الفصل الثاني

النسوية، وحقوق الإنسان للمرأة، والاختلافات الثقافية

سوزان مولر أوكين

إن الاعتراف بحقوق المرأة بوصفها من حقوق الإنسان يعني النظر إلى مؤسسات الأسرة والدين والثقافة أو التقاليد في أضواء مستجدة.

أوكين

إن الحركة العالمية المحدثة من أجل حقوق الإنسان للمرأة دفعت إلى إعادة التفكير في حقوق الإنسان كما كنا نفهمها سابقًا، وإلى درجةٍ جديرة بالاعتبار. وما دامت انتهاكات عديدة لحقوق المرأة تحدث في المجال الخاص للحياة الأسرية، وتجد تسويغها في الالتجاء إلى معايير ثقافية أو دينية، فإن كلًّا من الأسر والثقافات (متضمنة وجوهها الدينية) سوف يخضع للفحص النقدي الدقيق.

في العقدين الماضيين، تم الاعتراف على الصعيد العالمي بحقوق المرأة بوصفها من حقوق الإنسان، وذلك على مستوى القواعد المحلية وصولًا إلى مستوى المؤتمرات الدولية. وقد استدعى هذا إعادة النظر في حقوق الإنسان إلى درجةٍ لها شأنها، ونحتاج إلى الكشف عن هُوية العديد من حقوق الإنسان المعينة الحيوية بالنسبة إلى جودة حياة النساء، وإلى العمل على أن ننهي بحسمٍ الأخطاءَ المتعلقة بالجنوسة. في هذا المقال، سوف أبين أولًا كيف أننا لا نستطيع الاعتراف بالعديد من مثل هذه الحقائق بوصفها من حقوق الإنسان من دون أن تواجهنا بعض التحديات الكبرى، سواء بالنسبة إلى المفهوم في حد ذاته أو بالنسبة إلى بعض المؤسسات الأساسية في جميع الثقافات الإنسانية، وبالتأكيد الأسر والأديان. وبعد هذا سوف أستكشف بعضًا مما هو مهم ويتصل بهذا، وافتقاد الاتصال بين النسوية الغربية — خصوصًا النسوية الغربية الأكاديمية — والحركة العالمية لحقوق المرأة. وأخيرًا، سوف أقدِّم بعض الأفكار حول النقد النسوي (وهي أفكار أثارتها قراءة أعمال النسويين وحضور ملتقيات الناشطات النسويات المتعلقة بقضايا المرأة في الثقافات الأخرى)، وأيضًا بعض الأفكار حول ما أراه من صنوف الدعم الذي يستطيع النسويون الغربيون تقديمه للحركة العالمية من أجل حقوق المرأة.

في الآونة الأخيرة، كثيرًا ما تَرِد في الأخبار العالمية أنباءٌ عن بعض حقوق المرأة الأساسية جدًّا — حرية التنقل والعمل خارج المنزل، سلامة الجسد والتحرر من العنف — لذلك سوف أشير كثيرًا إلى مثل هذه الأمثلة ولكن باعتدال، وإني إذ أفعل هذا لا أقصد أبدًا التقليل من أهمية حقوق أخرى حيوية، من قبيل الحقوق في الرعاية الصحية وفي مستوى معيشي لائق، وما إلى ذلك.

ومنذ بدايات حركة حقوق الإنسان فيما بعد الحرب العالمية الثانية، جرى اعتبار النساء رسميًّا حاملات لحقوق الإنسان. لقد تمَّ إعلان المساواة في الحقوق بين البشر بغضِّ النظر عن الجنس، منذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام ١٩٤٨م، وفي بضعة إعلاناتٍ لاحقة، بما في ذلك الميثاقان الدوليان للأمم المتحدة، وهما ميثاق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وميثاق الحقوق المدنية والسياسية. غير أن النساء من حيث الممارسة الفعلية عانَيْنَ من التمييز ضِدَّهنَّ في كل بلدان العالم، بأساليب تتلاقى وتتنافر معًا، وإلى مستوياتٍ تختلف اختلافًا شديدًا. وعلاوة على هذا، كثيرًا ما كان يُنظر إلى أسس التمييز ضد النساء، ولا يزال يُنظر إليها في بقاعٍ شتى من العالم (في بعض الجماعات الثقافية أو الدينية حيثما توجد في أي قُطر) على أنها أسس طبيعية ومحتومة ومحمودة أكثر كثيرًا من أي أسسٍ أخرى للتمييز يمنعها إعلان حقوق الإنسان من قبيل العرق أو الدين أو الرأي السياسي. والحق أن التمييز على أساس الجنس كثيرًا ما يجد تبريره في أنه يتوافق مع العديد من الثقافات الفاعلة في العالم الآن، بما في هذا المناحي الدينية لتلك الثقافات.

