القسم الأول: هيجل

أولًا: مقدمة منهجية

(١) الموضوع: هيجل والهيجليون الشُّبَّان (اليسار الهيجلي)

يمثِّل هيجل ذروة تطور الوعي الأوروبي واكتماله قبل أن يبدأ في تحطيم نفسه بنفسه، والتخلِّي عنه لصالح الوجودية ثم ما بعد الحداثة والتفكيكية، وأولوية اللامعقول على المعقول، والفوضى على المنهج، والذاتية النسبية على الموضوعية العلمية. فقد استطاع هيجل تحويل الدِّين إلى فكرٍ، والتثليث إلى جدلٍ، والتجسد إلى تاريخٍ، والإيمان الخالص إلى عقلٍ مطلق. خرجت الفلسفة من الدين كما تمثِّلها أعمال الشباب ثم عادت إليه لتعقله وفهمه بالعقل الخالص دون ما حاجةٍ إلى وحي أو كتابٍ أو رسولٍ أو رسالة. فجوهر الدين هي المثالية، والمثالية جوهر الفلسفة أيضًا قبل أن تثور عليها الواقعية أو الوضعية باعتبار أن المثالية وهْمٌ ذاتيٌّ، واغتراب عن العالَم الحسي.

ثم جاء الهيجليون الشُّبان أو اليسار الهيجلي أكثر جذرية من هيجل وموقفه من الدين. ونقدوا المثاليَّة لاكتشاف أنها أسطورةٌ كما فعل دافيد شتراوس في «حياة يسوع». واكتشف فيورباخ أن الدين اغترابٌ عن العالَم في «جوهر المسيحية». ثم بدءوا البحث عن البديل عن المثالية كما وجدها هيجل بديلًا عن الدين. «الأنا الفرد» عند شترنر، و«الوعي الفردي» عند باور، و«الطبقة» عند ماركس. وتحوُّل «الأنا الترنسندتنالي» عند كانط إلى «الأنا الوجودي» عند شترنر حيث بدأت الوجودية قبل الأوان.

وقد يكون السبب الرئيسي في فشل الثورات العربيَّة وآخرها ثورة يناير ٢٠١١م في مصر أنها انتقلت من الدين إلى الثورة دون المرور بمرحلةٍ متوسطة وهو الفكر. فظلَّ الدين موجودًا في صبغته العقائدية. وخرجت الحركات السلفية، وازدادت قوةً. تحارب ما يُسمون بالملحدين والكفرة والمرتدين. ثم اشتد الصراع بين السلفية والعلمانية. وفي حالة انتخابات حرة قد يكسب مرشح الجماعات الدينية. ثم تفشل في الحكم فيقوم نصف الشعب بمساندة الجيش ضدها. صحيح أن الثورة قد تخرج من الدين كما هو الحال في «لاهوت التحرير» في أمريكا اللاتينية، وصحيح أيضًا أن الإصلاح أو التجديد الديني يكوِّنان مصر، والإسلام في الجزائر أثناء حرب الاستقلال، والآن سرعان ما خفتت الثورة واشتدت حركات الإصلاح التي تحول بعضها إلى سلفية.١

ويعتبر هيجل نموذج الفيلسوف صاحب المذهب الضخم الذي يُتَّهم بضياع الإنسان فيه وثورة الوجوديين عليه. فقد تعرَّض لكل شيء؛ المنطق والفلسفة والدين والتاريخ والسياسة وعلم الجمال. ولا يوجد فيلسوف حديث أو معاصر قام مثله بهذا العطاء الواسع إلا أرسطو قديمًا. فهيجل هو أرسطو العصر الحديث. كما أن أرسطو هو هيجل العصر القديم. ويتمرد الجهل على هذا العلم الشامل. فالإنسان ما يجهل وليس ما يعلم. فما يجهله هو الذي يدفعه إلى العلم، والعلم يسبقه التساؤل.

وعاش هيجل في العصر الرومانسي؛ عصر بيتهوفن وجوته. وتوصف فلسفته بأنها نموذج الفلسفة الرومانسية. بل إن كثيرًا من عباراته الفلسفية أقرب إلى الأدب منها إلى الفلسفة. وبالرغم من الفترة الزمنية بينه وبين برجسون إلا أن كليهما صاحب فلسفة أدبية مثل «الطاقة الروحية»، «المعطيات البديهية للوجودَين». فالعلاقة بين الفلسفة والأدب علاقة جوهرية. وكما أن هناك فلسفةً أدبية هناك أدب فلسفي. وهناك نصٌّ واحد يجمع بين الاثنين. هيجل هو الفيلسوف الفنان. رأى الأوبرا تجمع بين الشِّعر والموسيقى. فهي أعلى الفنون. ترقِّي أذواق الفلاسفة الفنانين أو الفنانين الفلاسفة مثلي في رغبة الجمع بين الموسيقى والفلسفة.٢
و«هيجل والهيجليون الشُّبان» أو اليسار الهيجلي هو تحليل في العمق لإحدى فترات «مقدمة في علم الاستغراب»، والتحوُّل من العقل الخالص عند كانط إلى العقل التاريخي عند هيجل. وكما تحول العقل الخالص عند كانط على يد الكانطيين الجُدد؛ هرمان كوهن وأوزفالد كولبه، وتيودور ليبس لاكتشاف عالَم العواطف والدلالات الخالصة. كذلك استمر هيجل في هذا التحوُّل من الإرادة الخالصة، والعاطفة الخالصة إلى العقل الجدلي، وتطور العقل إلى الروح. فهناك استمرارية ديكارت إلى كانط إلى هيجل. من العقل البديهي إلى العقل النقدي إلى العقل التاريخي.٣

والهيجليون منهم يمينيٌّ ويساري. اليمين الهيجلي يرجع هيجل إلى مصادره الأولى وهو الدين. واليسار يبغي تطوير فكر هيجل وتصفيته مما تبقَّى من الدين وأفعاله في الطبقة والمجتمع.

(٢) المنهج: منهج القراءة والتأويل

والمنهج المتبع هو منهج «القراءة» على خلاف مناهج العرض الموضوعي إذا كان ذلك ممكنًا أو المنهج التاريخي بترتيب أعمال هيجل حسب ترتيبها الزماني. ومنهج القراءة ليس فقط هو ما يعنيه الفلاسفة الغربيون اليوم الذي يعتمد على التأويل دون الإبقاء على أقل قدرٍ موضوعي لمعنى النص. معظم التطبيقات للمنهج محاضرات. أما المنهج نفسه فليس محاضراتٍ بل «ظاهريات الروح» و«علم المنطق». القراءة هي ما اتبعه قدماء الشُّراح المسلمين وتعني في مرحلة ما من التعامل مع النص اليوناني بعد الترجمة والتعليق والشرح الموضوعي؛ ردَّ النصِّ اليوناني إلى التصوُّر الإسلامي عن وعي أو لا وعي. القراءة هي فَهْم النص الأول قدر الإمكان. وقد يستحيل ذلك لاختلاف فَهْم النصوص دون تأويلٍ. وهو ما يُسمى علم الهرمونطيقا، ثم إعادة التعبير عنه بلغة الحضارة الثانية ومصطلحاتها، وتصوراتها للعالَم وأخلاقياتها. فهو نصٌّ ثانٍ، قراءة للنص الأول. وهذا ما سيتم مع نص هيجل وقراءته وفهمه موضوعيًّا قدر الإمكان، ثم إعادة التعبير عنه في سياق مختلفٍ وزمان مختلف وحضارة مختلفة وربما هدف مختلف. فمَن يريد أن ينقد بأن هذا ليس ما يقصده هيجل يكون صحيحًا. الصحيح هو إعادة توظيف نص هيجل في بيئة أخرى كما فعل القرآن مع اليهودية والمسيحية بإعادة عرضهما بعد عدة قرونٍ وفي سياقٍ عربي وليس في سياقٍ يهودي أو روماني. وقد طبَّقتُ هذا المنهج في الكتابة عن «فلسفة الدين عند هيجل» أيام «الفكر المعاصر»، و«تراث الإنسانية» في الستينيات في مرحلة الشباب. تعني القراءة تفريغ النص الأول من مضمونِه البيئي؛ البيئة الغربية وتاريخ الغرب، ثم إعادة تركيبه على بيئةٍ أخرى في البيئة الإسلامية كما فعل قدماء الفلاسفة الإسلاميين مع النص اليوناني خاصةً، والروماني والفارسي والهندي عامةً. وهو فَهْم قراءة القرآن لتاريخ الأنبياء من وجهة نظرٍ أخرى ثم تعميق الفَهْم لرسالاتهم وإكمالها. وقد اتبع هيجل نفسه هذا المنهج بقراءته لكانط. وفعَلَ كانط نفسه ذلك بقراءته لديكارت. وبهذا المعنى قرأ أفلاطون سقراط. وحوَّل الفضائل إلى نظر في المُثل، والأخلاق إلى معرفة. وبهذا المعنى أيضًا قرأ أرسطو أفلاطون، وردَّ المُثل إلى العالَم الحسي؛ فالقراءة لا تعني مجرد الشرح والالتزام بالمعنى المشروح بل وقد تعني قَلْب المعنى إلى ما يضاده.

وفَهْم القرآن هو منهج العرض الثاني الذي يتجاوز الأول، وهو مجرد الشرح حتى دون تفسيرٍ. وبما أن العرض الثاني يقوم على نَقْل النص الأول إلى التجربة الذاتية للقارئ فإنه بين الحين والآخر لا يستطيع تجنُّب أسلوب المتكلم بالرغم من تحاشيه قدر الإمكان حتى لا تتحوَّل القراءة إلى مجرد تجارب شخصية. والأفضل عندما يتطابق العرض الموضوعي للنص الأول مع القراءة في النص الثاني. فالقراءة قصد. والقصد هو تجربة مشتركة بين الموضوع والذات.

ومنهج القراءة يسميه البعض التأويل أو يعرِّب اللفظ الأجنبي ذا الأصل اليوناني «هرمونطيقا». وأصبح يُشار إلى مصطلحات هذا العلم الجديد وأعلامه مثل دلتاي وجادمر وريكير. فالنص الهيجلي مثل النص القرآني ليس له معنًى واحد. فاللغة متشابهة. هناك حقيقة ومجاز، محكم ومتشابه، ظاهر ومؤوَّل، ومجمل ومبين. وكلاهما صحيح. ويُستخدمان في موقفَين متعارضَين أحيانًا. يتمسَّك السلفيون بأحد طرفَي المعنى وهو الحقيقة والظاهر والمبين. وهو ادعاءٌ، وأخْذ نصف الحقيقة دون الأخرى، واعتبار اللغة ذات وجهٍ واحد. والعلمانيون كرد فعل على السلفيين يأخذون الوجه الآخر المتروك من السلفيين، المجاز والمؤوَّل والمجمل والمتشابه. ويقع الصراع بين الفريقين. السلفيون يكفِّرون العلمانيين، والعلمانيون لا يكفِّرون السلفيين، ولكنهم لا يعرفون طبيعة اللغة. ومعظمهم لغويون وفقهاء.

