الفصل الخامس

ماهية الثقافة ومغزى للتاريخ: نقدٌ نسوي للماهوية الثقافية

أوما ناريان

يمكن تقديم الحرية والمساواة كنماذج قياسية للقيم الغربية، وعلامة دامغة على تفوُّقها الحضاري، في اللحظة نفسها التي كانت الأمم الغربية فيها منهمكة في الاستعباد والاستعمار والنهب، وإنكار الحرية والمساواة، ليس فقط على المستعمرين، بل أيضًا على قطاعاتٍ عريضة من الغربيين أنفسهم، تتضمن النساء.

أوما ناريان

أشير هنا إلى بعض الملامح المشتركة بين الصور الماهوية للثقافة، وذلك عن طريق اصطناع توازٍ بين الماهوية الجنوسية والماهوية الثقافية. وأقيم الحجة على أن الماهوية الثقافية تفسد الأجندات النسوية، وأقترح استراتيجيات لتفاديها. وإذ أجادل في أن بعض صور النسبوية الثقافية تستحضر بعض التصورات الماهوية للثقافة، فإني أحاجُّ بأن النسويين بعد-الاستعماريين عليهم أن يحذروا من التقابلات الماهوية بين «الثقافة الغربية» وثقافات «العالم الثالث».

في العقود الأخيرة أكد النسويون الحاجة إلى التفكير في مسائل الجنوسة، وذلك في ارتباطها بمسائل الطبقة والعرق والإثنية والميل الجنسي، وليس بشكلٍ منعزل عن هذا، وألقوا الضوء الكاشف على ضرورة تفهم الاختلافات بين النساء وتنظيرها لكي نتفادى التعميمات الماهوية بشأن «مشكلات المرأة» (Anzaldúa 1987: hooks 1981, Lugones and Spelman 1983). لا تقتصر الإدانة التي يحملها النقد النسوي للماهوية الجنوسية على أن الدعاوى الماهوية بشأن «المرأة» مفرطة التعميم، بل أيضًا يشير النقد إلى أن تلك التعميمات سيادية، من حيث إنها تقدم مشكلات المرأة المتميزة (وهي في الأعم الأغلب المرأة البيضاء الغربية من الطبقة الوسطى وذات النزوع الجنسي الغيري)، بوصفها النموذج القياسي ﻟ «قضايا المرأة».

تنتج مثل هذه التعميمات الماهوية عن المنظورات النظرية والأجندات السياسية التي تطمس المنظورات والمشاغل السياسية لجحافل النساء اللائي يتم تهميشهنَّ في حدود طبقتهنَّ، أو في حدود العرق أو الإثنية أو التوجُّه الجنسي؛ مثلًا، التحليلات التي ترصد أصول تبعية النساء في حصرهنَّ في نطاق أدوارهنَّ المنزلية والمجال الخاص يمكن أن تُنشئ تعميمات ماهوية إشكالية إذا تجاهلت أن الرابطة بين الأنوثة والمجال الخاص ليست متجاوزة لما هو تاريخي، بل نشأت في سياقاتٍ تاريخية معينة. ومن ثم، فبينما نجد أيديولوجيا الحياة العائلية والتدبير المنزلي يمكنها أن تسجن العديد من نساء الطبقة الوسطى بين جدران المنزل، فإنها في الوقت نفسه تؤيد الاستغلال الاقتصادي لاستعباد المرأة ولنساء الطبقة العاملة، وأولئك نسوة لا تنتج مشكلاتهن الملحة عن حصرهن في نطاق الحياة الخاصة.

في المحافل الملتزمة بتنمية المنظورات النسوية العابرة للقوميات والعالمية، كثيرًا ما يلحُّ النسويون مرارًا وتكرارًا، وتعيينًا وتحديدًا، على الحاجة إلى أن نأخذ في الاعتبار الاختلافات القومية والثقافية بين النساء؛ من أجل تفادي التحليلات المتبنية للماهوية والتي لا تولي اهتمامًا كافيًا بشواغل المرأة في سياقات العالم الثالث. وإني لأتعاطف مع مثل هذا النقد النسوي للماهوية الجنوسية وللدعاوى التي تزعم أن نظريات النسوية وأجنداتها السياسية تعوزها الاستجابة إلى التنوع في حيوات النساء، داخل السياقات القومية وعبرها على السواء. ومع هذا، أُومِن بأن هذه التوصية النسوية بالمثول في خضم «الاختلافات بين النساء» تأخذ في بعض الأحيان أشكالًا مثيرة للتساؤلات، وسوف أقيم الحجة على أن المساعي النسوية لتفادي الماهوية الجنوسية ينتج عنها في بعض الأحيان صور للاختلافات الثقافية بين النساء تشكل ما سوف أسميه «الماهوية الثقافية». في الجزء الأول من مقالي سأضع توصيفًا لبعض التماثلات المتأشكلة بين «الماهوية الجنوسية» و«الماهوية الثقافية»، وسوف أحاول أن أزيح النقاب عن بعض الأسباب التي تجعل التحليلات الساعية إلى تفادي «الماهوية الجنوسية» قد ينتهي بها المطاف إلى مناصرةٍ للماهوية الثقافية. في الجزء الثاني، سوف أصف بعض الملامح المهمة للتصور الماهوي للثقافات، وأقترح بعض التدابير التي تعمل على تفعيل التحديات النسوية لمثل هذه الصور. أما في الجزء الثالث، فسوف ينصبُّ اهتمامي على نقد أشكال من الماهوية الثقافية تنشأ عن الخطوط التقدمية في ألوان الطيف السياسي. وفي الجزء الرابع والأخير، سوف أستكشف ما يتضمنه نقدي للماهوية الثقافية بالنسبة إلى قضايا النسبوية الثقافية، وهدفي الذي يشيع في أعطاف المقال هو المحاجة بأن التصورات الماهوية ﻟﻟ «الثقافة» تفرض مشكلات معينة على الأجندات النسوية في العالم الثالث.

(١) الماهوية الجنوسية والماهوية الثقافية

التوصية بالمثول في خضمِّ الاختلافات بين النساء يمكنها أن تؤدي إلى مشكلات، وأحد الأمثلة المهمة على هذا حين يتم تنفيذ ذلك المشروع بطريقةٍ تتفادى الماهوية بشأن النساء، عن طريق استنساخ التصورات الماهوية ﻟ «الاختلافات الثقافية»١ بين «الثقافة الغربية» و«الثقافة غير الغربية». وهكذا، فإن مشروع المثول في خضمِّ الاختلافات بين النساء عبر مختلف السياقات الثقافية والقومية يصبح مشروعًا مُصدقًا على فروضٍ استشكالية واستعمارية بشأن الاختلافات الثقافية بين «الثقافة الغربية» و«الثقافات غير الغربية» ومستنسخًا لها. وما يلوح من تعميماتٍ كونية ماهوية بشأن «النساء جميعًا» يحل محلها تعميمات ماهوية عن الخصوصية الثقافية، ترتكن إلى مقولاتٍ كلية نهائية من قبيل «الثقافة الغربية» و«الثقافات غير الغربية» و«المرأة الغربية» و«المرأة في العالم الثالث» … وهلم جرًّا.

هذه التدابير غالبًا ما تدفع إليها التوصية القائلة بأخذ الاختلافات بين النساء مأخذ الجد. وعلى الرغم من ذلك، فإنها لا تؤدي إلى تشظي المقولة الكونية: «المرأة» إلا قليلًا؛ لأن التعميمات الماهوية للخصوصية الثقافية تختلف عن التعميمات الماهوية للكونية فقط في الدرجة أو في النطاق، وليس في النوع. وينتج عن هذا صورة غالبًا ما تبقى — أساسًا — ماهوية ﻟ «النساء في الغرب» أو «النساء في العالم الثالث» أو «النساء الأفريقيات»، أو «النساء الهنديات» أو «النساء المسلمات» أو ما يماثل هذا، علاوة على صورٍ ماهوية ﻟ «الثقافات» التي تنتمي إليها تلك الجماعات من النساء. إنها تصوِّر جماعات من البشر على أساس أن الجماعة متجانسة، بينما هي غير متجانسة، لها قِيَم واهتمامات وطرق للحياة والتزامات أخلاقية وسياسية متعددة ومتباينة بالكلية. صبَّت تشاندرا موهانتي جام نقدها على أمثلةٍ عديدة لمثل هذه التعميمات، وتعيِّنها في النصوص التي تحلِّلها.

يُفترض أن «النساء» لهنَّ هوية جمعية متماسكة داخل الثقافات المختلفة موضع المناقشة، هوية سابقة على الدخول في علاقاتٍ اجتماعية. وهكذا، يمكن أن تتحدَّث أومفت Omvedt عن «المرأة الهندية»، في حين أنها تشير إلى مجموعةٍ معينة من النساء في ولاية مهارشترا. وتتحدث كوترفللي Cutrufelli عن «النساء في أفريقيا». وتتحدث ماينسز Minces حول «المرأة العربية»، كأن هذه الفئات من النساء يتمتعن بنوعٍ من التماسك الثقافي الواضح (Mohanty 1991, 70).

هناك عدد من أوجه التشابه بين الماهوية الجنوسية والماهوية الثقافية، فبينما تمضي الماهوية الجنوسية قُدُمًا في افتراض وتكوين ثنائيات حادَّة بين الخصائص أو القدرات أو المواقع الخاصة بالرجال وتلك الخاصة بالنساء، فإن الماهوية الثقافية تفترض وتكون ثنائيات حادة بين «الثقافة الغربية» و«الثقافات غير الغربية»، أو بين «الثقافة الغربية» وثقافات «أخرى» معينة. وفي كلتا الحالتين، فإن الاستنساخ الخطابي لمثل هذه «الاختلافات الماهوية» يمارس فِعله بطريقةٍ تساعد على تكوين مغزيَي الهوية الجنوسية والهوية الثقافية اللتين تُشكِّلان تفهُّم الأنا وتفهُّم ذوات المجموعات المختلفة من البشر التي تعيش في تلك السياقات الخطابية. مع الماهوية الجنوسية والماهوية الثقافية، كلتيهما على السواء، غالبًا ما يعمل الخطاب عن «الاختلاف» على إخفاء دوريهما في إنتاج وإعادة إنتاج مثل هذه «الاختلافات»، عارضًا هذه الاختلافات بوصفها شيئًا ما مُسلَّمًا قبلًا و«حقيقيًّا» بشكلٍ سابق على أي خطاب، حتى إن الخطاب عن الاختلافات يقتصر على التوصيف ولا يساعد على التكوين والاستدامة.