والآن يبدو من اللافت حقًّا أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للعام ١٩٤٨م ينبغي أن يتبرأ بوضوحٍ وجلاء من التمييز بسبب الجنس، بافتراض أنه لم يكن يوجد بلد واحد في العالم في ذلك الوقت لا تمارس قوانينه التمييز بسبب الجنس وبشكلٍ روتيني، وكثيرًا ما يحدث هذا في مسائل الحقوق الأساسية. كانت فرنسا وإيطاليا قد منحتا من فورهما المرأةَ حق التصويت فقط، ولم تكن سويسرا قد فعلت هذا (في الانتخابات العامة) حتى العام ١٩٧٣م. وفي معظم البلدان لا يزال التمييز على أساس الجنس قائمًا، في التوظيف وقوانين الأسرة وفي العديد من المجالات الأخرى في الحياة، وسوف يظل هذا روتينًا متبعًا لسنواتٍ عديدة قادمة، ولا يزال انتهاك حقوق الإنسان الأساسية للمرأة أمرًا مألوفًا (انظر مثلًا 34-Bunch 1994, 32)، غير أن الفجوة الواسعة بين إعلانات الحقوق والممارسة الفعلية باتت نمطًا شائعًا. ويمكن أن يسفر هذا عن مفارقةٍ مريرة، فكما سوف تبين بضعة أمثلة مقتبسة لاحقًا، حتى الإعلانات التي تستهدف صراحة حقوق المرأة (مثل إعلان العام ١٩٦٧م)، و«ميثاق القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة» في العام ١٩٧٩م، قد وقعتها، بل صدقت عليها حكومات لدولٍ نجد قوانينها أو الممارسات المقبولة فيها أبعد ما يكون عن تنفيذ أحكام هذه المواثيق.
بشكلٍ عام، نجد الوثائق المبكرة لحقوق الإنسان العالمية تطالب بحقوق المرأة على أساسٍ من المساواة مع الرجل وتستخدم لغةً محايدة إزاء الجنسين. ومع ذلك، فكما لاحظتْ أخيرًا معلِّقتان نسويتان، يمكن أن يكون هذا «سلاحًا ذا حدين إذا استخدم للتنكيل بالنساء لإخفاقهنَّ في مطابقة المعايير المتفق عليها المنتظرة من الرجال» (Kaufman and Lindquist 1995, 121-22). استهدف الإعلان الأول تحديدًا حقوق الإنسان للمرأة. أما «ميثاق القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة» فقد ابتعد عن اللغة المحايدة إزاء الجنسين لكي ينصبَّ على قضايا من قبيل إجازة الأمومة، والرعاية الصحية المتعلقة بالحمل، والعمل على تأكيد حق المرأة في التعليم والتوظيف. على أي حالٍ تزايد إبَّان العشرين عامًا الماضية الاعتراف بأن أولئك المطالبين بأن تكون حقوق الإنسان للمرأة على قدم المساواة مع حقوق الرجل، حين تؤخذ مطالبهم مأخذًا جادًّا سوف تستدعي إعادة تفكير أكثر وأكثر في مفهوم حقوق الإنسان.
وبشكلٍ خاص، خلال الإعداد لعقد مؤتمر الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان، الذي أُقيم في فيينا في العام ١٩٩٣م، تأتَّى الدافع لإطلاق عريضة كبرى عبر أرجاء العالم بأسره، «وانطلقت مثل الصاروخ» (Friedman 1995, 28). دعت العريضة إلى أن المؤتمر ينبغي أن «يهدف إلى معالجةٍ شاملة لحقوق الإنسان للمرأة في كل مستويات فاعلية هذه الحقوق»، وإلى الاعتراف بالعنف القائم على أساس الجنوسة «بوصفه انتهاكًا لحقوق الإنسان يستدعي إجراءات فورية» (Friedman 1995, 28)، وكنتيجةٍ لهذا ولتخطيطٍ استراتيجي وحَّد النساء من مناطقٍ شتى، أصبحت جماعات حقوق الإنسان للمرأة إلى حدٍّ بعيد هي الأكثر تنظيمًا بين المنظمات الأهلية المشاركة، وكان لها تأثيرها الكبير على إعلان فيينا وعلى برنامج العمل، وجرت متابعة هذا وتحسينه في المؤتمر الدولي الرابع للمرأة في بكين، في سبتمبر من العام ١٩٩٥م.
لماذا كان من الضروري إعادة النظر في حقوق الإنسان — كما كانت مطروحة — من أجل استهداف حقوق مهمة كثيرة للمرأة؟١ أساسًا لأن المفهوم المبكر ﻟ «حقوق الرجل» في القرن السابع عشر والمفهوم الأصلي ﻟ «حقوق الإنسان» العالمية في أواسط القرن العشرين، كليهما على السواء، قد صيغا بفعل أذهان تضع الذكر بوصفه ربًّا للأسرة، وجرى تصور كليهما بوصفه حقوقًا لمثل أولئك الأفراد في مواجهاتهم بعضهم لبعض، وخصوصًا في مواجهاتهم للحكومات التي يعيشون في كنفها. وبشكلٍ عام كان من المسلم به أن ثمة مجالًا للخصوصية، تحميه الحقوق من أي تدخلٍ خارجي، ولكنه من الداخل ليس بالضرورة محكومًا وفقًا لحقوق أعضائه. ويصعب التشكك في أن جون لوك ومعاصريه وأن الذين صاغوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كليهما على السواء، حين كانوا يفكرون في حاملي الحقوق «الطبيعية» و«الإنسانية» على التوالي التي جادلوا من أجلها ونادوا بها، قد وضعوا في أذهانهم أولًا وقبل كل شيءٍ الذكور كأربابٍ للأسر (Bunch 1995, Okin 1989a, esp. 42–45 Pateman 1994). وكمثالٍ للمسائل الخاصة التي لن يسمح لأحدٍ بالتدخل فيها، يعطينا لوك قرار الأب بمن سوف يتزوج ابنته (Locke 1950, 28-29)، ولا يذكر شيئًا حول أي حقوقٍ قد تطالب بها الابنة في هذه المسألة. وسوف نذكر لاحقًا بعض الأمثلة المماثلة لهذا الطمس لحقوق المرأة في القرن العشرين.
يتزايد حجم أدبيات حقوق الإنسان النسوية التي تجادل بأن التفكير في حقوق الإنسان ينحاز إلى الذكر، وأن أولويات هذا التفكير يجب أن تنتقل إلى حقوق المرأة لكي يتم الاعتراف الكامل بها بوصفها من حقوق الإنسان. ليس صلب المسألة في أنه قد تم الاعتراف بمطالب الرجال في الحق «أ» والحق «ب» والحق «ج»، بينما لم يتم الاعتراف بمطالب النساء في هذه الحقوق عينها، لكن لن نقول إن هذا لم يحدث قط. المشكلة أنه تم تشييد النظريات القائمة لحقوق الإنسان وتأليفها وتحديد أولوياتها على غرار النموذج الذكوري. وحين نأخذ في الاعتبار بالمثل خبرات النساء الحياتية، فإن هذه النظريات والتأليفات والأولويات تتغير تغيرًا كبيرًا. والأمثلة على القضايا التي تأتي في المقدمة، بدلًا من تجاهلها في الواقع، تشمل الاغتصاب (بما في ذلك الاغتصاب من قِبل الزوج، والاغتصاب أثناء الحرب) والعنف المنزلي والحرية الإنجابية وتقدير قيمة رعاية الأطفال والمهام المنزلية الأخرى بوصفها عملًا، والفرص غير المتساوية للنساء والفتيات في التعليم والتوظيف والإسكان والائتمان والرعاية الصحية. لقد كان الهدف — الذي تحقَّق إلى حدٍّ كبير من خلال مؤتمر فيينا لحقوق الإنسان، وتحقق أكثر وأكثر من خلال المؤتمر الدولي الرابع للمرأة في بكين — هو أن ندرج في صلب خطاب حقوق الإنسان قضايا يغلب أن تكون مسائل حياة أو موت بالنسبة إلى النساء (وبالنسبة إلى الأطفال)، لكنها كانت مسائل يُنظر إليها سابقًا «على أنها جانب من حركة حقوق المرأة؛ وبالتالي فهي جانب من أجندة ذات اهتمامات خاصة، وبوصفها هامشية بالنسبة إلى المسئولية الأخطر للقانون الدولي عن حقوق الإنسان» (Peters and Wolper 1995, 2).
إن بعض انتهاكات حقوق الإنسان المعترف بها عمومًا تتَّخذ أشكالًا مرتبطة تحديدًا بالجنوسة، هذه الأشكال لم يكن معترفًا بأنها نماذج لانتهاك حقوق الإنسان. في العادة يرتكب هذه الانتهاكات أقوى أعضاء الأسرة في حق الأضعف. مثلًا، من المعترف به بشكلٍ عام أن الرقَّ انتهاكٌ أساسي لحقوق الإنسان. لكن حين يزوِّج الأبُ الابنةَ مقابل المال، أو حتى حين يبيعها لقَوادٍ لا يعتبر هذا الأنموذج حالة من حالات الرق. إذا دفع الزوج لزوجته مهرًا،٢ أو تزوجها من دون موافقتها وهي بالغة راشدة، أو إذا أبقاها داخل جدران المنزل، ومنعها من الالتحاق بعملٍ مدفوع الأجر، أو استولى على أجرها، وإذا ضربها لأنها لا تطيعه أو لأن حظها عاثر، فلن يُعترف بأن هذه المظاهر للعبودية تعدُّ انتهاكًا لحقوق الإنسان في مناطق عديدة من العالم. والواقع أن معظم هذه الأفعال تعدُّ في بعض المناطق مقبولة تمامًا داخل حدود السلوك العادي للآباء أو الأزواج والملائم ثقافيًّا.٣ وأيضًا حتى وقتٍ حديث، قليلًا ما كان ثمة اعتراف بأن النساء تخصيصًا أكثر عُرضة للوقوع في براثن الفقر، ويحتجن إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية، من قبيل الرعاية الصحية، بسبب قدراتهنَّ البيولوجية الإنجابية، وبالمثل بسبب اضطلاعهن فعليًّا في كل المجتمعات بمسئوليةٍ أكبر عن الأطفال.
حتى معظم نشطاء حقوق الإنسان، وإلى وقتٍ قريب جدًّا، لم يكونوا يرحِّبون بالاعتراف بالعديد من الانتهاكات التي تقرُّها الثقافات وبحالات إهمال المرأة بوصفها انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان. وعلى الرغم من هذا، فإنه في وقتٍ حديث، وخصوصًا خلال العقد الأخير من السنين، تعرض هذا الفهم لتحدٍّ قوي. مثلًا استغرق الأمر الانتظار حتى العام ١٩٩٥م في بكين ليعترف المجتمع الدولي بحق المرأة في رفض الجماع. وحتى آنذاك، كانت ثمة معارضة من بعض الجهات، من ضمنها الفاتيكان، حيث كان ممثلوها «يعارضون صياغة» هذه المادة (New York Times, 1995).