النص الأول هو باللغة الألمانية كلغة المؤلف. ولما كان هيجل مثل كانط صعب الفهم فإن البعض يقرؤه في ترجماته الفرنسية أو الإنجليزية، وهناك ترجمات جزئية بالعربية. والرجوع هنا إلى الترجمة الفرنسية أولًا ثم الإنجليزية ثانيًا، ثم العربية ثالثًا.٤ وميزة النص الأول هو المعاني الاشتقاقية للكلمات التي قد تساعد على فَهْم مصطلحات هيجل. فالشعور أو الوعي بالألمانية Bewusstsein من كلمة Wissen أي المعرفة؛ وبالتالي يكون المعنى المعرفة الذاتية أي الوعي.

ويعتمد فَهْم القراءة على المصادر الأصلية؛ أي على النصوص ذاتها لهيجل والهيجليين دون الدراسات وقال يقول، وفي رأي فلان ورأي علان. يعيش المؤلف النصوص المباشرة كتجارب حيَّة لديه أو في النص بعد أن تحييها القراءة. فلا وسيط بين النص والمؤلف بقارئ آخر وإلَّا يكُنْ كالذي يمضغ اللقمة من فم آخر. ليست القضية الإيهام بالعلم بل إبداع العلم. ليست القضية ذِكر مئات الدراسات كمراجع في آخر الكتاب. فلا يوجد أشهر من هيجل، أرسطو العصر الحديث. ولا توجد دراسات أكثر على أرسطو، هيجل العصر القديم. وقد تكون عبارة واحدة من هيجل أوضح من عشرات الدراسات حوله.

ويقوم منهج القراءة والتأويل على ثلاث خطوات؛ الأولى: عرض الدلالة الرئيسية للنص بطريقة واضحةٍ خاصةً وأن هيجل يُضرب به المثل بأنه صاحب النصوص المستغلقة. فالقارئ كمَن يجمع هذه الورود من حديقة هيجل. والثانية: جمع هذه الورود معًا لعمل باقة متناسقة حتى يمكن إهداؤها إلى مَن يريد. فالقارئ هنا هو المنسق بعد الجامع. والثالثة: نقلها إلى مكان مظلم آخر يحتاج إلى رائحته وزينته ووضعها في بيئة أخرى. القراءة، وجمع الزهور، والانتقال من القراءة إلى التأويل كمرحلة متوسطة، وتنسيق الزهور في باقة. أما التأويل فهو نقل الباقة من منزلٍ منير إلى منزلٍ أقل إنارةً حتى يستنير.

ويساعد المنهج التاريخي على فَهْم تطوُّر الفيلسوف المتشعب من فرع من فروع الفلسفة إلى غيره. فتصنيف مؤلفات هيجل تاريخيًّا، من مؤلفات الشباب حتى مؤلفات الشيخوخة، يساعد على معرفة كيف سار فكره، والانتقال من مرحلة إلى أخرى، وهو منهج تاريخي باطني. يفسر تطور أعمال الفيلسوف برصدها زمانيًّا من أجل رؤية مسار تطورها. وليس منهجًا تاريخيًّا خارجيًّا رصديًّا. يرجع النص إلى ظروفه التاريخية في الزمان والمكان. وهو المنهج التاريخي الاجتماعي في مقابل المنهج التاريخي الفلسفي. المنهج التاريخي الباطني هو تتبُّع نشأة الوعي الفلسفي وتطوره من الداخل. في حين أن المنهج التاريخي الخارجي يكتفي بجعل العمل تعبيرًا عن الظروف الاجتماعية السياسية للواقع الذي كُتب فيه هذا العمل كما تصر عليه بعض الرسائل الجامعية.

وتتجلى الحقائق في التاريخ. فالفلسفة هي تاريخ الفلسفة كما ظهر في «تاريخ الفلسفة». والدين هو تاريخ الدين كما ظهر في «فلسفة الدين». وعلم الجمال هو تاريخ علم الجمال كما ظهر في «علم الجمال»؛ لذلك يُعد هيجل مؤسس فلسفة التاريخ ولو أن هردر سبقه في القرن السابق له، القرن الثامن عشر، بل إن بعض جوانب المذهب مثل «ظاهريات الروح» هو تاريخ للوعي الذاتي كما ظهر في التاريخ؛ وبالتالي لا يمكن الحكم بأن هل هذا تطور الوعي الفردي أم تطور الوعي التاريخي؟ أما «علم المنطق» فهو الذي هرب من هذا المنهج التاريخي واتبع المنهج البنيوي. فلا تاريخ للمنطق من أرسطو والرواقيين والمنطق العربي حتى المنطق التجريبي الحديث. وكذلك «مبادئ فلسفة الحق» هرب من المنهج التاريخي. واستعمل المنهج البنيوي أي المقولات الأساسية في فلسفة الدولة. مثل الحق والقانون. وكلمة Recht بالألمانية تعني الاثنين.

والإسلام أحد مصادر الفلسفة والأدب الرومانسي مما وضح عند جوته في «الديوان الغربي الشرقي». يُعظم الرسول. وهناك إحالات مستمرة عند هيجل لسعديا وحافظ بالرغم من أن القرن التاسع عشر هو قرن الاستعمار بامتياز. فالإعجاب بالرومانسية الأوروبية في الوجدان العربي، جوته، هيلدرين، هايني قبل إدراك الرومانسية الفلسفية عند فشته وهيجل وشلنج حتى تخفف من صورية علم الكلام والفلسفة الإسلامية، المنطق والطبيعيات والإلهيات عند ابن سينا. أما التصوف فقد استطاع إعطاء فلسفة وجدانية. تحوَّلت إلى طرقٍ صوفيةٍ عملية ارتقت في نطاق الميتافيزيقا مثل ابن عربي وابن سبعين.

والإحالات لا تكون إلى أرقام الصفحات بل إلى أرقام الأبواب والفصول. فالكتاب قصد رئيسي. والأبواب والفصول مقاصد فرعية. والقصد لا يظهر في صفحة بل في مجموعة من الصفحات. قد تعتبر الدراسات الحديثة أن هذه الإحالات العامة نقص في الدقة أو تحزبًا لتعليل لبعض الدلالات في المتن، ولكنها في الحقيقة إعطاء الأولوية للكل على الجزء، وللهواء المتصل على التنفس المتقطع. بل إن هذه الإحالات الجزئية لا تستطيع أن تكوِّن دلالة كلية بل فقط توهم بالدقة والانضباط العلمي.

ولا يتعارض عرض مؤلفات هيجل بهذا الترتيب، البداية والوسط والنهاية، النظرية والمنهج والتطبيق مع الترتيب الزماني لها؛ وبالتالي لا يتعارض المنهج التاريخي الذاتي مع منهج القراءة والتأويل. بل هما منهجان، يساعد أحدهما الآخر، الأول يبحث عن التكوين والثاني عن البنية.

(٣) تقسيم مؤلفات هيجل

ويمكن تقسيم مؤلفات هيجل إلى جوانب ثلاثة؛ الأول: نشأة المذهب بالكتابة في «روح المسيحية ومصيرها». الخروج من الدين من أجل احتوائه بعد ذلك في «محاضرات في فلسفة الدين». والثاني: الفلسفة في «مقارنة بين مذهبي فشته وشلنج». ثم العودة إلى الفلسفة في «ظاهريات الروح» و«علم المنطق». وهما قمة المذهب. والثالث السياسة مثل «الدستور». ثم العودة إليها في «مبادئ فلسفة الحق». فيبدو أن الدين والفلسفة والسياسة هي الثلاثة روافد لبناء أي مذهب.٥ البداية بتحويل الدين إلى فلسفة في «مقارنة بين مذهبي فشته وشلنج». فتنضم على الفلسفة العامة أو فلسفة الدين في «محاضرات في فلسفة الدين» والسياسة ابتداءً من «الدستور» حتى «مبادئ فلسفة الحق». ففِكْر هيجل يدور حول ثلاثة مجالات: الدين والفلسفة والسياسة. وبتعبير القدماء، الدين أي النقل، والفلسفة أي العقل، والسياسة أي الفقه أو المصالح العامة. فالفلسفة هي الرباط بين الدين والسياسة.

ويمكن النظر إلى المذهب في ثلاث مراحل؛ أولًا: مرحلة ما قبل المنهج التي فيها مؤلفات الشباب الدينية والفلسفية والسياسية. ثانيًا: مرحلة المنهج في الدين «ظاهريات الروح» و«علم المنطق». وثالثًا: مرحلة تطبيقات المنهج في الدين «محاضرات في فلسفة الدين»، وفي الفلسفة «محاضرات في تاريخ الفلسفة»، وفي السياسة «مبادئ فلسفة الحق» والتي يمكن أن يُنظر إليها على أنها تتويج للمذهب بعد دعامتيه الرئيسيتين «ظاهريات الروح» و«علم المنطق». وباقي الأعمال هوامش على المذهب، منهجًا وتطبيقًا مثل «مراسلات».

فمذهب هيجل System من صنع شراحه. أما فلسفة هيجل فهي فلسفة مفتوحة من البداية إلى النهاية، من الدين إلى الفلسفة إلى السياسة. فإذا اعتز هيجل بالمذهب فإنه يغير هذه العلاقة الثلاثية بين فروع المعرفة، العلاقة بين المقدمات والنتائج، وهو مثل أي فيلسوف. فكانط مثلًا له الكتابات ما قبل النقدية أو الكتابات النقدية، ثم الكتابات ما بعد النقدية دون أن يكون له مذهب مغلق يثور عليه أنصار الفلسفات المفتوحة من الوجوديين، من القدماء مثل سقراط أو من المحدثين مثل كيركجارد.

ثانيًا: تصنيف مؤلفات هيجل

(١) المؤلفات الأولى: الدين، والفلسفة، والسياسة

وهذه هي فروع الفلسفة الثلاثة التي نشأ منها منهج هيجل ومذهبه.

(أ) الدين

(١) «روح المسيحية ومصيرها»٦

ويتحدد الدين بشيئَين، روحه ومصيره. مثلًا لم تتجاوز روح اليهودية التشريعَ والجماعةَ المغلقة. فكان مصيرها أن تحوَّلت إلى جزءٍ من التاريخ. وورثتها المسيحية. كان هيجل يُعد نفسه كي يكون راهبًا بروتستانتيًّا، ثم غلبت عليه الفلسفة الكانطية واعتبار الأخلاق جوهر الدين. ثم أخرج الكانطية من إطار الفلسفة الكلاسيكية إلى الفلسفة الرومانسية، من موزار إلى بيتهوفن، ومن هردر والتاريخ الثابت ذي المراحل إلى هيجل والتاريخ المتحرك الذي لا يخلو أيضًا من المراحل.