وبينما نجد الماهوية الجنوسية، في الأعم الأغلب، تخلط المعايير الاجتماعية السائدة عن الأنوثة بالمشكلات والمشاغل والمواقع الخاصة بنسوةٍ حقيقيات متعينات، فإن الماهوية الثقافية كثيرًا ما تخلط المعايير الثقافية السائدة اجتماعيًّا بالقيم والممارسات الفعلية الخاصة بثقافةٍ ما. وبينما تساوي الماهوية الجنوسية غالبًا بين المشكلات والمشاغل والمواقع الخاصة ببعض جماعات الرجال والنساء السائدة اجتماعيًّا وبين تلك الخاصة ﺑ «الرجال جميعًا» و«النساء جميعًا»، فإن الماهوية الثقافية كثيرًا ما تساوي بين القيم ورؤى العالم والممارسات الخاصة ببعض الجماعات المهيمنة اجتماعيًّا بتلك الخاصة ﺑ «أعضاء الثقافة كافة». مثلًا تكتب ماري دالي Mary Daly فصلًا عن «الأرملة الهندية» (١٩٧٨) يعيد إنتاج الصورة الماهوية عن «الثقافة الهندية»؛ وذلك عن طريق تجاهل أن الساتي طقس لا يمارسه الهنود جميعًا، وكذلك عن طريق طمس تاريخ الانتقادات والتحديات التي واجهتها هذه الممارسة من قِبل جماعات مختلفة من الهنود (Narayan, 1997).

بالنظر إلى أوجه التشابه بين الماهوية الجنوسية والماهوية الثقافية، يغدو من المهم أن نواجه التعميمات الماهوية التي تنشأ نتيجة للمحاولات النسوية الواعية بذاتها لتفادي الماهوية الجنوسية، وليس من النادر أن يحدث هذا في قاعات الدرس وفي المؤتمرات، وكذلك في النصوص الأكاديمية. هذه المحاولات لتفادي الماهوية الجنوسية، لماذا ينتج عنها، في بعض الأحيان، ماهوية ثقافية بدلًا من أن تؤدي إلى ردعها؟ أعتقد أن جانبًا من التفسير يكمن في ذيوع فَهْم منقوص للعلاقة بين «الماهوية الجنوسية» و«الإمبريالية الثقافية»، دامت الماهوية الثقافية بفعل ذوات متميزين نسبيًّا، من بينهم النسويون الغربيون، وتُفهم بوصفها شكلًا من أشكال «الإمبريالية الثقافية». بينما تميل الذوات المتميزة إلى تكوين «الآخر الثقافي» في تصوراتها الخاصة، وتجعل مواقعهم المعينة ومشكلاتهم المحددة مواقع ومشكلات «النساء جميعًا». يتجاهل هذا التفسير الدرجة التي تصل إليها كثيرًا أفاعيل الإمبريالية الثقافية عن طريق «الإصرار على الاختلاف»، بواسطة إسقاط «الاختلافات» المتخيلة التي تجعل من الآخر «آخر» بدلًا من «الإصرار على التماثل». إن الفشل في رؤية الإمبريالية الثقافية على أنها يمكن أن تتضمَّن كلا النمطين من المشكلات، يحيل إلى أحد أمرين كلاهما عسير: تنشأ محاولات تفادي «التماثل» أحيانًا عن حركاتٍ تخفق في تأكيد «الاختلاف».

إن اختزال «الإمبريالية الثقافية» في مشكلة «فرض التماثل» يخفي أهمية الدَّور الذي لعبته خلال عصور الاستعمار صورٌ من «الاختلافات الثقافية» الماهوية التي تحمل تقابلًا حادًّا بين «الثقافة الغربية» وبين مختلف أشكال «الآخر» بالنسبة إليها، سواء في التبريرات المختلفة للحكم الاستعماري أو في الكتابات عن مختلف الحركات القومية التي تحدت الاستعمارية ونزعت إلى الخلاص منها، وهي صور عادت لتطفو على السطح في محاولات ما بعد الاستعمارية للانشغال بمسائل الاختلاف الثقافي. ثمة منظور نسوي بعد-استعماري يناضل ليكون واعيًا بالاختلافات بين النساء، من دون أن يعاود استنساخ تلك التصورات الماهوية عن الاختلافات الثقافية، ويعوزه الاعتراف بأن المواجهات الإمبريالية تعتمد على «تأكيد الاختلاف» وإلى أي حدٍّ كان هذا. وهي في الواقع مواجهات قد اعتمدت على التقابلات الحادة المطلقة بين الثقافة الغربية و«الثقافات الأخرى»، وفضلًا عن أي شيء سُجل بيت الشعر الذي قاله كبلنغ «ألا، إن الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا أبدًا» (Kipling 1944, 233) في مرحلةٍ تاريخية كان الشرق والغرب فيها منغمسَين في مواجهةٍ خطيرة طال زمانها.

وكان هذا التناقض بين الثقافات «الغربية» و«غير العربية» الذي يرِد ذِكره مرارًا وتكرارًا بنيَّة استعمارية لها دوافع سياسية. ادِّعاء التفوق الذي نسبته «الثقافة الغربية» لنفسها قام بدوره كحيثياتٍ للاستعمارية ومبررات لصلاحيتها. وعلى أي حال، لم يكن للصورة الاستعمارية التي رسمتها «الثقافة الغربية» لنفسها إلا تشابه واهٍ مع القيم الأخلاقية والسياسية والثقافية التي تسود الحياة فعلًا في المجتمعات الغربية. وعلى هذا يمكن تقديم الحرية والمساواة كنماذج قياسية ﻟ «القيم الغربية»، وعلامة دامغة على تفوقها الحضاري، في اللحظة نفسها التي كانت الأمم الغربية فيها منهمكة في الاستعباد، والاستعمار والنهب، وإنكار الحرية والمساواة ليس فقط على المستعمَرين، بل أيضًا على قطاعاتٍ عريضة من الغربيين أنفسهم، تتضمن النساء. وفي هذه البنية ﻟ «الثقافة الغربية»، جرى بمنهجيةٍ بالغة تجاهُل التماثلات العميقة بين الثقافة الغربية وبين العديد من الثقافات التي تعتبرها «ثقافات أخرى»، تماثلات من قبيل الأنساق الاجتماعية التراتبية، والفوارق الاقتصادية الضخمة بين الأفراد، وسوء معاملة المرأة وإجحاف حقوقها.

هذه الصورة الاستعمارية للتناقضات الحادة بين «الثقافة الغربية» وما سواها من ثقافاتٍ أخرى تنتج أيضًا عن تمثيلاتٍ بالغة التشوه لمختلف «الثقافات المستعمرة»، وغالبًا كنتيجةٍ لما يتمسك به المستعمرون من قوالب نمطية متحيزة مدفوعة بالأيديولوجيات، بل أيضًا كنتيجةٍ للحركات القومية المضادة للاستعمارية التي تحتضن ما تتضمنه تلك القوالب النمطية من جوانب منسوبة إلى ثقافاتها الوطنية وتحاول إذكاء قيمتها. وعلى هذا النحو، بينما كانت بريطانيا تنسب «النزعة الروحية» إلى الثقافة الهندية لكي توعز بافتقارها إلى الاستعداد لما يأخذ به العالم الراهن من مشاريع الحكم الذاتي، اعتنق العديد من الهنود الوطنيين هذا التعريف الروحاني من أجل إقامة الحجة القومية المضادة للاستعمارية القائلة إن «ثقافتنا» متميزة عن «الثقافة الغربية»، وكذلك تتفوَّق عليها. ونتيجة لهذه العملية الاستعمارية، تكررت على يد المستعمِرين والمستعمَرين معًا، تلك الصور الماهوية ذات التناقض الحاد بين «الثقافة الغربية» ومختلف «الثقافات القومية» المستعمرة، أخفق المستعمِر والمستعمَر، على السواء، في تسجيل إلى أي درجةٍ تنتج صميم الموضوعات التي أسسوها بوصفها «غربية» أو «غير غربية» عن تلك التناقضات المزعومة بين «الثقافات».

وإذا سلمنا بأن العديد من بلدان العالم الثالث في عصر ما بعد الاستعمارية لا تزال خاضعة للهيمنة الاقتصادية والتدخل السياسي والسيطرة من قِبل القوى الغربية، فإن المقاومة السياسية لمثل تلك الهيمنة، وذلك التدخل كثيرًا ما تتَّصل من نقاطٍ مختلفة على مدار الطيف السياسي بأطرافٍ تكرر التصورات الماهوية الاستشكالية ﻟ «الثقافة الغربية» وثقافات معينة في العالم الثالث. النسويون في الغرب وفي العالم الثالث، معًا، ينتابهم كثيرًا قلق مشروع من الإمبريالية الغربية، ولديهم اهتمامات سديدة بأن تلتفت برامج العمل النسوية إلى الاختلافات بين النساء. ولسوء الحظ يميل أولئك في بعض الأحيان إلى أن تتواصل اهتماماتهم بشكلٍ ما يعيد تكرار تلك التصورات الماهوية ﻟ «الثقافة الغربية» و«ثقافات العالم الثالث»، بدلًا من العمل على تحديها.

وبينما نجد التمثيلات النسوية الماهوية للثقافات تصور أحيانًا ممارسات وقيم الجماعات السائدة على أنها ممارسات وقيم «الثقافة ككل» (كما تفعل دالي في مناقشتها لطقس الساتي)، تنتج بالمثل تمامًا تمثيلات ماهوية حين يتم اصطناع نموذج تمثيلي ﻟ «المرأة في العالم الثالث» على غرار المرأة المهمشة والمقهورة في العالم الثالث. وبكفاءةٍ عالية يطمس هذا النمط الأخير من التمثيلات تغايرات العالم الثالث، تمامًا كما يفعل النمط الأسبق، ويحمل معالم التباين اللافت معه في أن المرأة الغربية المقهورة من الطبقات الدنيا المسودة نادرًا ما تؤخذ ﮐ «تمثيل للثقافة الغربية». تعمل تشاندرا موهانتي على تفسير هذا التباين حين تُشير إلى العديد من النصوص النسوية الغربية، وكيف تعمل على إنتاج تصور ﻟ «النموذج العام للمرأة في العالم الثالث».

