الفصل الثالث

الغيرية الثقافية: التواصل العابر للثقافات والنظرية النسوية في سياقات الشمال-الجنوب

أوفيليا شوته

يجب أن يتعلم المرء أن الإنسان قد لا يكون هو ذاته من دون علاقة بالآخر، وأن مثل هذه العلاقة في صورتها المثلى لا ينبغي أن تترصع بآيات الظلم.

شوته

واحدٌ من أضخم التحديات التي تواجه علاقات الشمال-الجنوب يتمثل في كيفية التواصل مع «الآخر» المختلف ثقافيًّا عن الأنا. ويرتكز هذا المقال على مفاهيم وجودية-فينومينولوجية وبعد بنيوية للغيرية والاختلاف؛ وذلك لتقوية وضع المتحدثين من أبناء أمريكا اللاتينية والآخرين المَسُودين في حوارات الشمال-الجنوب. يدافع المقال عن المقاربة بعد-الاستعمارية للنظرية النسوية كأساسٍ للأخذ والعطاء في مناقشةٍ للوضعيات النسوية المختلفة ثقافيًّا في هذا العصر الذي تتسارع فيه العولمة والهجرة والترحيل.

ينصبُّ هذا المقال على مسألة تفهُّم الاختلافات الثقافية في سياق التواصل والحوار بين الشمال والجنوب، لا سيما في تلك الحالات التي يجري فيها هذا الاتصال أو محاولات الاتصال بين أعضاء ينتمون لحضارةٍ مهيمنة وآخرين ينتمون لحضارةٍ تابعة. ومن خلال فحص تلك المسائل، قد نستطيع ترسيم بعض الأفكار التي سوف تتيح لنا الوصول إلى تفهمٍ أكمل للتبادلات والحوارات النسوية العابرة للثقافات. إن الذي يجعلني أركز على موضوع التواصل العابر للثقافات هو أنني قد بِتُّ في الآونة الأخيرة على وعيٍ متزايد بمستويات التحيز التي تترك تأثيرها في عمليات الاتصال الأساسية بين المتحدثين الأنجلو-أمريكيين وأولئك اللاتين، وكذلك المصاعب التي تمر بخبرة كثيرين من أهل أمريكا اللاتينية الذين يهاجرون إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ويبدو لي أنه في تلك الآونة التي تشهد تحيزًا جماعيًّا ضد المهاجرين وتشهد اغترابًا للناس عن مجتمعاتهم الأصلية يفوق كل ما هو معتاد، تغدو أعظم التحديات التي تواجه علاقات الشمال والجنوب والتفاعل بينهما، إنما تتمثل في السؤال عن كيفية التواصل مع «الآخر» المختلف ثقافيًّا عن الأنا. وإذا كان السؤال المطروح علينا بشأن كيفية تأطير شروط إمكانية الأخلاقيات النسوية العالمية — أو ما إذا كانت مثل هذه الأخلاق ممكنة حقًّا — فلست أرى للشروع في هذا موطئًا أفضل من فحص شروط إمكانية تواصل عابر للثقافات على هذا النحو.

منهجيتي لتفهُّم المسألة المطروحة في التواصل بين الذوات العابر للثقافات سوف تعتمد إلى حدٍّ كبير على مفهومٍ للغيرية وجودي-فينومينولوجي. في هذا التقليد، نجد أن التطور اللافت في بناء مفهوم الآخر يحدث حينما يربط المرء بين فكرة الآخر بوصفه مختلفًا عن الأنا والإقرار بنقض مركزية الأنا الناجم عن الخبرة بتلك الاختلافات.١ وعلاوة على هذا، فإنه بالنسبة إلى العلاقات بين الأشخاص، نجد مثل هذا النقض للمركزية يجعل ذلك التطور في مفهوم الآخر منطويًا على أبعادٍ إيجابية وربما أخلاقية (كما في Levinas 1979, Irigaray 1993, Kristeva 1991)، كمقابلٍ لذلك التسليم البسيط بنقض المركزية الذي قد يجربه المرء في ضوء اختلافات الآخر بوصفها قصورًا في سيطرته على البيئة. ووفقًا لهذا الفهم، نجد أن التفاعلات بين الأفراد والتفاعلات الاجتماعية الحاملة لمعالم الاختلافات الثقافية (وبالمثل تمامًا، الاختلافات الجنسية والعرقية، والأنواع الأخرى من الاختلافات)، إنما تتيح لنا أن نصل إلى أرضيةٍ جديدة، أخلاقية وجمالية وسياسية.

بعبارةٍ أخرى، ليس الآخر هو ذلك الذي يؤكِّد بمنتهى السلبية ما أميل أنا إلى الاعتقاد فيه بشأنه؛ إنه لا يقوم بدَور مرآة ذاتي، ولا تمثِّل صورتها تسويغًا للحدود الكائنة للأنا. ولئن كان الأمر هكذا، فإن الآخر لا يعدو أن يكون تمثيلًا للنرجسية المستبدة بالذات. ولكن الأمر على العكس تمامًا؛ فالآخر هو ذلك الشخص أو تلك الخبرة التي تجعل من الممكن للذات أن تتعرف على أفقها الخاص بها بحدوده في ضوء علاقات لا تماثلية مطروحة تحمل معالم الاختلافات الجنسية والاجتماعية والثقافية. إن الآخر، الأجنبي، الغريب، هو ذلك الشخص الذي يحتل موقع التابع الخانع في سياق علاقات القوى الثقافية اللاتماثلية، بل أيضًا يمثل العناصر أو الأبعاد للذات التي تهز أركان الأنا المهيمنة، وتنزع عنها مركزيتها، تنزعها عن تلك الذات المغلقة والهُوية الإقليمية.

وفضلًا عن هذه الافتراضات الأولية، فيما يتعلَّق بالغيرية والاختلاف، المشتقة من التقليد الفينومينولوجي-الوجودي وبعد-البنيوي. سوف آخذ في اعتباري التطورات المنهجية الأخيرة المتعلقة بمفهوم الاختلاف الثقافي كما يتمثل في النظرية النسوية بعد-الاستعمارية. وإذ تعمل النظرية بعد-الاستعمارية على خلفية تناهض تاريخ مشاريع الاستعمارية الغربية واستغلالها للمجتمعات الأخرى والثقافات الأخرى، فإنها تبدي، من خلال الصور المختلفة لما يصدر عنها، اهتمامًا خاصًّا بمسائل اختلافات اللغة والطبقة والعرق والإثنية والجنس والجنوسة، وبتسويغ السرديات حول الدولة-القومية.٢ والنظرية النسوية بعد-الاستعمارية، بدَورها، تلفت انتباهنا إلى حيوات النساء وتوترات مؤثرة في نساءٍ تظهر أصواتهن في سردياتٍ قومية وفي شروحٍ وتوصيفات للهجرات التي يتشتَّتن فيها. وما هو مطروح في هذه النظريات «البعدية» إنما هو فقدان متعين للبراءة فيما يتعلق بسرديات الهُوية بسبب تزايد الوعي النقدي بالقوة المنظمة التي تمتلكها تلك السرديات في الدفاع عمَّن تكونه أو لا تكونه الأنا، وعمَّن يكونه أو لا يكونه الآخر.٣ إن القوة المنظمة لسرديات الهُوية هي شيء ما ذو علاقة بمن تكونه الأنا، وإلى حدٍّ ما تتواطأ من أجل هذا. ولكننا أيضًا قادرون على فحص واختبار تلك السرديات من على مسافةٍ ما منها. ولهذا يستخدم النقاد المنتمون لما بعد-الاستعمارية وللنسوية نظرية تحليل نفسي من أجل مزيدٍ من الفحص والتنقيح والتطوير لأوجه العلاقة بين الذات والآخر في ضوء السرديات المقبولة للهُوية الثقافية وللاختلاف. وقد درست كريستيفا، على وجه الخصوص، التماثلات الرمزية بين الآخر الأجنبي والمفهوم الفرويدي للغريب عن الذات uncanny in the self — والذي أسمته كريستيفا الغريب داخل الذات (Kristeva 1991). وما دام مفهوم الأنا الغربي قد بات متأشكلًا بين يدي مذاهب النسوية بعد-الاستعمارية، فإنها تبحث الاستخدام المألوف للجنوسة في السرديات القومية وبعد-الاستعمارية، بل أيضًا المفهوم التنويري للفردانية الذي يخفق في ملاحظة أوجه الأنا المعقدة المتعددة الجوانب والمتشظية المتناقضة.

وأخيرًا، وفي قولٍ مختلف يتعلق بمسائل الهُوية والغيرية، ثمة فرض مسبق إضافي نسترشد به في تلك التأملات، وهو معتقد مفاده أن ما نتمسَّك بأنه يمثل طبيعة المعرفة ليس متحررًا من الثقافة، بل إنه يتحدَّد ويتعين بالمنهجيات والمعطيات التي تجيزها الثقافات المهيمنة. بعبارةٍ أخرى، الممارسات العلمية للثقافة المهيمنة هي ما يرسم حدود المعرفة، ليس هذا فقط بل أيضًا من يمكنه أن يساهم مساهمةً مشروعة في لغة العلم. وفي سياق الحياة اليومية، خارج جدران البيئة الجامعية، يُنظر إلى النساء تخصيصًا بوصفهنَّ جاهلات، وذلك حين طرح معارف علمية أو القدرة على مناقشة مسائل علمية مع خبراء المعرفة في المجال المعني. وليس من الضروري قراءة ميشيل فوكو لندرك كيف أن العلاقة بين المعرفة والسلطة مترابطة ومتداخلة جدًّا. موضوعي هنا أن المعارف الثقافية (وليست العلمية فقط) تنطوي على شكلٍ من أشكال القوة والسلطان وتملك قيودًا ثقيلة. إنها تملك قيودًا تقيد الذات وقيودًا تقيد الآخرين. والقيود التي سوف أحاول أن أبحث أمرها وأحاول تفكيكها إلى حدٍّ ما هي تلك التي تنصبُّ على فهم الثقافة السائدة للاختلافات الثقافية. وفضلًا عن هذا، يحاول التحليل الذي أتقدم به أن يتفهَّم اختلافات اجتماعية/ثقافية من دون إخضاعها للهيمنة الذكورية ولمقولات وقواعد المعيارية الجنوسية.

