ دقيق للنزعة العنصرية في «أولي ميس»، على الرغم من اعتراف النص بالمواجع التي تثيرها هذه التقارير. إنه يطرح مجمل تاريخ المؤسسة ويضع له تقويمًا، فيصبح أمام الطلاب الحقائق التاريخية المتعلقة بميراث الجامعة في دعم تفوق البيض. يعرض هارينغتون لمراجعةٍ سردية عن تاريخ الولايات المتحدة وكذلك تاريخ الجنوب، غير أنه في هذا يتخذ مقاربة لها وجهان، فثمة الزعم بأن التقاليد الثقافية والسياسية للولايات المتحدة لها خاصية مزدوجة، من ناحية اللامساواة المؤسساتية، ومن الناحية الأخرى تثمين المساواة التي تنتشر ببطء. ومجمل الحجة في هذا أن ثمة شيئًا إيجابيًّا في الماضي لنستفيد منه. بَيد أن هذه إمكانية لم يكتمل تحققها بعد، سوف يغنم الميسيسبيون البيض بشكلٍ عام من تطوير روح التعاون مع الميسيسبيين السود للمُضي قُدمًا صوب أهداف مشتركة. بَيد أن هذا لا يمكن أن يتأتى إلا عن طريق الاعتراف الكامل بالنزعة العنصرية والتغلب عليها. إن هارينغتون يحدوه الأمل وهو يجاهر بأنه «من كارثة الروح الإنسانية في ولاية ميسيسبي» تنشأ الفرصة لتحليق الفينق»،١٧ (Harrington 1996, 141). إن التنوع البليغ في الولاية يمكن أن يكون مصدر ثراء، ومنه نبتني مجتمعًا أقوى، «يسطع رمزًا لأمةٍ ولعالمٍ يحارب الأرواح الشريرة ذاتها التي نستطيع طردها» (١٩٩٦م، ١٤١).

على أن كتاب «التقاليد والتغيرات» له حدود لافتة؛ فهو لا يقدم تحليلًا طبقيًّا، ولا هو يستكشف أي مسألةٍ من مسائل جبر الضرر أو إعادة توزيع الموارد الاقتصادية. مشروع المصلحة المشتركة يطغى على الفوارق الطبقية الحقيقية التي يرجح أن تستمر لتظل موزعة بشكلٍ غير متكافئ بين البيض والسود، حتى لو كان بيض كثيرون من فقراء الولاية. إنه على أي حال مقرر دراسي لطلبةٍ مستجدين في جامعة ميسيسبي ومهمته تحريك الطلاب عن موقفٍ ينطلقون منه مبدئيًّا، وهي مهمة محدودة نسبيًّا.

من الشائق حقًّا ملاحظة اختلاف الاستراتيجيات المطروحة هنا والمطروحة في «ناكث العرق». هذه الأخيرة تهيب بالبيض عن طريق المحاجة بأن الممارسات العنصرية في حقيقة الأمر لا تخدم إلا الأثرياء، وإنها على هذا تستخدم قراء البيض المغفلين في دعم العنصرية، وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية تزودنا بتحليلٍ طبقي لتاريخ العنصرية، وهو تحليل مطلوب؛ فإنها لا تساعد البيض ليتفكروا في طريقة التغلب على ارتباطهم الخاص بماضٍ عنصري. كل ما تفعله أن تقول لهم: «في الواقع أنتم لا ترتبطون بالماضي العنصري.» بَيد أن الثقافة البيضاء، في الجنوب، كانت داعمة على نطاقٍ واسع لممارسات عنصرية من قبيل التفرقة العنصرية والتمييز والرموز العنصرية مثل أعلام التمرد و«ديكسي». وبخلاف المنافع الاقتصادية، اغتنم البيض منافع أخرى من العنصرية، مثل الحس الجماعي بالتفوق والاستحقاق. أما الحجة الاختزالية التي تصور هذا على أنه مجرد حيل برجوازية فلا معنى لها إزاء واقع معقد.