النموذج العام للمرأة في العالم الثالث هو أنها تخوض غمار حياة منقوصة نقصانًا جوهريًّا قائمًا على جنوستها الأنثوية (يُقرأ: مكبوتة جنسيًّا)، وكونها من العالم الثالث (يُقرأ: جاهلة، فقيرة، غير متعلمة، تحاصرها التقاليد، تقوم بالخدمة المنزلية، خاضعة للأسرة، ضحية … إلخ). وهذا، فيما يعنُّ لي، يتناقض مع تمثيل — ذات المرأة الغربية (الضمني) بوصفها متعلمة وحداثية وتملك حق التصرف في جسدها وفي ميولها الجنسية، ولها حرية اتخاذ القرارات الخاصة بها (Mohanty 1991, 56).
كثيرًا ما تفرض الماهوية الثقافية مشكلاتٍ مُلِحَّة على الأجندات النسوية في سياقات العالم الثالث، مع التسليم بأن البنيات الماهوية ﻟ «ثقافات» معينة في العالم الثالث كثيرًا ما تؤدي دورًا قويًّا متواصلًا في الحركات السياسية التي هي معادية لمصالح المرأة في بقاعٍ مختلفة من العالم الثالث. هذه الصور الماهوية للثقافة غالبًا ما تصف المعايير الثقافية المسيطرة على الأنوثة، والممارسات التي تؤثر سلبيًّا في المرأة، بأنها مكونات أساسية ﻟ «الهوية الثقافية»، وغالبًا ما يعتبرون توافق النساء مع الوضع القائم بمنزلة «حفاظ على الثقافة» ويرون التحديات النسوية للمعايير والممارسات التي تؤثر سلبيًّا على المرأة بأنها «خيانات ثقافية». في مثل هذه البنيات الماهوية للثقافة، غالبًا ما يتم تمثيل المعايير والممارسات التي تؤثر سلبيًّا في الوضع الاجتماعي وعلى أدوار النساء بأنها مورد أساسي لمهمة «مقاومة التغريب» و«الحفاظ على الثقافة الوطنية»، مختزلين تحديات نسوية العالم الثالث للمعايير والممارسات المحلية المتعلقة بالمرأة لتكون مجرد «خيانات للوطن وللثقافة». وحين تتسربل التعريفات الماهوية لثقافات العالم الثالث بالرداء الفضفاض لفضيلة مقاومة الإمبريالية الثقافية الغربية، فإن النسويين في العالم الثالث وآخرين يعارضون المعايير والممارسات السائدة، إذ يتم إدراجهم خطابيًّا في إطار «الخائنين للثقافة» و«عملاء الإمبريالية الغربية». وعلاوة على هذا، غالبًا ما تقوم الصور الماهوية ﻟ «الثقافات والتقاليد القومية» بدورها في تبرير ما يحل بالأقليات الدينية والعرقية وأعضاء الطوائف الخاضعة اجتماعيًّا والفقراء من استغلالٍ وهيمنة وتهميش، ويتم استخدامها لإلغاء مختلف المطالب السياسية بالعدالة والمساواة والحقوق أو بالديمقراطية بوصفها رديفًا ﻟ «الفساد السياسي» الذي أحدثته «الأفكار الغربية» (Mayer 1995, Howard 1993). غالبًا ما نجد لهذه المناشط مثالًا ساطعًا في الخطاب السياسي أو المناورات اللذين يأتيان من الحركات السياسية الأصولية والمحافظة.

وإذا سلمنا بأن التعريفات الماهوية للثقافة غالبًا ما تنتشر بطرقٍ ضارة بمصالح العديد الجم من أعضاء المجتمعات القومية المحلية، بما فيها مختلف جماعات النساء، فسوف أحاج بأن النسويين، بتحديهم لمثل هذه التعريفات، إنما يقامرون مقامرةً كبرى. إن المنظورات النسوية بعد-الاستعمارية القابلة للبقاء يعوزها الانخراط في إعادة التفكير بشأن الصور الذائعة ﻟ «الثقافة الغربية» ولثقافات العالم الثالث المختلفة، بدلًا من أن يساعدوا على تكرارها وترديدها بما يفعلونه من تسطيح المقاومة السياسية للهيمنة والتدخل الغربيين، عن طريق الخلط بينها وبين التصورات الماهوية ﻟ «الاختلاف الثقافي»، و«الحفاظ على الإرث الثقافي».

(٢) مناورات الماهوية الثقافية والتحديات النسوية

حاولت في الجزء السابق أن ألفت الانتباه إلى أوجه تماثل بين الماهوية الثقافية والماهوية الجنوسية، وأن أحلل السبب الذي يجعل بعض المحاولات النسوية لتفادي الجنوسية تُسفر عن تكرارٍ للماهوية الثقافية، وكذلك أقمت الحجة على أن التصورات الماهوية للثقافة تفرض على برامج العمل النسوية في العالم الثالث مخاطر محددة. وفي هذا الفصل سوف أركز على سياقات العالم الثالث، وأقدم بعضًا من المناشط التي هي في الغالب (وليس حصرًا) تنتشر كثيرًا عن طريق الأصوليين لتكرر وتعيد التمثيلات الماهوية للثقافة التي هي ضارة بمصالح المرأة. وكذلك سوف أضع تحديدًا لبعض «التحركات-المضادة» التي قد تمهد السبيل أمام نسوية العالم الثالث لتحدي مثل هذه الصور الماهوية للثقافة. إذ أفعل هذا، يحدوني الأمل في أن أعين أساليب للتفكير بشأن «الاختلافات الثقافية» مناهضة للماهوية، وأعتقد أنها أساليب تخدم كثيرًا المنظور النسوي التقدمي بعد-الاستعماري.

ثمة استراتيجية فعالة وشاملة لمقاومة الماهوية الثقافية، ألا وهي تنمية موقف «يستعيد التاريخ والسياسات» لينشر صورًا تاريخية ﻟ «الثقافات». إن الصور الماهوية للثقافة تمثل «الثقافات» كما لو كانت معطاة بحكم الطبيعة، توجد في العالم بوصفها كيانات متمايزة ومنفصلة بشكلٍ دقيق، وتستقل تمامًا عن مشاريعنا للتمييز بينها، تنحو هذه الصور نحو محو واقع مفاده أن «الحدود» بين «الثقافات» تراكيب إنسانية، تتبع أصول معالمها من تبايناتٍ مختلفة كائنة في رؤى العالم وطرق الحياة، فهي تمثيلات ثاوية في غاياتٍ سياسية مختلفة وتعمل على ترويجها. إن التمثيلات الماهوية للثقافة تحجب حقيقةً مفادها أن التصنيفات أو التشخيصات التي تُستعمل في الوقت الراهن لتمييز أو تشخيص «ثقافات» معينة هي نفسها ذات منشأ تاريخي، وأن ما نقوم بتفريد شخصيتها وانتقائها، بوصفها «ثقافة واحدة»، كثيرًا ما تتغير عبر الزمن.

يستطيع النسويون المناهضون للماهية أن يواجهوا هذه الصورة الماهوية للثقافة عن طريق التأكيد على الفهم التاريخي للسياقات، وعلى أن ما تؤخذ في الوقت الراهن على أنها «ثقافاتٌ معينة» قد جرى اعتبارها وتعريفها بوصفها هكذا داخل تلك السياقات. لنأخذ مثالًا، وهو الصورة السائدة ﻟ «الثقافة الغربية» بوصفها تبدأ مع الإغريق، ولعلها تبلغ ذروتها المعاصرة مع الولايات المتحدة. أما المنظور التاريخي فسوف يسجل أن الإغريق القدامى لم يعرِّفوا أنفسهم بوصفهم جزءًا من «الثقافة الغربية». ويبدو أن هذا اللقب لم ينشأ إلا مع تقدم الاستعمارية الغربية. ومن الأرجح أن «الثقافة الأمريكية» كانت في مبدأ الأمر تتمايز عن «الثقافة الأوروبية»، التي جرى استيعابها وتمثلها بوصفها «الثقافة الغربية». وفي هذا يشير قاموس أكسفورد الإنجليزي المختصر إلى أن استعمال مصطلح «غربي» للإشارة إلى أوروبا في تميزها عن «الشرق» أو «المشرق» بدأ حوالي العام ١٦٠٠م، وهذه شهادة على أصوله الاستعمارية. وأيضًا سوف يتحقق المنظور المناهض للماهوية من أن كثيرًا من النصوص والمصنوعات اليدوية والممارسات التي يمتد مداها من العصور القديمة إلى العصور الحديثة، والتي تُصنف في يومنا هذا على أنها «ثقافة هندية» قد صُنفت ﺑ «جملتها» تحت تصنيفٍ كان زمان نضجه هو مرحلة الاستعمارية البريطانية. يتصل هذه التصنيف بالتوحيد التاريخي بين مجموعةٍ متنوعة من المقاطعات السياسية في قلب «الهند البريطانية»، وهذه الوحدة هي التي مكَّنت التحدي القومي للاستعمارية من الانطلاق بوصفه «هنديًّا»، وأن يدعم مطالبه بالحكم الذاتي على أساس «الثقافة القومية» (Narayan, 1995). وعلى هذا سوف يؤكد الفهم المناهض للماهوية على أن التصنيفات التي تعلن «انتقاء» «ثقافات» معينة ليست محض توصيفات نذيعها لتفريد كيانات متميزة بالفعل، والأحرى أنها تشخيصاتٌ تعسفية تمامًا ومتبدلة، تتصل بمشاريع سياسية مختلفة لها دواعٍ مختلفة لتمييز إحدى الثقافات عن الأخرى. ليست الثقافات كيانات متفردة بشكلٍ سابق على أي توالٍ لها، ثم جرى بعث الحياة في أسمائها لتغدو مجرد تصنيفات، بل هي كيانات يعتمد تفردها على عملياتٍ خطابية معقدة ترتبط بالأجندات السياسية.