ثمَّة حاجة إلى تطوير نموذج لتفهمٍ أخلاقي وفلسفي لا يكون معنى الاختلاف الجنسي فيه محدودًا بحدود تحيز معياري جنوسي فيما يتعلق بما يكونه جسد المرأة أو الوظيفة الملائمة لقدرات المرأة العقلية. وبالمثل ثمة حاجة لتطوير نموذج لتفهُّم اختلافات الثقافات التابعة. بعبارةٍ أخرى، لا بدَّ أن نأخذ في الاعتبار نقد التحيز المعياري الجنوسي، وكذلك نقد الإمبريالية الثقافية. ومع ذلك، فحين نأخذ في اعتبارنا أن عددًا لا بأس به من النقود الموجهة إلى الإمبريالية الثقافية قائمة هي ذاتها على أساس نموذج ذكوري (أحيانًا يكون سلطويًّا إلى حدٍّ بعيد) للتحرر من الإمبريالية، وهو بدوره نموذج يفترض قبلًا ويعزز سيادة الرجل على المرأة في الكفاح من أجل الحرية، فإنه يجب تلطيف حدَّة نقد الإمبريالية الثقافية بنوعٍ ما من المنظور النسوي الذي يجمع ثقافاتٍ عدة. كل هذه الاعتبارات تؤدي بنا إلى منظورٍ نسوي بعد-استعماري يستطيع أن يوازن بين الكفاح ضد ميراث الهيمنة الاستعمارية-الإمبريالية والكفاح من أجل خلق مجتمعات نسوية يتساوى فيها الرجال والنساء.

(١) التفاوت في أوضاع المتحدث البليغ

بدأتُ هذه التأملات ببعضٍ من انطباعاتي الشخصية فيما يتعلق بصعوبات التواصل العابر للثقافات حين تكون ثقافة ما في ظروف تجعلها صاحبة اليد العليا على ثقافةٍ أخرى. الثقافة ذات اليد العليا تتولَّد عنها مقاومة داخل الجماعات التي تفشل في أن تحظى بمنزلةٍ ثقافية مماثلة، بينما يصعب على ثقافة الجماعة التابعة أن تجد المنتمين إلى الجماعة المهيمنة ثقافيًّا يفهمونها من حيث أهميتها وتعقيداتها ما لم يتم اعتماد مقاييس استثنائية ترتقي إلى مرتبة الحوار الجيد. ومع هذا، فإنني أرى أنه لا يمكن لأي ثقافتين أو لغتين أن تكون الواحدة منهما كاشفة تمامًا عن الأخرى. ثمة دائمًا فُضالة في المعنى لن تنتقل في المشاريع العابرة للثقافات، وهي فضالة لها من الأهمية ما يكفي لجعلها تومئ إلى ما سوف أشير إليه بشكلٍ أكثر تجريدًا بوصفه مبدأ اللامقايسة incommensurability (عبر الثقافات).٤

وأكثر الطرق شيوعًا لتعيين هذا الفضالة في المعنى هي الإشارة إلى تلك الجوانب من اللغة غير القابلة للترجمة بالقياس إلى لغةٍ ما أخرى. في هذه الحالة، قد يفكِّر المرء في اللامقايسة تفكيرًا حسابيًّا بوصفها نوعًا من التأثير السالب للتواصل العابر للثقافات. ما أخرج به من المتحدث المتموضع في مكانٍ مختلف هو رسالة قابلة للتوصيل مخصومًا منها الاختلاف الثقافي المعين الذي لا يمكن أن يعبر. وحين يتم التنظير على هذا النحو، فسوف يصبح من الممكن أن تغدو طريقة تعظيم مجال الحوار العابر للثقافات هي ابتكار سبيل لوضع أقصى ما يمكن وضعه من معنى في الجانب المضاف للتبادل، بحيث تغدو الفضلة الزائدة هي أقل ما يمكن على الجانب المنقوص منه. ولكن، على الرغم من أن خلق وسائل للتواصل أكثر فاعلية بين جماعاتٍ متباينة يمكن أن يساعد في تقليل الصراع الاجتماعي والتوتر، فإني لا أعتقد أننا سوف نغنم مزيدًا من الفهم للاختلاف الثقافي، إذا فكرنا في اللامقايسة بهذه الطريقة الكمية السائدة.

ثمة طريقة أخرى للتفكير في اللامقايسة، ملائمة ومثمرة أكثر لمناقشتنا الراهنة، وهي أن ننظر إلى الأقطاب في ترجمةٍ لغوية أو في محادثة، حيث رجع الصدى لحديث الآخر، أو لجانبٍ منه، يرتد في الأنا كنوع من الغربة، كنوعٍ من الاغتراب، عن التوقع المألوف. تستدعي الغيرية الثقافية ألا يتجنب المرء هذه الخبرات أو ألا يدرجها تحت مقولةٍ مألوفة وجاهزة. حتى مقولة التنوع الثقافي توضع تحت طائلة البحث حين تتم مأسسة التنوع من أجل حجب رؤية أكثر راديكالية للاختلافات. إن الخطاب بعد-الحداثي بعد-الاستعماري يبحث عن إمكانات استخدام مفاهيم لا تقوم على حاصل جمع الاختلافات، وليس عن «الفكرة المتفق عليها للمركزية الإثنية في الوجود المتكثر عدديًّا للتنوع الثقافي» (Bhabha 1994, 177). في الرؤية المؤسسية للتنوُّع، نجد القواعد الحاكمة لتمثيل التنوع عادةً ما تعكس إرادة الظافر في الكفاح العسكري والسياسي. وكما أوضحت مناظرة ليوتار مع هابرماس، فإن معقولية الإجماع على الفكرة لا تمثِّل إلا بضع خطوات على طريق الوصول إلى المنظومة الواحدة المنشودة، حقيقة واحدة — خلاصة، معقولية واحدة — تهيمن على الحضارة الإنسانية. إن الإرادة التي تنزع إلى حقيقةٍ واحدة أسلمتنا إلى ديكتاتورية حكم الإرهاب.٥ وتمثيل المنظومة الواحدة بوصفها «تعددية» ومحبذة للتنوع الثقافي مسألة يجب أن تخضع للبحث والاستقصاء، بسبب القوة الكاسحة التي تمارسها المنظومة لضغط التعدد في قالب الواحد (قارن Bhabha 1994, 152–55, 162–64). وحتى حين تتم صياغة المنظومة بوصفها تعددية، تظل المشكلة قائمة في أنه فقط تلك الاختلافات التي يمكنها أن تعتلي منصة التعددية هي التي يمكنها أن تتلاءم مع المعقولية العامة التي تصدِّق على أن التعدد هو الواحد، وتحكمه على هذا الأساس.
وبسببٍ من هذا المبرر، ربما جزئيًّا إن لم يكن حصريًّا — لأن الخبرات الحياتية للعديد من الشعوب المهاجرة وبعد-الاستعمارية تتمخض تحديدًا عن هذا البراديم٦ الجديد — شرعت ثلةٌ من النقاد بعد-الاستعماريين في التنظير لسؤال الاختلاف الثقافي في حدود ما أسماه هومي بهابها٧ «السلطة الزمانية الانفصالية» disjunctive temporality (Bhabha 1994, 177) وصنفته نيستور غارسيا كانكليني Nestor Garcia Canclini بأنه «تغاير العناصر في سلطاتٍ زمانية متعددة»٨ (multiemporal heterogeneity). تشير هذه المقولات، أولًا وقبل كل شيء، إلى الانفلاق والانقطاع، وفي المقام الثاني إلى الموضع الفائق للسلطة الزمانية التي تستنفد الاختلافات الثقافية، ومواضع التحدث والأطر الزمانية للسرديات. وفي مجتمعات أمريكا اللاتينية، كما تفصح أعمال غارسيا كانكليني، يمكن في خطاب المتكلم أن تتقاطع الأطر الزمانية لسردياتٍ أفريقية وسرديات السكان الأصليين والمستعمرات الإسبانية والسرديات الحديثة والعالمية، جميعها في وقتٍ واحد أو بشكلٍ منفصل. وإذ نمضي بهذا التفكير إلى ما هو أبعد، قد ألاحظ أن مثل أولئك المتكلمين الكائنين في مواضع ثقافية حين يلجون الأماكن التي تشهد شتات المهاجرين — كما يحدث حين يهاجرون من مجتمعاتهم الأصلية إلى الولايات المتحدة — فسوف يحملون معهم تلك الأشكال من الاختلاف الثقافي وتهجين الثقافات. وبالنسبة إلى كثيرٍ من أهل أمريكا اللاتينية لا يعدُّ من قبيل الاستثناء أن يجدوا أنفسهم في وضع التناوب الثقافي نتيجة لمؤثراتٍ اجتماعية/ثقافية متشابكة ومتقاطعة بين اثنتين أو أكثر من الثقافات اللامتقايسة incommensurable، أحيانًا تكون جنبًا إلى جنب بالمعنى الحرفي. مثلًا، في منطقة البحر الكاريبي، وبسببٍ من تأثيرات الاستعمار، نجد بعضًا من آلهة اليوروبا قد أُدرجوا في قوائم قديسي الكاثوليكية الإسبان. أمكن القول إن أعلام الكاثوليك وأعلام اليوروبا يقطنان نوعين شديدي الاختلاف من السلطات الزمانية. ومن زاوية خبرات المتعبدين، قد تكون إحدى السلطات الزمانية في بعض الحالات مفروضة على الأخرى، بينما يمكن في حالاتٍ أخرى أن تغدو السلطتان الزمانيتان منفصلتين.
في كتاب غلوريا أنزالدوا «الأراضي الحدودية» La Fronter نجدها تتحدث بوصفها كاتبة نسوية سحاقية — تيجانية — تشيكانية،٩ تضع السلطة الزمانية لأساطير السكان الأصليين بجوار كينونتها كأمريكية شمالية بعد-استعمارية، والتبدل من الإنجليزية إلى الإسبانية إلى الناهيوتل.١٠ ليس مجرد تبديل للغات أو «الشفرات» كما تسميها، بل تبديل للسلطات الزمانية للوعي والإدراك (Anzaldúa 1987, viii). هذه السلطات الزمانية الحاملة للتعددية الثقافية تخلق توترًا منفصلًا على مدى السلطة الزمانية الخطية للحداثة الحاكمة لهُويات المنتجين والمستهلكين في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. هذه السلطات الزمانية في تعدديتها وانفصاليتها تخلق اغترابًا مكانيًّا في العلاقة بين الأنا والآخر؛ إذ تسمح بالاعتراف بالغيرية داخل النفس وخارجها معًا. تبدأ مقدماتها الأنانية بإقرار الأنا المتفردة وإعلاء تقديرها. الأنا الأمريكية/المكسيكية عند أنزالدوا، ذات الوصلات العديدة، تذكرنا بالغريب في الداخل عند كريستيفا. وهي، بشكلٍ أرحب، تعطينا أمثلةً على الفكرة النسوية للاختلافات ليس فقط الاختلافات بين النساء بل أيضًا الاختلافات داخلهن. هذه الطبقات المتعددة داخل الأنا، كاستجابةٍ لمجالاتٍ إدراكية مختلفة، وليس بالضرورة لسلطاتٍ زمانية لا متقايسة، تستطيع أن تجعلنا نميل سيكولوجيًّا إلى تقدير قيمة كلٍّ من الثراء واللامقايسة في الاختلافات الثقافية. إنها ترسي الأساس المكين لعلاقاتٍ تشكَّلت معرفيًّا وإدراكيًّا ولغويًّا بين ذواتنا وبين الأخريات، حيث يمكن الاعتراف باختلافات «الأخرى» بوصفها موضعًا للاعتراف بالقيمة والتقدير والعناية والاحترام، حتى لو لم يكن ممكنًا ترجمتها كاملة في لغة الآفاق الثقافية الخاصة بنا. إنني أتحدث هنا عن الوضع السيكولوجي حيث لا تكون الغريبة قانتة أو موضعًا للسخرية أو للاضطهاد أو يمكن إقصاؤها من المشهد أو إقصاؤها من الوجود بشكلٍ قانوني، بل أتحدث — وبشكلٍ مختلف عن المقدمة القائلة إن «الأخرى» هي أيضًا إنسانة — عن وضعٍ لن تخضع فيه الأخرى إلى مطالب تجعلها مزدوجة، أو تجعلها مرآةً عاكسة للصورة، أي لذواتنا.