وفيما يتعلق بهذه المسألة، يثير اهتمامنا أن جريدة «ناكث العرق» وكتاب «التقاليد والتغيرات» يرفض كلاهما التعددية الثقافية. يضع هارينغتون تعريفًا للتعددية الثقافية بأنها ما يسمح بأن تكون «كل الاختلافات الثقافية متساوية في القيمة»، واضعًا إياها في تقابلٍ مع التنوع الثقافي الذي يزكي «التسامح إزاء الاختلافات الثقافية، ويترك السؤال مفتوحًا حول أي الثقافات هي المرغوبة أو المتفوقة» (١٩٩٦، ٣٨). إن المناهض للعنصرية في ولاية ميسيسبي لا يستطيع أن يقيم الحجة على الحقوق المتساوية للتقاليد الثقافية المختلفة من دون تفنيد القدرة على إقامة الحجة ضد التبجيل المستمر لأعلام التمرد.

وعلى هذا أجد كتاب «التقاليد والتغيرات»، على الرغم من محدوديته، يطرح نموذجًا مفيدًا للاعتراف بتورط البيض في جريمة العنصرية والحاجة إلى التبرؤ من جوانب رئيسية في الهوية البيضاء، وذلك في إطار مشروع وشامل للسعي نحو تطوير تحول جماعي إلى هويةٍ بيضاء لاعنصرية. وبالانتفاع من التقاليد الإيجابية في التفكير النقدي المنفتح والديمقراطي، تهدف الدراسات الجامعية ١٠١ وكتابها المدرسي إلى خلق سلسلة من المناقشات مفتوحة النهايات تجعل الطلبة البيض يساهمون في تحول جامعتهم ومجتمعهم المحلي، وفي هذه العملية يتحولون هم أنفسهم.

لقد أردت أن أوعز بأن كفاحًا مستمرًّا يعتمل بين البيض، نادرًا ما يتم تسميته، جاء نتيجة لحركات التحرير وتداعي المعقولية الظاهرية في السرديات التفوقية للبيض. ويحتاج المنظِّرون المناهضون للعنصرية إلى الاعتراف بأن الكفاح لا يجري قط حول ما يتعلق بالخيارات الواعية والمصالح الاقتصادية التي يمكن تعيينها بموضوعية، بل يجري أيضًا فيما يتعلق بالعملية النفسية لتكوين الهوية، التي تعني أن الحجج العقلية ضد العنصرية لن تكفي لصنع حركة تقدمية. ويمكن لحالةٍ من القلق الشديد والهيستريا والإحباط أن تنتج عن فقدان البيض منزلتهم الاجتماعية النفسانية، والعمليات الإيجابية لبناء الهوية التي خرجت عن مسارها. وبطبيعة الحال، يبدو أن الحل المرجح لهذه المشكلة سوف يكون في عملياتٍ جديدة لتنمية المستهدف المقتصر على التبديل لكي يخلق تصنيفات جديدة لتواضع الشأن، من خلالها يعلو تقدير الذات الجماعي، وذلك ما يحدث بالفعل في إحياء النزعة إلى الموطن الأصلي والقدح في الهجرة غير الشرعية ورعاية الدولة لرفض المثلية الجنسية، وهلم جرًّا.