علاوة على ذلك، يحتاج هذا الحس التاريخي أيضًا إلى الانتباه إلى عملياتٍ تاريخية وسياسية من خلالها يتأتى وضع قيم معينة وممارسات معينة في موضعٍ ما هو مركزي أو حاسم ﻟ «ثقافة» معينة. غالبًا ما يسير هذا على وجه الدقة عن طريق صَبِّ قِيَم معينة وممارسات معينة في قالب «العناصر البنائية والمركزية» للثقافة لكي نميزها عن «الثقافات الأخرى». وبدلًا من أن ننظر إلى مركزية قيم أو تقاليد أو ممارسات معينة لأي ثقافةٍ معينة على أنها معطاة، فإننا نحتاج إلى تتبع العمليات التاريخية والسياسية التي من خلالها جرى حسبان تلك القيم أو التقاليد أو الممارسات على أنها مكونات بنائية مركزية لثقافةٍ معينة.

إمكانية الاستفادة النسوية من هاتين الحركتين كلتيهما يتَّضح على أفضل نحوٍ عن طريق مثال عيني، وسوف أركز على ممارسة الساتي (إحراق التي مات زوجها)، وأن وضع التضحية بالأرامل على المحارق الجنائزية لأزواجهن في موضعٍ بنائي كمكونٍ محوري من مكونات «الثقافة الهندية» في العهد الاستعماري شاع وذاع في الخطاب السياسي للأصوليين الهندوس المعاصرين، بوصفه رمزًا مقدسًا ﻟ «المرأة الهندية الفاضلة»، حتى لو كانت التضحية بالأرملة رمزًا مقدسًا، ولكنها اختفت كممارسة. ثمة سؤال مهم يريد النسويون طرحه، وهو: هذا الطقس المعين بوصفه من «التقاليد الهندية المركزية»، والذي لم يعد يشغل الغالبية العظمى من المجتمعات المحلية الهندوسية، ودَعْ عنك المجتمعات الهندية بأسرها، وأصبح قدرًا استثنائيًّا وليس روتينيًّا للأرامل حتى في المجتمعات المحلية القليلة التي تمارسه، كيف ولماذا جرى اعتباره مكونًا محوريًّا من مكونات الثقافة الهندية؟ تكمن الإجابة في مساجلاتٍ معقدة حول هذه الممارسات دارت في القرن التاسع عشر بين المستعمرين البريطانيين وبين النخبة الهندية التي وضعت الساتي ﮐ «تقليد هندي محوري وأصيل»، وهي عملية لها وصفٌ شائق في كتاب لاتا ماني Lata Mani التقاليد المثيرة للجدل: مساجلة حول الساتي في الهند المستعمرة Contentious Traditions: The Debate on SATI in Colonial India (1987)، ونتيجة لهذه المساجلة، بات الساتي معروفًا للبريطانيين والهنود معًا، لمناصريه ومعارضيه من كلا الجانبين، ﮐ «حالة كناية» أصبحت رمزًا ﻟ «الثقافة الهندية» يفوق الحياة بشكلٍ يعلو جذريًّا على واقع ممارسته المحدودة. وأصبح الساتي، حتى بالنسبة إلى العديد من المصلحين الهنود المعارضين لممارسته، رمزًا ساميًا ﻟ «النسائية الهندية المثلى» يدل على نبل الأنوثة والتفاني من أجل الأسرة، غير المعهود من النساء الغربيات.
يساعد هذا التاريخ الاستعماري لمعرفة لماذا أصبح الساتي رمزًا سياسيًّا بارزًا ﻟ «الثقافة الهندية»، ومتاحًا للأصوليين الهندوس اليوم لكي يعملوا على الإعلان عنه وإذاعة أمره. على أي حالٍ، يمارس هذا التاريخ الاستعماري فعله أيضًا بشكلٍ يلقي حجب الغموض ويخفي دوره في إنتاج الساتي بوصفه «تقليدًا هنديًّا محوريًّا». إنه يمارس هذا الفعل لكي يجعل «من الطبيعي» أن يحتلَّ الساتي منزلته بوصفه «جوهر التقاليد الهندية»؛ ممَّا يعني ضمنًا أن هذه المنزلة كانت واضحة ومعطاة قبلًا، وأن الطعن الاستعماري اللاحق مجرَّد توصيف وتأكيد للمنزلة وليس خلقًا لها، وأسفر هذا عن قبول بغير تمحيص للساتي بوصفه «تقليدًا هنديًّا أصيلًا»، يمكن فقط تقويمه بأنه «تقليدٌ جيد ذو قيمة أخلاقية»، أو بأنه «تقليدٌ سيئ شنيع أخلاقيًّا»، يحمل هذا الوضع تهديدًا بتبديد التحديات السياسية لصميم وضع الساتي ﮐ «تقليد هندي مركزي». وكان النسويون من ذوي الخلفية الهندية ضمن الأصوات القليلة المساعدة على جعل صميم منزلة الساتي ﮐ «تقليد هندي» موضع بحث وتساؤل، عن طريق الحفر والتنقيب في السياق التاريخي الاستعماري، الذي «أنتج» له هذه المنزلة (Main 1986, Kumer 1994, Oldenberg 1994).

وكذلك تلقي الصور الماهوية غير التاريخية للثقافات حجب الغموض على مدى ما ينظر إليه بوصفه بنائيًّا في «ثقافة» معينة، وبوصفه محوريًّا في مشاريع «المحافظة الثقافية» المتغيرة على مر الزمن. وهكذا، غالبًا ما تعتمد التصورات الماهوية للثقافة على الصورة التي تعرض الثقافات بوصفها «معطاة»، ليس فقط بل أيضًا «معطاة بشكلٍ ثابت لا يتغير». وإذ تُلقي حجب الغموض على واقع التغير التاريخي والتحديات السياسية التي تشتبك معها الثقافات، فإن هذا يعزز الصورة السكونية «الثابتة» للثقافات المعينة، حيث تبدو «قيمها وممارساتها وتقاليدها»، وبالمثل تمامًا حسها لما تومئ إليه ثقافتها وما تستلزمه «المحافظة» عليها … يبدو كلُّ هذا في مأمنٍ من التاريخ. وأحسب أن الرؤية النسوية المطعمة بالتاريخ والمضادة للماهوية تتطلَّب منا أن نتعلم كيف ننظر إلى الثقافات بوصفها أقل تصلبًا وأكثر عُرْضةً للتغير عمَّا تبدو عليه في الصور التي تصفها في الأعم الأغلب.

نسوية العالم الثالث لها العديد من التحليلات المفيدة في لفت الانتباه إلى الأعضاء المسيطرين في ثقافةٍ ما، وكيف أنهم كثيرًا ما يرحبون بتغيير أو تجاهل ما كان يُعتبر، فيما سبق، «ممارسات ثقافية مهمة»، وعن طوعٍ وطيب خاطر يغيرون أو يتخلَّون عن جوانب مختلفة، من مثل هذه الممارسات حين يكون ذلك مناسبًا لهم، لكنهم يقاومون ويعترضون على تغيراتٍ ثقافية أخرى. التغيرات التي تلاقي مقاومة الأعضاء المسيطرين هي تلك التي تنحو نحو وضعٍ يهدد وجوه القوة الاجتماعية المخولة لهم، وهي غالبًا ما تكون التغيرات المتعلقة بمنزلة المرأة وجودة حياتها. على سبيل المثال، ثمة كتاب أولينكا كوزو-توماس Olayinka Koso-Thomas الذي يكشف عن واقع الأمر في سيراليون؛ إذ يتمثل في أن سائر طقوس الشروع والتدرب، التي كانت مقدمات تقليدية لختان الإناث، وتستغرق من عامٍ إلى عامين، قد أُسقطت لأن الناس لم يعد لديهم الوقت ولا المال ولا البنية التحتية الاجتماعية اللازمة لهذه الطقوس. ومع هذا، لا تزال صميم ممارسة البتر، مجردة من مجمل سياق الممارسات التي اعتادوا على أن يكون مغلفًا بها، ينظر إليها بوصفها مكونًا حاسمًا من مكونات «التقاليد المحافظة»، مع التعتيم على درجة التخلي عن جوانب أخرى من التقاليد (Koso-Thomas 1987, 23). وأعتقد أن التحديات النسوية لما جرى ترسيمه على أنه «الممارسات الثقافية التقليدية» في حاجةٍ إلى الانتباه لمثل هذه التحركات المتمثلة في مجازٍ مرسل علاقته جزئية، حيث تتقدم أجزاءٌ من الممارسة لتتخذ وضع الكل؛ لأن مثل هذه التبديلات تخفي دائمًا مختلف التغيرات الاجتماعية الملموسة.
هذا التبديل المعتمد على علاقةٍ جزئية يفتح الباب أمام ممارسةٍ ثقافية تغيَّرت تغيرًا جذريًّا كي تتكرَّر في صورة «ممارسة لا تتغير ومحل للمحافظة الثقافية»، ويمكن كذلك أن يلقي حجب الغموض نسبيًّا على تغيراتٍ في «الممارسات التقليدية» ليست محل جدال، لكن لها آثار ضارة بشكلٍ هائل. مثلًا، في حالة ختان الإناث في سيراليون، يبدو أن اختفاء فترة التأسيس والإعداد قد عدَّل هذه الممارسة إلى الأسوأ. انخفض سِنُّ تنفيذ عملية البتر بشكلٍ كبير. والآن تُجرى هذه العملية للبنات في سن الطفولة وليس في سن المراهقة، ما دامت الفتيات لم يعُدْنَ في حاجةٍ إلى بلوغ السن التي يتمكنَّ فيها من تعلُّم طقوس وتلقِّي تدريبات جرى الاعتياد على اعتبارها جوانب تدخل في بنية هذه الممارسة (Koso-Thmoas 1987, 23). إن التفهُّم والتوصيف النقديين والسياسيين لمثل هذه الحقائق المتعلقة بالتغير الثقافي لهو مكونٌ أساسي لطعن النسوية في الأجندات السياسية المعتمدة على التصورات «الماهوية للثقافة».
التفات النسوية إلى مثل هذه الجوانب للتغير الثقافي يمكن أن يساعد في جذب الانتباه لعمليةٍ أوسع، أسميها «وضع العلامات الانتقائية»، حيث يقوم أصحاب السلطة الاجتماعية بترسيم تغيراتٍ معينة ملائمة في القيم والممارسات، بوصفها تتفق مع «الحفاظ على الثقافة»، بينما يتم ترسيم تغيرات أخرى بوصفها «خسرانًا ثقافيًّا» أو «خيانة ثقافية» (Narayan, 1997). يلعب نشر «وضع العلامات الانتقائية» دَورًا فعَّالًا في تيسير التصورات الماهوية للثقافة لأنه يسمح للتغيرات التي توافق عليها الجماعات المهيمنة اجتماعيًّا بأن تبدو متَّفقة مع قيمٍ جوهرية، أو مع صلب الممارسات في الثقافة، في حين يجري تصوير التغيرات التي تتحدى الوضع الراهن على أنها تهدد «الحفاظ على الثقافة»، انتباه النسوية إلى «وضع العلامات الانتقائية» يمكن أن يساعد في التشديد على أن أولئك الذين يملكون السلطة الاجتماعية كثيرًا ما يهجرون التقاليد أو يعملون على تعديلها حينما يناسبهم ذلك، وكثيرًا ما يفعلون هذا بطريقةٍ تجعل هذه التعديلات لا تبدو على أنها حالاتٌ من «التغير الثقافي»، وبمعزلٍ عن المساجلات الاجتماعية حول «الحفاظ على الثقافة». يمارس «وضع العلامات الانتقائية» فِعْله في سياقات العالم الثالث، حيث نجد أن تحول العديد من الجماعات إلى المسيحية لا يثير وخزًا للضمير بشأن «التغريب» أو «المحافظة على الثقافة»،٢ بينما يستمر التمسُّك بتشويه الأعضاء التناسلية للأنثى كأمرٍ يقوم من أجل «الحفظ على الثقافة». وتعرض حركة طالبان في أفغانستان تعسُّفًا مماثلًا؛ إذ يسيطر عليها هاجس إجبار النساء على العودة إلى «مكانهنَّ التقليدي». ولكن يبدو أنها لا تجد حرجًا في الاعتماد الضخم على عتاد التسليح الأجنبي، أو المصنوع في الغرب للحفاظ على سلطة الدولة.