إن أولئك الذين يسعَون إلى تأسيس حقوق المرأة بوصفها من حقوق الإنسان يشيرون أيضًا إلى أن التفكير الأسبق في حقوق الإنسان يركِّز على الحكومات من حيث إنها هي التي تنتهك حقوق الإنسان، ويتَّضح هذا جليًّا في صياغة معظم الاتفاقيات الدولية. مثلًا «ثمة ملمح أساسي للتعريف القانوني الدولي للتعذيب، وهو أنه يحدث في المجال العام: فلا بدَّ أن من يقترفه أو يحرض عليه أو يأذن به أو يوافق عليه موظفٌ رسمي أو شخص يتصرَّف بصفته الرسمية» (Charlesworth 1994, 72, n. 103). ولكن بينما تستطيع الحكومات غالبًا أن يكون لها تأثيرها في العديد من انتهاكات حقوق الإنسان للمرأة، أو تعمل على تقليلها أو تحاول استبعادها، فإن الانتهاكات ذاتها تحدث على الأرجح من قِبل الرجال كأفرادٍ (وأحيانًا من قِبل النساء، أيضًا). إن الانتهاكات القائمة على أساس الجنوسة «غير مرئية»، وجانب من أسباب هذا يعود إلى إهمال الحديث عن حقوق الإنسان في المجال الخاص أو المنزلي. إنه في هذا المجال تعيش الجحافل الجرارة من نساء العالم الجانب الأكبر من حياتهنَّ (وفي بعض الحالات، يعشن فيه فعليًّا حياتهن بأسرها)، وتحدث فيه أعدادٌ هائلة من حالات انتهاك حقوق الإنسان للمرأة (Peters and Wolper 1995, 2).
في بلدانٍ عديدة — على الأقل خلال أوقات السلم — تكون أخطر بيئة بالنسبة إلى المرأة هي المنزل الذي تعيش فيه. ثنائية العام/الخاص، التي تؤدي إلى فرضيةٍ مفادها أن حامل الحقوق هو رب الأسرة، وأن أحد حقوقه المهمة حقه في خصوصية حياته الشخصية والأسرية، ثم تضع عراقيل خطيرة في طريق حماية حقوق النساء والأطفال.٤ المشكلة تتركَّب من الإهمال والإنكار، كليهما معًا، لاختلافات القوة والسلطان داخل العائلة. ومن الفرضية القائلة: «إن أمور الأسر تسير برفقٍ لا نتوقعه أبدًا في السوق أو في المجال السياسي» (Okin 1989b, Pateman 1989, 117–33). من الواضح أن تعزيز حقوق الإنسان للمرأة يتضمَّن إجراء تغييرات في نطاقات من الحياة عادة ما نعتبرها خاصة، و«استدعاء مسئولية الحكومة في هذه النطاقات، يتطلَّب تعديلًا كبيرًا في توجُّهات قانون حقوق الإنسان» (Friedman 1995, 20). وتلاحظ شارلوت بنش أن العمل في ميدان حقوق الإنسان يسوده الاهتمام بانتهاك الحقوق المدنية والسياسية للرجال في المجال العام، وتقول إنهم «لا يخشَون الانتهاكات في المجال الخاص للمنزل، فتلك أراضٍ هم سادتها» (Bunch 1995, 13). وعلى العكس من ذلك، «يقع الجانب الأكبر من العنف ضد المرأة في المجال «الخاص» الأهلي غير الحكومي» (Charlesworth 1994, 72). ومن المهم أيضًا أن نلاحظ كيفية حدوث الأشياء في المجال الخاص للشئون المنزلية، بما فيها القرارات وكيف تُتخذ وكيف تتوزَّع المسئوليات والأعمال؛ فهذا له ثقله الكبير على تحديد من سوف يساهم مساهمةً مكتملة وفعَّالة في المجال العام للسياسة والمجتمع المدني والأسواق (Bunch 1995, 13).
يتفاقم وضع انتهاكات الحقوق الخاصة بفعل أمر واقع يحدث؛ ألا وهو تزايد الكناية عن تقييد أو إنكار حقوق الإنسان للمرأة بتعبير «احترام الاختلافات الثقافية». وكما أوضحت إحدى الناشطات الدارسات للنسوية، غالبًا ما نستدعي ملاءمة أو حتى حرمة «الممارسات الثقافية» حين نكون بصدد مسائل الجنس والزواج والإنجاب والميراث والولاية على الأطفال (وهي المسائل التي تؤدي الدور الأكبر في حياة معظم النساء، وأكثر كثيرًا من دَورها في حياة الرجال). وغالبًا ما يحدث هذا في سياقات، حيث نجد تقاليد أو قواعد تلك الثقافة المعنية ذاتها أو الدين لا تمارس فعلها في نطاقاتٍ أخرى من مجالات الحياة مثل التجارة أو الجريمة (انظر على سبيل المثال، Shaheed 1994, Mayer 1994). في الهند مثلًا، وذلك جزئيًّا بسبب تاريخ التعصب الديني العنيف، نجد هذا التمييز قائمًا في صلب الإطار الرسمي للدولة، تفرض العشائر الدينية المختلفة «قوانينها للأحوال الشخصية» الخاصة بها، ولا توجد شريعة مدنية موحَّدة لقانون الأسرة.٥ ويمكن أن يكون لهذا عواقبه الوبيلة على المرأة، التي تلقى أشكالًا مختلفة من المعاملة (وإن تكن في العادة غير عادلة) في مسائل الطلاق والحضانة والميراث، اعتمادًا على العشيرة الدينية التي تنتمي إليها.
ومن المهم، في هذا السياق، أن نلاحظ الارتباط الوثيق بين نشأة ونماء القوى السياسية للأصولية الدينية في بقاعٍ شتى من العالم وبين رفض فرض الثقافة «الغربية» أو أفكار الإنسان «الأبيض». وكثيرًا ما تُفهم حرية المرأة وتمتعها بالمساواة على أن هذه رموز صريحة للقيمة الغربية، بينما الحركات الدينية أو المحافظة أو القومية تضع لنفسها تعريفًا بما يناقض ويمثل ردَّ فعل ضد تلك القيم الغربية (انظر، على سبيل المثال، Afkhami 1995، خصوصًا المقدمة والفصل الرابع، وMoghadam 1994 خصوصًا الفصلين الأول والتاسع عشر، Narayan 1998).
تستمر التبريرات الثقافية أو الدينية لظلم المرأة ويتصاعد تأثيرها، وهذا واحد من أبرز الأسباب التي تجعل من المهم جدًّا بالنسبة إلى حقوق المرأة أن نعترف بها كحقوقٍ للإنسان. كثيرون يفشلون في إدراك هذه المشاكل أو في تقدير مدى ضخامتها، وكثيرون ما زالوا يعتبرون عدم المساواة بين الجنسين محجوبة أو غير مهمة أو طبيعية أو ملائمة ثقافيًّا. ويصدق هذا على بعض الذين هم في موقع السلطة، سواء داخل أو خارج الثقافات التي تحدث فيها أوضح وأفظع الانتهاكات لحقوق المرأة الأساسية. مثلًا في أفغانستان، إبَّان خريف العام ١٩٩٦م، حين أغلق نظام طالبان مدارس البنات، وأنكر على جميع النساء الحق في الذهاب إلى العمل أو في مغادرة منازلهنَّ من دون أن يتسربلن بالكامل (وهي قواعد تمَّ فرضها بسُبلٍ، منها أن يهوي قُطَّاع طرق من مراهقي طالبان بالضرب على أولئك اللواتي يخرقنها). وقال مديرٌ طبي لمستشفى في كابول (وهو قول اعتبره جون ف. برنز مراسل نيويورك تايمز قولًا «مطابقًا»): إن القيود التي فُرضت على المرأة كانت «ثمنًا يسيرًا مدفوعًا مقابل السلام» الذي يصونه انتصار طالبان. وقد تساءل برنز نفسه عمَّا إذا كان توصيف منظمة العفو الدولية للوضع القائم أنه «حكم إرهاب» قد ينطوي على «مبالغة» (New York Times 1996a).
وأيضًا في خريف العام ١٩٩٦م، عندما سُئل المسئولون الحكوميون في ساحل العاج عن ممارسة الختان، كانت تقريراتهم تصديقًا على «شرور قطع الأعضاء التناسلية»، أو تشويه الأعضاء التناسلية للأنثى، وأضافوا أنهم على الرغم من اعتمادهم خطةً لتبصير الناس بعواقب هذه الممارسة، فإنهم لا يملكون ميزانية ولا هيئة عمالة مؤهلة. وقال المتحدث الرسمي باسم السفارة الأمريكية في أبيدجان: «إن تحديد مدى التسامح إزاء مثل هذه الممارسات مسألة تخصُّ المجتمع المحلي». وهذه عجرفة ولا مبالاة بالأضرار التي تلحق بالفتيات والنساء جرَّاء هذه الممارسات، لا يفوقه فيها إلا المتحدث الرسمي باسم السفارة الفرنسية الذي قال: «إنها مشكلةٌ هامشية»، ثم أردف هذا الشخص، ربما بعد التفكير مجددًا في الأمر، قائلًا: «إنها ذات أهمية، ولكن لعل إطعام البشر أهم» (New York Times 1996b).
إن ردود أفعال من هذا القبيل تُلقي شيئًا من الضوء على سبب الأهمية الكبيرة لأن نناضل في الحرب من أجل حقوق المرأة مثلما نناضل في الحرب من أجل حقوق الإنسان. وفي هذا تتفاقم الصعوبة المحيقة أن يظل المعيار المزدوج القديم مقنعًا للناس، وهو معيار لا يزال نابضًا وساريًا. من الصعب أن نتخيَّل ردود أفعال مماثلة لتلك التي ذكرناها من فورنا، إزاء موقف يضع كلَّ الرجال الذين يعيشون تحت نظام حكم معيَّن قيد الإقامة الجبرية في المنازل. بل من الصعب أن نتخيَّل ردود أفعال رخوة من هذا القبيل إزاء تقليد جنسي بشأن الرجال، لكي يكونوا قادرين على الزواج، ومن ثم قادرين على إقامة الأود من الناحية الاقتصادية، فيفرض على الرجل أن يسمح بقذف بعض السائل المنوي ليتم حفظه فيظل قادرًا على الإنجاب، ثم يطوقه أربعة أو خمسة من الناس لكي يتم قطع قضيبه بسكين. بَيد أن هذا سيكون أقرب مكافئ ذكوري لختان الأنثى، والذي تنطوي ممارساته الشائعة في أقل صورها افتئاتًا على إزالة البظر، فتزول معه إمكانية الإشباع الجنسي للأنثى.٦ هذه بعض إشكالات الأوضاع الموازية التي تبدو معقولة حين نريد لفت النظر إلى الأضرار المحيقة بالمرأة بوصفها انتهاكات لحقوق الإنسان.
مرة أخرى، العنف المنزلي ضدَّ المرأة في كثيرٍ من المجتمعات (ظلَّت من ضمنها حتى وقتٍ قريب جدًّا مجتمعات غربية صناعية) لا يعدُّ مسألة تخصُّ الشرطة والسلطات الأخرى ذات الصلة ليتم إبلاغها أو لتكافحه، وينظر إليه على أنه مجرد جانب من جوانب الحياة المنزلية، وهو جانب طبيعي — وإن يكن مؤسفًا — في العلاقات بين الجنسين (انظر، على سبيل المثال، Ofei Aboagye, 1994). ولنأخذ في الاعتبار، أيضًا، كيف أنه حتَّى التسعينيات من القرن العشرين لم يكن الاغتصابُ في الحروب يُعامَل معاملة الاتهام بارتكاب جريمة حرب، وكان بالنسبة إلى الكثيرين حتى وقتٍ حديث جدًّا مجرد «شيء يفعله الجنود» تحت وطأة ظروف زمن الحرب (Friedman 1995, 26).