مثل هذه التطورات يمكن أن تثير السؤال: إذا سلَّمنا بأن هوية أي جماعةٍ قائمة على استبعاد الآخر وعلى التفوق الضمني، فلماذا الاحتفاظ بالهوية البيضاء أصلًا؟ ألا ينبغي علينا أن نتجاوز التصنيفات العرقية؟ أشكُّ في أن هذا يمكن أن يحدث في أي وقتٍ قريب. أوزار التاريخ تترسب في هذه الهياكل وتترك فيها نقوشًا غائرة. وبدلًا من السعي نحو محو هذه النقوش الغائرة كخطوةٍ أولى، نحن في حاجةٍ لمرحلةٍ من إعادة النقوش وإعادة الوصف وإعادة الفهم لما نراه حين نرى عرقًا. إن بول غيلروي P. Gilroy في دراسته «الأطلنطي الأسود: الحداثة والوعي المزدوج The Black Atlantic: Modernity and Double Consciousness» يستقصي الخطوط العريضة لتكوين هوية ثقافة سوداء متعددة القوميات لا تبدو مرتكنة على عملية تشيؤ (أو تحقير) تنطوي على رفض الآخر (Gilroy 1993). وفي تشخيصه لهوية الأطلنطي الأسود تترسم بوصفها عاملة من خلال الالتجاء إلى أشكالٍ ثقافية من الماضي المشترك والحاضر المشترك، أكثر من أن تكون عاملة من خلال التشارك في فئةٍ متمايزة من العناصر الجوهرية أو الأساسية في المركزية الأفريقية، تستدعي بدائل متقابلة وإقصائية. أنجز دانيال وجوناثان بوريان عملًا مماثلًا فيما يتعلق بالهُوية اليهودية، مستشهدَين ﺑ «هوية الشتات» التي لا تقوم على إقصاء أو على حدودٍ للهوية (Boyarin and Boyarin 1995). وعلى أي حال، كلٌّ من الثنائي بويارن وغيلروي يفهم مثل تلك الهويات على أنها ترتكن بشدةٍ على تاريخٍ مشترك، والذي هو على وجه الدقة ما يمثل إشكالية بالنسبة للبيض. من الواضح أن محاولة التشديد على اللحظات الإيجابية الأصيلة في الماضي، ورؤية هذه اللحظات بوصفها التمثيل الوحيد للب الحقيقي للبياض إنما هي محاولة غير معقولة في ظاهرها، وكذلك تثير الشك بوصفها عرضة لأن تصبح جانبًا من إعادة كتابة سردية تفوقية أو طليعية من جديد.

والحق أن الهُوية البيضاء ربما يعوزها تطوير صورتها الخاصة من «الوعي المزدوج»؛ هذا إن كان لنا أن نسمي المغزى مزدوج-الجانبين بماضيه ومستقبله الذي يمكن أن نجده في ثنايا الأعمال التي نوقشت في هذا المقال. ليس الوعي الأبيض المزدوج هو التحرك بين ذاتيتَي الأبيض والأسود أو منظورَي الأسود والأمريكي، على نحو ما طور دوبويس الفكرة. وبدلًا من هذا يتطلب الوعي المزدوج، بالنسبة إلى البيض، اعترافًا ماثلًا دومًا بالميراث التاريخي لبناءات الهوية البيضاء في البنيات الملحَّة للامساواة والاستغلال، وكذلك يتطلب استنهاض الذاكرة من جديدٍ لنتذكر الكثيرين من ناكثي البياض فيما يحمله من امتيازٍ للبيض، أولئك الذين ناضلوا للإسهام في بناء مجتمع محلي يتميز بشموليته الإنسانية فيه. يقف حملة لواء مايكل أنغلو بجوار حملة لواء كريستوفر كولومبوس، يتلوهم حملة لواء نعوم تشومسكي وصولًا إلى حملة لواء بات بوكانان. ميراث الثقافات القائمة على أساسٍ أوروبي ميراث معقد. وأن نتناوله من خلال تحليل ذي جانبين، فذلك أفضل من الحجية التي تطمس إما جانبه الإيجابي أو جانبه السلبي. ويجب حينئذٍ أن تكون تمثيلات الأبيض داخل التعددية الثقافية جدلية على هذا النحو، تزيل العتمة التي ترنو على كواهل التاريخ الأبيض المناهض للعنصرية حتى وهي تقدِّم وصفًا تفصيليًّا للنزعة الاستعمارية وآثارها الثقافية. إذن، ذلكم هو التحدي: تحويل أساس احترام-الذات الجمعي من نزعةٍ طليعية عنصرية إلى التزامٍ مخلص بالقضاء على العنصرية.