الحساسية ﻟ «وضع العلامات الانتقائية» يمكنها، أيضًا، من أن تجعل النسويين قادرين على جذب الانتباه إلى تغيراتٍ حدثت في حيوات النساء وفي ممارسات تؤثر في المرأة، في سياقاتٍ قومية مختلفة، وقد جرى اعتبارها استشكالية، ولكن قطاعات عريضة من السكان اعتبرتها تعديلات ثقافية مقبولة. مثلًا، شرائح مختلفة من النخبة الهندية اعتبرت التعليم العام للإناث، في مبدأ الأمر، إشكالية ثقافية. وعلى مدار ما يقرب من جيلين تغيَّر هذا، بحيث لم يعُد التعليم مسموحًا به فقط، بل أصبح القاعدة الفعلية لبنات تلك العائلات. نسبةٌ عالية من البورجوازية الهندية الآن لم تعد تؤيد «تقليد» تزويج الفتيات بمجرد وصولهن إلى سن البلوغ، لكنها لا تزال تثير شبح «الخيانة الثقافية» حين تتحدى بعض بناتها تقليد الزيجات المرتبة. تبين هذه الأمثلة كيف يمكن أن يظل تكبيل المرأة بالمسئولية الأساسية ﻟ «الحفاظ على الثقافة» نسبيًّا أمرًا ثابتًا، حتى لو تغير على مر الزمن ما يجب أن تفعله المرأة ﻟ «الحفاظ على الثقافة». تُلقي هذه الأمثلة الضوء على كيفية تمكين المنظورات النسوية حينما تجتمع انتقادات آثار «تقاليد» معينة مناوئة للمرأة، مع موقفٍ نقدي تجاه الصور اللاتاريخية والماهوية لتلك «التقاليد».

(٣) أشكال معدلة «تقدمية» للماهوية الثقافية

تناضل النسوية في العالم الثالث ضد صورٍ مختلفة من الأصولية السياسية، وكثيرًا ما تتكفَّل بمواجهة التصورات الماهوية للثقافة التي تصبُّ الأصوليين في قالب «المدافعين عن الثقافة الوطنية والتقاليد»، وتصور أنصار النسوية في العالم الثالث على أنهم خونة للثقافة أفسدهم إغواء «القيم الغربية». على أي حال، ليس الأصوليون وحدهم هم الذين يسهمون في نشر الصور الماهوية للثقافة. إن الذين يشغلون مجالًا واسعًا من المراكز في الطيف السياسي يرفعون لواء التصورات الماهوية للثقافة. وأيضًا نجد أشخاصًا تقدميين، من الغرب ومن العالم الثالث، يصدقون أحيانًا دون تمحيصٍ على التصورات الماهوية لما تكونه «الثقافة الغربية» أو «ثقافة معينة في العالم الثالث». وكشأن العديد من التصورات الأيديولوجية، فإن القبول الواسع للأفكار الماهوية عن الثقافة ينتج عن مدى الجلاء في ظهور هذه الأفكار أمام القطاع الأعظم من الناس. تستطيع هذه الأفكار تغذية تفكير الناس من دون أن تكون هي ذاتها موضوعًا للتفكير. ونتيجة لهذا، ليس من الضروري أن يكون نسويو العالم الثالث أنفسهم في مأمنٍ من الصور الماهوية للثقافة، خصوصًا التصورات الماهوية بشأن الفوارق بين «الثقافة الغربية» و«ثقافات معينة في العالم الثالث». وقد أُقيمت الحجة؛ مثلًا، بالخطابات النسوية التي تُقِرُّ بأن «مساواة المرأة» هي «قيمة غربية»، وأن امتدادها إلى سياقات العالم الثالث «دعوى ثقافية إمبريالية فرضها العالم الأول» (وهذا إقرار طرحته حكومات غير غربية وناشطات نسويات في سياق أعمال مؤتمر العام الدولي للمرأة في ١٩٧٥م)، ومخاطرة باستنساخ مفاهيم «ماهوية للثقافة».

ويمكن أن نجد مثالًا آخر للماهوية الثقافية المنبثقة عن قطاعاتٍ من الطيف السياسي، وذلك في مجادلة النسويين وسواهم، في أن «حقوق الإنسان» مفهومٌ غربي بحيث يشكل امتداده للعالم الثالث فرضًا غير مشروع ﻟ «القيم الغربية» … مثلًا، أنكر أدمانتيا بوليس وبيتر شواب مشروعية توظيف القيم الثقافية الغربية للحكم على مؤسسات الثقافات غير-العربية، وأكَّدا أن فرض معايير مأخوذة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على مجتمعات العالم الثالث إنما هو شوفونية أخلاقية وانحياز للمركزية الإثنية (Pollis and Schwab, 1979)، تشكل مثل هذه الدعاوى حالات استشكالية للماهوية الثقافية.
ويقينًا، الإقرار بأن «المساواة» و«حقوق الإنسان» إنما هما «قيمٌ غربية» قد تعقد أمرهما بفعل حقيقة تاريخية مفادها أن المبادئ الغربية بالمساواة والحقوق قد وُجدت على مدى عقود من الزمان بمعية تأييد العبودية والاستعمار، وأن تلك المساواة والحقوق قد جرى إنكارها عن النساء، وعن الأقليات العرقية والدينية والإثنية داخل الأمم الغربية، وفعليًّا عن كل رعايا الأراضي المستعمَرة. وفقط كنتيجةٍ للنضال السياسي من قِبل هذه الجماعات المختلفة المهمَّشة في السياقين الغربي وغير الغربي معًا راحت مبادئ المساواة والحقوق يُنظر إليها تدريجيًّا بوصفها منطبقة عليهم أيضًا. وعلى ذلك يمكن أن يحاج المرء بأن مبادئ المساواة وحقوق الإنسان ليست ناتجًا خالصًا من «نواتج الإمبريالية الغربية»، إنما هي ناتجٌ مهم من نواتج ذلك الكفاح والنضال ضد الإمبريالية الغربية. كثيرًا ما كانت تصورات المساواة والحقوق معالم مميزة في مثل هذه الأشكال من النضال، وطويلًا ما جعلت نفسها جزءًا لا يتجزأ من مفردات الكفاح والنضال السياسيين في العالم الثالث. أما المزاعم القائلة إن المساواة والحرية هما «قيم غربية»، فإنها تخاطر بطمس الدور الحيوي الذي أدته مثل هذه التصورات ولا تزال تؤديه في تلك الحركات المناضلة (Narayan 1993, Mayer 1995). وبشكلٍ عام، نادرًا ما تكون أصول ممارسة ما، أو مفهوم ما، محدودة بحدود نطاق ملاءمته. إن استعارة أفكار الآخرين وممارساتهم ومصنوعاتهم الفنية وتقاناتهم وتمثلها ونقلها عملية تحدث في كل مكان. ومن الصعب جدًّا أن يكون العالم الثالث فريدًا في هذا. ومع مرور الزمن تم تمثُّل كيانات غير أوروبية في قلب «الثقافة الغربية»، تشمل بنودًا متنوعة، مثل البارود والبوصلات والمسيحية والقهوة.
إن المزاعم النسوية بأن «المساواة» و«الحقوق» هما «قيمٌ أوروبية» لتخاطر أيضًا بترديد خطابات جماعتين من الناس، على الرغم من اختلافاتهما الأخرى، يتشاركان في تميزهما بأنهما يعاديان الأجندات النسوية. الجماعة الأولى هي ما سوف أسميها «أنصار تفوق الثقافة الغربية» وتتمثل أجندتها في رسم صور براقة ﻟ «الثقافة الغربية»، وتمارس فعلها عن طريق الزعم بأن أفكار المساواة والحقوق والديمقراطية، وما إليه من «أفكار غربية» تثبت أخلاقيات الغرب وتفوقه السياسي على سائر الثقافات «الأخرى» (Bloom 1987, Schlesinger 1992). أما الجماعة الثانية فهي الأصوليون في العالم الثالث الذين يتشاركون في وجهات نظر أنصار تفوق الثقافة الغربية بالقول إن مثل هذه الأفكار جميعها «أفكارٌ غربية»، يعرض الأصوليون هذه النظرة لكي يبرروا الزعم القائل إن هذه الأفكار «تصورات أجنبية غير ملائمة»، تُستخدم فقط من أجل «التغريب ونزع أصالة» عن الأهلين في العالم الثالث، ويستخدمونها قناعًا لانتهاكاتهم لحقوق الإنسان، ولإخماد العمليات الديمقراطية مما يخفونه في عباءة الحفاظ على الثقافة (Howard 1993, Mayer 1995).