وأيضًا من اللافت جدًّا أن كثيرًا من البلدان التي تحدث فيها ممارسة أفظع أشكال التمييز ضد المرأة قد وقَّعت وصدقت على ميثاق القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة، وإن كان في كثيرٍ من الحالات مع بعض التحفظات. في دولة مالي — على سبيل المثال — أكثر من ٨٠ في المائة من النساء خضعن لعميلة الختان في طفولتهنَّ أو في مراهقتهنَّ. وقد وقَّعت مالي وصدَّقت على كلٍّ من ميثاق حقوق الطفل وميثاق القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة. كثيرٌ من البلدان التي وقَّعت مثل هذه المواثيق الدولية والإعلانات العالمية لديها بالفعل قوانين تقف في وجه أعراف أو ممارسات ثقافية يمكن أن تكون ضارة جدًّا بالنساء، من قبيل تزويج الأطفال، أو دفع المهور. ولكن هذه القوانين تقريبًا لا يتم فرضها أبدًا، ويظل المجال مفتوحًا لكي تسود الأعراف، وتأتي الممارسات الفعلية لتبطل حقوق المرأة في الحريات الأساسية وفي السلامة الجسدية.

لعلَّ أحد أشكال رد الفعل على هذا هو القول بأنه: ما دام الأمر هكذا فما الذي سوف يتغير إذا اعترفنا بأن الإساءة للنساء انتهاكات لحقوق الإنسان؟ وإجابتي هي أنه الآن خصوصًا «ليست هناك أي إعفاءاتٍ ثقافية». وقد تم اعتماد هذا البند بعد كفاحٍ ضارٍ في بكين (انظر صفحة المصادر لاحقًا)، وأصبح في استطاعة المجتمع الدولي أن يطرح هذه المسائل على مائدة البحث طرحًا صريحًا لا لبس فيه. معظم الحكومات لا ترغب في أن تكون منبوذة على النطاق الدولي، فتتركز حولها أنظار العالم فقط بسبب ممارساتها السيئة أو فشلها في الحيلولة دون الممارسات الضارة بالنساء والأطفال. ويتَّضح من بعض التقارير الإخبارية المحدثة أن الجماعات الإثنية والدينية، أيضًا، يمكنها أن ترعى مثل هذا الموقف المثير للنفور حين تتغاضى عن أضرارٍ بالغة تحل بالنساء. ولا يدهشنا أن المسلمين في أقطارٍ عديدة — بل حكومات أقطار تتبع قوانين إسلامية متشددة أيضًا — ينأون بأنفسهم عن أنماط سلوك معينة، أصولية وفظَّة، حاول نظام طالبان في أفغانستان تسويغها بأنها متفقة مع «المبادئ الإسلامية» (New York Times 1996d).٧
وثمَّة سبب آخر يبرر أهمية أن نعتبر حقوق المرأة حقوقًا للإنسان، يتمثَّل في أن هذا يؤثر في حق المرأة في اللجوء. وليس من قبيل المصادفة أنه في المناخ العالمي لحقوق الإنسان من أجل المرأة الناشئ عبر سلسلةٍ من مؤتمرات الأمم المتحدة، بلغت ذروتها في مؤتمرات فيينا والقاهرة وبكين، نجد أن كلًّا من كندا والولايات المتحدة قد منحت الوضع القانوني للاجئ للنساء الهاربات من صنوف الاضطهاد مثل التزويج قسرًا أو الختان، وهذا بدَوره له عواقب أبعد. فإذا كان انتهاك حق من الحقوق مرة واحدة يمكن أن يُكسب كل هذا الجمع الغفير من الناس وضع اللاجئ؛ فقد بات من المرجَّح النظر إلى الولايات المتحدة وبلدان أخرى بوصفها أمكنة يُهرَع إليها أصحاب حق اللجوء، وهذا يدفعها إلى استخدام كل نفوذٍ تستطيعه لإيقاف أو تقليل الانتهاكات حيثما تحدث.٨
وكما رأينا، فإن حقوقًا ذات أهمية كبيرة للمرأة ظلَّت طويلًا خارج جدول الأعمال في مجال حقوق الإنسان. والسبب في هذا، كما تقول واحدة من كبار الناشطين من أجل جلب تلك الحقوق إلى جدول الأعمال، وهي شارلوت بنش: «إنها حقوق ظلت خافية إلى حدٍّ كبير و/أو منكورة بوصفها من خصوصيات الأسرة أو الثقافة أو الدين، وأحرى من أن تكون مسائل سياسية» (Bunch 1994, 33). يحدث الكثير من انتهاكات حقوق الإنسان الأساسية للمرأة داخل الأسرة، وكذلك يتم تسويغها بالإشارة إلى الثقافة أو الدين أو التقاليد؛ ومن ثم فإن الاعتراف بحقوق المرأة بوصفها من حقوق الإنسان يعني النظر إلى مؤسسات الأسرة والدين والثقافة أو التقاليد في أضواءٍ مستجدة. ولنُلقِ الآن نظرةً على مثالين؛ الأسرة والأديان، ونقارن التغيرات التي حدثت بالفعل وجعلت الأمر يختلف عن أسلوب مقاربتها في وثائق الأمم المتحدة الأسبق حول حقوق الإنسان، نقارن هذا بأسلوب مقاربتها في برنامج العمل الذي أُعلن أخيرًا في بكين.
خُصِّصت المادة ١٦ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للزواج والأسرة، وهي تضع تحديدًا مفاده أن «الأسرة هي الوحدة الجمعية الطبيعية والأساسية للمجتمع»، وأن «الزواج ينعقد فقط برضاءٍ حرٍّ وكامل من الطرفين المقبلين على الزواج»، وأن «الرجال والنساء البالغين سن الرشد، ومن دون أي قيودٍ راجعة إلى العرق أو الجنسية أو الدِّين، لهم الحق في الزواج وفي تكوين أسرة … [و] تخوَّل لهم حقوق متساوية فيما يتعلَّق بالزواج، إبَّان الزواج وحين انفصامه» (United Nations, 1948). هذه التحديدات تجعل الزواج بين الجنسين والأسرة المكونة من الوالدين أمرًا طبيعيًّا، بينما نجدها — مثل الكثير من البنود في هذا الإعلان — ترفع لواء المساواة بين الجنسين أكثر كثيرًا مما كان متاحًا بالفعل في القوانين والممارسات في كل بلدان العالم آنذاك (وفي بلدانٍ عديدة الآن). إن الممارسات التي تنتهك هذه المادة تشمل الزيجات المتَّفق عليها والتزويج بالإكراه، وزيجات الأطفال، وعدم المساواة في الحصول على الطلاق أو في شروطه. وفي بعض الولايات الأمريكية، جنبًا إلى جنب مع بلدانٍ أخرى، ظل الحظر القانوني قائمًا على الزواج بين الأعراق المختلفة، حتى أعلنت المحكمة العليا في العام ١٩٦٧م أن هذا الحظر غير دستوري (Loving v. Virginia 388 U.S., 1. 1967).
ومع هذا يتضمَّن الإعلان أيضًا مادةً تذكِّرنا بأنه يركِّز على الرجل، وليس أي عضوٍ آخر، بوصفه ربًّا للأسرة. نقرأ في المادة ١٢: «لا يتعرض أحدٌ للتدخُّل التعسفي في حياته الخاصة أو في أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، أو للهجوم على شرفه أو سمعته». وكما يخبرنا استعمال ضمير «المفرد المذكر» في الصياغة الجارية لحقوق المرأة بوصفها حقوقًا للإنسان، فإن ذِكر «التدخل في حياته الخاصة» و«الهجوم على شرفه وسمعته» كليهما على السواء ينذر بعواقب وبيلة وما هو جدير بالاعتراض عليه، ربما أكثر مما تبدى في حينه. هذا بسبب وعينا المتزايد بالعنف في «الحياة الخاصة» في منازل الأسر، وبالمثل بما تسوِّغه بعض الثقافات إزاء أفراد الأسرة الإناث من حبسهنَّ أو ضربهنَّ أو حتى قتلهنَّ إذا ما تم اعتبار سلوكهن الجنسي مشينًا لشرف الأسرة (في بعض السياقات، حتى لو كان سياق اغتصاب تعرضن له). تظلُّ المعالجة الأسبق للأسر في برنامج بكين للعمل أقل تجريدًا إلى حدٍّ كبير، وقطعًا لم تتشكل من منظور رب الأسرة الذكر، وهي معالجة أكثر وعيًا بما يحدث داخل الأسر ومن الذي يقوم به، وتبدأ البنود المخصصة للأسر بأن: «المرأة تمارس دورًا حاسمًا داخل الأسرة … [التي هي] الوحدة الأساسية للمجتمع، ومن حيث هي كذلك يجب تدعيمها» (Covenant 1995, 15). وتزيد على هذا بالاعتراف بأن الأنساق المختلفة الثقافية والسياسية والاجتماعية يراد بها أشكال مختلفة من الأسر. وتلفت الانتباه بشكلٍ خاص إلى أن إسهام النساء يفوق إسهام الرجال في العناية بالأسرة، وإلى المغزى الاجتماعي لهذا التفاوت، وإلى أنه من المستصوب أن تكون المسئولية في تربية الأطفال مشاركة بين النساء والرجال والمجتمع ككل، وتؤكد أن أدوار النساء في الأسرة «يجب ألا تكون أساسًا للتمييز ولا للحد من المشاركة الكاملة للمرأة في المجتمع» (Covenant 1995, 15).
تلفت بنودٌ أخرى الانتباهَ إلى تزايد نسبة النساء المعيلات لأسرهنَّ (النسبة على مستوى العالم في العام ١٩٩٥م نحو ٢٥ في المائة)، وإلى أسباب هذه الظاهرة، وإلى الاحتمال المرجَّح بأن تكون مثل هذه الأسر في فقرٍ مدقع (Covenant 1995, 13). وتشير بنود إضافية إلى أن ما يمارَس في بقاعٍ عديدة من العالم من سلبٍ لحرية الإناث أو تمييز أو عنف ضدهنَّ، إنما يبدأ منذ ما قبل الميلاد ويستمر طوال دورة الحياة. تتضمَّن هذه البنود أن الأسر تمارس دَورًا فعَّالًا في انتهاك حقوق الإنسان للنساء والفتيات، وهذه صورة لحياة الأسرة مختلفة تمامًا وأكثر حسمًا وأوفى اكتمالًا من الصورة المتهاودة المطروحة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وفي مسألة الدين أيضًا بدأ التغيير يلحق بالتصورات المطروحة في إعلانات الأمم المتحدة، بفعل الاعتراف بحقوق المرأة بوصفها من حقوق الإنسان، وإن كانت التغيرات في هذا الموضع لم تُحرز تقدمًا كبيرًا. تجاهر المادة ٨١ في إعلان الأمم المتحدة أن «لكلِّ شخصٍ الحق في حرية الدين أو الاعتقاد، والحرية في أن يعلن، على المستوى العام أو المستوى الخاص، عن دينه أو معتقده في التعليم وفي الممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها». على أي حال، فإن ما أُضيف إلى هذا في ميثاق الأمم المتحدة الدولي بشأن الحقوق المدنية والسياسية، هو «حرية الآباء، والأوصياء القانونيين، حال وجودهم، في أن يكفلوا لأطفالهم التعليم الديني والخلقي الموافق لاقتناعاتهم الخاصة» (United Nations, 1966a, Article 18). وهكذا يبدو أن الأطفال تحديدًا ليسوا ممَّن يتضمَّنهم تعبير «كل فرد» له الحق في اختيار معتقداته وتغييرها، والأحرى أن تطابق معتقدات الطفل تلك التي يعتنقها الوالدان.
أما برنامج بكين للعمل، فيفعل مع الدين ما فعله مع الأسرة؛ أي يقاربه بشكلٍ أقل تجريدًا، وأيضًا أقل من أن يكون مقاربة إيجابية تمامًا. في بيانه للحقوق المتعلقة بالدين والضمير، يبدأ بتأكيد أن «الدين والروحانية والعقائد تؤدي دورًا محوريًّا في حياة الملايين من النساء والرجال، في أسلوب حياتهم وفي تطلعاتهم بشأن المستقبل». ويمضي البرنامج معلنًا العمومية ذاتها والصلابة في «الحق في حرية التفكير والضمير والدين» الذي يتضمَّن حقوق العبادة وإقامة شعائر الدين الذي يعتنقه المرء، تمامًا كما فعلت الوثائق المبكرة لحقوق الإنسان. لكن من المثير أن نلاحظ كيف ينتهي البند المتعلق بالدين بالتحذير من أنه: «مهما يكن الأمر، نتَّفق جميعًا على أن أي شكلٍ من أشكال التطرف قد يكون له تأثير سلبي في المرأة ويمكن أن يؤدي إلى العنف والتمييز»٩ (Covenant 1995, 13-14). ولا توجد أي إشارة لما يمثله «التطرف». لكن مرة أخرى، كما هي الحال مع الأسر، لا يُنظر إلى الأديان بوصفها دائمًا وأبدًا جانبًا مهاودًا، على الأقل من زاوية بحث المرأة عن حقوقٍ متساوية.
على هذا النحو بدأت التصورات العالمية لكلٍّ من الأسرة والدين يلحق بها التغير جرَّاء الاعتراف بالمرأة كمستحقةٍ لسائر حقوق الإنسان. باتت «الأسرة» بوصفها مفهومًا محلًّا لجدلٍ كبير، فيما تغيَّر الوضع الفعلي للأسر حول العالم تغيرًا متسارعًا. ثمة تحدٍّ هائل للصورة المؤمثلة للأسرة بوصفها بيئة يتقاسم فيها الجميع الرعاية والاهتمام، ونتوقع أن يسودها الإيثار (أو الوالدية الرءومة) ليقهر الأثرة. من المسلم به أن الأسر تتَّخذ الكثير من القرارات التي تؤدي إلى عدم التوازن بين الجنسين في تعداد السكان ببعض أنحاء العالم، وقرارات أخرى تؤدي إلى نتائج معاكسة لجودة حياة الفتيات والنساء (Sen 1990b). والواقع في أنحاءٍ عدَّة من العالم أن تعريف الذات بلغة الأسرة قد يكون قويًّا ماضيًا بحيث لا يعود للأشخاص أي تصورٍ للرفاهة الشخصية الخاصة بهم. هذا ما يطرحه أمارتيا سن، فيقول: «في بعض السياقات يمكن أن تمارس هُوية الأسرة التأثير البالغ على تصوراتنا بحيث لا يعود من السهل علينا أن نصوغ أي فكرةٍ واضحة عن الرفاهية الفردية الخاصة بنا.» والمثال الذي يطرحه هو «المرأة القروية النمطية في الهند» (Sen 1990a, 126-7). وأيضًا بحثَ متخصِّصون آخرون في العلوم الاجتماعية ما هو مفترض سابقًا من «وحدة المصالح» للأسر، ليفتحوا بهذا «الصناديق السوداء» التي تصور كثيرًا من حقيقة ما يحدث داخل الأسر. يحاجُّون بأن الاهتمام المستجدَّ بالأسر في عملية التنمية الاقتصادية العالمية قد يكون خطوة للوراء بالنسبة إلى النساء والأطفال ما لم نستبقِ في الذهن دائمًا ما يحدث داخل الأسرة، بما في ذلك ديناميات الجنوسة والسلطة بين أفراد الأسرة (انظر، على سبيل المثال Jaquette 1993)، تبين الدراسات أن فرص النساء في كسب النقود يمكن أن تؤثر تأثيرًا بالغًا في رفاهية الأطفال، وأن هذه الفرص تجنح نحو إثبات أن وضع المرأة في الأسرة قابلٌ للمناقشة والتعديل.