وينشأ السؤال عن كيفية انطباق مبدأ اللامقايسة على الأخلاقيات النسوية حين تكون الأخلاقيات النسوية منشغلة بوضع وتنفيذ أحكام معيارية عابرة للثقافات. هل سيُفسد مبدأ اللامقايسة الدعوى الأخلاقية النسوية أو الحكم المعياري؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإلى أي مدًى؟ كيف يمكن التفاوض في المصطلحات الأخلاقية النسوية تفاوضًا عابرًا للثقافات؟ وهل ينبغي التفاوض بشأنها أصلًا؟ إن مهمتي الأولى هي محاولة شرح كيفية عمل مبدأ اللامقايسة في المستوى العيني لخبرة الحياة اليومية.

(٢) الآخر المختلف ثقافيًّا

ماذا يعني أن تكون مختلفًا ثقافيًّا، وأن تتكلَّم على مستوى الثقافة بصوتٍ مختلف؟ هذا السؤال عادةً ما يجيب عنه أولئك الذين تتوافر لديهم القدرة على تمييز الآخرين (أو «الآخر») بوصفهم مختلفين، ولا يجيب عنه أولئك الذين يُبحث أمر اختلافهم من حيث علاقته بالأغلبية في الجماعة المطروحة، أو بالأعضاء الأساسيين فيها. أن تكون مختلفًا ثقافيًّا ليس هو الأمر نفسه في أن تكون مختلفًا كفردٍ أو مختلفًا بسبب الفئة العمرية أو الجنس. فإذا كنت ضمن جماعةٍ من نساءٍ أخريات لهن تقريبًا النوعية نفسها من تعليمي، وكانت الاهتمامات التي تشغلهنَّ هي تقريبًا التي تشغلني أنا، وإذا كنتُ في عمرهن تقريبًا؛ فالذي يجعلني مختلفة ثقافيًّا هو أنني، بمصطلحات العصر، لاتينية — وهذا اسم يشير إلى بعض جوانب خلفيتي، بينما يمحو أيضًا جوانب مهمة لفردانيتي وللتفاصيل الخاصة الفعلية للجينالوجيا الثقافية الخاصة بي التي تنطوي على خلفياتٍ من منطقة البحر الكاريبي ومن أمريكا اللاتينية ومن أوروبا الغربية.

«لاتينية» تضعني تحت مقولةٍ يسهل تمييزها، ومن خلالها تترسَّم حدود اختلافي تبعًا لأي فئةٍ من المترافقات قد يستدعيها ذلك المصطلح. «لاتينية» ليست مجرد مصطلح وصفي يشير إلى شخصٍ ما من سلالةٍ تنتمي إلى أمريكا اللاتينية أو لأيبريا، ولا تزال باقية حتى الوقت الراهن في الولايات المتحدة. إنه إفادةٌ تحجب وتستدعي معًا مدى من المترافقات-الدم الساخن، صاحبة مزاج، مطيعة، متحدية غير هيَّابة، وضعها غير قانوني أو واقع في المحظور، مكبوتة أو نهمة جنسيًّا، مضطهدة ومستغلة، وما إلى ذلك. بَيد أن الخيطَ الذي يجمع كل المترافقات النمطية معًا، هو واحد من الخيوط الخفية التي تنتج الثقافة. ومن العوامل المسببة لهذا أنه في المجتمعات التي تسودها الهيمنة الذكورية، بما فيها المجتمع الأنجلو-أمريكي، يُنظر إلى النساء أساسًا كناقلاتٍ للثقافة وليس كمنتجاتٍ لها. مبدئيًّا، يُنظر إلى النساء بوصفهنَّ قائمات بالرعاية والعناية، مهمتهنَّ في الثقافة هي النقل والحفظ والصون، وليس البحث في القيم الثقافية وخلقها.

وأيضًا لا يُنظر إلى اللاتين في الولايات المتحدة كمُنتجين للثقافة؛ لأن مصطلح «لاتيني» يفتقد مرجعية قومية معينة، فلا يزال الوطن والثقافة في عقلية الحداثة الغربية يتداخلان معًا في ترابطٍ وثيق. (مثلًا تعرض المتاحف القومية الكبرى للفنون والعلوم تلك الأعمال التي تبين المحكات الثقافية والجمالية والقدرة العلمية لمختلف الأمم). «لاتيني» من حيث هو مفهوم إنما يتجاوز مقولة القومية. ونحن بوصفنا لاتينيين لا يربطنا رباط وثيق بثقافةٍ قومية يمكن تحديدها (مما يتناقض مع وضع أعضاء الجماعة السائدة)؛ لهذا فلكي يكون لنا وجود ثقافي في إطار الثقافة المهيمنة يجب علينا تبيان أننا نعرف كيف ندمج ثقافتين أو أكثر معًا في داخل أسلوبنا للتواجد. وعلاوة على هذا، يجب أن نبيِّن أن طريقتنا في الجمع بين مثل تلك الثقافات يمكن أن تفيد عامة الناس الأنجلو-أمريكيين. ومن أجل الحصول على الاعتراف بي كفاعلة ثقافيًّا، يجب أن أبيِّن كيف أستطيع أن أكون لاتينية وأمريكية شمالية معًا؛ ذلك أنني يمكنني التناوب بين هاتين الهُويتين، وفي المواقف القومية الضيِّقة المحكمة، أستطيع أن أنجز، فأجعل صوتي الأمريكي الشمالي يغطي تمامًا على صوتي اللاتيني، إذا دعت الحاجة إلى ذلك. أما نظيرتي البيضاء، الأنجلو-أمريكية، فليس مطلوبًا منها إنجاز مثل هذا الفعل الاستثنائي فيما يتعلَّق بخلفيتها الثقافية. ليس لزامًا عليها أن تمحو خلفيتها الثقافية الأنجلو-أمريكية لكي تكون عضوة شرعية في مجتمع أمريكا الشمالية. إذا كانت آتية بخلفيات الطبقة العاملة، ربما وجب عليها أن تمحو خلفيتها الطبقية كي تنعم بالقبول التام في بعض شرائح المجتمع. وإذا كانت سحاقية، فلكي تكون مقبولة في بعض الجماعات ربما وجب عليها أن تُخفي ميولها الجنسية (تستبقيها سرًّا لم يحنِ الوقت لإعلانه). ولكن لكي تحظى بالاعتراف كفاعلٍ ثقافي لا يلزمها محو خلفيتها الأنجلو-أمريكية في حدِّ ذاتها أو التخفيف من وطأتها. وفضلًا عن هذا، لا يلزمها قبل أن يتم قبولها كمشاركٍ مهم في المجتمع وفي الثقافة أن تقوم بربط خلفيتها الثقافية بالخلفيات الثقافية لشعوب الشرق الأوسط مثلًا أو الشعوب الآسيوية أو الأفريقية أو شعوب أمريكا اللاتينية. وإذا كانت يهودية، سوف تواجه مشاكل معينة على قدر ما تكون بعيدة عن الاستيعاب الكامل في التقاليد الأوروبية الغربية الأنجلو-أمريكية البروتستانتية.

وبالعود إلى مشكلة المرأة اللاتينية الناجحة ثقافيًّا، يمكن أن نلاحظ ظاهرةً مثيرة للاهتمام. فحينما أكون قادرة على أن أنجز بطريقةٍ متميزة فعلة تمثيل ثقافتي في سياق الثقافة الأنجلو-أمريكية المهيمنة، فلن يعتبروني مجرد حاملة لمعالم «الآخر» ثقافيًّا. وهذا الأمر في مصلحتي، فقد بات يُنظر إليَّ كناقلةٍ منجزة وعليمة بالثقافات. وبهذه المقدرة اكتسبت منزلةً خاصة في الجماعة، نزحتُ بعيدًا عن الموقع «المتأصل» للآخر. وإلى حدٍّ ما علوت على الموقع المستهدف للمرأة اللاتينية، وطالبت بموقعي كفاعلةٍ ثقافيًّا بلغةٍ تعترف بها الجماعة الثقافية المهيمنة. ولكن لكي أفعل هذا، أحتاج إلى الاعتراف بي في لغة الثقافة المهيمنة وفي مناوراتها الإبستمولوجية، وهي الثقافة ذاتها التي تضع لي في خبرات حياتها اليومية مَعلمًا يميزني كآخر ثقافيًّا، آخر سواها. لقد أصبحت ذاتًا منقسمة من وجهة النظر الثقافية، وبالمثل تمامًا من وجهة نظر التحليل النفسي. إنني أتصرف بوصفي «أنا ذاتي» (بما لديَّ من معنًى انعكاسي للأنا، فهذه «الأنا» تتضمَّن نشأتي المبكرة في كوبا وقد ترعرعت عنها)، فيما تضعني بيئتي الاجتماعية-الثقافية الأنجلو-أمريكية غالبًا ﮐ «آخر». وكبديلٍ لهذا، حين أؤدي على مستوى الخطاب دَور المتحدث المنظِّر من ثقافةٍ مهيمنة، فسوف يعترف بي كفاعلٍ حقيقي في عالمٍ فعلي.

لا يزال ثمة شيء ما ذو أهمية أساسية ومفقود في الاعتراف بي المذكور أخيرًا (وهو في الواقع بَخْسٌ لِقيمتي). إن مُحاوري يخفق في التعرف مجددًا على شيءٍ ما، وهو أنه حين يكون صوت اختلافي الثقافي هو الذي يرسم حدود قدرتي على التحدث فسوف يكون لذلك تأثيره فيما أقوله كاستجابة. وحينما يشعر المرء بالرفض، تتغير مساراته فجأة. إن جاز التعبير، ويدخل في الخطاب السائد، من دون أن يفوته إدراك ما جرى فقدانه. ليس الذي يتعرف عليه محاوري هو ما أردته أنا أن يعرفه — هذا حث للتواصل بين الرؤى والبصائر أتقدم به من وجهة نظر الاختلاف الثقافي — بل يعرف فقط قدرتي على الولوج إلى موقعٍ على المستوى المطلوب للحديث الأنجلو-أمريكي، موقع يوجد في توترات التفاوض مع الذي يختلف عني ثقافيًّا، في مغزى انعكاسٍ ذاتي. بعبارةٍ أخرى، توجد السرديات المحلية العمدة في توترٍ مع ما تعرفه المرأة اللاتينية ويمر بخبرتها، والسابق يقضي على اللاحق. ولهذا السبب تجدني في بعض الأحيان، حين يستجيب لي أحد المحاورين (لنقل مثلًا، في المكتب) بالإشارة إلى الأنا الذي أشخصه هنالك بوصفي ذاتًا متحدثة، أخرج بانطباعٍ بأن هذا الزميل لا يتحدَّث معي إطلاقًا؛ ذلك أن محاوري افتقد شيئًا ما؛ لأن «الأنا» التي هي مختلفة ثقافيًّا مجهولة ومفصولة ويُتغاضى عنها.