ومن المؤكد أن النسويين في العالم الثالث لديهم تخوفاتهم المشروعة بشأن طريقة تفهُّم بعض النسويين الغربيين لتصورات «مساواة المرأة» وتفريغها من مضمونها، ولديهم قلقهم المشروع من أن بعض الأجندات النسوية الغربية بشأن حقوق الإنسان، قد تتجاهل أو تغض الطرف عن مشكلات واهتمامات جماعات مختلفة من النساء في سياقاتهن الوطنية. وعلى أي حال، فإن الإمساك بزمام مثل هذه الصراعات والاختلافات لا يكون في أغلب الأحوال عن طريق دمغها بأنها اختلافات بين الفهم «الغربي» وفهم «العالم الثالث» لتلك المفاهيم. وبإيجازٍ شديد ميزت سوشيتا مازمدار مخاطر نشر مثل هذه الحركات الماهوية، حتى حين تمييز الصراعات والاختلافات الأصيلة بين النسويين الغربيين والنسويين في العالم الثالث.

كان عقد السنين الذي كرَّسته الأمم المتحدة للمرأة إشكاليًّا بالنسبة إلى تضامن النساء العالمي. يخطئ كثيرٌ من النسويين في الولايات المتحدة وأوروبا في تصور مفاهيم للطبقة والإثنية وحقائق السياسة الدولية، فراحوا يرددون أقوالًا استعمارية نمطية عن أمم العالم الثالث، كانت تفصيلًا إلى أقصى حدٍّ على قدِّ النساء من تلك الأمم، وفي الغالب لم يبذلوا جهدًا للتفرقة بين أهداف السياسات الأجنبية لحكوماتهم القومية وبين أهداف حركة المرأة العالمية. أما نساء العالم الثالث، من جانبهن، فقد وجدن — عن صواب — أن هذا محل للاعتراض، وانسحبن إلى موقفٍ خاص بالعالم الثالث، مفعم برفض النسوية كبنيةٍ غربية، مغفِلات حقيقةً مفادها أنه لا يوجد مثل ذلك الشيء المسمى «المرأة الغربية» … مثَّل هذا مددًا للحدوس الذكورية الشائعة، الآتية من الليبراليين واليساريين في أمم العالم الثالث، بأن حركة النساء كانت بشكلٍ ما إنضاجًا لاغتراب الأنثى في اقتصاد السلع وغير ذات صلة بالروح الجمعية في أمم العالم الثالث (Mazumdar, 1994, 268-69).
إنها تأويلاتٌ لأفكار، كالحقوق والمساواة، لا تعير اهتمامًا لمآزق ومواطن ضعف أعضاء الجماعات المهمَّشة اجتماعيًّا، بمن فيها النساء. مثل هذه التأويلات لا تنبثق فقط من السياقات الغربية؛ فعلى سبيل المثال نجد الجناح اليميني من الحركات الأصولية في سياقات العالم الثالث يستخدم أفكار الحقوق والمساواة من أجل الغايات الخاصة به (Hasan 1994, xix). وفي يومنا هذا ثمة عدد لا بأس به من الرؤى السياسية المثيرة للمشكلات تعبر الحدود القومية والجغرافية، تمامًا كما تعبرها الرؤى السديدة. وأعتقد أن النسويين ينفعهم كثيرًا التحليلات التي تبيِّن طرقًا محددة تجعل تفسيرات معينة للحقوق والمساواة غير ملائمة، بدلًا من التأويلات التي تنتقد تلك التصورات بأنها «غربية».
وعلاوة على هذا، نجد تنازعًا حادًّا حول تصورات، كالحقوق والمساواة داخل السياق الغربي وسياقات العالم الثالث معًا، ونتج عن هذا صعوبة تعيين رؤية «غربية» واحدة أو رؤية «العالم الثالث» الواحدة، أو الرؤية «الهندية» الواحدة لتلك المفاهيم (Kiss 1997). توجد الاختلافات حول مغزى ومضامين وتطبيقات هذه المصطلحات داخل السياق القومي الغربي، وداخل السياق القومي للعالم الثالث، مثلما يوجد تقاطعٌ بينهما. وفي أعطاف هذا العدد من مجلة هيباثيا يشيع كشف سوزان أوكين.٣ النقاب عن الصراعات التي خاضتها، ولا تزال تخوضها لمراجعة مبادئ حقوق الإنسان لكي تأخذ في اعتبارها مواطن ضعف الجنوسة النسائية في السياق الغربي وسياق العالم الثالث كليهما (Okin 1998)، وتوعز تحليلاتها بأن ثمة تفاهمات لحقوق الإنسان ضارة سياسيًّا، ومفيدة سياسيًّا في السياقين كليهما.
وإني لأناصر بشدة رغبة أوفيليا شوته — وهي أيضًا منشورة على صفحات هذا العدد — في منظور بعد-استعماري نسوي يعترف بحقيقة الاستعمارية والحروب ضده (Schutte 1998)، أن النسوية بعد-الاستعمارية تملك أسبابًا وجيهة لمعارضة الكثير الجم من إرث الاستعمارية، وبالمثل تمامًا معارضة الأشكال الجارية من الاستغلال الاقتصادي والهيمنة السياسية على المستوى العالمي من جانب الأمم الغربية. على أي حال، لا أحسب أن أجندة من هذا القبيل قد تستفيد كثيرًا من موقفٍ غير نقدي يهيل التراب على قيم وممارسات لأنها تبدو بمغزًى ما «غربية»، ولا هي تستفيد من الاندفاع الأهوج نحو الرفع من شأن قيم وممارسات؛ لأنها تبدو «غير غربية». إن ديباجة الخطاب السياسي الذي تستقطبه القيم «الغربية» و«غير الغربية» تخاطر بإلقاء حجُب الغموض على الأجندات السياسية والاقتصادية التي يجري تنفيذها بالتعاون بين نخبٍ معينة في الغرب وفي العالم الثالث، وإلى أي حدٍّ تنتقص من حقوق العديد الجم من المواطنين وجودة حياتهم في السياق الغربي وسياق العالم الثالث كليهما. مثل هذا الاستقطاب يصرف الانتباه عن واقع السياسات التي يحركها ترافق ناتج عن دعمٍ غربي اقتصادي وعسكري لأنظمة حكم وحشية وغير ديمقراطية في العالم الثالث، ينهال عن كثيرٍ منها طوفان من الخطاب البياني «المناهض لما هو غربي حفاظًا على الثقافة»، حتى وهي غارقة إلى المناكب في التعاون الاقتصادي والعسكري مع الدول الغربية.
إن الخطاب البيانيَّ السياسيَّ الذي تستقطبه القيم «الغربية» و«غير الغربية» لخطرٌ ماثل في سياقات العالم الثالث، حيث الأجندات التقدمية والنسوية كثيرًا ما تطعن في السياسات المدعومة من قِبل القوى الغربية، وكذلك من قِبل النُّخب المحلية والدول القومية، لا بدَّ من أن يضع النسويون في اعتبارهم أن كون القيمة أو الممارسة «غير-غربية» (سواء من حيث أصولها أو من حيث سياق انتشارها) لا يعني أنها ضد الإمبريالية أو ضد الاستعمارية، فضلًا عن توافقها مع الأجندات النسوية. وكذلك يجب أن يتذكر النسويون أن كون القيمة أو الممارسة «غربية» من حيث الأصول لا يعني أنها لا تستطيع القيام بدورٍ في خدمة الأجندات النسوية المضادة للاستعمارية، أو بعد-الاستعمارية، كما أفصحت مناقشة أوكين للخطاب العالمي لحقوق الإنسان (Okin, 1998).

(٤) النسبوية الثقافية والماهوية الثقافية

يقع العديد من النسويين تحت إغراء اعتبار النسبوية «سلاحًا ضد الطغيان الفكري»؛ لأنهم يقاسمون لوريان كود الإحساس بأن «البيِّنة واضحة على أنها أفضل من البدائل الإمبريالية التي لا تعترف بحدود» (Code 1998). نسويون كثر يعتبرون النسبوية ترياقًا يشفي من «التأكيد على التماثلية الكونية» التي تسمح لأولئك المتميزين «على الزعم من امتلاكهم القصة الوحيدة الحقيقية» (Code 1998). تبدو النسبوية مفيدة في كبت جماح ميول النسوية إلى الحديث نيابة عن ومن أجل النساء حيثما كنَّ أو — بشكلٍ مختلف — الحديث عنهن كما لو كنَّ «مثلنا تمامًا». أوافق على أننا يمكن أن نواصل الخوض في التحليلات النسوية حتى نجد بعضها يغفل الاختلافات بين النساء، ممَّا ييسِّر الافتراض الضمني «بأنهنَّ مثلنا تمامًا» من دون العناية الكافية باختلافاتهنَّ.
وكما أشارت مناقشاتي في الجزء الأول من هذا المقال، أجدني على أي حالٍ مترددة في أن أقتصر على وضع هذه المشكلة التي تمثِّل مصدر قلق محوري في التحليلات النسوية المعاصرة على قدم المساواة مع ظاهرة «الإمبريالية الثقافية»، بما هي كذلك. وجانب ممَّا يجعلني أتوقف عن المعادلة بينهما هو إحساسي بأن «الإمبريالية الثقافية»، كما كانت تمارس فعلها في عصر الاستعمار لها منطق مختلف تمامًا، فقد كان منطقًا ينكر أن الآخرين بالنسبة إليَّ «يماثلونني تمامًا» بدلًا من أن يؤكد هذا. لست أرغب في إنكار أن أجندات القوى الاستعمارية تطلَّبت شيئًا من إسقاط «التماثلية» على الشعوب المستعمَرة. كانت «الرسالة الحضارية» للاستعمارية، تتضمَّن تحويل «البدائيين» إلى المسيحية ومشروعًا لترسيم سكان المستعمرات في قلب الاقتصاد الأوروبي والترتيبات السياسية الأوروبية. وقد انطوت بالفعل على افتراضات، بشأن أشكال من «التماثلية» تستطيع تمكين أولئك السكان من الاستفادة من أن «يصبحوا مثل الغربيين» بتلك السبل. ومهما يكن الأمر، فحتى هذه الإسقاطات للتماثلية تنطوي على النظر إلى الآخرين فقط بوصفهم «نماذج للمثيل القاصر» (Lange 1998)، من دون هذا الاختلاف المتمثل في «القصور»، قد تتقوض دعائم احتياج سكان المستعمرات للوصاية الاستعمارية من الدول الأوروبية. كانت المماثلة مجرد إمكانية مفترضة ضمنًا في المستعمَرين، لتدل على قدرتهم على الاستفادة من «التقدم» الذي يسبغه الحكم الاستعماري.