وأيضًا يغدو واضحًا بفعل الدليل المتوافر من أماكن شتى في العالم وأديانٍ عديدة، أن الأصولية بمختلف أشكالها — وكثيرٌ من هذه الأشكال يتَّضح تصاعد قواها — تقسو على المرأة وتفرض قواعد لا يمكن أن تتصالح مع الحقوق الإنسانية للمرأة. ويبدو أنه قد ولَّى العصر الذي نعتبر فيه أن الخطاب الديني يعلو على أي مساءلةٍ من حيث هو دائمًا الخير ولا ينبغي إلا صونه وتعليمه للناس. ومن الأفضل أن يتم التعليم في سنٍّ مبكرة قدر المستطاع.

والآن يعتريني شيء من الخشية وأنا أصل إلى موضوع النسوية الأكاديمية الغربية ومقاربتها المترددة أو المضادة لمسألة انتهاك حقوق المرأة في السياقات الثقافية الأخرى. أريد أن أناقش العلاقة بين اتساع معارف النسوية الغربية والحركة الناشطة للمرأة في العالم الثالث. خلال ثمانينيات القرن العشرين والسنوات الأولى من تسعينياته كان ثمة تباين لافت بين طرفين، من ناحية أنشطة منظِّري النسوية الغربية وخطابهم وما يشغل بالهم (ومن بينهم بعض النسويات أصولهن من العالم الثالث ويعملن في سياقاتٍ نسوية غربية). ومن الناحية الأخرى أنشطة ومشاغل نشطاء النسوية في العالم الثالث (ومن بينهم بعض الدارسين النشطاء من العالم الأول، أمثال شارلوت بنش، ونشطاء آخرون مثل فران هوسكن التي كانت على اتصالٍ أوثق بنشطاء العالم الثالث).

وكما هو موثق جيدًا الآن، كانت الاختلافات بين النساء من بين الانشغالات الأولية للعديد من منظِّري النسوية الغربية خلال تلك الفترة. الكثير من بواكير كتب ومقالات الموجة النسوية الثانية شحذت نداءاتها حول «النساء» أو «المرأة»، حول «الأمومة» أو «الأسرة»، حول «الحياة الجنسية» (وما إليه) من حيث إنها نداءات تدور حول مسائل جوهرية ماهوية، وهي بهذا تصطنع تعميمات زائفة، وتتجاهل اختلافات مهمة بين النساء، واختلافات بين الأسر وأشكال الحياة الجنسية وما إليه — إنها اختلافات ترتبط بالعرق أو الطبقة أو الإثنية أو الدين أو الميول الجنسية، والخصائص الأخرى. وفي تلك العوامل قدر من الحقيقة ذات الأهمية، وكثيرٌ من النقد الموجه كان له أثر صحي مفيد. والذي لا شك فيه أن قطاعًا من الموجة النسوية الثانية المبكرة انشغل بعناصر العرق والانحياز الطبقي والتحيز الجنسي بين النوعين. لقد أصبح الجانب الأكبر من الدراسات النسوية الأخيرة أكثر شمولية وأقل انحيازًا للتعميمات المفرطة الزائفة؛ وذلك لأسبابٍ تعود إلى حدٍّ كبير إلى النقد الموجه من داخل النسوية.

على أي حال، كان النقد في تلك الآونة مغاليًا ويمكن أن يتمخَّض عن عبثٍ. في أكثر من موضعٍ ناقش كثيرٌ من النسويين كلا الجانبين لهذا النقد — الحقيقة والعبث (انظر مثلًا Martin 1994, Benhabib 1995, Okin 1994, Walby 1992). وقد أثرت دراسات ما بعد الحداثة إبَّان الثمانينيات وأوائل التسعينيات تأثيرًا كبيرًا في الأوساط الأكاديمية الأنجلو-أمريكية. وفي الوقت نفسه، كانت تتعرض لنقدٍ من جانب الأمريكيات الأفارقة والسحاقيات وسواهما من تيارات النسوية الباكرة، وهو نقد يغلب أن يكون صائبًا من حيث إنه ينتقد تجاهل تلك الدراسات بعد-الحداثية لاحتياجاتهنَّ ومصالحهنَّ ومنظوراتهنَّ. وفي ذلك الحين كان نقد النسوية المناهضة للنزعة الماهوية والتي غالبًا ما تربط بين الطرفين يفضي إلى أقصى تشديد على أنه لا يمكن ولا ينبغي البتة وضع أي تعميمات بشأن النساء أو الجنوسة أو الأمومة أو أيٍّ من رءوس المواضيع التي يعتقد بعض النسويين أنه لا يزال من الأهمية بمكانٍ أن نظل قادرين على مناقشتها (انظر، على سبيل المثال Spleman 1980, Kristeva 1981, esp. 137, 140).١٠ فضلًا عن هذا، يثار في بعض الأحيان الدعوى أن أي نسويةٍ بيضاء من الطبقة الوسطى إذا تقدَّمت باقتراحٍ يوعز بأن النساء والفتيات من ثقافاتٍ غير ثقافتها الغربية الخاصة بها إنما يتعرَّضن للحرمان والقهر بفعل عناصر كامنة في الثقافات الخاصة بهن، ومهما كانت جودة الدليل الذي تقدِّمه أو قوَّة الحجَّة المصوغة، فسوف يكشف اقتراحها عن الإمبريالية الثقافية المعادية (انظر؛ مثلًا Flax 1995, Moruzzi 1994).١١ العديد من النسويات (سواء أكان من العالم الأول أم من العالم الثالث، لكن الحديث ينصبُّ على الآتيات من العالم الأول بشكلٍ خاص) حين يقرأن هذا النقد أو يمرُّ بخبرتهنَّ، قد يشعرن بشيءٍ ما أكثر من مجرد تثبيط الهِمم عن أيِّ كتابةٍ في هذا الموضوع، وخصوصًا عن نساء العالم الثالث، إذا لم يصبَّ الموضوع بجملته في سياق هذا العالم ويتموضع حول بؤرته.
إن مقال تشاندرا تالبيد موهانتي «لقاءات نسوية: تحديد موقع سياسات الخبرة: Feminist Encounters: Locating the Politics of Experience»، يعطينا مثالًا لكلا النمطين من النقد خصوصًا عندما نقد مختارات روبن مورغان «أخوات في هذا العالم». فبعد أن تُسلم موهانتي تسليمًا بأن الكتابة في هذا المجلد من نوعيةٍ «مؤثرة حقًّا» وتنكر أي نوايا «لإلقاء اللوم أو إلصاق تهمة»، تنتقد روبن لأن نظرتها ليست تاريخية، ولأنها تمحو آثار الإمبريالية المعاصرة، ولأنها تنكر القوة الفاعلة للنساء، ولأنها تحجب عن الأبصار «امتياز الموضع السياسي [الخاص بها]»، ولأنها، فوق كل هذا، تضع تعميمات بشأن خبرة النساء عبر الثقافات. عابت على مورغان فرضيتها المسبقة التي تلمح إلى أن النساء يتشاركن فيما أسمته «الأختية الكونية»، «ظرف مشترك» … يشار إليه في مواضع شتى من مقالها الافتتاحي من حيث هو المعاناة التي تبتليهنَّ بها تلك «الذهنية البطريركية» العامة، ومعارضة النساء لسلطة الذكر والمركزية الذكورية، وخبرة الاغتصاب والضرب والعمل الشاق والولادة (citing Morgan 1984, 1, Mohanty 1992, 78-79). من الواضح أن موهانتي منزعجة من مثل تلك التعميمات، حتى لو كانت المؤلفة «التي لها امتيازات البيضاء الغربية المنتمية إلى الطبقة الوسطى» قد أمضت أكثر من عشر سنوات في التواصل مع نسوةٍ من أنحاء العالم ووجهت لهنَّ الدعوة للإسهام في مختاراتها.
تنتقد موهانتي على وجه الخصوص فقرةً في مقدمة مورغان تشير فيها مورغان إلى سلسلةٍ من الخبرات تربط بين النسوة اللائي تضمَّنت مختاراتها كتابات لهنَّ، ثم تساءلت: «ألسنا بعد كل شيء، نعرف بعضنا البعض؟» (Mohanty 1992, 83 نقلًا عن Morgan 1984, 35-36). إن الاقتراح القائل إن النساء يمكن أن يعرفن خبرات ومشكلات بعضهن البعض عبر الثقافات والطبقات والأعراق الإثنية يبدو أمام موهانتي أمرًا غير قابل للتصديق وموضعًا للشجب، وخصوصًا «في سياق تحويل جموع النساء في العالم الثالث إلى بروليتاريا بفعل رأسمال الشركات القائمة في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان». وعن فكرة مورغان عن الأختية الكونية، تقول موهانتي: إن فكرتها المصطبغة بسيكولوجيا الطبقة الوسطى، فاعلة في محو الاختلافات المادية والأيديولوجية للسلطة داخل جماعات النساء وبين الجماعات وبعضها البعض (Mohanty 1992, 83). والأفضل من اقتفاء مثل هذه «الرؤية اليوتوبية الاختزالية»، فيما تقترح موهانتي، هو أن «نزيح النقاب عن البدائل، والتواريخ غير المتماثلة التي تتحدى وتعرقل الموضعة المكانية والزمانية لتاريخ الهيمنة»١٢ (Mohanty 1992, 84). وليس توقيت نقد موهانتي بأقل دلالةً من حدَّته: فقد نشر أولًا في العام ١٩٨٧م، ونشر في طبعةٍ رُوجعت صدرت في العام ١٩٩٢م اقتبسنا منها هنا. في تلك السنوات، كانت حركة «حقوق المرأة بوصفها من حقوق الإنسان» تجميعًا لأشتات. وفي العام ١٩٩٢م انتظمت النساء عبر العالم وأعددن المطالبة الهادرة بحقوق المرأة التي كان لها مثل هذا التأثير الكبير في مؤتمر فيينا في العام ١٩٩٣م.
كان مناخ الجانب الأكبر من النسوية الغربية الأكاديمية مناخًا مضادًّا للتحول إلى دعوةٍ عالمية. ومن الصعب أن يفضي إلى تأطير حقوق المرأة بوصفها من حقوق الإنسان العالمية. إنه على أي حالٍ عقد ونصف عقد من السنين، وخلال هذه الفترة عينها حاولت النسويات في الأوساط الأكاديمية أن يجدن، أو زعمن أنهنَّ وجدن اختلافات محضة بين النساء، سوف تكون موضوعًا للبحث عن ماهيتها، بحثًا ماهويًّا …١٣ كانت النسويات في العالم الثالث والنشيطات في القاعدة الشعبية، وبالمثل بعض النسويات الغربيات اللائي كنَّ على استعدادٍ للاضطلاع بهذه المهمة العسيرة، يعملن جميعًا معًا من أجل إحراز اعتراف مجتمع حقوق الإنسان العالمي بحقوق المرأة بوصفها من حقوق الإنسان. إنهن نساء ذوات خبرة مختلفة تمامًا ووصلن إلى استنتاجاتٍ مختلفة تمامًا، عن خبرات واستنتاجات أصحاب ما بعد الحداثة والاتجاهات الماهوية الأخرى في النسوية الأكاديمية. إنهن جماعات من أفريقيا ومناطق في آسيا مطلَّة على المحيط الهادي وأمريكا اللاتينية، وبالمثل جماعات من المناطق المتقدمة اقتصاديًّا في العالم، حين يصل إلى أسماعهنَّ وهنَّ في بلدانهنَّ ما تقوله الأخريات ويمارسن اللقاءات والعمل المتشارك في جماعاتٍ إقليمية ودون إقليمية، ثم ربط المعارف في ملتقياتٍ دولية، كنَّ يكتشفن أن ثمة الكثير مشترك بين النساء. لقد اكتشفن أن التمييز بين النساء، وأنماط العنف القائم على أساس الجنوسة، بما في ذلك التعرض للضرب في المنزل والاستغلال الجنسي والاقتصادي للنساء والفتيات، كل هذا في واقع الأمر يمثل ظاهرةً عالمية (Friedman 1995, Bunch 1994). في ذلك الحين، عندما كانت النسويات يحجمن عن الإدلاء بتصريحاتٍ عن النساء والجنوسة، ويعتبرن «البطريركية» تعميمًا مفرطًا عفَّى عليه الزمن، نجد نحو مائتين وأربعين مشاركة من مائة وعشر منظمات غير حكومية في الإقليم الآسيوي المطل على المحيط الهادي تصل إلى الاستنتاج التالي:
إن البطريركية التي تمارس فِعلها في الجنوسة والطوائف الاجتماعية والطبقة والإثنية جزء لا يتجزأ من المشاكل التي تواجه المرأة، والبطريركية شكلٌ من أشكال العبودية ولا بدَّ من استئصال شأفتها، ويجب معالجة حقوق المرأة في المجالين الخاص والعام كليهما في المجتمع، وخصوصًا في مجال الأسرة (Bunch 1994).
وقد أصدرت لجنة القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة تصريحاتٍ عامةً من قبيل: «لا يزال التمييز ضد المرأة مستمرًّا في سائر أنحاء العالم، فيما يتعلق باحترامها واستمتاعها بحقوقها الفردية العامة والخاصة وممارستها، وما زالت خاضعة لأشكالٍ عديدة من العنف» (نقلًا عن Bunch 1994, 35). وكانت اللجنة التنظيمية النسائية لمجموعة التنسيق العام بين المنظمات الأهلية غير الحكومية، في إعدادها لمؤتمر فيينا العام ١٩٩٣م، قد قصدت التمييز المنظَّم ضدَّ الجنوسة، وقالت: «إن العنف ضد النساء وثيق الارتباط بعدم المساواة الهيكلية للمرأة، وثمة حاجة ماسة إلى الإبلاغ عن التمييز بين الجنسين في جميع البلدان» (نقلًا عن Bunch 1994, 36).
وفي الوقت نفسه، جاهرت تلك الجماعات باحتجاجاتها على مشاكل اقتصادية خطيرة لكثيراتٍ من نساء العالم الثالث، وأرجعت كثيرًا منها لسياسات التكييف الهيكلي التي يفرضها البنك الدولي وسواه من القوى المالية الدولية، على حساب البرامج الاجتماعية التي تؤثر مباشرة على جودة حياة النساء.١٤ إنها لا تزعم أن مشاكل النساء كلها متطابقة من دولةٍ إلى أخرى، ومن ثقافةٍ إلى أخرى، ومن طبقةٍ إلى أخرى، عبر العالم بأسره. ومع هذا، فما كان يحدث هو أنه عبر قنوات المنظمات الأهلية وجماعات مماثلة أخرى تعمل على مستوياتٍ عديدة، أصبحت الكثير من الأصوات النسائية التي كانت ساكتة (أو مسكتة) أخيرًا مسموعة — وهي أصوات كانت فيما سبق لا تجد أيَّ تمثيلٍ لها في حكوماتها التي تهيمن عليها سيطرة الذكور، أصواتٌ وجدت في أحوالٍ كثيرة الحرية في أن تتكلم جهارًا نهارًا، بصحبة أصوات أخرى معنية بحقوق المرأة، تواجه جميعها ما خبرته من انتهاكاتٍ للنساء والفتيات. ولا شكَّ في أن كثيرات منهنَّ أحسسن بالأمان من تداعياتٍ كان من المحتمل أن يعانين منها إذا ما جاهرن بهذا في منازلهن داخل أوطانهن.