ها هنا مغزًى للإحباط، بل أيضًا لفرصةٍ مهدرة، في تلك العوارض غير المستحبة في التواصل العابر للثقافات. أما الذي يبقى لنفهمه في عبارات الآخر المختلف ثقافيًّا — أي شيءٌ ما لا مُقايس ليس موضوعًا للترجمة الثقافية الكاملة — فقد يكون فعليًّا أهم جزء من الرسالة التي يحتاج محاوري الناطق بالإنجليزية إلى أن يتلقاها. والأمر كما أراه هو أن محاوري أخذ شظيةً من رسالتي وألقى البقية جانبًا. ولكن ربما يرتاب المرء في أن هذا حدث تحديدًا لأن الجزء الذي ألقي به من الرسالة كان يتطلَّب نقضًا راديكاليًّا لمركزية الذات المتحدثة بالإنجليزية، وأنه فشل في أن يطرق مسامع مثل هذه الذات: من أو ما الذي يكونه الآخر بالنسبة إلى الذات المهيمنة المستنيرة؟١١ إن الآخر هو ذلك الذي تريد أن تتحدَّث معه أحيانًا، ومن الأفضل أن يكون في موضع الأجنبي أو البعيد، هو ذلك الذي تدافع عنه بشكلٍ مجرد في سياق الحجج من أجل الديمقراطية أو لمناهضة الاضطهاد. ولكن الذات المهيمنة لا تدع الآخر (من حيث هو آخر) يطرح أي مطالب في عالم حياته اليومية؛ لأنه في هذه الحالة قد يغير أسلوب كينونته، قد يكون عليه الإقرار بذاتيته المنفصلة، وأن يغير الأسلوب الثابت لحياته، وأن يرحِّب بالغريب في الداخل، وربما يبدل رؤاه وعلاقاته بالآخرين بطريقةٍ لم تتراءَ له من قبلُ.
ومن ثم، فإن الغيرية الثقافية تشير إلى أخلاقياتٍ وطرق للتعارف أعمق كثيرًا من نمط التفكير الذي يكون فيه المتحدثون ذوو الثقافة المهيمنة يتصورون أنفسهم في المركز الإبستمولوجي والخلقي لهذا الكون، حيث يمتدُّ سلطان نفوذهم مبحرًا من هذا المركز في اتجاه المتحدثين العاقلين الآخرين. تتطلَّب الغيرية الثقافية الاستماع إلى المرأة الأخرى باختلافها وأن تمنح الأنا ذاتها المدى والأوان والفرصة لتقدير قيمة الغريب في الخارج وفي الداخل. وكما لاحظت كريستيفا عن مضض، «كيف يستطيع المرء أن يتسامح إزاء الأجنبي إذا لم يتعرف المرء على امرئ غريب عنه؟» (Kristeva 1991, 182).

وهذه النوعية من الخبرة الشخصية المذكورة سابقًا ربما كان لي أن أستأنفها فأقدِّر على أساسٍ منها موقف التواصل والحوار بين النساء شمال الحدود وجنوبها، وكيف يرى المرء أن الجماعات التي تخندقت داخل قيمها الخاصة، ولديها القدرة على تجاهل قيم الجماعات الأخرى، يصعب عليها أن تصل إلى أي فهمٍ ملائم للغيرية الثقافية. وسبب هذا أن أهل الثقافات المختلفة لا يتحدثون اللغة «الثقافية» ذاتها ولا يتقاسمون التصور ذاته للنظام الثقافي. كان ينبغي على علم الأنثروبولوجيا أن يتعامل مع مسألة اللامقايسة الثقافية على مدى فترة طويلة. لماذا يصعب على الفلسفة أن تتفهَّم وتستوعب هذا المغزى للامقايسة؟ كثيرًا ما يتعلَّم الفلاسفة أن الأطروحات الفلسفية يمكن عرضها بلغةٍ تقع أساسًا خارج الحدود الثقافية. وهذه الحركة التي تصبغ الفلسفة بالصبغة الماهوية تتطلَّب ترسانة مدججة بالمفاهيم لبسط الحماية العسكرية على حدود دولتها، بما يشبه كثيرًا حراس الحدود الذين تستأجرهم الحكومات من أجل استبقاء الأغيار خارج حدودها. ولكن أوَليست اللغة المستخدمة لبسط الأطروحات الفلسفية — حتى أكثر اللغات صوريةً وتجريدًا — إنما هي جزء من ثقافة؟ أليست تصوراتنا للأخلاق وللعقل وللفلسفة جزءًا من ثقافة؟ لعلَّه ينبغي علينا أن نعرض هذه المسألة بطريقةٍ مختلفة. ربما يعترف الفلاسفة بأن اللامقايسة توجد بين التكوينات الثقافية المختلفة، وأنها سوف تُعرقل تخطيط أشكال الخطاب الثقافي التي قد تبدو مختلفة تمامًا على قدر ما هي جميعًا متناظرة تناظرًا مكتملًا. تكمن المساجلة فيما إذا كان ينبغي ترسيم مثل هذه العناصر اللامتقايسة بوصفها ضمن ما هو غير ذي صلة بالمعنى الفلسفي وبالمعرفة الفلسفية؛ وبالتالي غير ذي صِلة بعمليات التعقُّل؛ أم أننا يجب أن ننظر إلى العناصر اللامتقايسة، كما أقترح أنا، بوصفها جزءًا لا يتجزأ من عمليات التعقل ذاتها.

في رأيي، ينبغي أن ننظر إلى الخطاب (العقلي) العابر للثقافات بوصفه خطابًا ترسم حدوده ومعالمه عناصرُ الاختلاف الثقافي تلك التي أسميتها عناصر لا متقايسة. أمَّا أن الدخلاء مِمَّن هم خارج الثقافة المعينة لا يستطيعون أبدًا الإمساك بجمع اليدين على عناصر الاختلاف الثقافي تلك بمعناها المتأصل في الثقافة الداخلية؛ فذلك على أي حال، أمرٌ ينبغي ألا يؤخذ بوصفه علامة على أنها عناصر غير ذات صِلة بتفهُّم الاختلاف الثقافي. العكس تمامًا هو الصحيح؛ ينطوي التواصل، بما في ذلك التواصل العابر للثقافات، على جانبين، غالبًا ما يتم تجاهل ثانيهما: الأول هو أن المرء ينبغي أن يفهم ما يقال، والثاني هو أن المرء ينبغي أن يربط ما يقال بطائفةٍ معقدة من الكلمات الدالة، مشيرًا إلى ذلك الذي بقي دون أن يقال أو معيِّنًا إياه بشكلٍ ما. إن مبدأ اللامقايسة في الحوار العابر للثقافات يصادر على أهميته الكبيرة بسبب هذا الديالكتيك (مفتوح النهايات) بالغ الأهمية بين الذي قيل وما لم يقل.

في التواصل العابر للثقافات، قد «يقول» كل متحدِّثٍ شيئًا ما ضمن ذلك الذي يقع في طائفة «ما لم يقل» بالنسبة للمحاور المختلف ثقافيًّا، مثل هذه الفجوة في التواصل قد ينجم عنها أن يبدو خطاب واحد من المتحدثين غير متماسك أو غير مرتَّب بما يكفي. إن المتحدث المنتمي للثقافة المهيمنة قد يبدو أمامه خطاب المنتمي إلى ثقافةٍ تابعة وكأنه سلسلةٌ من الملاحظات المتشظية وليس كلًّا متماسكًا. لعلَّ المشكلة الحقيقية ليست في عدم الترابط بل في افتقاد إمكانية الترجمة الثقافية للكلمات الدالَّة على الترابط لنقلها من طائفة فرضيات إحدى الثقافات إلى فرضيات ثقافة أخرى.١٢ وبدلًا من ذلك، نجد أن المتحدث المهيمن، إذ يتعلق بمحض شذرات في سردية الآخر، قد يعتقد أن الرسالة بأسرها نُقلت إلى لغته، بينما يكون الذي نُقل مجرد جزء. ويمكن اختبار هذه الفجوة اللاتماثلية غير التبادلية؛ مثلًا، إذا اعترض المحاورة طرفٌ ثالث وحاول المتكلم التابع أن يستأنف الحوار بعد الفاصل. المتحدث الذي يمتلك السيادة، إذ يفتقد الإحساس بأن عنصرًا ما في التواصل لا يزال غائبًا ويعتقد أنه سمع/أنها سمعت/بالفعل العبارة كلها، لا يدرك أنه ينبغي أن يتوافر المدى للمحاور لإكمال هذا الذي لم يُقل. المتحدثة التابعة، بدَورها، تتردَّد وتتحيَّر في توضيح أنها احتفظت بالكثير من أجزاء الرسالة حتى النهاية، وهي تدرك الآن أن المحاور يريد أن يبتعد عن موضوع الاختلاف الثقافي، لا أن يتَّجه إليه.

أساسًا يقول المتكلم من الثقافة المهيمنة: ليكن التواصل معي كليةً في حدود ما أتوقعه، فلست أهتم بما يتجاوز ذلك. ويجب أن يشير المبدأ الأخلاقي للغيرية الثقافية إلى عدم كفاءة مثل هذا المتحدث للانخراط في المحادثة والحوار العابر للثقافات، وكذلك في الحوار الثقافي الداخلي. ومع ذلك، فإنه تبعًا للقواعد المتَّفق عليها في ثقافته هو، فإن المتكلم المهيمن قد لا يفهم البتة أنه يقوم بإسكات الآخر المختلف ثقافيًّا؛ لأنه لم يحدث له أبدًا أن فكَّر في أن التواصل العابر للثقافات يتضمَّن عناصر مهمة وإن كانت لا متقايسة. وبدلًا من ذلك قد يكون على وعيٍ بمثل هذه العناصر اللامتقايسة، ولكنه يولي اهتمامًا خاصًّا بها فقط عندما يكون التباين بين الثقافات منطويًا على قطبيةٍ قوية، كما في حالة الثقافات الآسيوية أو الأفريقية في مقابل الثقافة الأنجلو-أمريكية. في هذه الحالة أيضًا، لن يسمع أحدٌ رسالة المرأة اللاتينية التابعة؛ لأن مجاورتها للغرب واقترابها منه يقضيان بإقصائها عن صورة ذلك الآخر الأبعد ثقافيًّا والتي أُضيفت إليها صبغة رومانسية جديدة.