ويشفع الكتاب سبعة ملاحق تلخص الموضوع:
  • (١)
    تخطيط عام لروح اليهودية تتراوح بين الجمود والتحرر، بين العبودية في مصر والانطلاق إلى أرض المعاد، بين فرعون وموسى. وكانت وظيفة الشريعة ضَبْط سلوك بني إسرائيل. وهو ما دعا الحركة الصهيونية إلى التحوُّل من الهجرة إلى العودة إلى أرض المعاد، من الشتات إلى العاليا. والسؤال هو: يقوم الآن بنو إسرائيل باستبعاد الغير، الفلسطينيين، وطردهم من أرضهم والاستيطان مكانهم. وهو ضد روح اليهودية وهو التحرُّر من العبودية بقيادة موسى ثم يوشع؛ لذلك قد يُكتب عليهم الشتات من جديدٍ نظرًا لصعوبة الحياة داخل إسرائيل وعدم الإحساس بالأمان وشكاوى حقوق الإنسان. وما تفعله في الفلسطينيين، أصحاب الأرض المقيمين.٧ وقد كانت نبوءة موسى لهم أنهم قد كُتب عليهم الشتات إلى نهاية الزمان لعصيانهم له وعبادة العجل من جديد. ولم يستطع هارون خليفةُ موسى وأخوه أن يُبقيهم على التوحيد والحفاظ على الشريعة. فنصف الكِتاب تقريبًا عن روح اليهودية ومصيرها. وكان «روح المسيحية ومصيرها» مضادًّا لليهودية. فكل دين له روح خاص ومصير مختلف. ويمثل ذلك قصة إبراهيم ونمرود. ويعد إبراهيم أبو الأنبياء في صراعه ضد نمرود وخروجه من العراق إلى فلسطين مثل خروج موسى من مصر. وبالرغم من خروج اليهود من مصر وتحررهم من قبضة فرعون الذي كان يقول إنه لا يرى إلهًا غيره فوقعوا في قبضة الشريعة من العبودية السياسية إلى العبودية الفقهية. ووضعوا قانونًا عامًّا يجعلهم أمةً خاصة متميزة عن غيرها. فاليهودي مَن جاره يهودي، يمينًا ويسارًا، وزوجته وذريته يهود. ومع ذلك كان مصير الشعب اليهودي الشتات بعد خروجهم من مصر وغزو نبوخذ نصر الملك البابلي لفلسطين، وأخذهم أسرى إلى العراق حيث بدأ عزرا الكاتب الذي اعتبره اليهود نبيًّا في تدوين التوراة خوفًا من الضياع؛ لذلك أتت المسيحية على النقيض من الشريعة اليهودية، من القصاص إلى التسامح. ثم جاء الإسلام ليجمع بين الاثنين وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.
  • (٢)
    الأخلاقية، الحب، الدين. روح الدين هي الأخلاق. وجوهر الأخلاق المسيحية هي المحبة. ومن ثَم كل الخلاف حول العقائد على مدى التاريخ خاصة التثليث بين مُثبتٍ مثل الكنيسة، ومُنكرٍ مثل المفكرين الأحرار منذ آريوس، أسقف الإسكندرية، ومحولٍ إياه إلى صورة أو رمز مثل هيجل عندما حوَّل التثليث إلى جدل، الآب هو منطق الوجود، والابن هو منطق الماهية، والروح القدس هو منطق الوجود، والابن كما هو الحال في الأغنية الشعبية المصرية «أنا والعذاب وهواك». ويُقال في الأمثال الألمانية: «كل شيء خير ثلاثة» Alle Guten sind drei. ويتحقَّق هذا الرمز في الأسرة «الأب والأم والابن». فالذكر والأنثى نقيضان. والابن هو الذي يجمع بينهما.
  • (٣)

    الأخلاق والدين. فالأخلاق روح الدين. وهو ما قاله كانط من قبلُ. وهو موقف الإسلام أيضًا في «إنما بُعثت لكي أتمم مكارم الأخلاق.» والخطأ كل الخطأ في تدريس الدين في المدارس العربية. فهو فصل المسلمين عن المسيحيين. وكأننا أمام دينين مختلفين، الإسلام دين التوحيد، والمسيحية دين التثليث، تاركين تطابق الأخلاق في الدينَين، المحبة والتسامح. وهي أخلاق تجمع ولا تفرِّق بين مسلم وقبطي أو بين سلفي وعلماني أو بين شرطي وإرهابي أو بين جندي وتكفيري أو بين عسكري ومدني. ربما صاغ ذلك كانط في «الدين في حدود العقل وحده» في صورةٍ روائيةٍ تاريخية عن وجود الخير والشر في طبيعة الإنسان ثم الصراع بينهما ثم انتصار الخير على الشر. وبالإضافة إلى العقائد تأتي الشعائر في المسيحية؛ طقس الميلاد والعماد وباقي الطقوس السبعة. وفي الإسلام أركانه الخمسة التي يعرفها الجميع: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت لمَن استطاع إليه سبيلًا. ولا يعلم الكثيرون أن الشهادة هو الاعتراف بالوحدانية، وحدة الفرد، ووحدة الجماعة، ووحدة الأمة، ووحدة الأمم، وأن محمدًا رسول الله لا تعني أن الدين قد اكتمل بمكارم الأخلاق وأنه لا شيء جديد يمكن للوحي أن يعطيه ما دام العقل قادرًا على معرفة كل شيء. والصلاة هي المحافظة على الوقت والإحساس بالزمان، والزكاة المشاركة الاجتماعية في الثروة الوطنية لأن في المال حقًّا غير الزكاة، والصيام يعني تنمية الإرادة، والإحساس بمشاعر الفقير واليتيم والأسرة، والحج يعني اجتماع الأمم كلها مرةً واحدة في العام في مكانٍ واحد، بيت إبراهيم، وزمانٍ واحد، الأشهر الحرم كما يفعل بعض الرؤساء في إلقاء الخطاب السنوي «حال الاتحاد»، و«إعلان البراءة»، و«الأمة مع مَن ضد مَن» مع الإسلام والتحرر ضد الحرب والاستعمار، وفي الأساطير قيام الحروب بين الذكور والإناث حتى يأتي الجنس الثالث ليوقف الحرب فيما بينهما. أما طقس العماد فهو عملٌ رمزي. فالماء مقدس طبيعي. والمولود الجديد أيضًا مقدس طبيعي. فلا عقائد فيه. ولا يُعطى خصوصية بمجرد التغطيس في الماء. لا يدخل في القداسة مَن يناله ولا يخرج من القداسة مَن لم يَنَلْه. أما «ملكوت السموات» فهو ليس مكانًا في الأرض ولا في السماء، بل هو في النفس، راحة نفسية للنفس المطمئنة.

  • (٤)
    الحب. وهو الذي يجمع بين المتناقضين، حب الأعداء لبعضهم البعض. وهو لا يحتاج إلى تعريفٍ فإنه تجربة معيشة بين روميو وجوليت، المؤمن والمسيح. هي تجربة مكتفية بذاتها بما أنها بعيدة عن العقائد والشعائر، حب الأب أكثر من حب الابن، وحب الابن أكثر من حب الأب أو حب الروح القدس الذي لم يره أحد أو حب مريم العذراء التي اتُّهمت في عذريتها كما اتُّهمت عائشة في حديث الإفك. وفي كثير من الأغاني الشعبية يتكرر لفظ الحب لأنه قانون الهوية «الحب هو الحب». أفضل تعريفٍ له. فالأخلاق المسيحية أخلاق المحبة والحياة. وهي أيضًا أخلاقٌ وطهارة دون شريعة. يسوع هو مصير اليهودية، مغفرة الخطايا بالحب. ويُعاد بناء كل الفضائل من وجهة نظر المحبة. فالمحبة فضيلة قائمة بذاتها. ولا يعني ذلك الاستغناء كلية عن الشعائر مثل العشاء الأخير. وهذا يعني العمل العيني، والمشاركة في الخدمات، وتأكيد روح الجماعة. هذا هو دين يسوع. والسؤال هو: ما مصير المحبة المسيحية؟ هل هي مُطبَّقة في الواقع أم مجرد أمنية وأمل؟ وأحيانًا تنقلب المحبة إلى نقيضها وهي الكراهية. فيتحوَّل التسامح إلى حروب كما هو الحال في تاريخ الغرب منذ مذبحة سانت بارتيليمي في القرن السادس عشر بعد نشأة البروتستانتية، والعدوان الأمريكي على العراق. أما مصير يسوع فإن البعض يعتبره إلهًا أو ابن الإله. والبعض الآخر يعتبرونه إنسانًا. وكذلك نصير المجتمع، المسيح كان التفتيت والخصام وليس الوحدة والتسامح. وما زال البعض يُثبت معجزات يسوع والبعض الآخر يُنكرها. الفريق الأول بحكم الإيمان، والثاني بحكم العقل. النبوات خالدة، وما زالت نازلة من السماء.٨ وهناك معارضة داخل الألوهية، معارضة إبليس، ورفض السجود لآدم والذي خلقه من طينٍ بينما خلقه هو من نار. وليس عيبًا أن يكون في الألوهية تناقض. فالله رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وما أبعد السماء عن الأرض. وهو لا يُرى، منزَّهٌ تمامًا. ومع ذلك له يد بصرف النظر عن تأويلها. يُثيب ويُعاقب، يعاقب ويغفر.٩
  • (٥)
    الإيمان والوجود. وهذا يجعل من هيجل من أوائل فلاسفة الوجود قبل هيدجر ومارسل وسارتر؛ فالإيمان يتجاوز الذاتية التي عُرف بها أوغسطين ومعظم الآباء الأوائل. فالذاتية أقرب إلى الله كما هو الحال عند بعض الهيجليين مثل فيورباخ وشترنر. وتم نقل فلسفة الطبيعة عند توما الأكويني إلى فلسفة الوجود. فالطبيعة جزء من الوجود. والإيمان الصادق يلفظ الكذب والنفاق. فالكذب هو رفض باللسان والقلب. والنفاق تصديق باللسان وتكذيب بالقلب. وهو ما يُسمى في فلسفة الدين النفس المطمئنة يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي. الله إذن هو تجربة بالألوهية. فالله ليس شخصًا بل هي تجربة أخلاقية بالنقاء والصفاء والصدق والوفاء؛ ومن ثم فإن كل العقائد اللاهوتية مثل «الكلمة» وكذلك عقيدة «ابن الله»، «ابن الإنسان» وصلت إلى هذا التحول من الله إلى الإنسان كما هو الحال عند فيورباخ في «جوهر المسيحية» والإيمان بالله هو إيمان بالإنسان. ويسوع نموذج الإنسان الفرد وليس قضاء على الإنسان في سبيل الاغتراب في الله. فالروح تطور من الله إلى الإنسان في إطار من الوحدة العامة. المسار الطبيعي للروح هو من الله إلى الإنسان. وقلب مسار التطور في خطٍّ عكسيٍّ من الإنسان إلى الله هو ما سماه فيورباخ الاغتراب الديني.١٠
  • (٦)

    المشروع الأصلي ﻟ «روح المسيحية». روح المسيحية ليس كتابًا بل هو مشروع متكامل من تاريخ المسيحية إلى روحها. فالفلسفة دراسة للماهيات وليس للوقائع بطريقة الظاهريات كعلم الماهيات. وربما «ظاهريات الروح» و«علم المنطق» هما تطوير لروح المسيحية. أما التطبيقات في التاريخ وفي الفلسفة وفي علم الجمال وفي الدين فهو الكشف عن هذه الظاهريات والتي كشف عنها هوسرل في كتابَيه: «أزمة العلوم الأوروبية» و«الفلسفة الأولى» (جزآن). فهيجل صاحب مشروع مثل كانط يعلن عنه في مؤلفات الشباب كما أُعلن عن مشروع «التراث والتجديد» ١٩٦٥م بالفرنسية قبل أن يُترجم إلى العربية في عام ١٩٨٠م موازاة لمشروع «نقد العقل العربي» للجابري في نفس الفترة تقريبًا.