وإذ تكلَّمن جهارًا نهارًا، فقد أقررن بحقائق مهمة تؤثر في حيوات النساء على مدار الكرة الأرضية. اعترفن بأن النساء يتأثرن كثيرًا بالقوانين والأعراف ذات الصلة بالحياة الجنسية والزواج والطلاق ورعاية الأطفال، وبحياة الأسرة بشكلٍ عام — القوانين والأعراف التي تساهم غالبًا في انخفاض سلطة النساء داخل أسرهنَّ. اعترفن بأن النساء والفتيات أكثر كثيرًا من الرجال والفتيان في التعرُّض للأذى الجنسي — وأكثر كثيرًا في التعرض للاعتداء الجنسي والاستغلال الجنسي، وأن خصوبتهنَّ تؤثر عليهن وتدمر صحتهنَّ أكثر كثيرًا من الرجال، ما لم يتلقَّين الوسائل والقدرة للتحكم فيها. وثالثًا، جاهرن بالنزوع السائد نحو أن تكون قيمة وعمل المرأة أقل بقدرٍ كبير من قيمة وعمل الرجل، بغضِّ النظر عن مدى الإنتاجية الفعلية للعمل أو مدى جوهريته. لقد حققت المرأة معجزاتٍ بالمجاهرة بهذه الأشياء والتفكير في كيفية التصدي لها، معجزات تمثَّلت في التصريحات الدولية بحقوق المرأة التي أُحرزت في فيينا، وجرت متابعتها بطرقٍ مهمة في القاهرة ثم في بكين.