وفيما أعتقد، كان النزوع الاستعماري والتوق العارم إلى الحديث «نيابة عن الآخرين ومن أجلهم»، واقتناع المستعمِرين بأنهم «أصحاب القصة الواحدة الحقيقية»، مشتبكًا هذا جميعه اشتباكًا وثيقًا مع الرؤى التي تؤكد أن الآخرين المستعمَرين يختلفون عن الأنا الغربية وأدنى منها. أجل يمكن أن تكون فرضيات «التماثلية» هي السِّمَة المميزة لواحدٍ من الاتجاهات الاستشكالية التي تمسك بخناق التحليلات النسوية المعاصرة؛ ومع هذا أراه خطأً جسيمًا أن نأخذ هذا «الافتراض للتماثلية» على أنه الملمح الوحيد الذي يحدِّد معالم «الإمبريالية الثقافية»، حين يكون «افتراض الاختلاف» قد لعب هو الآخر دورًا جوهريًّا. وأعتقد أن إغراء النسبوية المدفوعة بالرغبة في تفادي الإمبريالية الثقافية يضعف كثيرًا حين التسليم بأن «فرضيات الاختلاف»، مثل «فرضيات التماثل» انتشرت كلتاهما بسرعة ونفاذ من أجل غايات ثقافية إمبريالية، وكذلك كان «التأكيد على الاختلاف الثقافي» مميزًا للمشروع الاستعماري أكثر كثيرًا من ذلك التلويح ﺑ «التماثلية». إنه تأكيدٌ يساعد على مداراة أوجه شبه مؤسفة مع المركزية الإثنية والمركزية الذكورية والنزعة الطبقية والنزوع الجنسي الغيري، والأشكال الأخرى الخلافية من المركزية، والتي كثيرًا ما عمَّت وسادت كلا الجانبين من هذا «التقابل» المتكرر بين «الثقافة الغربية» و«الآخرين» العديدين غيرهما.

يشدِّد تحليلي تشديدًا على مدى اعتماد الولايات الاستعمارية، وبالمثل رؤى الأصوليين المعاصرين في العالم الثالث، على صورٍ تتمركز حول «اختلافات ماهوية» بين الثقافة الغربية وثقافات معينة في العالم الثالث. وبقدر ما تشارك الأشكال المختلفة من النسبوية في هذه الصور الاستعمارية ﻟ «الاختلافات الماهوية» بين الثقافات، تغدو النسبوية خطرًا وليست ذخرًا للأجندات النسوية. ثمة تمثيلات ﻟ «ثقافات» معينة في العالم الثالث تروقها التصورات النسبوية القائلة «إن قيمي وأساليبي في الحياة تتميز عن قيم وأساليب الآخرين الغربيين، وتشكل هُويتنا القومية وأصالتنا». وقد بيَّن تحليلي السابق كيف يمكن أن تكون ذات خطورة على مصالح جماهير غفيرة من النساء في العالم الثالث، ولا تقل عن خطورة «الإصرار على التماثلية الكونية».

ترتكن أشكالٌ عديدة من النسبوية على صورة ﻟ «الثقافات» انتقدتها فيما سبق بأنها ماهوية ثقافيًّا، وهي صورة تبدو فيها الثقافات مترسمة بشكلٍ أنيق دقيق ومتميزة بعضها عن بعض، وسابقة بهذا على كل خطابيات لاحقة تبدو، وفي الصورة لا يبدو الإصرار على «الاختلاف» المصاحب ﻟ «إنتاج» ثقافات «متمايزة» مثيرًا لمشكلات، ويُفترض أن المكونات المحورية أو البنائية ﻟ «ثقافة ما» «معطاة كثوابت»، وأعتقد أن مثل هذه الصور النسبوية للاختلافات الثقافية غير دقيقة تجريبيًّا، ومسيئة لمصالح واهتمامات النسويين بعد-الاستعماريين. والنسوية بعد-الاستعمارية المضادة للإمبريالية بدلًا من أن تعتنق النسبوية، فإن الأفضل لها وما ينفعها حقًّا هو الاستجواب والمساءلة النقدية لتخطيطات «الاختلاف الثقافي» الذي يرسم حدودًا فاصلة بين «الثقافة الغربية» ومختلف «الثقافات غير الغربية». وتلك المساءلة سوف تكشف عن أن كلا الجانبين من تلك الثنائية كان، إلى حدٍّ كبير، حصيلة عمليات أمثلة إجمالية، جرى ستر وضعها المتخيل بركامٍ من النشر الأيديولوجي لتلك الثنائية عبر التاريخ الاستعماري وبعد-الاستعماري.

إن الملاحظات السابقة تُملي حيثيات تجعلني غير مقتنعة بموقف لوريان كود الذي يولي الاعتبار لتعرية وتجريد موطن السيادة ﻟ «النسبوية … التي قد لا تكون قادرة على إنجاز كل شيء، ولكن من الواضح أنها أفضل من البدائل» (Code 1998). والصراعات السياسية للنسوية في العالم الثالث يضنيها كثيرًا الوعي بأن ثمة عددًا من «مواطن السيادة». بعض هذه المواطن ليست للسادة الغربيين، بل تقع في قلب المؤسسات المحلية، بينما البعض الآخر ذو أعمال ومآثر شديدة التعقيد بحيث يصعب تحديد مجال ما هو للسادة الغربيين وما هو للسادة المحليين. وفي محاولات النسويين في العالم الثالث لتعرية وتجريد عدد من «مواطن السيادة» تلك غالبًا ما يكتشفون أن صورًا من النسبوية الثقافية قد احتلَّت موقعًا مهمًّا في عتاد السادة المحليين؛ مما يجعل النسويين عُرضة للهجوم بأنهم «خونة للثقافة تم تغريبهم»، وأنهم واقعون تحت وطأة افتقاد التقدير ﻟ «تقاليدهم» والاحترام ﻟ «ثقافتهم». يكفي صور النسبوية الكثير الذي أنجزته في تقوية قبضة مجموعة متنوعة من السادة. لا يستطيع النسويون أن يقتصر عطاؤهم على التحذير من المزاعم «الكونية»، بل لا بدَّ من أن يبحثوا عن فَهْم مختلف الاستخدامات الأيديولوجية الخطيرة التي يمكن أن تطرحها أشكال الزعم ﺑ «الكونية» والزعم ﺑ «النسبوية» على السواء.

إني لأقيم الحجَّة على أن المطلوب فعله من النسويين بعد-الاستعماريين ليس تأييد «النسبوية الثقافية»، بل مقاومة مختلف أشكال الماهوية الثقافية، بما فيها الأشكال النسبوية. وعطفًا على الاستراتيجيات التي ذكرتها فيما سبق، مطلوب من النسويين أن يقاوموا الماهوية الثقافية عن طريق الإشارة إلى التعددية الداخلية، اختلاف الآراء والشقاق حول القيم، والتغيرات الجارية في الممارسة التي تحدث في المجتمعات المحلية التي تشكِّل فعليًّا الدول القومية الحديثة. هذا النقد للماهوية الثقافية من شأنه أن يطيح بالفكرة القائلة إنه في هذه المسألة ثمة شيء ثابت لا خلاف عليه يمكن تعيينه بأنه «الثقافة الهندية» أو «الثقافة الأفريقية» أو «الثقافة الغربية»، ويمكنه أن يمضي قُدُمًا من خلال تحدِّي «صورة العالم» التي يفترض صدقها بعص الصور من النسبوية: أي إن ثمة جِماعًا محددًا اسمه «الثقافات المختلفة»، كلٌّ منها متَّسقة داخليًّا ومتجانسة، ولا تختلف إلا مع «الثقافات الأخرى».

الموقف الذي أناصره لا ينكر وجود «الاختلافات الثقافية» في حد ذاتها. ومن الحمق إنكار أن ثمة ممارسات توجد في سياقاتٍ معينة ولا توجد في سياقاتٍ أخرى، وقيم يجري رفع لوائها في أماكن دون الأخرى. الأحرى أن الموقف الذي أناصره ينكر أن «الاختلافات الثقافية الفعلية» تناظر بدقة «الجماع» الذي يجري الآن تعيينه بأنه «ثقافات منفصلة»، أو يفصح عن ذاته عن طريق توزعه عبر «ثقافات» معينة. موقفي يشدِّد على أن كلَّ السياقات الفعلية المعاصرة مفعمة بالمساجلات والشقاقات السياسية بشأن ممارساتها وقيمها، وترفض أن تخول أيًّا من المنظورات منزلة «التمثيل الأصيل» والوحيد لرؤى وقيم ثقافة معينة. إن إسقاط الصورة المتخيلة عن «الاختلافات الماهوية»، فيما يوعز به موقفي، حريٌّ به أن ييسر لنا أن نأخذ في اعتبارنا تعددية الاختلافات الحقيقية في القيم والمصالح وفي رؤى العالم، التي تشق طريقها عبر السياقات المعاصرة القومية والعابرة للقوميات. وأعتقد أن ما قامت جاغار بتحليله من تبادل أشكال الخطاب النسوي بين المجتمعات المحلية المختلفة (Jaggar 1998)، يمثل مواقع حاسمة لتوضيح طبيعة وأهمية التعددية في الاختلافات الفعلية التي قد تمثل معالم الأجندات النسوية في السياقات القومية المختلفة، من حيث إنها تفسح في المجال لمعارضة التصورات الماهوية ﻟ «الاختلافات الثقافية».