  • (٧)
    شذرات حول الأخلاق في «الوصايا على الجبل». وهي الوصايا التي ألقاها المسيح لتلاميذه والتي تعبر عن جوهر المسيحية. وفيها العبارات المشهورة مثل «أحبوا أعداءكم، وباركوا لَاعِنِيكم»، «مَن لطمك على خدك الأيسر فأدِرْ له الأيمن»، «انزع القذة من عينك أنت أولًا قبل أن تطلب من أخيك بأن ينزعها من عينه.» وهو ما يعادل عديدًا من الآيات القرآنية مثل فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ بعدَ الأخلاق اليهودية الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ، وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. هذه هي أخلاق يسوع في معارضتها للشريعة اليهودية، أخلاق التسامح في مواجهة أخلاق العقاب. وهي أقرب إلى القانون الخلقي عند كانط. فالأخلاق نوعان؛ أخلاق الشريعة اليهودية التي لا تمنع من الكذب والنفاق وأخلاق «الوصايا على الجبل». فالشريعة اليهودية تقوم على العقاب في حين أن الأخلاق المسيحية هي التسامح. وإذا كان العقاب في اليهودية عقابًا جسديًّا مثل الرجم والجلد فإن العقاب في المسيحية يقوم على تأنيب الضمير. يكفي الإحساس بالذنب والتوبة. العقابُ في اليهودية غايةٌ في حين أنه في المسيحية وسيلةٌ. وفي المسيحية وسيلةٌ أخرى غير العقاب وهي المحبة.١١
يمكن من هذا الكتيب الأول الوصول إلى النتائج الآتية:
  • (١)
    الروح هو ما سماه فيورباخ بعد الهيجليين الشُّبان فيما بعد «جوهر» في «جوهر المسيحية». والمصير هو التاريخ أي الماضي الذي يحدد المستقبل أي المصير. وبلغة البنيويين، الروح هي البنية. والمصير هو التكوين.١٢
  • (٢)

    إن جوهر اليهودية هو التشريع أو القانون لجماعة بعينها بينما جوهر المسيحية المحبة أو الإيمان أو التسامح. جوهر اليهودية في الفقه، وجوهر المسيحية في التصوف.

  • (٣)

    الإغراق في الدين والسياسة في أرض الميعاد دون الفلسفة وكما هو الحال لدى اليهودية المحافظة.

  • (٤)

    غلبة التاريخ على الدين في اليهودية، وكأن اليهودية دِينٌ تاريخي.

  • (٥)

    عدم التقابل مع نقد الروايات في اليهودية والمسيحية بالرغم من ازدهار علم النقد التاريخي للكتب المقدسة.

  • (٦)

    لم تظهر الهيجلية بعدُ كمنهج أو كمذهب بل ظهرت تأملات في الفرق الجوهري بين اليهودية والمسيحية.

  • (٧)
    لا يوجد دين واحد له جوهر واحد. بل هناك ديانات متعددة طبقًا لتطور الوعي الإنساني. وهذه دلالة قصص الأنبياء أي تاريخ الوعي.١٣ وهو ما وصل إليه هردر من قبل في «أفكار أخرى في فلسفة التاريخ» أو لسنج في «تربية الجنس البشري» والذي يصيغ التقابل فيه بين اليهودية والمسيحية في تطور الوعي الإنساني. اليهودية مرحلة الطفولة، والمسيحية مرحلة الصبا، والتنوير المرحلة الثالثة التي يكتمل فيها التطور وهو ما يراه البعض الإسلام. الطفولة تقوم على الثواب والعقاب، والصبا يقوم على المحبة والتسامح، والتنوير على العقل وحرية الإرادة. وهما المكونان الرئيسيان لأصل العدل عند المعتزلة.

(٢) الإيمان والمعرفة

بالرغم من أنه موضوع يجمع بين مقولتين أساسيتين في نظرية المعرفة في العصر الوسيط وامتدادها في العصر الحديث خاصةً عند كانط في قضية «القبلي والبعدي» إلا أنه أقرب إلى الفلسفة لاختيار المعرفة أساسًا للإيمان وليس كاختيار أوغسطين الإيمان أساس المعرفة. وهو يشبه ما عرضه المسلمون، متكلمين وفلاسفة وفقهاء وصوفية في موضوع العقل والنقل، والسؤال هو: هل النقل أساس العقل كما اختارت الأشعرية وامتدادها في الحركة السلفية المعاصرة أم العقل أساس النقل وهو اختيار المعتزلة القدماء والجدد؟ فما لا دليل عليه يجب نفيه. ولقد آمن إبراهيم، ولكنه شعر أن إيمانًا بلا برهان قد يذهب كما أتى؛ لذلك طلب البرهان أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. وهو أحد مفاتيح الانتقال من العصر الوسيط الذي أعطى الأولوية للإيمان على العقل إلى العقل الحديث الذي أعطى الأولوية للعقل على الإيمان.

ويضمُّ «الإيمان والمعرفة» ثلاث دراسات عن كانط وفشته وجاكوبي مما يدل على استمرار حضور كانط وفشته في كتابات الشباب. في المقدمة يعرض هيجل عن الحالة الراهنة لقضية الإيمان والنقل. فهو يبدأ من العصر والتيارات السائدة والصراع بين الإيمان والعقل. ومذهب اللذة أو السعادة وهي مصالحة زائفة بين العقل والإيمان، وهروب من الصراع. فنعمة السعادة في الإيمان أو في العقل. وهي مصالحةٌ مزيفة بين التصوُّر والحدس الحسي. والحل الصحيح هو العلاقة بين الذهن والتفكير؛ الذهن يجمع بين الحدوس الحسية والتفكير يعمل فيها.١٤
وواضح حضور فشته الطاغي على فِكْر هيجل في أعمال الشباب الفلسفية. فبالرغم من أن المقارنة بين مذهبي فشته وشلنج تقتضي عرض شلنج كما عرض فشته قبل المقارنة بينهما إلا أنه عرض فشته فقط. فيعرض هيجل فلسفة فشته في الجزء الأخير من «الإيمان والمعرفة». ويبدأ بمقارنة مواقف الفلاسفة الثلاثة: كانط وجاكوبي وفشته، من الذاتية. ثم يعرض الفلسفة النظرية والفلسفة الأخلاقية لفشته، وإبراز واقعيته. تكشف أعمال الشباب عن حيرة هيجل بين المثالية والواقعية، بين الصورية والمادية، بين العقل والوجدان.١٥

والقسم الثالث عن فلسفة جاكوبي الذي يمثل صورية المعرفة وواقعية الإيمان. فالمعرفة تصورات صورية في حين أن الإيمان تجارب حية معيشة. ويختلف جاكوبي مع شترنر. فحينما يحقق جاكوبي النهائي فإن شترنر يظل متجهًا نحو اللانهائي. وقع جاكوبي في نزعةٍ روحيةٍ مختلطة بالرغم من أنه ينقد كانط الواضح. ويتغير الإيمان عند جاكوبي الذي يظل كانطيًّا لأخلاقياته. وجاكوبي مثل شليرماخر في اكتشافه العالم الوجداني.

وواضح حضور كانط الطاغي. فهو الذي نقل قضية الإيمان والعقل من العصر الوسيط إلى العصر الحديث في صورة القبْلي والبعدي، وأخذ موقفًا شعوريًّا أو لا شعوريًّا أن القبْلي شرط البعدي، وأنه بدون مقولات الذهن لا تعمل الحواس. وهو الموقف التقليدي في العصر الوسيط «أُومِن لكي أعقل». وقف كانط أمام المثالية الزائفة والصحيحة، فالتفكير له قيمته، والقيمة التأملية والصورية للحكم التركيبي، القبلي والتأملي. وقد اكتشفت هي نفسها مشكلة الحكم القبلي التركيبي عند كانط قبل قراءة هيجل، أما الفرق فهو مستوى التفكير من الإيمان إلى العقل. والعقل هو مصدر الحكم التأملي. وقد نقدَ جاكوبي كانط. واعتبر أن كانط قد أغرق بالإيمان. ويقوم العقل بإصدار حكم تأملي. وقد تكون الصلة بين العقل والإيمان هي صلة عملية.١٦

وما زال الفكر الإسلامي المعاصر يستشهد بالنقل قبل العقل، قال الله وقال الرسول أي حجة القول. ويمتد القول على القائل، قال الرئيس، قال الوزير، قال الأمير، قال السلطان، قال الحاكم، قال المحافظ. ثم يمتد القول إلى قال الأب، قال الأخ الأكبر، قال العم، قال الخال. وينتقل القول إلى المدرسة في: قال المدرس، قال الناظر، وحجة القول ليست حجة لأن القول خطاب. والخطاب لغة. واللغة بها حقيقة ومجاز، ظاهر ومؤول، محكم ومتشابه، مجمل ومبين. له سياق. وله قصد. فالقول حجة ظنية في حين أن العقل حجة برهانية. وأحيانًا يظهر القول في استعمال المثل الشعبي، والأمثال الشعبية متضاربةٌ تثبت الشيء ونقيضه. الإيمان قول والمعرفة برهان. واتفاق النقل الصحيح مع العقل الصريح بلغة الفقهاء أمل يُرتجى. فإذا تناقضا فالعقل أساس النقل. يؤخذ العقل، ويؤول النقل، القضية آثارها العصر الوسيط الغربي. وظهرت في تراثنا عند المتكلمين والأصوليين والحكماء والصوفية، وما زلنا نُجاهِد من أجل عقلانيةٍ مستنيرةٍ منذ مائتي عام. مرة نسير، ومرات نتعثَّر.