كان أحد أهم مستحدثات برنامج العمل الذي انبثق عن مؤتمر بكين وأكثرها دلالة، ذلك الرفض القوي غير المسبوق للتبريرات «الثقافية» لانتهاك حقوق الإنسان للمرأة، ونقرأ نص البيان كالتالي:
في حين أنه يجب أن نحتفظ في الأذهان بالخصوصيات القومية والإقليمية والخلفيات التاريخية والثقافية والدينية المتعددة، فإنه من واجب الدول، بغضِّ النظر عن أنظمتها السياسية والاقتصادية والثقافية، أن تزكي وتصون كل حقوق الإنسان وحرياته الأساسية (10-Covenant 1995, 9).
وأكثر من هذا، تضع الوثيقة تحديدًا وتخصيصًا، فتقول: «إن أي وجهٍ ضار، لعُرفٍ تقليدي أو لممارسةٍ حديثة، ينتهك حقوق المرأة يجب منعه والقضاء عليه» (Covenant 1995, 112). ويبدو واضحًا أن الآلاف من نشيطات النسوية في العالم الثالث كن يقلن: «نريد أن نتخلص من هذه المسوغات الثقافية لقهر المرأة التي ابتُلينا بها عهودًا طويلة.» إن العودة إلى الوراء بزعم احترام الاختلاف الثقافي يمكن أن تُلحق ضررًا بالغًا بالنساء والفتيات، وإذا لم يكن هذا واضحًا في وقتٍ أسبق، فهو بالقطع واضح الآن.
وسوف أُنهي حديثي ببضع كلماتٍ مبدئية عن بعض الأدوار التي يمكن أن تؤديها النسويات (من الغربيات ومن أهل العالم الثالث معًا) بوصفهنَّ ناقدات اجتماعيات في ساحة حقوق الإنسان للمرأة، وسوف أركز بشكلٍ خاص على سؤالٍ يدور حول كيف يمكن أن يكون المرء منغمسًا في أعماق ثقافة ما وسياقها الاجتماعي ليحصد أي عمقٍ حقيقي للمعرفة بها، وفي الوقت نفسه يحتفظ بمسافةٍ نقدية منها. يبدو أن بعضًا من أفضل الناقدات النسويات من فئة «نقاد من الداخل-ومن الخارج»، وهم الأشخاص الآتون من داخل ثقافة ما وفي مرحلةٍ من حياتهم مروا بخبرةٍ من خارج تلك الثقافة جعلتهم أصحاب موقف نقدي على الأقل إزاء بعض ممارساتها. إن عمل مثل أولئك الناقدات النسويات تدفعه وترشده معرفة تفصيلية وفهم وفكر متوازٍ. تنضم إليهنَّ فريدة شهيد، وقد أسَّست جمعيةً لمناصرة النساء اللاتي تحيا في ظل القوانين الإسلامية وكتبت عنها، وروزماري أوفاي-أبواجي Rosemary Ofei-Aboagye وهي تكتب من كندا التي اتَّخذتها وطنًا عن الانتهاكات المنزلية التي تحدث في موطنها الأصلي غانا، وفرانسيس كيسلنغ Francis Kissling وهي راهبة سابقة ومديرة في جماعة «كاثوليك من أجل الاختيار الحر»،١٥ وعلى الرغم من أنها لا تزال تصف نفسها بأنها كاثوليكية لا شكَّ أنها اشتطَّت كثيرًا في بعض معتقداتها، ولا تلقى مودة من التراتب الهرمي للذكور في كنيستها، وناهد طوبيا الجراحة السودانية التي تعيش الآن في الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبحت من قادة العمل العالمي لمكافحة ختان الإناث، وفاطمة مرنيسي، من المغرب، والتي تعمل مع نسوياتٍ أخريات من الأقطار الإسلامية في إعادة تفسير القرآن الكريم، وماهيناز أفخمي، المنفية من وطنها إيران إلى الولايات المتحدة وتعمل الآن في معهد «أختية عالمية» المؤسس في العاصمة واشنطن الذي أصدر أخيرًا حوليةً تهدف إلى ترجمة لغة حقوق الإنسان للمرأة لتكون معروفة ومتاحة في مختلف البلدان ذات الأغلبية المسلمة، من الأردن إلى بنغلاديش وماليزيا.
ولا شكَّ أن مطالعات وفعاليات أولئك النسوة، بمغزًى ما، كانت بشكلٍ خاص من حيث هنَّ «ناقدات من الداخل ومن الخارج معًا»، وعلى الرغم من ذلك فكونهنَّ ناقدات مقيمات في تلك الأماكن ليس ضروريًّا ولا كافيًا لجعلهنَّ ناقدات مطلعات ومؤثرات. بعض الناس حين يغادرون الثقافة التي ولدوا فيها يتوقع منهم أن يصبحوا ناقدين لها، بينما آخرون كانوا بالمثل في تلك الثقافة نفسها ثم غادروها ويبقون متحمسين غيورين عليها وليس نقادًا لها، بينما نجد آخرين يظلون في ثقافتهم الأصلية ليعملوا على تطوير نقد جذري وعميق لجوانب وممارسات تحيط بهم، وإلا فكيف استطاعت تسليمة نسرين، والتي (فيما أعتقد) لم تغادر أبدًا موطنها الأصلي بنغلاديش، أن تصبح ناقدة مفوهة لقوانين وعوائد في بنغلاديش تقمع المرأة حتى صدرت فتوى ضدها؟ (وبالتأكيد من غير المعتاد أن تصبح المرأة النسوية من نوعية «النقاد من الداخل» حين تحيا، مثل نسرين، في مجتمعٍ قليل التسامح إزاء الانشقاق على ممارساته الثقافية المتعلقة بالمرأة).١٦
وفضلًا عن ذلك، صميم مفهوم «من الداخل» و«من الخارج» مفهومٌ استشكالي؛ مثلًا، هل المرأة من الطبقة العليا في الهند التي تلقَّت تعليمًا إنجليزيًّا وتعيش في المدينة هي من داخل أم من خارج الثقافة التي تجعل مضارَّ وقيود الفقر الريفي في الهند أشد وطأة على النساء منه على الرجال؟ وماذا عن امرأةٍ مهاجرة إلى أحد الأقطار الأوروبية وتعيش منعزلة من دون أي اتصالٍ فعلي بالثقافة أو الثقافات المختلفة في بلدها الجديد؟ وأيضًا يجب أن نأخذ في الاعتبار، كما جادلت أوما نارايان أخيرًا، بأن محاولات نسويات العالم الثالث أن يكنَّ مؤثرات وفعَّالات داخل ثقافاتهنَّ الأصلية، إنما يضعفها كثيرًا النظر إليهنَّ بوصفهنَّ من الخارج ولو جزئيًّا، وخصوصًا حين يجري وصمهنَّ بأنهنَّ مغتربات (Narayan 1997, 1998).
لا بدَّ أن يكون ثمة سبل أخرى لأن تصبح النسوية ناقدة جيدة، وأن يكون لوجودها أبعاد أخرى، بخلاف أن تتَّخذ وضعًا في «داخل» أو «خارج» الثقافة المعطاة. فبعض الأشخاص الذين يظلون في الثقافة الخاصة بهم ويمنحون سلطةً غير عادية بشكلٍ أو بآخر قد تمكِّنهم هذه السلطة من أن يكونوا نُقادًا فاعلين، واكتساب سلسلة غير عادية من التجارب المؤلمة الناتجة عن أحد جوانب ثقافة المرء يمكن أيضًا أن تجعل منه ناقدًا لها. فوزية كاسنغا منحت حق اللجوء إلى الولايات المتحدة في ١٩٩٦م لأنها كانت معرضة في وطنها الأصلي توغو لخطرٍ وشيك بإجراء عملية الختان والزواج القسري. وقد خرجت من أسرةٍ أصبح أعضاؤها نُقادًا اجتماعيين رافضين الارتباط بالختان والزواج القسري، تمتعوا بحالٍ ميسورة أكثر نسبيًّا، وكلا الوالدين كان له شقيقات عانَيْن أو لقين حتفهنَّ من هذا الإجراء. لم يتوقَّع الأبوان ولا توقَّعت هي — التي ظلت مسجونة في الولايات المتحدة حتى استطاع محاميها أن يجد قاضيًا يصدق قصتها — الكثير، لكن قضيتها تنامت وخرجت عن حدود وقفة نقدية اتخذتها عائلتها تجاه إساءة إلى المرأة تشيع ممارستها في الثقافة الخاصة بهم، وربما أسدت هذه القضية أكثر من أي حادثةٍ أخرى في وضع هذا الانتهاك لحقوق الإنسان على وجه التعيين في صدارة اهتمامات العالم الأنجلو-أمريكي١٧ (New York Times, 1996e).
هناك نقَّاد آخرون لسوء معاملة النساء في بلادهم وفي بلدانٍ أخرى، لا يبدو أن تأثيرهم راجعٌ إلى أن كشفهم عن السياق العميق لثقافتهم الأصلية (على الرغم من أنهم ربما فعلوا هذا) تبعه انفصالٌ عنها ونظرة من بُعد. فها هو ذا أمارتيا سن، جاءت قوته بوصفه ناقدًا للإساءة إلى النساء في كثيرٍ من بلدان العالم الثالث إلى حدٍّ ما بسبب انشغاله بمعاناة مثل أولئك النساء، ولكن أيضًا ثمة مهاراته الخاصة في التحليل وفي الإحصاء التي عمل على تطويرها بوصفه عالمَ اقتصاد وفيلسوفًا.١٨

وأيضًا من المؤكَّد احتمال أن نقد أوجه من الأذى تمارَس داخل ثقافة ما يصبح نقدًا جيدًا لأنه يبحث عن الجذور الأنثروبولوجية — يذهب من الخارج إلى الداخل — وإذا كان المرء يسمع ويتعلَّم بشكلٍ دقيق وشامل، سوف يصبح عليمًا بأحوال الثقافة المعطاة من دون أن يناله سخطها أو يفقد القدرة على أن يكون ناقدًا لبعض جوانبها.

وهكذا يبدو أنه لا يوجد معيار واحد، ولا أي مجموعةٍ واضحة من المعايير، لما يشكل النقد النسوي الجيد ويساعد على وضع واستبقاء انتهاكات حقوق المرأة في الأجندة العالمية. وعلى أي حال، يمكن أن يؤدي الاستماع للأصوات التي كانت فيما سبق ساكتة دورًا بالغ الأهمية، ولا يبدو من السهل التشكيك في أن نقد «الداخل والخارج» يمكن أن يمارس دورًا مهمًّا هنا (فيما يلي Parpart and Marchand 1995, Ackerly). ويبدو أنه بفضل الجمعيات الأهلية أكثر من أي شيءٍ آخر، بفضل قواعدها الشعبية ومنتدياتها الدولية، وفي لقاءاتها ومناقشاتها في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، أصبحت أصوات العديد من النساء التي كانت فيما سبق ساكتة أصواتًا مسموعة وظلت مسموعة، وفعلت الكثير في تغيير الطريقة التي يفكر بها العالم في حقوق الإنسان للمرأة.

في هذا الفاصل التاريخي، حيث أصبح الكثير «معلنًا»، لكن يظل الأكثر ينتظر التنفيذ، ما الذي يمكن أن يفعله النسويون الغربيون ليقدِّموا مزيدًا من العون لحقوق المرأة على مستوى العالم؟ قد يقول البعض: هناك الكثير من أوجه الإساءة إلى المرأة في مجتمعنا الغربي ذاته التي لا بدَّ أن تصادفنا ونحن نعمل في هذا الأمر، ونعني بما يشغلنا فيما يتعلق ببقية العالم. وأعتقد أن هذه إجابة معقولة بالنسبة إلى البعض. ومع هذا يتَّضح أن حركات حقوق الإنسان للمرأة، مشتملة على بعض الحركات الأساسية في بلدانٍ عديدة، تلقى عونًا وفيرًا من الدعم العالمي الذي يتزايد مغنمها منه. ومن النقد المتواصل لانتهاكات حقوق الإنسان للمرأة حين يكون نقدًا حذرًا واعيًا، ومن جانب نسويين من داخل السياق الثقافي وبالمثل من خارجه.

ويغلب على النساء اللائي يناضلن ضدَّ انتهاكات حقوق المرأة التي تجيزها الثقافات والأديان أن يطالبن بثلاثة أشياء، تعلو على أي شيءٍ آخر. أولها ضرورة أن نُنصت إليهنَّ باهتمام، والمطلب الثاني أن تتاح لهنَّ الفرص للانخراط في الجهود المتروية التي يمكن أن تؤدي إلى الاعتراف بالحاجات التي لم تُلَبَّ بعدُ وبالحقوق التي لم يُعترف بها، وإلى تطوير استراتيجيات التغيير (المبحث القادم ﻟ Ackerly). وثمة مطلب آخر هو الدعم المادي؛ لأن معظم منظمات المرأة التي تشكَّلت للمقاومة من الداخل مصادر تمويلها هزيلة. أما المطلب الثالث فهو نوعية الدعم الفكري والسياسي من النسويين الغربيين، ومن المجتمع العالمي، الذي لا يمثل تعديًا على الثقافات الأخرى، بل يُعنى بالاعتراف بجوانبها العديدة القيمة أو المحايدة، بينما يوجه النقد لتلك الجوانب التي تلحق الضرر بالنساء والفتيات.