ويتعيَّن على أولئك الذين يتحدَّثون لغة الثقافة المهيمنة ألا يقْصروا معنى العبارات فقط على تلك المعاني المتاحة لهم. ولنفترض أنه يمكن رسم خريطة لتصريحات الآخر المختلف ثقافيًّا وفقًا لثلاث مقولات — المفهومة فعلًا، والتي يصعب فهمها، واللامتقايسة حقًّا — فلا ينبغي أبدًا قصر مجال التواصل على مستوى المقولة الأولى فقط، بل ينبغي بذل الجهد ليتطرق التفهم إلى المجالين الآخرين. على سبيل المثال، إذا أحدثت امرأةٌ لاتينية تغييرًا في الترتيب البنائي المعتاد للكلمات كما يستخدمه المتحدثون بالإنجليزية، وأيضًا إذا كانت تتحدث بلكنةٍ ثقيلة، فإن هذين العاملين يجعلان من الصعب على المتحدث بالإنجليزية كلغته الأم أن يفهم ما تقوله. وعلى أية حال، من الممكن مع بذل شيء من الجهد التوصُّل إلى فَهْم ما يقال، إذا كان ثمة العزم على تصويب الانتباه وعلى الانخراط في متابعة ما ينطقون به. ولسوء الحظ، أرى حالاتٍ متكررة لمعاملة المرأة اللاتينية كما لو كانت تتحدث هراءً، فقط بسبب لكنتها، أو بنية الجملة لديها؛ ولأن مفرداتها ربما تختلف عن الاستخدام العادي للغة الإنجليزية. وبدلًا من متابعة الجهد في الاستماع لما تقوله الأخرى، فإن المتحدثة باللغة كلسانها الأم سوف تعامل المتحدثة بها التي ليست هكذا كما لو كانت ناقصة الكفاءة اللغوية أو العقلية. ومن مُدرَكٍ مفاده أنني «لا أفهم توًّا ما يقوله الآخر»، يخرج المتحدث المهيمن باستنتاجٍ فاسد مفاده: «الآخر غير كفء»، «الآخر لا ينتمي إلى هذا المكان»، وهلمَّ جرًّا. وكما تُبين هذه الممارسة النمطية، فإن هذا الهبوط ﺑ «الآخر» المختلف ثقافيًّا إلى وضع التبعية، يمكن تشخيصه في حدِّ ذاته بأنه نقصان في الثقافة. والحق أن تحيزًا ثقافيًّا على هذه الشاكلة يدلُّ على عجزٍ ثقافي من قِبل الثقافة المهيمنة.

علاوة على هذا، وبأخذ المقولة الثالثة أو المستوى الثالث في الاعتبار،١٣ فإنه لمسألةٌ أساسية لكي نكتسب تفهمًا أن نراهن بالكثير في مضمار اللامقايسة من قبيل ذلك الذي يتطلب اعترافًا (وليس محوًا أو تحقيرًا في علاقته بالثقافة المهيمنة)، حتى لو كنا سنصل إلى فهمٍ جزئي فقط ﻟ «الآخر» المختلف ثقافيًّا. وإذا افترضنا أن اللامقايسة لا تكشف عن نفسها في اللغة فحسب بل أيضًا في حدود السلطات الزمانية المنفصلة أو المتغايرة العناصر، مع التسليم بمحورية مفهوم الزمان في الوجود الإنساني، فإن صميم بنية العلاقات الاجتماعية كافة سوف يتأثر باللامقايسة. على سبيل المثال، العلاقة بين الأجيال، والإنتاجية، ووقت الفراغ والشيخوخة، لن يكون لها المعنى العام نفسه بالنسبة للبشر ذوي الخلفيات الثقافية المختلفة.١٤ إن التعرف على مجموعاتٍ لا متقايسة من المعنى وكيف تؤثر على تفاعلات الحياة اليومية الأساسية يساهم في التقريب بين المتحدثين ذوي الثقافات المتباينة من أجل تحسين التواصل والتفاهم.

(٣) المرأة ﮐ «آخر» بالنسبة لامرأةٍ أخرى

على الرغم من أنني في بعض الأمثلة التي أضربها قد أستعمل ضمير المذكر للإشارة إلى المتحدث من الثقافة المهيمنة وضمير المؤنث للإشارة إلى التابع الخانع، فإن علاقات السيادة والتبعية الثقافية يمكن أيضًا أن تتأتى بين متحدثين من الجنس نفسه، أو في ارتباطٍ عكسي أساسًا، في الثنائيات المقترنة أو الزوجيات نجد أن المصطلح المعياري يجعل المصطلح غير المعياري «آخر»، (أي إن المصطلح المعياري يلوي عنق المصطلح غير المعياري ليغدو في الوضع الأدنى للآخر). وهذا واحد من الأسباب التي تجعل النظرية النسوية التفكيكية تُولي كل هذا العزم للذهاب إلى ما وراء الثنائيات المتقابلة. وكمثال، أوضحت دي بوفوار وآخرون١٥ أنه في ثنائية الرجل-المرأة يكون الرجل هو معيار الجنس البشري، بينما توضع المرأة في موضع «الآخر» بالنسبة للمعيار. ولكن لنأخذ مثالًا آخر: إذا اعتبرنا ربَّة البيت المعيار بالنسبة إلى خدم المنزل والقيم الأسرية، فسوف ننظر إلى الأنثى التي تعمل في خدمة المنزل ﮐ «آخر». وإذا اعتبرنا المرأة البيضاء المعيار بالنسبة إلى المنزلة الاجتماعية ستكون المرأة الملونة هي «الآخر»، وهكذا. وعلى العكس من هذا، في الثقافة الشعبية، إذا اعتبرنا المناطق الآهلة بالسكان هي المعيار، فسوف نعتبر الثقافة الرفيعة هي «الآخر». وفي ثنائيات الشمال-الجنوب والغرب-الشرق، إذا اعتبرنا المعيار في الشمال والغرب، فسوف نعتبر الجنوب والشرق «آخر».

وينقلب وضع المصطلحات في السياسات المناهضة للإمبريالية. يتَّخذ المعتدون الشماليون والغربيون منزلةً ثقافية أدنى بينما تُزجى التحية للثقافات الجنوبية والشرقية. وحين تفشل النظرية النسوية الغربية في أن تأخذ في حسبانها مسائل الاستعمارية والإمبريالية، فسوف تتمثل المحصلة الخطيرة في أن النساء من الثقافات الشرقية والجنوبية سوف يرين في النسوية معلمًا من معالم الاستعمار الغربي. في هذه الحالة سترتبط النسوية ارتباطًا رمزيًّا بالحداثة الغربية (الرأسمالية) ولن تنفصل عن قيمها. وعلى النقيض من هذا، إذا نظرنا إلى النسوية بوصفها حركةً لنساءٍ من بقاعٍ مختلفة من العالم يجتمعن معًا ويوحدن قواهن للتغلب على القهر السياسي والاقتصادي والجنوسي، فإن هذه الحركة التحريرية سوف تغدو هي المعيار، و«الآخر» من يقف خارج هذه الحركة أو يناوئها.

وهنا تكمن نقطة ضعف النسوية الغربية؛ لأن النسوية إذا تحدَّدت بحدودٍ ضيقة، فسوف تصطنع لنفسها «آخر» من النساء اللائي تخفق في تفهُّم طريقهنَّ للتحرُّر أو تخفق في الاعتراف به. وعلى وجه الخصوص، سوف تهبط بالعديد من نساء الأقطار الشرقية والجنوبية إلى مرتبة «الآخر»، إنهنَّ النساء اللائي لا تتوافق رؤاهنَّ توافقًا تامًّا مع مقولات النسوية الغربية. وفضلًا عن هذا، إذا وضعت النسوية الغربية لنفسها تعريفًا ضيِّقًا أو تعريفًا في مصطلحاتٍ قد لا تفهمها تمامًا أو لا تعرف قيمتها نساء البلدان الشرقية والجنوبية — ولدينا عامل اللامقايسة الثقافية — فإن نساء هذه البلدان قد يرفضن النسويات الغربيات بوصفهن «آخر». وهذا النمط المحتمل من الاستبعاد المتبادل قد يعود بنا إلى طريقٍ مسدود بين نسوية الشمال ونسوية الجنوب، بين الشرق والغرب. وكما أشارت ترينه-منه-ها في كتابها «المرأة، الأهالي، الآخر Woman, Native, Other»، يسهل على الذكور المحافظين في بلدان العالم الثالث إدانة النسوية بأنها تأثيرات أجنبية غربية. وحين يحاول النسويون الغربيون إدانة ظروف قهر المرأة في بلدان العالم الثالث «بمصطلحاتٍ وُضعت لتعكس أو تلائم مقاييس المساواة عند نساء أوروبا وأمريكا»، فإن هذا بشكلٍ غير مباشر «يخدم قضية الذين يرفعون لواء التقاليد ويزودهم بذريعةٍ لإرباك كل دعاوى القهر التي ترفعها نساء العالم الثالث» (Minh-ha 19m, 106).
لحسن الحظ، تلقى هذه الصعوبات معالجةً أفضل من قِبل نسويات منشغلات بأنشطةٍ وسياسات على مستوى العالم، وذلك بفضلٍ يعود إلى الأصوات المصرَّة لنساءٍ من الدول النامية ومن الأقليات العرقية وإلى الحساسيات الناهضة للنسويات الغربيات حين يقدمن على إبلاغ الرسائل النسوية في ضوء الاختلافات العابرة للثقافات.١٦ وما يبدو لي أقل وضوحًا هو ما إذا كانت النسويات الغربيات (في متابعتهنَّ للفلسفة؛ مثلًا) يرون أنفسهنَّ صوتًا ضمن أصوات عديدة تكافح من أجل تحرير المرأة اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وجنوسيًّا على مستوى العالم أجمع. يبدو لي أن النسوية الغربية لا تزال تضمر الأمل في أن تكون رؤاها الخاصة للتحرير ذات صحة كونية تشمل نساء العالم بأسره، ولو أن الفكر الغربي بصفةٍ عامة لا يرى نفسه ذا خصوصية ثقافية. وبدلًا من هذا، ينشغل الفكر الغربي بنمطٍ خطابي للنظام الكوني يعتبره قابلًا للتطبيق على كل المتحدثين العاقلين. وهنا لا بد أن تَرِد مسألة الاستعمارية، حتى لو كانت غير سارة، وحتى لو كانت تعترض سبيل المناقشة حول مقاييس الاعتراف بالمتحدثين العقلاء الكفء عبر الثقافات. ومن دون الإشارة إلى الظروف التاريخية للاستعمار، يستحيل أن نتفهَّم تمامًا تسليم العقل الغربي بأنه يتحدث من موقع العالمية والكونية ذي الامتياز.