هوامش

(١) يختلف المؤرخون حول وجود مؤامرة ١٧٤١م، التي قيل أيضًا إنها مكيدة الزنوج أو تمرد العبيد، وهي عبارة عن سلسلةٍ من ثلاثة عشر حريقًا اندلعت إبان مارس وأبريل من ذلك العام في أرجاء نيويورك حيث كانت ثمة مستعمرة إنجليزية. كانت مدبرة بالاتفاق بين البيض الفقراء والعبيد، يذكيها شتاء كان قارسًا والحرب بين إنجلترا وإسبانيا وتصاعد العداء ضد إسبانيا وضد الكاثوليكية. في البداية جرى اتهام العبيد السود والقبض عليهم، حتى كان القبض على خادمةٍ أيرلندية بيضاء في السادسة عشرة من عمرها تدعى ماري برتون بتهمة السرقة من مخدومها، فاعترفت باشتراك قرناء لها من البيض الفقراء في إشعال الحرائق، لقتل البيض المستغلين وانتخاب حاكم جديد. [المترجمة]
(٢) في نقدٍ متوازن للفيلم انظر Brid 1996. ينتصر الفيلم لجماعةٍ من الهنود عن طريق شيطنة جماعة أخرى بالأسلوب التقليدي ذي البعد الواحد، إنه يعيد عرض سردية تحويلية في اتجاه العودة إلى الأصول، حيث يريق الأوروبيون تشوهات التثقيف بثقافتهم من أجل العودة إلى النبل الأصيل، ويكون السكان الأصليون مجرد أدوات لتحقيق هذه الغاية.
(٣) المراجعية revisionism مصطلح يعني الولاء لمعتقدٍ ما أو جماعة ما، ثم إشاعة المراجعة والنقد لمبادئها من قلب صفوفها، وهو المعنى المقصود هنا على وجه الدقة؛ أي مراجعة العنصرية البيضاء والتشكيك في مبادئها بل والإطاحة بها من داخل صفوف البيض أنفسهم لا سواهم، ونحن الآن بإزاء واحدة من جمالات الفلسفة النسوية.
وقد تفيد الإشارة إلى أن الماركسية قد اشتُهرت باستعمال هذا المصطلح، وبات يعني تهمة وإدانة لكل ماركسي تراوده الرغبة في مراجعة مبادئ الماركسية وتعريضها لشيءٍ من النقد. نذكر في هذا الصدد المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي A. Gramsci (1891–1937) الذي تعدُّ فلسفته من أسبق المعالم التجديدية في الفلسفة الماركسية، خصوصًا من حيث إنها توهن من حدة مقولة الصراع الطبقي. في العام ١٩٢٦م اعتقله موسوليني بتهمة المراجعية؛ بمعنى إعلان الولاء للماركسية للتسلل إلى صفوف الطبقة العاملة من أجل إشاعة التشكيك في المبادئ الماركسية والعمل على تقويضها، وبهذه التهمة ظل غرامشي في السجن، حيث كتب مؤلفاته الضخمة، حتى وفاته في ريعان العمر شهيدًا من شهداء الإخلاص للماركسية. [المترجمة]
(٤) انظر علاجًا شافيًا لهذا في Ramos 1995.
(٥) حول مزيدٍ من التفاصيل بشأن هويتي الخاصة، انظر Alcoff 1995.
(٦) حكم القطرة-الواحدة one–drop–rule، مصطلحٌ تاريخي في العامية الأمريكية، يعني أن يوضع في عداد السود كلُّ من يحمل في عروقه ولو قطرةً واحدة من دماء السود، بمعنى أن أيًّا من أسلافه كان من السود، في عام ١٩١٠م أصبح حكم القطرة-الواحدة قانونًا ساريًا، أولًا في ولاية تنيسي، ثم في ولاية فرجينيا العام ١٩٢٤م، ثم في سواهما من الولايات. [المترجمة]