(٣) وضعية الدين المسيحي

المهم في صيغة العنوان هو لفظ «وضعي» الذي استمر بمعانٍ متجددة طوال القرنَين التاليَين. «وضعي» عند هيجل تعني واقعيًّا عكس مثالي. فالمسيحية دِين وضعي أي أنها ترتبط بالأرض ارتباطها بالسماء. فالكلمة متجسدة، والابن ابنٌ على الرغم مما يبدو من الأخلاق المسيحية بأنها أخلاق زهد وتسامح. تفسيرًا لعبارة المسيح «مملكتي ليست من هذا العالم». وهو ما يركز عليه «لاهوت التحرير» الآن من الصلة بين الله والأرض في اليهودية، وفي الإسلام الثوري تفسيرًا لبضع آيات رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ. فإذا استولى الاستعمار أو الصهيونية على الأرض فإنه يكون قد استولى على نصف الإله. ولما كان الله واحدًا لا ينقسم فإنه يكون قد استولى على الإله كله وليس نصفه. فإذا كان في الصهيونية الله والشعب والأرض ثالوثًا واحدًا، فلا يوجد إله دون شعب، ولا يوجد شعب دون أرض، أرض المعاد فإنه في الإسلام ليس فقط فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، ولكنه أيضًا ارتباط الله بالأرض في الخَلق والبعث، في الزرع والسكن وليس فقط في الهجرة. ولا هجرة بعد الفتح. والله رَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ. ثم تطوَّر المعنى من السياق الديني إلى السياق العلمي. فأصبح «وضعي» في القرنين التاسع عشر والعشرين تعني الموضوعي الخالي من الذاتية، والتحيز والأهواء والأحكام المسبقة. ومن هنا اشتُق مذهب «الوضعية المنطقية». والآن أصبح لفظ «وضعي» لفظًا سلبيًّا لأنه لا يمكن إملاء المعرفة من الذات بل إن الذات هي التي تحتوي الموضوع، وليس الموضوع هو الذي يحتوي على الذات. ثم قدمت الظاهريات حلًّا ثالثًا هو أن الذات والموضوع واجهتان لعُمْلة واحدة في التصورية. والإحالة المتبادلة بين الذات والموضوع. وإذا كان الصوفية قد أُغرقوا في التوجه من الفناء إلى البقاء، ومن الأرض إلى السماء فإن التصوف الثوري قد أعاده من الفناء إلى البقاء، ومن السماء إلى الأرض.١٧
ويتساءل هيجل أولًا كيف أصبحت المسيحية الدين الوضعي للكنيسة؟ والإجابة واضحة أن الكنيسة حوَّلت المسيحية إلى دين مؤسسات وشعائر. وأفقدتها وضعيتها الداخلية أي واقعيتها واتصالها المباشر بالحياة. فالكنيسة أكسبت المسيحية وضعيتها أي شيئيتها من خارجها وليس من داخلها. فأصبحت كاليهودية. دين الأشكال والرسوم. ثم جاء يسوع ليعيد للإيمان وضعيته الداخلية أو الإحساس بحقائق الإيمان. فمتى حدث هذا التحول في المسيحية؟ حدث ذلك بالانقسام إلى طوائف، والمسيحية ليس بها طوائف. فكل البشر إخوة كما يقول الشاعر شيللر ويغنيها بيتهوفن في آخر السيمفونية التاسعة والأخيرة: أيها الفرح، أيها الفرح، كل البشر إخوة حيث يطير جناحك. سيعيد لذاتك ربط ما قطعته الأشكال والرسوم. فمساكين المسيح قادرة على ذلك. كان لدى المسيح ما يقوله عن شخصيته الفريدة ولكنه لم يفعل. تحدَّث فقط عن نفسه باعتباره المسيح المنتظر (مسايا Messaia) أو المخلِّص. والعنصر الوضعي معتمد على شخصه وعلى التلاميذ. يُجري المعجزات. وهم أشبه بحواري سقراط. وهم في العدد اثنا عشر. وقد أُرسلوا في بعثاتهم. أما البعث وباقي التعاليم فقد بشَّر بها فيما بعدُ. فالعقائد تنشأ كبذرة تتفرع إلى شجرة. وتثمر فيما بعد. ثم سرت تعاليم يسوع فيما بعدُ في المعنى الوضعي. وما يمكن تطبيقه في مجتمع صغير لا يمكن تطبيقه في الدولة. وملكية الأشياء تتم في المجتمع الصغير بالتساوي، وفي الدولة بعدم المساواة؛ لذلك كان العشاء الرباني نموذجًا للمشاركة ثم الانتشار في المجتمع الكبير. والقضية الآن: كيف ينمو المجتمع الديني أو الأخلاقي الصغير إلى أن يصبح دولةً؟ ثم بعد ذلك ينشأ الصراع بين الكنيسة والدولة في مواضيع الحقوق المدنية بوجهٍ عام وفي مواضيع الملكية وفي مواضيع التربية. وهناك عدة حوادث.
حادثتان كنماذج للنزاع بين الكنيسة والدولة. الأولى: العقد الكنسي الكهنوتي حول تصوُّر المواطنين وتخيلهم لموضوعات العقائد. والعقد أيضًا مع الدولة. التناقض مع الدولة وضرورة الدفاع عن الإيمان. والحل هو ضرورة العودة إلى الأخلاق لحل هذا النزاع. كانط هو الحل؛ لذلك كان ظهور الطوائف ضروريًّا. وقد ساعد الخلاف حول الخدمة العسكرية على زيادة المسيحية، ومع ذلك استطاعت المسيحية أن تهزم آلهة Tutons الوثنية، ويطرح هيجل سؤالًا: هل اليهودية لأرض الآباء؟ هي كتابات متناثرة تحتاج إلى ملاحق أو إضافات حول التقابل بين اليهودية ويسوع.

وبالنسبة لنا تعني «الوضعية» معنيين: الأول سلبي في اعتبار العقائد أشياء مثل شعائر الحج، والطواف، ووقفة عرفات، وقذف إبليس بالحجارة. وقد تتحول هذه المظاهر إلى رسوم وأشكال مثل الجبة والقفطان والعمة والسبحة والذقن والعطر. وكذلك مثل الحركات الجسدية في الصلاة، وكل ما يتعلق بالمؤسسة الدينية. والمعنى الثاني إيجابي وهو الشهادة أي عدم الخوف أو الجبن أو النفاق أو القول باللسان ما لا تراه العين. وتعني الزكاة المشاركة في الأموال بين الأغنياء والفقراء. والصلاة المحافظة على الأوقات، والدقة في ضبط الأفعال في أزمانها. والحج هو اجتماع الأمة مرة واحدة في العام لمعرفة مَن العدو ومَن الصديق بعد أن اختلط الحابل بالنابل، وأصبح العدو صديقًا مثل إسرائيل، والصديق عدوًّا مثل قطر وإيران وتركيا. تعني تصفية الإسلام، ومقاصد الشريعة: البقاء، الدفاع عن الحياة، والعقل، والحق، والعِرض، والمال، وليس مجرد التمتمة بالشهادتَين. تعني «الوضعية» رعاية مصالح الناس، وأن ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسنٌ. تعني «الوضعية» أن الدين حركةٌ اجتماعية أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وتنهار المجتمعات بالاستغلال والتفاوت الطبقي وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ، والأخ الذي لديه تسع وتسعون نعجة ويريد أن يأخذ نعجة أخيه الواحدة حتى يستولي على رأس المال كله!

(ب) الفلسفة (الفرق بين المذهبَين الفلسفيَّين، بين فشته وشلنج في علاقتهما بمساهمات رينهولد)