كان المشروع الاستعماري الغربي وتأثيره على أمريكا من نوعيةٍ لا سبيل إلى أن تتفهَّم التباين بين الثقافات الغربية وغير الغربية بطريقةٍ مسئولة أخلاقيًّا، طريقة متبادلة. يعرض غزو الأمريكتين طريقةً لا تبادلية لتفسير الاختلافات بين الثقافات والشعوب الغربية وغير الغربية. إن القوى التي استُعمرت واستُعبدت هم بشرٌ جاءهم من حكموا عليهم بأنهم «أقل تقدمًا» بالمصطلحات الغربية الأوروبية. لقد تغير التركيب العرقي للأمريكتين منذ الغزو والاستعمار، فيما تُلِحُّ مشكلة انتشار النظرة إلى أولئك الذين لم يبلغوا مستوى التقدم المادي للغرب على أنهم في منزلةٍ أدنى. وبعد الغزو بأكثر من خمسمائة عام أصبح المهاجر المكسيكي الذي يطرق أبواب كاليفورنيا والمهاجر من هاييتي إلى جنوب فلوريدا، في مرمى تأثيراتٍ تاريخية مجتمعة من التحيزات الاستعمارية والعرقية واللغوية والجنوسية حيثما تنطبق.

هل يمكن للنسوية الغربية المعاصرة أن تتبرأ من القوى التاريخية للاستعمارية الغربية ومما تفضي إليه من محوٍ للآخر؟ ما هي نقاط الالتقاء الآن بين النسويات من الأقطار النامية والنسوية الغربية؟ والمقاربة النامية حديثًا للمذاهب النسوية بعد-الاستعمارية، هل تتَّسع للأمل في طريقٍ جديد للنظر إلى الأشياء؟

(٤) المذاهب النسوية بعد-الاستعمارية

المذاهب النسوية بعد-الاستعمارية هي تلك المذاهب النسوية التي تعطي أولوية قصوى لتجربة الاستعمارية الغربية وتأثيراتها المعاصرة في عملية طرح موقع للحديث يُفصح عن وجهة نظر للهُويَّة الثقافية أو القومية أو الإقليمية أو الاجتماعية، مع المذاهب النسوية بعد-الاستعمارية، تنقلب عملية النقد لتغدو موجهةً ضدَّ الآخرين المختلفين ثقافيًّا. تختلف المذاهب النسوية بعد-الاستعمارية عن النقد الكلاسيكي للإمبريالية في أنها تحاول أن تنأى بنفسها عن ثنائية الأنا-الآخر المتصلبة.١٧ وعلاوة على هذا، وجهت نقدًا مكثَّفًا للأفكار النمطية الشائعة عن الجنوسة والبنيات الرمزية لجسد المرأة التي تُستخدم لتعزيز الأفكار الذكورية العتيقة عن الهوية القومية.١٨ «تلفت المذاهب النسوية بعد-الاستعمارية الانتباه إلى عملية انفلاق الذات المهيمنة ثقافيًّا، وذلك بلغة المطالب التي يضعها الآخرون المضارون ثقافيًّا وتمارس وطأتها على الذات المهيمنة. وعلى المستوى السيكولوجي للذات، تصطنع تلك المذاهب النسوية افتراضًا مفاده أن وحدة النفس أو العقل التي تشعر بها الذات المهيمنة ثقافيًّا هي وحدة مصطنعة كلية، وأن واحدية هذه الذاتية أو ذاتيتها (إذ تتجمَّل بها الشخصية لِتُغطي تَشظِّيها) ما كانت ممكنة إلَّا بفضل مناصرة وتأييد من الفلسفة الاستعمارية، سواء تمَّ الاعتراف بهذه المناصرة صراحةً، أو جرى إسباغ المشروعية عليها ضمنًا. بعبارةٍ أخرى، تقترح المذاهب النسوية بعد-الاستعمارية وجهة نظر مفادها أننا لم نولد ذاتًا واحدة موحدة؛ ذلك أن مغزى أن تكون واحدًا أو أن تكون نفسًا إنما هو مسألة مشتقَّة من اللغة (أن تكون متحدثًا كفؤًا بلغةٍ ما)، وأن اللغة ذاتها جزءٌ من ثقافةٍ وتعكس ترتيباتٍ معينة من البنيات الثقافية فيما يتعلَّق بكيفية فَهْم الاختلافات الثقافية.

حينما نعطي طفلة اسمًا، وليكن مثلًا كارولين، لا نخبرها أن الثقافة التي أعطتها هذا الاسم ثقافة لها تاريخ من استعمار الشعوب الأخرى وفرض قيمها عليهم. تنطوي العملية النفسية للتفكيك على انتزاع جينالوجيا اسم المرء، هُويته، من أصول ارتباطها بالثقافة الاستعمارية الموروثة. يجب أن يتعلَّم المرء أن الإنسان قد لا يكون هو ذاته من دون علاقة بالآخر، وأن مثل هذه العلاقة في صورتها المثلى ينبغي ألا تُرَصَّع بآيات الظلم. وبينما لا يستطيع المرء أن يجعل الزمن يعود إلى الوراء، ليمحق الميراث الاستعماري للحضارة الغربية، فإنه من الممكن إبطال فعالية هذا الميراث بشكلٍ جزئي عن طريق تأسيس ممارسات بديلة وقيم بديلة مصحوبة بالعزم على قلب تأثيرات الاستعمارية رأسًا على عقب. إن التنسيق بين عناصر متغايرة الخواص مع تشديدٍ خاص على تقويض دعائم الفهم الاستعماري للاختلاف الثقافي سيغدو الطريق البديل لبناء الهُوية من حيث ننزع إلى الإهابة بمنظورٍ بعد-استعماري أو سياقٍ بعد-استعماري.

وإذا كان المنظور بعد-الاستعماري يُفضي إلى الإقرار بواقعية الاستعمارية (أو بالحرب ضدها) في بناء قيم ثقافية أو هويات شخصية، فما الذي يفضي إليه المذهب النسوي بعد-الاستعماري فيما يتعلَّق بمشكلة التواصل العابر للثقافات؟ يقبل التنوير المعتقد القائل بحيادية العلامة وبالانفصال بين الذات والموضوع في المعرفة. أمَّا الهويات بعد-الاستعمارية فتضع هذا المعتقد موضع التساؤل والبحث. إنهم يشيرون إلى أن هذه الفرضيات السميوطيقية١٩ والإبستمية يرتد صداها في أجساد النساء وفي فعاليات جودة حياتهن. وكما تلاحظ ناقدةٌ أدبية من شيلي هي نيللي ريتشارد، ينبغي أن يكون النقد النسوي (بعد-الاستعماري) قادرًا على تعرية المصالح المنسقة للثقافة المهيمنة المختفية وراء «شفافيةٍ محايدة مفترضة في العلامات وفي نموذج إعادة الإنتاج المحاكي لتلبية حاجات السوق من خلال تلبية حاجات المستهلك السلبي» (Richard 1996, 744).

علاوة على هذا، فكما أوضحت غاياتري سبيفاك بالمثال السديد الذي طرحته عن طريق الإشارة إلى الأسر المدينة في الهند، نجد مصالح الرأسمالية العالمية العابرة للقوميات متوارية خلف الحياد المزعوم للاستهلاك العالمي وليست محايدة-جنوسيًّا.

في «الهند» الحديثة، ثمة «مجتمع» من عمالة السخرة، حيث الوسيلة الوحيدة لسداد الديون بمعدلات فوائدها الباهظة هي سند عبودية متوارث … [الحياة الأسرية بموجبه في مستوى الكفاف]، وهناك استعباد للدعارة، حيث الفتيات والنساء المسخرات أو من أهل الأسر المدينة، ويتم دفعهنَّ معًا كأجسادٍ تخضع للاستغلال الجنسي والاقتصادي. (Spivak 1993, 82).
أما الشفافية الخادعة للعلامات، والتوسع المتزايد للاستهلاك السلبي، واللجوء إلى القروض كآليةٍ عينية للحفاظ على الاستهلاك، والمعدلات الباهظة للفائدة المفروضة على سكان هم بالفعل تابعون خانعون، وجسد المرأة بوصفه «المثال الأخير في منظومة [عالمية] لا تزال القروض هي المنظم العام لها» (Spivak 1993, 82)، فهذه كلها أشكالٌ مترابطة من الاستغلال لا يستطيع أن يتصدى لها في هذا العصر إلا المذاهب النسوية بعد-الاستعمارية. وسواء في شيلي أو الهند، أو في موضع أقرب إلى موطن الاستعمارية، تنبهنا النسوية بعد-الاستعمارية إلى أصوات الذوات المنقسمة وهي تفكك منطق الكُلانية في ضوء الغيرية الثقافية.

(٥) القوة الفاعلة النسوية وهيكلة النظام التصوري الرمزي

هذه الملاحظات حول عمالة السخرة تُلقي الضوء على نقطةٍ ختامية من حيث هي نقطة مألوفة للنسويات، وأعني بها أن القمع الأقصى الذي يمكن أن يمرَّ بخبرة الكائن البشري هو أن يكون محرومًا من أي قوةٍ فاعلة ذات مغزى. ها هي بل هوكس bell hooks،٢٠ وهي نسوية أمريكية من أصولٍ أفريقية، تصف القمع بأنه افتقاد فرص الاختيار.٢١ وأنا أسلم بهذا ليعني أن القهر ينطوي على الظروف التي يكون الشخص فيها محرومًا من القوة الفاعلة، أو تكون الخيارات المطروحة أمامه محدودة تخفق في تعزيز منافعه الخاصة على نحوٍ فعال.

وإذا نظرنا إلى الظروف التي قد تمكِّن النساء على مستوى العالم من تعزيز منافعهن الخاصة، سنرى مجموعةً من المصالح القوية تنتصب ضد المرأة. هناك الأصوليات الدينية المكينة في جميع أنحاء العالم وفي مختلف الثقافات، وهي تسعى إلى أن تحدد للنساء ما هو خيرٌ لهن وما ينبغي عليهنَّ فعله بلغةٍ قاطعة مطلقة. وأيضًا يضع الأصوليون تعريفات لمعنى «الأمة» و«الأسرة» بلغةٍ قاطعة، ويرفعون من شأن التضحية بالنفس وأحيانًا الحرب، بينما يمنعون المتأثرين بهذه الأيديولوجيات من أن يتصرفوا وفقًا لما يرغبون في فعله من أجل تحقيق الذات ومن أجل السعادة. وعلاوة على هذا، تخرج بعض الحكومات والمؤسسات الخاصة بمكاسب مادية هائلة من عمل المرأة رخيص الأجر ومن الأدوار التقليدية للمرأة في رعاية الأسرة. ثمة قوى في المجتمع تستفيد من أن ينتهي المآل بالمرأة إلى البغاء، أو أن تبقى أُمِّيَّة، أو ملزمة بظروفٍ اجتماعية منذ صباها فصاعدًا تُخضعها للعنف والانتهاك المتكررين. ولا يبدو أن ثمة شيئًا يمكن أن يكون حميدًا أكثر من أخلاقياتٍ نسوية عالمية موضوعة من أجل تحديد وتصويب مثل هذه المشكلات. وكيفية إجراء هذا تتطلب، على أية حال، إعادة التفكير بشكلٍ حذر واعٍ في كيفية استخدام مفاهيم الجنوسة والهُوية والقمع.