هوامش

(١) استفاد هذا المقال كثيرًا من تعليقاتٍ مثمرة تقدمت بها أوما ناريان وهيئة التحرير ومن المساعدة في البحث من قبل إليزابيث بيومونت.
ثمة تداخل كبير بين مادة الفقرات الثلاث التالية ومادة أجزاء من عملي «الثقافة والدين وتشكيل الهُوية الأنثوية: استجابة لتحديات حقوق الإنسان» (Culture, Religion, and Female Identity Formaion: Responding to a Human Rights Challenge)، وهو مخطوطة غير منشورة (من دون تاريخ).
(٢) في الهامش الوارد فورًا — الرقم ٢ — تذكر المؤلفة الوجه الآخر لمسألة المهر الذي تكرر ذكره أكثر من مرة. وهي لا تضع أي تحديدٍ يفيد بأنها تقصد بالمشكلة الثقافة الهندية التي تتعقد فيها إشكالية المهور كثيرًا، بل تناقش الكاتبة المهر على إطلاقه، وهو من معالم الثقافة الإسلامية. وفي هذا نقول لها إن موقفها من المهر والتسليم المبدئي بأنه جريمةٌ في حق المرأة، تمثيلٌ عيني للاختلافات الثقافية وعجزها عن أن تفهم حقًّا منظورًا ثقافيًّا مختلفًا؛ فهي لا تعلم أن قيمة المهر لا تتدخل إطلاقًا في تحديد طبيعة العلاقة بين الزوجين، وأن المهر رمز لجِدية الارتباط، وفعليًّا لتأسيس منزل وحياة جديدة، (الوضع الأكثر شيوعًا في مصر أن يسهم كل طرفٍ بما يستطيعه ويدخل المهر في إطار استطاعة العريس). على أي حال، يُحسب للثقافة الإسلامية الآن قوة ورسوخ مؤسسة الزواج بما لا يقارن بوضعها المهترئ في الغرب. ألم تجعل المؤلفة الاختلاف في صلب عنوانها؟ ومع كل الاختلافات والتعدديات يجذبنا في هذا الكتاب مصادرته على أن الغرب ليس على صوابٍ دائمًا؛ وبالتالي نقول إن الشرق ليس هو المنقوص دائمًا. [المترجمة]
(٣) مثلًا في مارس من العام ١٩٩٧م، قضت محكمةٌ في باكستان، في قضية تخرق المألوف، بصحة عقد زواج امرأة في الحادية والعشرين من عمرها، على الرغم من أن العقد لم يبرمه الأب. ويبدو أن ما كان يحدث سابقًا في باكستان المسلمة، يشبه كثيرًا ما كان يحدث في إنجلترا أيام لوك؛ فلم تكن المرأة البالغة الراشدة تستطيع إبرام عقد زواج صحيح مع الرجل الذي تختاره. وبعض العوائد التي ذكرتها، من قبيل دفع المهور، تجد أحيانًا تسويغًا لها كعوائدَ ترفع من قيمة المرأة وعائلتها. ومهما يكن الأمر، فإن الأثر الفعلي لدفع المهر، غالبًا ما يكون قمع المرأة وأن تخدم الزوج. وفي هذه النقطة الأخيرة، انظر Kaufman and Lindquist 1989, 131، مقتبسًا Russell 1989.
(٤) ويمكن أن نرى مثالًا حديثًا لهذا الموقف، في تعليق أدلى به رئيس طب الأطفال في مستشفى كبير في سياتل في حديثٍ صحافي معه حول تجريم الكونغرس لتشويه الأعضاء التناسلية للأنثى، قال: «أعتقد أن هذه مسألة ينبغي أن يبتَّ فيها الطبيب والأسرة والطفلة. ينبغي أن تسود الخصوصية، ومن غير الملائم إثارة ضجة» (New York Times 1996c). أما عن التعسف في التمييز بين العام والخاص، حيث العناية بحق المرأة في أن تتحرر من العنف، فانظر Charlesworth 1994, 72–74.
(٥) في تفسيرين مختلفين لقضيةٍ جعلت الاهتمام العالمي يدور حول مثل هذه القوانين، انظر Pathak and Rajan 1992, 257–79, 58-Das 1994, 117.
(٦) كتبت الجرَّاحة السودانية ناهد طوبيا الخبيرة في ختان الإناث تقول: «إن المكافئ الذكوري للختان (حيث تتم إزالة البظر بأكمله أو أجزاء منه) سوف يكون بتر الجزء الأكبر من القضيب. أما المكافئ الذكوري للختان الفرعوني (الذي لا يقتصر على استئصال البظر، بل يتضمَّن أيضًا إزالة أو تعطيل معظم الأنسجة الحساسة حول المهبل)، فسوف يكون بتر القضيب بأكمله من أصوله في الأنسجة الرخوة وجزء من جلد الصفن» (Toubia 1995, 9).
(٧) هذه الملاحظة الجميلة توضح أن المؤلفة لا تواجه الدين في حد ذاته أو حتى العقائد الدينية ذاتها، بل بعض الممارسات التي تتسربل بالدين، أو جانبًا مما نسميه الآن الخطاب الديني، ونتَّفق على أنه في حاجةٍ مستمرة إلى التطوير والتجديد. على أن هذا لا ينفي أن موقف المؤلفة به شيء من الحيود والعجز عن التحرر من المركزية الغربية ومن معيارية الثقافة الغربية، على الرغم من كل شعارات النسوية، بل وعلى الرغم من عنوان الكتاب والرسالة التي يهدف إلى الاضطلاع بها. [المترجمة]
(٨) في مؤتمر رابطة المرأة والتنمية الذي عُقد في واشنطن العاصمة، في خريف العام ١٩٩٦م، استضيفت «جلسة استماع» في موضوع ختان الإناث، وحضرها ستة ممثلين من وزارة الخارجية الأمريكية، أتَوا للاستماع إلى أيِّ شخصٍ يريد الحديث في هذا الموضوع. اجتذبت الجلسة نحو مائة وخمسين امرأة من بلدانٍ شتى، على مستوياتٍ شديدة التفاوت من المعرفة بهذا الأمر، أو من الخبرة بممارساته.
(٩) في الصراع بين حقوق المرأة والحقوق الثقافية أو الدينية، انظر أيضًا Charlesworth 1994, 74.
(١٠) أيضًا يمكن أن نجد هذا الاتجاه مصحوبًا بفيضٍ من البصيرة النابعة عن تفكيرٍ عميق وفيض من التحليلات في بعض أجزاء مقالات تشاندرا تالبيد موهانتي، وبشكلٍ ملحوظ حقًّا في مقاليْها «بعيون غربية: الدراسات النسوية والخطاب الاستعماري» Under Western Eyes: Feminist Scholarship and Colonia 66–69, 57-esp. 56, 80-Discourse، ولقاءات نسوية: (Mohanty 1991, 51 Feminist Encounters: Locating the Politics of Experience 1992).
(١١) أيضًا الإشارات الأربع لممارسة الختان في «المرأة في العالم الثالث وسياسات النسوية»، وكلها لا تركز على الضرر الذي يلحق بالنساء بل على الضرر المزعوم الذي تحدثه النسوية الغربية حين تعارضه (n. 76, 58-Mohanty et al., 1991, 57, 322, 7–19, 218).
(١٢) من المفارقات أن مؤلف موهانتي ذاته قد أصبح بعد هذا بوقتٍ قصير موضعًا للنقد؛ «لأنه يهمل النظر إلى الطبقة في كل أبعادها»، ولأنه ينطوي على إنكارٍ لإخضاع القوة الفاعلة للمرأة في العالم الثالث.
(١٣) المصطلح الوارد essentialism ويمكن ترجمته الماهوية؛ لأنه يدور حول الماهوية (essence) وهي الحقيقة الثابتة للشيء أو الإجابة عن السؤال: ما هو؟ وكما أشرنا سابقًا «الماهوية» أصوب وأدق، فأحيانًا يترجم هذا «الجوهرية» التي هي أبسط وأقرب إلى القارئ غير المتخصص، ولكن المتخصص في الفلسفة يعرف أن الجوهر substance مصطلحٌ مركزي في الفلسفة منذ أيام أرسطو وترجمات فلاسفة الإسلام وشروحهم لفلسفته؛ وبالتالي لا يصح استخدام آخر لمصطلح الجوهر.
وفيما يتعلق بالنسوية تحديدًا يشير مصطلح الماهوية إلى التسليم بوجود عناصر جوهرية أو ماهوية ثابتة، في كينونة المرأة، أو في خبرتها أو في إنتاج المرأة من الفعل أو من الخطاب، أو في الاختلافات بين المرأة أو الرجل، والتيار النسوي تيار واسع يضم اتجاهات مختلفة؛ لذلك توجد اتجاهات نسوية تقر بوجود العناصر الجوهرية الماهوية في هذا المنحى أو ذاك، فيقال إنها تيارات تتبع الماهوية، وثمة تيارات أخرى تنكر هذه الماهوية أو تلك العناصر الجوهرية الثابتة. وفي النص الوارد آنفًا، مناقشة بين رأيين مختلفين حول وجود عناصر جوهرية ماهوية في خبرة المرأة من حيث هي امرأة. ويتكرس الفصل الخامس من هذا الكتاب لمناقشة قضية الماهوية الجنوسية والثقافية مناقشة عميقة وموسعة. [المترجمة]
(١٤) من الواضح أنه في بعض مناطق العالم كانت المشاكل الاقتصادية التي سبَّبتها على الأقل إلى حدٍّ كبير تلك الضغوط المالية تؤدي دورًا كبيرًا في إخفاق الحكومات الأكثر اعتدالًا وصعود الأنظمة المحافظة أو الأصولية التي تخلق ظروفًا أشد قسوة على النساء.
(١٥) «كاثوليك من أجل الاختيار الحر» جماعةٌ أُسست في واشنطن في العام ١٩٧٢م، لتدافع عن منطلق معتقدات الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، أساسًا عن حق المرأة في إجهاض الجنين، وأيضًا عن حقوقٍ إنجابية أخرى. [المترجمة]
(١٦) قيل الكثير في أمر تسليمة نسرين، والأسانيد الأقوى في اعتبارها منفلتة ومارقة أكثر منها ناقدة ومتحررة. في كلتا الحالتين وفي كل حال، لا بدَّ أن نألف الاستماع للرأي الآخر، ولو حتى تمهيدًا لرفضه. [المترجمة]
(١٧) في العام ١٩٩٦م خصصت صحيفة «نيويورك تايمز» ما يقرب من خمس صفحاتٍ كاملة لموضوع ختان الإناث، وكان القطاع الأكبر منها نتيجة تحقيقات مفصلة وشاملة في بعض البلدان الأفريقية التي تشيع فيها أكثر ممارسة الختان (New York Times 1996b, 1996c).
(١٨) إذا كانت ثمة أي دلالة على عدد المرات التي نرى فيها النقل والاقتباس عن المقال، فلا بدَّ أن يثير مقال سن «مائة مليون امرأة مفقودة» (١٩٩٦م) وعي الكثيرين بالأشكال الكثيرة للانتهاك الذي يمر بخبرة النساء في أقطارٍ عديدة، انتهاك منذ ما قبل الميلاد حتى الوفاة المبكرة، ومنه ما هو صريح إلى ما هو خفي وماكر، لكن على وجه الخصوص في موطن سن بجنوب آسيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