إذا كان غلب على الدين الأخلاق الكانطية فإن الفلسفة هي حوار مباشر مع فشته وشلنج، فشته من أنصار الوعي الذاتي وشلنج من أنصار الوعي الكوني بعد رد الوعي الذاتي إلى الكون نفسه والوقوع في نوعٍ من وحدة الوجود مثل ابن عربي حيث لا فرق بين الذات والموضوع بلغة نظرية المعرفة. وكما نقد تلاميذ هيجل الأستاذ وكوَّنوا اليسار الهيجلي نقد هيجل معاصريه مثل فشته وشلنج لمثاليتهما والإغراق في الذاتية كما هو الحال عند فشته في «فلسفة الأنا» أو في «الكون» كما هو الحال عند شلنج في «تطور الفلسفة الألمانية» كنموذج للفلسفة الغربية، من المثالية إلى الواقعية، من الذات إلى المجتمع، ومن العقل إلى العواطف والانفعالات تأثرًا بالحركة الرومانسية. البداية بكانط في «الدين في حدود العقل وحده»، والنهاية بماركس في «نقد النقد».١٨
وواضح من طول العنوان غرق هيجل في فلسفة عصره ومختلف قراءاتها، وأن العناوين المنهجية والمذهبية لهيجل لم تكن قد تكوَّنت بعدُ مثل «ظاهريات الروح» و«علم المنطق» و«مبادئ فلسفة الحق». وهذه الكتابات الفلسفية الأولى ليست كُتبًا بخطةِ بحثٍ موضوعي ومنهج ونتيجة بل مجموعة أوراق متفرقة جمعها الناشر (لاسون) حفاظًا على تراث هيجل الشاب. وواضح أيضًا أن راينهولد هو صاحب قراءة لفلسفة كانط خاصة، وأن هيجل يقدم قراءة على قراءة أو مراجعة للقراءة الأولى. والسؤال هو: هل دخل هيجل في حوار من الجدال مع اليمين الكانطي الذي كان يمثله راينهولد أم أنه دخل في جدلٍ غير مباشر مع مذهبي فشته وشلنج اللذين كانا استمرارًا لليمين الكانطي؛ وبالتالي يعتبر هيجل ممثلًا لليسار الكانطي؟ فدراسة هيجل قراءة على قراءة، قراءة مذهبي فشته وشلنج من وجهة نظر راينهولد. فأعمال هيجل الشاب كلها قراءات في «روح المسيحية ومصيرها» أو في «مذهبي فشته وشلنج» وفي «الإيمان والمعرفة» مشكلة العصر الوسيط «أومن كي أعقل» أم «أعقل كي أومن».١٩
وهيجل على وعيٍ منذ الشباب أن الفلسفة مذهب كما أن الدين عقائد. ثم أصبح همُّ المعاصرين تدمير المذهب كبدايةٍ للفلسفة وعودة اﻟ «أنا أفكر» ثم استبداله بالأنا موجود. ففشته له مذهب، وشلنج له مذهب آخر. ويصعب التحقق من ذلك لأن فلسفة فشته تقوم على الصراع بين الأنا واللأنا لإثبات الأنا المطلق. وهي صورة سابقة للجدل الهيجلي. وهل يمكن تسمية وحدة الروح والطبيعة عند شلنج مذهبًا أم هذه قراءة مذهبية لهيجل وهو يبحث عن مذهب؟٢٠
وتبدأ المقارنة لعرض مختلف أشكال الفلسفة المعاصرة. فبالرغم من أن هيجل صاحب مذهب ينبع من التاريخ كي يتجاوزه فهو يعطي نظرة تاريخية عامة على المذاهب الفلسفية كي يشق طريقه نحو واحد منها أو يعطي مذهبًا جديدًا، وقد كان. فالحاجة إلى الفلسفة ضرورية وماسة. والتفكير أداة للنشاط الفلسفي. والتفكير علاقة بالحس السليم.٢١ وتبدأ الفلسفة في صورة قضية رئيسية مطلقة. وتبدأ بالحدس الترانسندنتالي الذي بدأه كانط في «نقد العقل الخالص». وهو حدس حسي. ثم تأتي مسلمات العقل. وتظهر علاقة النشاط الفلسفي مع مذهب فلسفي؛ فالفلسفة نشاط قبل أن تكون مذهبًا. والمذهب أصله نشاط فلسفي قبل أن يبلغ مستوى التجريد.
ثم تعرض المقارنة أولًا مذهب فشته. وهي قراءة لنسق كانط بالتقابل بين المعرفة النظرية والمعرفة العملية. الأولى تعادل «نقد العقل الخالص»، والثانية «نقد العقل العملي». ثم يتحوَّل هذا التقابل إلى تقابلٍ جديدٍ بين الأنا والأمة، من الفلسفة الخالصة إلى الفلسفة السياسية. ويستعمل فشته لفظ «الأمة». فمصطلح الدولة لم يكن قد ظهر بعدُ وكما سيحدث فيما بعدُ في «مبادئ فلسفة الحق». ففشته يوجه نداءات للأمة الألمانية. فلم تكن الدولة الألمانية قد نشأت بعدُ. كانت هناك بروسيا التي يمثلها بسمارك. ومع ذلك يعرض هيجل نظرية القانون والدولة عند فشته. فبالرغم من أن نسق فشته نظري خالص إلا أن احتلال نابليون فرض عليه التحوُّل من نسق الأنا واللاأنا والأنا المطلق إلى نسق سياسي، الأنا في مقابل اللاأنا هو الاحتلال من أجل الأنا المطلق الذي هو الأمة عند فشته أو الدولة عند هيجل. عند فشته الأنا تعيش وسط جماعة أخلاقية قبل أن تتحول إلى أمة ثم إلى دولة. والأخلاق عند فشته مرتبطة بالجمال. فهناك الجمال الخلقي الذي يبعث على الراحة النفسية أو الأخلاق الجمالية التي تمنع من القمع والحرب باسم الحلال والحرام. أما الطبيعة فقد أتت في الدرجة الثانية. فهي تستنبط من نسق القانون الطبيعي.٢٢
ثم يعقد هيجل المقارنة بين منهجَيْ فشته وشلنج الفلسفيين. فلكلٍّ منهما تطور للهوية في الفلسفة. وفي تعارض المطلق. ومع ذلك هناك حدس واحد مشترك في المذهبين في المطلق.٢٣

وأخيرًا يعرض هيجل لوجهة نظر راينهولد في المذهبين الفلسفيين لفشته وشلنج. فمقارنة هيجل بين المذهبين هي قراءة على القراءة. وفي نفس الوقت يستخرج هيجل فلسفة راينهولد الشخصية. لا يعترف راينهولد بالاختلاف بين المذهبين. وينظر إليهما بعين الوحدة، فلسفة الأنا. في حين يرى هيجل الاختلاف بينهما. فالوحدة لا تتم إلا بعد التعارض طبقًا لقوانين الجدل التي ما زالت في سبيل التكوين في «علم المنطق». يرى راينهولد أن المذهبين واجهتان لعُملة واحدة. فكلاهما يقومان على قضيةٍ ميتافيزيقيةٍ رئيسية.

أما الفلسفة الخاصة لراينهولد فإنها تقوم على التفاوتات المسبقة. وهي أحكام مسبقة عاطفية. وجميعها تقوم على افتراض ميتافيزيقي مسبق. كما تقوم على حدس أولي وهو ضرورة تأسيس الفلسفة على المنطق. وهو ما سيفعله هيجل فيما بعدُ في «علم المنطق». وهو المشروع الفلسفي المنطقي. فالفلسفة مشروع «ظاهريات الروح». وهو مشروع وصف تطور الوعي الفردي داخل الوعي الحضاري، و«علم المنطق» مشروع تحديد قواعد الجدل للتفكير أو الممارسة، و«مبادئ فلسفة الحق» مشروع «إقامة دولة». ثم يقارن هيجل بين مشروع راينهولد ومشروع بارتيللي المفكر الإيطالي مما يدل على سعة اطلاعه في هذا الوقت المبكر على الثقافات المجاورة حتى لو كانت كلها أوروبية دون التعرض إلى باقي الثقافات التي نقدت صورية المنطق الأرسطي ووضعت قواعد المنطق التجريبي في التحليل في علم أصول الفقه أو الإسلامية أو الشرقية مثل وضع قواعد علم المنطق حول الثورة المجهضة. وهنا يبرز اهتمام هيجل السياسي وسط الموضوعات المنطقية الميتافيزيقية الخالصة. والخاتمة حول الثورة الحقيقية عند شلنج. وهيجل هو التطور الطبيعي لفشته وشلنج فيما يتعلَّق بالأسس النظرية للثورة أو شروحها المذهبية مثل المفكرين الأحرار قبل الثورة الفرنسية.٢٤

(ﺟ) السياسة

إذا كان الدين هو بداية الفلسفة فإن الفلسفة هي بداية السياسة. فالدين يبعث على الفكر إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. والفكر يدفع إلى السياسة لأنه لا يكون إلا في واقعٍ ولا يتحقق إلا في مجتمع. وقد بدأ الأنبياء بالدين وانتهوا بالسياسة كما هو الحال في رسالة موسى ورسالة محمد. وقبلهما داود وسليمان. وإن لم يحدث ذلك يظل الدين اغترابًا في الخيال. وتظل الفلسفة تأملات لا وطن لها. إنما السياسة هي التي تُحيي الدين والفكر ثم تحقق الفكر كواقع؛ لذلك كانت كتابات هيجل الأولى بين الدين «روح المسيحية ومصيرها»، و«وضعية الدين المسيحي»، والفلسفة «الفرق بين مذهبي فشته وشلنج» و«الإيمان والمعرفة»، والسياسة التي يتم عرضها الآن مثل «دستور ألمانيا»، و«أحكام جمعية حول محكمة فرتنبرج في ١٨١٥-١٨١٦م» فيما يتعلق بإعلان خطة الإصلاح البريطانية. فبالرغم من اعتزاز ألمانيا بقوميتها الناشئة إلا أن ثقافتها كانت منفتحةً على الثقافتين البريطانية والفرنسية، على خطة الإصلاح الديني البريطاني وعلى آراء المفكرين الأحرار الذين مهدوا للثورة الفرنسية التي حاول الألمان تقليدها في دوقية فيمار ١٩٤٨م ثم فشلها مما دفع ماركس إلى نقد الأيديولوجيا الألمانية برمتها. فالسياسة تطور طبيعي من التفكير في الدين إلى التفكير في الفلسفة إلى التفكير في السياسة، من الإيمان إلى العقل إلى الفعل والممارسة. فتحريم السياسة على الجامعات والوظائف العامة كما يحدث في بلادنا ضد مسار المجتمعات من الدين إلى الفكر إلى السياسة. وهو ما يجعل الحركات السلفية تعود إلى الظهور اعتمادًا على الدين أو على الليبرالية التي تتوقف عند الفكر. وتظل السياسة أمرًا مفتوحًا للعسكريين الذين يضعون السلفيين والليبراليين والناصريين والقوميين والماركسيين في المعتقلات والسجون مع أشد أنواع التعذيب بلا تهمة أو جريمة أو حكم قضاء. فلا الدين تطوَّر إلى فكر كما فعل هيجل وقضى على اغتراب اللاهوتيين به. ولا الفكر تحوَّل إلى سياسة. فأصبحت مجرد سباق على السلطة دون تفكير في المؤسسات مثل الدولة والحزب والدستور ومجلس النواب، والجيش والشرطة. فأصبح الأقوى هو الحاكم، وهو الجيش.٢٥

(١) دستور ألمانيا (١٨٠٠–١٨٠٢م)

هو أول مشروع كمقدمة. وقبل أن يضع دستور ألمانيا يشرح مفهوم «الدولة». ويقدم تاريخًا ونقدًا لدستور الإمبراطورية الألمانية. وبه بنود عن القوة العسكرية والميزانية وحدود أرض الإمبراطورية، والعدل والدين، وسلطة الدولة، واستقلال الدول، وتكوين الدول الوطنية وسياسة أكبر دولتَين ألمانيتَين، وحرية المواطنين وحرية الدول، ثم يعطي هيجل خطةً لإصلاح الدستور، فالسياسة تبدأ بالتفكير في الدستور والدولة وحقوق المواطنين وفي مقدمتها الحرية، وفي بلادنا أول شيءٍ يحدث بعد ثورةٍ أو انقلابٍ هو تعليق الدستور، واستغراق سنوات في وضع دستور غيره يعطي رئيس السلطة التنفيذية سلطة مطلقة يفعل ما يشاء بما في ذلك التنازل عن جزيرتين مصريتين إلى دولة شقيقة جارة حارب ناصر من أجلها حتى لو خسر الحرب. ويضع السلطتين التشريعية والقضائية في حرج. فهكذا تسير الأمور في البلاد. بدل أن تكون السلطة التنفيذية هي السلطة الثالثة بعد السلطتين التشريعية والقضائية تكون لها الأولوية عليهما. وفي ترتيب السلطات الحاكمة في البلاد الديموقراطية تأتي السلطة القضائية أولًا ممثلة في مجلس الدولة ثم السلطة التشريعية مثل مجلس النواب والدستور، ثم تأتي أخيرًا السلطة التنفيذية ممثلة في الرئاسة والجيش والشرطة وكل أجهزة الأمن القومي.