يحتاج التفكير الأخلاقي النسوي، فيما أرى، إلى أن يكون «تفاوضيًّا» بشكلٍ عابر للثقافات. يمكن ممارسة مثل هذه المفاوضات عن طريق الأفراد ليتناولوا كل حالةٍ على حدة، أو بشكلٍ جمعي عن طريق جماعات. إن مثول اتحادات بين الناس بمثل هذا التنوع يعطينا شيئًا من الأمل في أن التواصل الفعَّال العابر للثقافات المشتبك بالتفاصيل الصغرى في حيوات الشعوب ليس ضربًا من الخيال اليوتوبي. بَيد أن الناس في الاتحادات المختلطة القائمة على المساواة، مقارنةً بممارسات الثقافة المهيمنة على الثقافات التابعة، لديهم دوافع قوية لكي يتفهَّم بعضهم بعضًا، وكذلك للتواصل بعضهم مع بعضٍ من أجل تعميق وتعضيد التفاهم بينهم. أمثال هؤلاء الناس يلزمون أنفسهم بأساليب للحياة، حيث إعطاء المهلة للمرء لكي يصل إلى رحاب الآخر، وكذلك إفساح المجال لاختلافات الآخر، كجزءٍ لا يتجزأ من صميم نسيج الوجود اليومي، ليس مفروضًا من الخارج ولا هو يحدث عرضًا. وأيضًا نفترض أن الناس في الاتحادات المختلطة لديهم الخبرة الإيجابية لاتحادهم إلى الحد الذي يجعلهم يفضلون تأكيد ما يظل لا متقايسًا في آفاقهم الثقافية المنفصلة، هذا بدلًا من منع الآخر من الدخول في حياتهم ومشاعرهم الحميمة. ولا شك في أن الأفراد الذين يعيشون أو يعملون بنجاحٍ مع آخرين مختلفين ثقافيًّا هم ذوو مهارة عالية في التواصل، يصنعون استخدامًا أمثل لفرص المشاغل التفاعلية العابرة للثقافات. يضع المنظور النسوي بعد-الاستعماري في بؤرته الساطعة هذه الحقائق التفاعلية، عاملًا على تفكيك ثنائية النماذج الإرشادية للأنا-الآخر، حيث يطرح كلٌّ من الطرفين دعاوى من أجل الاستبعاد المتبادل أو من أجل عالمين متساويين لكنهما منفصلان.

عن طريق العمل الجماعي، يستطيع النسويون إنجاز الكثير في رفع شأن التفاهم العابر للثقافات. وسواء ما إذا كانت هذه الجماعات كلها من النساء فقط أو تتضمَّن نسويات ونسويين، فلعلَّ إسهامها الأساسي هو في بناء وتقوية شبكات التضامن. إن التضامن مصطلحٌ عتيق، طويلًا ما أَلِفَه النشطاء. وعلى الرغم من ذلك، فإن الظروف الراهنة مع الانتقال إلى القرن الحادي والعشرين تتطلب أن نعيد التفكير في معاني التضامن وأن نعمل على تنهيضها. يحتاج النسويون من الثقافات المهيمنة ومن القطاعات الأفضل اقتصاديًّا إلى الاتصال عن كثبٍ أكثر مع المشاريع التي ينكب عليها نسوة ونسويون من الأطراف والهامش. نحتاج إلى العمل الفعَّال لكسب التأييد ولانضواء الأصوات الآتية من الأطراف من أجل زعزعة وطأة الاستعمارية وقوى القمع الأخرى التي لا تزال ترسم معالم خطاب المركز. وليس معنى هذا أن خطاب الأطراف لا يحمل معالم تأثيرات الاستعمارية والعنصرية وأشكال القمع الأخرى، ولكن يعني أنه حين تحاول مثل هذه الأصوات أن تخاطب تلك القوى القمعية أو أن تنخرط في نقدٍ ثقافي رائد يطبِّق أفكارًا حديثة، فإن ثمة رباطًا متينًا يربط بيننا جميعًا، على الرغم من الاختلافات بيننا. والأمر متروكٌ لنا نحن لكي نتعرَّف على المركزية التي يمثِّلها هذا الرباط (الآخر) وأن نبذل الجهد في مساعدته على أن يحتلَّ موقعه الشرعي الذي تأخر طويلًا في النظام الرمزي والتصور الثقافي الغربيَّين. ليس هناك استعانة بشيءٍ آخر، بل فقط زعزعة مفهوم الحداثة وإزاحته من عرشه التصوري وتبنِّي طرق بديلة للعلاقات وللمعرفة لا تعود تستبعد من «المواطن»٢٢ واقع أمريكا اللاتينية وواقع آسيا وأفريقيا والشعوب الأخرى المهمشة ثقافيًّا.

وإني لأعتقد أن النسوية الغربية من دون تبنِّيها لمنظورٍ بعد-استعماري انفتاحي لا يمكنها أن تصل إلى نقطة النضج في عصرنا هذا الذي هو عصر المخاطرات العالمية العابرة للقوميات والذي يحمل معالم هجرة الشتات. وإذا تبنَّت هذا المنظور، سوف ننأى بهوياتنا عن التصور الكلاني للثقافة ونصل إلى النقطة التي نرى فيها أنفسنا موضوعات للاختلاف الثقافي. يحتاج الغرب إلى أن يتعلَّم كيف يخرج من إسار خطاه الاستعمارية ويبدأ في مواجهة واقع البيئة التابعة له وثقافات الشعوب التي حرمها من حقوقها، ولا يزال يعمل على حرمانها. إنه تحدٍّ عسير مطروح أمامنا، لكنه ليس مهمة مستحيلة. ولهذا يتواصل الكفاح.