وبينما اتَّخذ موقفًا نقديًّا من صورٍ معينة من «الاختلافات الثقافية» تكمن في أعماق أشكال محددة من النسبوية الثقافية، فإن الصورة المعارِضة التي أطرحها لا تكفي للإجابة عن تساؤلاتٍ مهمة عديدة تنشأ في المناقشات الفلسفية التي تدور حول النسبوية. ويبقى موقفي لا-أدريًّا؛ مثلًا بشأن السؤال حول ما إذا كان ثمة فئة واحدة من القيم، دقيقة أنيقة مكتملة وكونية، ينبغي أن يوافق عليها الجميع. بَيد أنه موقفٌ متفائل في آفاق صنع العديد من القيم التي تغذي السياسات التقدمية والأجندات النسوية، بما هو مُجْدٍ وفعَّال في سياقاتٍ عالمية مختلفة.

وأودُّ أن أختتم حديثي بإيضاح الروابط بين نقدي للماهوية الثقافية وموقفي عن «عموميات» حول الثقافات. فحين تناقش أوكين مسألة ماهوية الجنوسة، تحاجُّ بأن «النقد النسوي المضاد للماهوية في بعض الأحيان يتطرَّف إلى حدِّ إنكار إمكان إقرار أي تعميماتٍ بشأن النساء» (Okin 1998). فهل الالتزام بمعارضة الماهوية الثقافية ينطوي على التزامٍ بالنظرة المتطرفة القائلة إنه لا تعميمات على الإطلاق يمكن إقرارها بشأن «الثقافات»؟ ورأيي أنه لا النزعة المضادة للماهوية في الجنوسة، ولا النزعة المضادة للماهوية في الثقافات تستلزمان حظرًا مطلقًا للتعميم؛ لأن التعميمات ليست جميعها على قدم المساواة من حيث إثارة المشكلات، وإني لأزعم بأن ثمة اختلافات كبيرة بين التعميمات، كما في الاستشهادات الخطيرة التي قدمتها موهانتي (Mohanty 1991)؛ مثلًا التعميم: «الدعارة لا تزال مجال العمل الأساسي إن لم يكن الوحيد للنساء الأفريقيات»، وتعميم من قبيل البيان الصادر عن لجنة القضاء على كل أشكال التمييز ضدَّ المرأة الذي ينص على أن «التمييز لا يزال قائمًا ضد النساء في جميع أنحاء العالم، فيما يتعلَّق بالاعتراف بحقوقهن الفردية في المجالين العام والخاص، والتمتع بهذه الحقوق وممارستها، ولا يزال النساء يتعرَّضن لأشكالٍ عديدة من العنف» (Bunch 1994, 35).
التعميم الأسبق كاذب تجريبيًّا، ليس فقط، بل أيضًا هجومي وخطير. أمَّا التعميم اللاحق فيمكن إقامة الحجة على صدقه، وهو أيضًا مفيد سياسيًّا في لفت الانتباه لحقوق الإنسان في مجال العنف ضد المرأة الذي يحدث في العديد من السياقات القومية. النوع الأخير من التعميمات لا يستلزم، ولا ينبغي أخذه على أنه يستلزم، غياب التنوع داخل السياقات القومية وعبرها في صور انتهاكات حقوق الإنسان التي تواجه مجموعات مختلفة من النساء. أما الزعم القائل إن كل مجتمعٍ محلي ينبني فعليًّا على طريق علاقات الجنوسة التي تشمل أشكالًا معينة من إخضاع المرأة الاجتماعي والجنسي والاقتصادي فيبدو أنه تعميمٌ مفيد سياسيًّا، وأيضًا يفسح المجال للالتفات إلى اختلافات وخصوصيات السياق فيما يتعلق بمتاعب جماعات مختلفة من النساء. وأعتقد أن البنود التي تتضمَّنها قائمة مارتا نصباوم للقدرات والوظائف الإنسانية المهمة هي الأخرى تعميمات من النوع الأخير؛ لأنها قصدت أن تكون القائمة «يسمح تصميمها في حدِّ ذاته بعزو توصيفات عديدة لكل مكونٍ من مكوناتها» (Nussbaum 1995, 93).

ولا أعتقد أن الاتجاه المضاد للماهوية في الجنوسة، وفي الثقافة، ينطوي على معارضةٍ مسطحة لكل التعميمات، وبدلًا من هذا ينطوي على التزام بدراسة دقتها التجريبية وفائدتها السياسية على السواء، أو ما ينطوي عليه من مخاطرة. ونادرًا ما يمكن التعبير عن أجنداتٍ سياسية فعالة، كتلك المتعلقة بحقوق الإنسان من دون الالتجاء إلى درجةٍ معينة من التجريد، تمكِّن من الإفصاح عن أوجه تشابه بارزة بين المشكلات التي يعانيها أفرادٌ مختلفون وجماعات متباينة. ومن ناحيةٍ أخرى، يبدو أنه من الممكن أن نجادل في صدق الحاجة إلى تصوير ختان الإناث على أنه «ممارسة ثقافية أفريقية»، أو تصوير قتيلات المهور أو التحرش المتعلق بالمهور على أنه «مشكلة النساء الهنديات» بطرقٍ تحجب حقيقة مفادها أنه ليست كل «النساء الأفريقيات»، أو كل «النساء الهنديات»، يواجهن هذه المشكلات، أو أنهنَّ لسن يواجهنها بطرقٍ متماثلة، أو بطرقٍ تمحو المعارضات والطعون المحلية على هذه المشكلات.

إني أرفع لواء منظور مضاد للماهوية لا يؤيد الرأي القائل إن وجود «اختلافات» ثقافية أو «اختلافات» أخرى يجعل كل وأيَّ نوعٍ من التعميمات، أو الدعاوى الكونية مشكوكًا فيها جميعًا على قدم المساواة. يطرح كوام أنطوني أبيا نقطة مفيدة، عندما يذكرنا بأنها «سمة مميزة لأولئك الذين يتَّخذون موقف مناهضة الكونيات العامة لكي يستخدموا مصطلح النزعة الكونية، كما لو كانت تعني النزعة الكونية الزائفة … إن الذي يعترضون عليه حقًّا — ومن ذا الذي لا يعترض؟ — هو وضع سيادة المركزية الأوروبية كنزعةٍ كونية» (Appiah 1992, 58). وأود إضافة أن العديد من الصور الماهوية ﻟ «الثقافة الهندية»، وما يماثلها ممَّا قمتُ بنقدها، إنما هي صورٌ مما يمكن أن نسميه «نزعة الخصوصية الزائفة»، وهي مثلها تمامًا تمثيلات مهيمنة ﻟ «ثقافات معينة» تحجب «النزعة الخصوصية» بشأنها حقيقة مفادها أنها تعميماتٌ مثيرة للمشكلات عن سياقاتٍ معقدة ومتباينة في دواخلها. وإلى جانب ذلك، فإن النُّصحَ بالولوج في خضم العديد من «الاختلافات» يصعب معه تجنُّب الوقوع في أسر كونية توصيات إرشادية معينة، ولا توجد أجندة سياسية يمكنها تجنب التقييمات المعيارية العامة لأهمية وثقل أنماط معينة من «الاختلافات».
ومع التسليم بالأخطار الضخمة على الأجندات النسوية التي تطرحها أشكال مختلفة من النزعة الماهوية الثقافية، فإني أعتقد أن المهمة الملحَّة والمهمة للمنظور النسوي بعد-الاستعماري تتمثَّل في تطوير المنظور النسوي الملتزم بالنزعة المضادة للماهوية بشأن «النساء» وبشأن «الثقافات» على السواء. ومثل هذا المنظور لا بدَّ من أن يستخلص المشاريع النسوية للولوج في الاختلافات بين النساء، ويميز بينها وبين الفهم الماهوي والفهم الاستعماري والفهم بعد-الاستعماري المثيرة جميعها للمشكلات في تفهُّم «الاختلافات الثقافية» بين الثقافة الغربية وبين «الآخرين» بالنسبة إليها. هذا المقال مساهمة في مشروع التفكير حول النسوية المعاصرة، وكيف يمكن أن تقاوم الصور الراسخة والماهوية ﻟ «الثقافات» وﻟ «التناقضات الثقافية» بين «الثقافة الغربية» و«ثقافات العالم الثالث»، وتخضعها للمساءلة النقدية.٤

هوامش

(١) في هذا الفصل تُفرِط الكاتبة إفراطًا غريبًا ومملًّا في وضع المصطلحات والكلمات والتعبيرات بين علامتي تنصيص، ويتكرر هذا لدرجةٍ تكاد تُفقده جدواه. وطبعًا الترجمة العربية ملتزمة بوضع علامات التنصيص التي تكررها الكاتبة. [المترجمة]
(٢) هذه الإشارة الجريئة جدًّا من المؤلفة، تتجسد في حالة جنوب السودان الذي انفصل بأسره اجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا من دون أي وخزٍ للضمير. [المترجمة]
(٣) نلاحظ أن هذا المقال كان منشورًا في أحد أعداد مجلة هيباثيا. على العموم هذا الكتاب يتضمَّن أيضًا دراسة سوزان مولر أوكين وكذلك دراسة أوفيليا شوته. ومن أجمل جمالات هذا الكتاب الحوار الداخلي البنَّاء بين مجموعة الكاتبات. [المترجمة]
(٤) أودُّ أن أزجي الشكر إلى جنيفر تشرش وساندرا هاردنغ وجيم هيل وتينا شتا وسوزان زلوتنيك لمساعدتهم الكريمة في مسوداتٍ مختلفة من هذا المقال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