الدستور هو الذي يحفظ للأفراد حقوقهم مثل الحرية، وللدولة واجبها هو العدل، وهو الذي يحفظ للفرد واجباته وهي الطاعة أو المعارضة، وهو الذي يوضح للدولة حقها في الحفاظ عليها وواجبها في الدفاع عن أرضها ومواطنيها، الدستور هو الذي ينظِّم العلاقة بين المواطن والدولة حتى لا يتحول المواطن إلى خارج عن القانون، إرهابي تكفيري بلغتنا. وهو الذي يبين للدولة مفهوم العدل حتى لا تتحوَّل إلى دولةٍ مستبدةٍ خارجةٍ على الدستور. الدستور هو الذي يوضِّح للطرفين، المواطن والدولة، حقوق وواجبات كل طرف، وفي بلادنا يوضع الدستور شكليًّا ففيه الحقوق الاستثنائية للملك أو الرئيس أو السلطان أو الأمير. كما توضع فيه الأحكام العرفية، ويمكن أن يتغير لمد الفترة الرئاسية إلى ما لا نهاية مثل «الأسد إلى الأبد» ومثل حكم الرئيس المخلوع عندنا ثلاثين عامًا. ولا فرق بين هذا الدستور والحاكمية لله. فالله هو الرئيس والسلطان والأمير. ينظِّم العالم كما يشاء وإلى الأبد. فكلاهما تصور سلطوي للدستور. لا فرق فيه بين إسلاميين وعسكريين، بين قريش والجيش، بين الصحابي والعسكري، معهما اشتد النقاش بعد الثورة أيهما أولًا: وضع الدستور أم انتخابات البرلمان؟ فالنتيجة واحدة. فالرئيس يمثل الشعب، والبرلمان يعبر عن اختيار الشعب. الرئيس يضع الدستور، والشعب يختار الرئيس، والنتيجة معروفة سلفًا قبل الانتخاب. واللفظ الإنجليزي أو الفرنسي للدستور Constitution مكون من مقطعين Con أي مع، stitution أي يضع. فالدستور وضع مشترك بين الرئيس والشعب. وفي اللغة العربية الرئيس من «رأس». وكل شيء له رأس واحد. وأصبح نكتة من الشعب عندما يُقال «أبو راسين». وقد تكون هذه هي العقبة اللغوية الثقافية التي تمهد للدكتاتورية، وتعيق الديموقراطية.

(٢) تجميع الدول في ملكية فرتنبرج في (١٨١٥–١٨١٦م)، تحليل نقدي

ولا يكتفي التحليل السياسي بالعرض النظري مثل الدستور وعلاقته بالحاكم والمحكوم بل إعطاء نماذج عملية وتطبيقات سياسية لمحاولات فعلية تمت في ألمانيا مثل توحيد الدويلات الألمانية في دوقية فرتنبرج. والتحليل لمادة مادة من بنود الدستور الجديد. والسؤال هو: هل هي دولة مركزية أم تحافظ على قوتها مع نظام مركزي في الدفاع والخارجية على الأقل؟ وكانت مشكلة مطروحة على كل الإمبراطوريات القديمة كاليونانية والرومانية والفارسية؛ والحديثة كالعثمانية. وهي مطروحة أيضًا على الدول المتجاورة والمتشابهة في التاريخ والجغرافيا والثقافة مثل الاتحاد الأوروبي. بل إن النظام الفيدرالي هو الذي اختارته بعض الدول الكبرى حرصًا على وحدتها من التفتت مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي، وبعض الدول الوطنية مثل إسبانيا وألمانيا وإيطاليا. بل اختارته أيضًا بعض الدول المتعددة القوميات واللغات مثل سويسرا. وهو الفرق بين الوحدة العربية والاتحاد. وقد اختار العرب «جامعة الدول العربية» أقرب إلى التعددية منها إلى الوحدة والاتحاد لأنها جامعة حكومات لا شعوب. والخوف الآن من تفتت الدول الوطنية الموروثة من معاهدة سايكس بيكو بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية وانحسار التيار القومي إلى دويلاتٍ طائفيةٍ وعرقيةٍ كما يحدث الآن في سوريا والعراق واليمن وليبيا. ولا ندري ماذا يخبئ المستقبل لمصر في سيناء وسيوة والصعيد؟

وهي القضية التي حاول «ميثاق المدينة» حلها. فالمسلمون أمة واحدة. فيها قدرٌ كبير من التعدد. فالنصارى بداخلها أمة واليهود أمة، والمجوس أمة، والصابئة أمة. ولكل أمةٍ ثقافتها ولغتها وشريعتها داخل الأمة الإسلامية الواحدة التي لا تتكون من المسلمين فقط بل من كل الديانات التي تعيش في كنفها. ولها حق الحماية، والرعاية. أما ما يحدث اليوم من تهجير لنصارى العراق، وسيطرة نصيرية على سوريا، والحرب الدائرة بين الحوثيين الزيديين وباقي اليمنيين مع أن الزيديين أقرب الطوائف الشيعية إلى أهل السنة فهي حروب أهلية من أجل السلطة. وما يحتاجه العرب الآن هو الدولة المركزية العربية الواحدة كما يتمنى القوميون العرب. وكما حدث في تجربة الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا ١٩٥٨–١٩٦١م بالرغم من شكليتها واعتمادها على الجيش. فلا هي كانت دولة مركزية قوية ولا دولة فيدرالية بين ولايات. وليس تفتيت الدول الوطنية التي قامت بواجبها في معارك التحرر الوطني بل نظام مثل الاتحاد الأوروبي، وفتح الحدود، والدفاع المشترك، أو ربما العملة الواحدة لتسهيل التبادل التجاري. عيب العرب أنهم يتكلمون أكثر مما يفعلون يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ.

(٢) المؤلفات المنهجية والمذهبية

(أ) ظاهريات الروح

وهو أول كتاب يصف تطور الوعي الذاتي إلى الوعي الموضوعي في علم المنطق. وهذا هو معنى الظاهريات، وصف نشأة الوعي وتطوره. وهو إعادة تركيب «نقد العقل النظري» لكانط من منظورٍ حركي، وليس من منظور ثبوتي. نفس المقولات مثل: الحسي، الإدراك الحسي، الذهن. ومنها ينشأ الوعي. وضعها كانط مزاحمة أحدها فوق الآخر. وحرَّكها هيجل بحيث أصبح أحدها متقدمًا عن الآخر وتطويرًا له.٢٦ وهذا يشبه الجزء الأخير من «التراث والتجديد»، الجبهة الثالثة (الموقف من الواقع أو نظرية التفسير). وهي محاولة القيام بتفسيرٍ موضوعي للقرآن الكريم تجميعًا للآيات حول موضوع واحد مثل الجسم والإدراك الحسي، والمعرفة العقلية والإحساس بالزمان، والعواطف والانفعالات، والأفعال القصدية والحركية، والأنا والآخر، والوعي الطبيعي والوعي التاريخي.
كان همُّ العصر هو تحويل المعرفة الدينية في العصر الوسيط وامتداداتها في العصر الحديث إلى معرفة علمية بعد أن وصف كانط كيف يعمل العقل النظري. ويرتبط هيجل بالثقافة الألمانية وليس الفرنسية لأن المعرفة العلمية تبدأ بالمعرفة العقلية التي وضع ديكارت أسسها في منهج الشك. وأرسى قواعد المنهج العقلي كإحدى صور المنهج العلمي مع فرانسيس بيكون الذي وضع أسس المنهج التجريبي؛ وبالتالي تتكامل مناهج المعرفة في اتجاه نحو المعرفة العلمية. والجانب الحقيقي هو التصور. وتمثيله الحقيقي هو المذهب العلمي. والحالة الراهنة للثقافة أو للحضارة Culture الروحية ومبدأ المعرفة لم يكتمل بعدُ كمعرفة؛ ومن ثم تصح الاعتراضات عليها بالصورية. والمطلق هو الذات. وهذا الحكم له دلالة واحدة في عناصر المعرفة. وارتفاع الوعي إلى هذا المستوى هي «ظاهريات الروح». ويتغيَّر الشيء الممثل والمعروف جيدًا فيصبح فكرًا ثم تصورات. والسؤال هو: بأي معنًى يمكن اعتبار «ظاهريات الروح» سلبية لأن وظيفتها تنظيم المعرفة المعطاة من خلال الحواس والعقل وليس اتباعًا لها؟ وإلى أي حد تتضمن الخطأ والزيف؟ وهناك تقابل بين المعرفة التاريخية والمعرفة الموضوعية Thématique. والمعرفة النظرية ومنهجها. ومع ذلك يمكن الاعتراض على هذه الصورية Formalism.
ما يُحتاج إليه لدراسة الفلسفة أن يكون هناك سلوك سلبي للفكر المتعقل وسلوك إيجابي، الذات. وطريقة للتفلسف على نحو طبيعي لأن هناك الحس السليم والعبقرية، وعلاقة المؤلف بالجمهور. فبالرغم من أن مذهب هيجل تحول إلى المذهب الميتافيزيقي إلا أنه كان حريصًا على علاقته بالجمهور.٢٧
والخطة العامة في «ظاهريات الروح» ما زالت مضطربة، ومصطلحاتها متكررة. البعض ينقسم داخليًّا مثل «الوعي» الذي ينقسم إلى الإحساس والإدراك والذهن، والعقل الذي ينقسم إلى الملاحظة والتحقق Actualisation والتفرد Individualisation. والروح التي تنقسم إلى الأخلاق Ethique والثقافة أو الحضارة Culture، والخلقية Moralité، والدين الذي ينقسم إلى الدين الطبيعي، الدين الجمالي، ودين الوحي. وهناك أقسامٌ قائمة بذاتها لا تنقسم مثل «الوعي الذاتي»، «المعرفة المطلقة»، «الروح». فما زال هيجل يتحسَّس موضوعه في «علم المنطق». وما زالت تغلب عليه روح الكتابات المتناثرة الأولى، الدينية والفلسفية والسياسية. يتكرر لفظ «الروح» مرتين. الأولى ينقسم والثانية لا ينقسم. ويظهر الدين وسط النسق المعرفي وتطور الروح بعد أن كان ربما قد انتهى منه في كتابات الشباب مثل «روح المسيحية ومصيرها»، و«وضعية الدين المسيحي». والسؤال هو: هل الدين موضوع أم ذات، موضوع للمعرفة أم ذات عارفة؟ يبدو أن الدين هو الاثنان معًا موضوع للمعرفة خاصة الدين الطبيعي. وهو في نفس الوقت ذات عارفة عن طريق الوحي والنبوة والرسالة. وكيف تعرف «الروح» ثانية للظهور كخاتمة ﻟ «ظاهريات الروح» بعد المعرفة المطلقة؟ والجمال إحدى مراحل الدين بعد الدين الطبيعي وقبل دين الوحي. وهو ما يعادل آية وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وقد نزل القرآن لدى قوم لديهم إحساس بالجمال الطبيعي وعبروا عن ذلك بالشِّعر؛ لذلك اتهموا الرسول بأنه شاعر. وأن القرآن ضربٌ جديد من الأسلوب الشِّعري. وقد دخل القرآن قلوب العرب الأوائل عن طريق حلاوة وطلاوة اللسان وحسن الصوت الذي يعتمد عليه الآن المقرئون. وقد أُطلق لقب قيثارة السماء على أحد المقرئين. والسؤال هو: ما هو المفهوم المسيطر، العقل أم الروح أم المعرفة المطلقة؟