(٧) في نقدٍ لطريقة العنصرية في البقاء نابضة بتلك الأفلام، انظر Wiegman 1995، خصوصًا الفصل الرابع.
(٨) القدر البين أو المصير البادي Mainfest Destiny اعتقادٌ ساد الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، مفاده أن الأمريكيين، لا سيما من أهل العرق الأنجلوسكسوني، لا بد أن يتوسعوا ويمتد نفوذهم ليشمل القارة الشمالية بأسرها، هذا قدَر ومصير؛ لأنه لا رجعة له، ويبدو ظاهرًا للعيان، فهو بين. استخدموه لتبرير الحرب مع المكسيك في العام ١٨٤٠م، تعرض لنقد بعد هذا وراح يذوي بعض الشيء. [المترجمة]
(٩) Abolitionism مصطلحٌ أُطلق على حركةٍ قامت من أجل «محو العبودية» واستئصال شأفتها ونزع كل ما يمكن أن يكون قد تبقى من آثارها. أجل، انتهت العبودية الآن، ولكن لعلَّ التفرقة العنصرية واضطهاد السود؛ أي عنصرية البيض في أمريكا من ذيول العبودية، ومن ثم تهدف الجريدة إلى محو التفرقة العنصرية، استمرارًا للعمل الذي كان من أجل محو العبودية، فهل يمكن إذن وضع مقابل عربي للمصطلح حركة محو العبودية/العنصرية؟ [المترجمة]
(١٠) المقصود بالعبور التحويلي crossoever هو الانتقال من موقعٍ إلى موقع أو العبور إلى موقعٍ آخر يعني تبديلًا للموقف، تقصد الكاتبة العبور من موقف الولاء لقيمة البياض بكل أبعادها العنصرية إلى موقفٍ يعني تحولًا إلى مناهضة العنصرية. [المترجمة]
(١١) موميا أبو جمال Mumia Abu-Jamal ناشط وكاتب أمريكي، كان رئيسًا لرابطة الصحافيين السود في فيلادلفيا، من مواليد عام ١٩٥٤م، اتُّهم بقتل شرطي في العام ١٩٨١م، وصدر الحكم بإعدامه في الجلسة الأولى لمحاكمته بسرعةٍ أثارت الدهشة، وباتت قضيته من قضايا السود التي تشغل الرأي العام. [المترجمة]
(١٢) حول حالةٍ منشورة أخيرًا، انظر D’Osro 1996. إنها تحكي قصة مذبحة، أرَّخ لها أيضًا فيلم سينغلتون «روزوود، ١٩٧٧م»، انظر أيضًا Jordan 1968; Gossett 1965; Hudson 1972; Acuna 1988; and Mills 1997 [لم يحدد مكان هذا الهامش من الكتاب الأصلي].
(١٣) «كلان»، اختصار لاسم جماعة كوكلوكس كلان ذات التاريخ الرهيب في أعمال العنف العنصري ضد السود. [المترجمة]
(١٤) البلوز blues نغمٌ حزين مميز لموسيقى الزنوج في أمريكا الشمالية. [المترجمة]
(١٥) المعنى الحرفي لكلمة «ديكسي Dixie» هو الدلالة على الولايات المتحدة الأمريكية الجنوبية وهي ولايات تكثر فيها نسبة السود، والكلمة أيضًا اسم لأغنيةٍ شهيرة في التراث الأمريكي منذ القرن التاسع عشر، تتعرض للسود في مقابل البيض، واسم للعبةٍ رياضية على هذه الشاكلة. [المترجمة]
(١٦) بينما كان هذا المقال في طريقه إلى المطبعة، كان ثمة طعن في لعب الديكسي في المناسبات الرياضية. ولعله سينتهي سريعًا في جامعة ميسيسيبي.
(١٧) الفينق phoenix طائرٌ أسطوري ينبعث من رماده فتيًّا عفيًّا، يضرب به المثل على الأمل المتجدد، وأيضًا الواقع المتجدد الذي لا يبلى ولا يزول. [المترجمة]

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