هوامش

(١) على الرغم من أن سارتر وميرلوبونتي وبوفوار وهايدغر ولاكان يمكن أن يقوموا بدَور الشخصيات الرئيسية في خلفيات مفاهيم الآخر والغيرية، فإن ليفيناس هو الذي نذكره قبل أي سواه حين صياغة أخلاقيات الغيرية. ومع حلول ما بعد-البنيوية، قدمت الأخلاقيات النسوية للفروق الجنسية عند إريجاري ودراسات كريستيفا للتحليل النفسي السيميوطيقي منظورات جديدة لها أهميتها.
(٢) في عرضٍ موجز لخلاصة النظرية بعد-الاستعمارية انظر Sagar (1996). أما عن الكلاسيكيات الآتية من منطقة البحر الكاريبي فانظر Fanon (1963) وFernandez Retamar (1989). وفي النقد المعاصر بعد-البنيوي وبعد الاستعماري، انظر Spivak (1990, 1993) وBhabha (1993). أما عن النقد الأدبي بعد-الاستعماري في أمريكا اللاتينية (باللغة الإسبانية) فانظر محور النقد الثقافي الأمريكي اللاتيني والنظرية الأدبية في Revista Iberoamericana (1996)، وعن الدراسات بعد-الاستعمارية في أمريكا اللاتينية انظر Beverley et al. (1995)، ومحور العدد في Postmodernism: Center and Periphery South Atlantic Quarterly (1993).
(٣) عولجت هذه النقطة في Segar (1996,427) مع إشارةٍ خاصة إلى أعمال سبيفاك. بَيد أن هذا العمل ينطبق بشكلٍ عام على المذاهب النسوية التفكيكية وبعد-الاستعمارية.
(٤) لن أستعمل مصطلح اللامقايسة بمغزاه لدى توماس كون حيث كان عنده يعني اللامقايسة بين نظريتين علميتين يفسران الظواهر ذاتها. فعن طريق هذا المصطلح، أحاول أن أعيِّن وأبيِّن افتقاد إمكان الترجمة المكتملة للتعبيرات المتباينة أو لكتل المعاني بين نظامين أو أكثر من أنظمة الرموز الثقافية-اللغوية. وأيضًا قد تكون ثمة إشارة إلى اللامقايسة بين طرق التفكير على قدر ما تكون الاختلافات متعينة تعيينًا ثقافيًّا.
(٥) لقد دفعنا ثمنًا باهظًا بما يكفي لنوستالوجيا الكل والواحد، وللتوفيق بين … ما هو واضح جلي والخبرة التي يمكن التعبير عنها ونقلها (Lyotard 1984, 81-82).
(٦) لم يكد توماس كون يطرح في فلسفته للعلم — أو بالأحرى لبنية الثورات العلمية — مصطلح Paradigm؛ أي نموذج قياسي إرشادي يمثل إطارًا ضامًّا لسائر مكونات الكيان المعني بحمل معالمه ونظرياته التفسيرية المعمول بها في حقبته التاريخية واتجاهه وأهدافه وقيمه … إلخ حتى ذاع هذا المصطلح وشاع شيوعًا شديدًا، ليس فقط في فلسفة العلم أو حتى في الفلسفة بأسرها فقط، بل في سائر مناحي الخطاب المعاصر، وانتقل هذا الشيوع إلى اللغة العربية حتى حققت معاملة هذا المصطلح مثلما نعامل «موسيقى» أو «فلسفة» أو «فيزياء» أو سواها؛ أي نقتصر على تعريبها وإدخاله الخطاب العربي كمفردةٍ مستجدة هي «باراديم»، على الرغم من أن له مقابلًا عربيًّا جيدًا ذكرناه ولا بأس من استعماله وهو «نموذج إرشادي». [المترجمة]
(٧) هومي بهابها (?–١٩٤٩م) Homi Bhabha من الأسماء اللامعة في ميدان دراسات ما بعد-الاستعمارية، أستاذ اللغة الإنجليزية والآداب الأمريكية ومدير مركز الإنسانيات في جامعة هارفارد، ولد في بومباي وتخرج في جامعتها، وحصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة أكسفورد. [المترجمة]
(٨) Gracia Canclini (1995, 46-47). تستخدم غارسيا كانلكيني النُّخبة الأمريكية اللاتينية كإشارةٍ مرجعية، وهي بهذا تصف «تغاير العناصر في سلطاتٍ زمانية متعددة» كملمحٍ من ملامح الثقافة الحديثة ناتج عن عجز الحداثة عن أن تفرض سيادتها تمامًا على أعنة تراث السكان الأصليين والمستعمرين في أمريكا اللاتينية. وأنا أستخدم المصطلح بشكلٍ مختلف إلى حدٍّ ما؛ لأنه لا منظور الحداثة ولا منظور النخبة يمثلان إشارات مرجعية أولية عندي. الإشارة المرجعية الأولية عندي هي المغزى الوجودي-الفينومينولوجي لسلطتين زمانيتين أو أكثر يخبرهما المرء، وكما تتبدَّى هذه السلطات الزمانية في خبرة الحياة اليومية لأعضاء الأهلين. ويشمل هذا المعوقات الاقتصادية وقطاعات السكان والأقليات العرقية. ونعم يمكن أن تمتد إلى الطبقتين الوسطى والعليا، حيثما كان هذا موافقًا للمقام.
(٩) «تيجانية»: نسبة إلى سلالة تيجانو وهي إحدى سلالات السكان الأصليين في شمال المكسيك وأمريكا اللاتينية، ولفظة تيجانو Tejano هي النطق الإسباني للاسم القديم المهجور للسلالة وهو Texano أو Texan. أما التشيكانية أو التشيكان، وهم مكسيكيون في الولايات المتحدة، فسوف نتعرف عليهم تفصيلًا في الفصل الثامن. وبشكلٍ عام تمثل أنزالدوا التي تُعنى بالتعددية الثقافية الأمريكية-المكسيكية أهمية كبيرة، وخصوصًا كتابها المذكور «الأراضي الحدودية»، وسيتردد ذكرها كثيرًا عبر صفحات الكتاب، بخلاف الفصل الثاني عشر تحديدًا. [المترجمة]
(١٠) الناهيوتل nahuatl: مجموعةٌ مترابطة من اللغات واللهجات منحدرة عن اللغة التي كانت تتحدث بها قبائل الأزتك الشهيرة في أمريكا الجنوبية. يتحدث الناهيوتل الآن نحو مليون ونصف المليون نسمة من نسل الأزتك، غالبيتهم العظمى تعيش أواسط المكسيك، وهم طبعًا من السكان الأصليين في تلك المناطق. [المترجمة]
(١١) أنا هنا أشير إلى الذات المهيمنة المستنيرة في الجنوسة الذكورية لأن هذه الملاحظة قائمة أساسًا على خبرتي العينية، في الجزء الأخير سوف أستهدف افتراض النساء في هذا الصوت.
(١٢) لكي نستطيع تقدير هذه النقطة، قد يساعدنا أن نتعرف على ثقافةٍ تمثيلها أضعف. مثلًا، يعلم النسويون شيوع نماذج إضفاء السمة الاجتماعية على الجنوسة وعلى سلطة التحكم في الأنوثة التي يرفعها أحد النوعين (الذكور) في منظومة الفكر القانوني-الأخلاقي بشكلٍ عام. هذه النماذج تجعل ما يبدو هو أن تعقُّل النسوية متشظٍّ أو غير متماسك بشكلٍ كافٍ إذا ما قورن بتعقُّل الذكور الناجحين اجتماعيًّا. ينبغي أن تتواصل اللاتينية النسوية مع المستمعة إليها إنجليزية اللغة والمسمع، ليس فقط بوصفها نسوية بل وأيضًا بوصفها لاتينية؛ لأن الثقافة المهيمنة صنفتها بأنها لاتينية، وإذا أفرطت في استمالة صورة الثقافة الخاصة بها لتشرح وجهات نظرها، فإن التفسير الذي يبدو لها متماسكًا تمامًا قد لا يكون له مثل هذا التأثير أبدًا في مستمعتها. قد تتذمَّر المستمعة من الأوقات التي لا تستطيع فيها أن تتابع المتحدثة أو أن حديثها ليس مرتبًا بما يكفي. ليست المسألة اتفاقًا أو اختلافًا بشأن مضمون رسالة المتحدثة، بل هي إخفاق في الاتصال بمختلف وجوه الرسالة للخروج بتفسيرٍ مترابط تمامًا. في رأيي الخاص، قد يعني هذا (على الرغم من أنه ليس من الضروري أن يكون له معنى) أن خلفيات تعقل المتحدث ليست بالضرورة متاحة لمتحدثين مرابطين في الثقافة المهيمنة. مرة أخرى، قد يبيِّن هذا كيف أن علاقات القوة اللاتماثلية تزداد فيها قوتها بين المتحدثين المتباينين ثقافيًّا حين تكون إحدى الثقافتين مهيمنة تمامًا على الأخرى. يمكن إعطاء أمثلة أخرى كثيرة على هذه الظاهرة، ليست جميعها متماثلة. وبالنسبة إلى الأبعاد العنصرية خصوصًا لمثل ذلك اللاتماثل، يمكن أن نأخذ في الاعتبار إدانة فرانز فانون للعنصرية التي واجهها في فرنسا، وكانت تتمثَّل في توقُّع أنه كشخصٍ أسود من منطقة البحر الكاريبي لن يستطيع التحدث بلغةٍ فرنسية مترابطة (Fanon 1963, 35-36). قارن أيضًا المثال الذي يطرحه هومي بهابها عن أحد الأتراك في ألمانيا يشعر باستصغاره واحتقاره كحيوانٍ حين يحاول استخدام الكلمات الأولية القليلة التي تعلمها من اللغة الألمانية (Bhabha 1994, 165).
(١٣) أي مقولةٍ أو تصنيف أو مستوى: التقريرات أو الأقوال أو العبارات اللامتقايسة فعلًا بين ثقافة المتكلم وثقافة المستمع. [المترجمة]
(١٤) من الواضح أنه قد يوجد شيء من التداخل بين الناس من ذوي الثقافات المختلفة فيما يتعلق بقيمٍ معينة، كما أنه قد توجد اختلافات في القيم بين بشرٍ ينتمون إلى الخلفية الثقافية ذاتها بشكلٍ استقرابي. القيم السياسية مثلًا قد تختلف اختلافًا ذا مغزًى كبير بين بشرٍ ينتمون إلى خلفياتٍ ثقافية متماثلة. وقد تحدث تباينات حادَّة واختلافات عميقة بين أعضاء الأسرة الواحدة، تمامًا كما أن الشخص قد يستطيع تنمية انجذابه وألفته بقيم بشر من ثقافات قصية نائية، حيثما توجد الظروف الداعية. إن الاتفاق والاختلاف في مثل هذه القيم مسألة منفصلة عن الحجَّة التي أصوغها بشأن مبدأ اللامقايسة كعاملٍ يجب أن نحسب حسابه في التواصل العابر للثقافات بين متحدثين من ثقافةٍ مهيمنة ومتحدثين من ثقافةٍ تابعة. «ترجو المترجمة أن يقارن القارئ العربي بين هذا الكلام وبين حرصنا نحن على أن نتعلم الإنجليزية ونستخدمها، وإهمالنا التام لإتقان أو حتى التحدث بالعربية الفصحى أصلًا.»
(١٥) أجل، آخرون وليس أخريات فقط؛ فهناك رجال كثر عُنوا كذلك بالاعتراض على أن يكون الرجل هو معيار الجنس البشري. نذكر في هذا الصدد الرائد العظيم جون ستيوارت مل (١٨٠٦–١٨٧٣م). [المترجمة]
(١٦) منذ المؤتمر الذي عُقد في مكسيكو سيتي برعاية الأمم المتحدة كافتتاح لعقد المرأة (١٩٨٥–١٩٨٥م)، تعلم النسويون الغربيون أن النساء من مناطق أخرى في العالم، بما في ذلك الأقليات السكانية في الغرب ذاته، لهنَّ وجهات نظر خاصة بهنَّ تتطلب اهتمامًا معينًا؛ هذه الرؤى لا يمكن أن تستوعبها رؤى المذاهب النسوية الغربية؛ لأن الطريقة التي تنظر بها المرأة إلى ظروفها في العالم سوف تعتمد على عوامل عديدة، تتضمن موضعها الثقافي والاقتصادي، من الناحية النظرية، ثمة توجه معين نحو اعتراف أكبر بالتنوع أتى مع موجة «المذاهب النسوية للاختلاف» في ثمانينيات القرن العشرين، قارن (Olea 1995).
(١٧) أنا أطرح هنا توصيفًا وتمثيلًا عريضًا للمذاهب النسوية بعد الاستعمارية، بحيث تستوعب أنواعًا مختلفة من النقد النسوي، وصوتي أنا في هذه المساجلات. وفي صميم العمل النسوي بعد الاستعماري، كثيرًا ما تندمج معًا العرقية والإثنية والطبقية وسواها، بالتوازي مع الاختلافات الثقافية والجنوسية. وفي بعض اختلافات الآراء حول استخدام «ما بعد الاستعمارية» كمقولة، انظر (Segar 1996). لقد قمت بقراءة عمل أنزالدوا «الأراضي الحدودية» بوصفه عملًا بعد-استعماري، على الرغم من أنه ليس من الواضح ما إذا كانت ستقبل هذا المصطلح، إذا ما أخذنا في الاعتبار ما يمارسه التشيكانيون من عدم إدراج هذه التحديات تحت نطاق تحديدات أخرى. بَيد أن المطابقة واضحة تمامًا: إنها تتحدث عن أرض الأسلاف التي سيطرت عليها عدة بلدان مختلفة. وكذلك التشكيلات الثقافية المختلفة التي ظهرت هنالك عبر الزمان، وفضلًا عن هذا تقرِّر: «لقد نشأت بين ثقافتين: المكسيكية (بالتأثير الهندي الكبير عليها) والإنجليزية (كعضوٍ في شعبٍ مستعمر على الأراضي الخاصة بنا)» Anzaldúa (1987, vii).
(١٨) Grewal & Kaplan, Scattered Hegemony (1994) حيث عالجا هذه النقطة وكذلك عالجتها Spivak (1993, 77–95) وAnzaldúa (1987).
(١٩) السميوطيقا هي البحث في الإشارات والعلامات والرموز ودلالاتها الاجتماعية. أما الإبستمية فهي المعرفية الخالصة. [المترجمة]
(٢٠) بل هوكس bell hooks هو اسم الشهرة الذي توقِّع به غلوريا جين واتكنز G. J. Watkins كتاباتها، وتشدِّد على أن يكتب الاسم هكذا من دون أن يبدأ بحروفٍ كبيرة وفقًا لقواعد الكتابة. واتكنز نسوية أمريكية وناشطة في مجال الدعوة لحقوق المرأة، وُلدت في العام ١٩٥٢م، واشتُهرت بمقارباتها بعد-الحداثية لقضايا العنصرية والرأسمالية، أخذت هذا الاسم الذي أرادت أن تشتهر به من اسم جدتها الكبرى لأمها Bell Blair Hooks. [المترجمة]
(٢١) «القمع هو غياب الاختيارات» (hooks, 1984, 5).
(٢٢) تقصد الكاتبة من الموطن أو الوطن home واقع ثقافتها الغربية الاستعمارية، أو التي كانت استعمارية وينبغي أن تصبح بعد-استعمارية لا ترفض الآخر، ولا تعتبره تابعًا أو مُهمشًا. [المترجمة]

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