وبعد الوعي الذاتي يأتي العقل الذي يشمل تقريبًا كل شيء. أولًا: الملاحظة. وعادةً ما يكون العقل قد تجاوز الملاحظة المرتبطة بالحس والإدراك الحسي. ويشمل أيضًا التحقق. فهو ليس فعلًا صوريًّا فارغًا من أي مضمون، مجرد قوالب ذهنية كما هو الحال عند كانط بل هو تمثل يتحقق في الواقع. هو الواقع المعقول؛ لذلك رفع شعار «كل واقع معقول وكل معقول واقع». وهو تمثُّل فردي لا يفقد خصوصيته لصالح العقل العام. ثانيًا: يشمل العقل الروح التي تقوم على أسس ثلاثة: الأخلاق، والحضارة، والخلقية. فالروح تتأسس على الأخلاق سواء في الأخلاق الفردية أو على ماهية الأخلاق. كما يتأسس في الحضارة أي في التاريخ الثقافي للروح، ما يشمل العقل. ثالثًا الدين بعد أن كان قد تحرر العقل منه. ويبدو أن الدين يظل قابعًا في العقل والروح. وهو ثلاثة أنواع أو مراحل: «الدين الطبيعي» أي الإحساس العام بالطبيعة التي توحي بالوحدانية، و«الدين الجمالي» مثل الشِّعر والموسيقى والأوبرا، عصر جوته وبيتهوفن وفاجنر. فالإحساس بالجمال إحساسًا رومانسيًّا هو أحد مستويات الدين في نقائه دون شعائر أو حدود أو كفارات أو مؤسسات مثل الكنيسة. ثم يأتي «دين الوحي» أنقى الأنواع كما هو الحال في الإسلام الذي يقوم في جوهره على الإيمان والعمل الصالح أو كما عرضه المعتزلة قديمًا على التوحيد والعدل. رابعًا: المعرفة المطلقة. فالقوى المعرفية عند الإنسان قادرة على الوصول إليها. تتجاوز الدين الذي تتعدد أشكاله ومراحله وولاءاته. خامسًا: الروح لا ترقيم لها لأنه لا شيء يأتي بعدها. وبالرغم من أن اللفظ لغويًّا مذكرٌ إلا أن العادة قد جرت في استعماله مؤنثًا. فالروح تند عن التأنيث والتذكير.

هذه المراحل لتطوُّر الوعي قبل نشأته وتطوره في «التفسير الموضوعي للقرآن الكريم» الجبهة الثالثة من مشروع «التراث والتجديد»، «النص والواقع» أو «نظرية التفسير». إذ ينشأ الوعي بالجسم والإدراك الحسي ثم المعرفة العقلية والإحساس بالزمان، ثم العواطف والانفعالات، ثم الاعتقاديات والأخلاقيات، ثم المقاصد والأفعال، ثم الأنا والآخر، ثم الوعي والطبيعة، الوعي والتاريخ.٢٨
والعقل هو أكثر الموضوعات تفصيلًا. أو الروح أساسًا هو العقل، عودًا إلى كانط. وأهم قضية في العقل هي قضية اليقين والحقيقة عودًا إلى ديكارت دون فكره. فأول درجاته العقل الملاحظ وهو ما سماه بيكون التجربة دون ذكره أيضًا. يقوم بملاحظة الطبيعة ويقدم لها علامات مميزة وهي القوانين. وهو يلاحظ العضوي، وعلاقة العضوي باللاعضوي. كما يلاحظ الغائية في الطبيعة، وعلاقة الداخل بالخارج، الداخل له قوانينه وهي لحظات الداخل الخالصة مثل الحساسية، الإثارة الحسية Irratabilité وإعادة الإنتاج. الداخل والخارج واجهتان لعملة واحدة. هما صورتان. الداخل هو العضوي، والخارج هو اللاعضوي. ويتوزع كلاهما بين الأجناس والأنواع والأفراد. ويلاحظ الوعي الذاتي في نقائه وفي علاقته بالواقع الخارجي العاطفي. وهنا تنتقل القوانين من مستوى المنطق إلى المستوى النفسي. وهنا يبدو هيجل ناقدًا لصورية المنطق محولًا إياه إلى منطقٍ شعوري كما هو الحال في الظاهريات في نقدها المنطق ووضع أسس لمنطقٍ شعوري في «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي» وكما فعل السهروردي في «حكمة الإشراق».٢٩ وهذا ناتج عن ملاحظة الوعي الذاتي بالواقع الوجداني المباشر، وهو ما يتجاوز قوانين الفيزياء Physiognomie، Phrénologie. ثم يتحقق الوعي الذاتي عن طريق نشاطه الخالص مثل: اللذة والضرورة، قانون القلب ولذة الادعاء والفضيلة ومسار العالم. ثم تبرز العزوبة التي تعي نفسها كواقعٍ في ذاته ولذاته. وتظهر الروح أولًا في مملكة الحيوان وفي الخداع وفي الشيء في ذاته. ثم يتجه العقل إلى التشريع وفحص القوانين. وهو ما سيلاحظه برجسون بعد ذلك.٣٠

ومع مزيد من التفصيل يشمل الوعي اليقين الحسي، الهذا ورؤيتي للهذا. الإدراك الحسي للشيء، ولكن مع احتمال الإدراك الخاطئ. والذهن به قوة. ثم يظهر العالم فوق الحسي وهي الظاهرة. أما الوعي الذاتي فإنه يقوم على اليقين بوجوده. وهو ليس تابعًا. ويتراوح بين السيطرة والعبودية. فالوعي العملي يظهر داخل الوعي النظري ولا يتأجل كما هو الحال عند كانط. الوعي الذاتي وعي حر كما هو الحال في الرواقية. ثم يأتي الوعي الشقي ويشكلها. والسؤال هو: ما هو الوعي الشقي؟ هو اليأس من الحياة أو الهروب منها في التصوف الذي مثلته الرواقية قديمًا عند اليونان. وماذا عن الأغاني الشعبية المصرية التي تقول بالوعي السعيد «الدنيا حلوة، نغمتها حلوة، إحنا اللي نطير ونغنيها»؟ وهنا تبرز قضية أخرى بذكر الرواقية، هل ظاهريات الروح وصف لا تاريخي أم وصف تاريخي؟ وهل هو وصف للوعي الفردي أم للوعي التاريخي؟

والروح يستغرق الجزء الثاني، أكبر من العقل. فالروح الحقيقي نظام أخلاقي. وفيه يظهر التقابل بين القانون الإنساني والقانون الإلهي. والآن يعمل الذكر والأنثى كما يعمل الفعل الخلقي للمعرفة الإنسانية والمعرفة الإلهية. الخطيئة تحدد المصير في حالة القانون. فالروح تتجسد في النظام الاجتماعي. ثم يصبح الروح غريبًا عن نفسه. فتنشأ الحضارة ليعود الروح إليها. فالحضارة ملكوت العواطف والوجدانيات. أما الإيمان فهو ميدان التأمل والتفكير الخالص. وهنا أتى التنوير Auflärung أو الأنوار. ومعارك الأنوار ضد الخرافات. فحقيقة التنوير هي استنارة العقل. وتقف الحرية المطلقة في مواجهة الإرهاب. فإذا ما تأكد الروح من ذاته فإنه يصل إلى الأخلاقية عودًا إلى كانط، وطبقًا للرؤية الأخلاقية للعالم. ثم يحدث انتقال وزحزحة متشابهة في المكان. وينشأ الوعي الخلقي أو الوعي الحسن. والنفس المطمئنة تقوم بمغفرة الشر.

وتنتهي ظاهريات الروح بالدين قبل المعرفة المطلقة. كما بدأت من الدين في مؤلفات الشباب. فهناك ثلاثة أنواع من الدين؛ أولًا: الدين الطبيعي وجوهره النور. وفيه النبات والحيوان، والصناعة اليدوية التي تصنع الأصنام. ثانيًا: الدين الجمالي كما هو الحال عند الرومانسيين. وربما تشير إليه عدة آياتٍ لدينا وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وكما هو في نشيد الفرح لبيتهوفن في آخر السيمفونية التاسعة «أيها الإخوة، فوق هذه السماء المرصعة بالنجوم لا بد أن يكون هناك أب رحيم». وكما هو الحال في الأغاني الشعبية المصرية «جميل جمال، مالوش مثال». فالفن لا يكون مجردًا. إنما العمل الفني هو العمل الحي كما هو الحال في الفن الرومانسي والانتقال من هايدن إلى موزار، ومن موزار إلى بيتهوفن. وهو نموذج العمل الفني الروحي الذي بدأ يفقد تلقائيته ووضوحه في أوبرا فاجنر. ثالثًا: الدين الذي يكشف عن نفسه أو الدين الموحى به. وهو آخر الديانات في تطور الدين.

والمعرفة المطلقة هي خاتمة تطور الروح. وقد كان هدف هذه المرحلة خلق الفن الشامل في الأوبرا التي تجمع بين الموسيقى والشِّعر، بين بيتهوفن وشيللر، بين الأوبرا والأسطورة عند فاجنر. في حين أن الروح المعاصرة ترفض الشامل والكلي. وتفضِّل الجزئي الذي تصدر عليه الأحكام التي يمكن التحقق من صدقها. وقد كان همُّ القدماء الفلاسفة مثل ابن سينا أيضًا وَضْع الحكمة الشاملة التي تضم المنطق والطبيعيات والإلهيات. وكانت النفس موضوعًا للإلهيات. ولم تكن هناك الإنسانيات إلا عند إخوان الصفا. ولا تفصيل فيها لأن المطلق لا يتجزَّأ. وكل مراحل تطور الروح تستطيع أن تكشف ولو بمؤشرات صغيرة من المعرفة المطلقة لأن هيجل يدخل الإيمان في إحدى مراحل تطور الروح. والدين كان من أجل تصحيحه كما تفعل الحركات الإصلاحية لدينا. وأدخل فلسفة التنوير، فليست فرنسا بأفضل من ألمانيا في الاستنارة العقلية. فالأنوار تدخل معاركها.

وفي نظرةٍ كليةٍ لتطور المضامين العربية والأوروبية نجد أنهما يسيران في مسارين مختلفين بل متعارضين. عندما تكون الحضارة العربية ناشئة تكون الحضارة الغربية غاربة. وعندما تكون الحضارة العربية غاربة تكون الحضارة الغربية ناشئة. وكلا المسارين على ضفتي البحر الأبيض المتوسط. إذا تقدمت الضفة الشمالية تكون الضفة الجنوبية في هبوط كما هو الحال في الفترة اليونانية الرومانية كسيفين متبارزين. في المرحلة الأولى، اليونانية الرومانية كانت هي المبدعة والإسلامية هي المترجمة. وفي المرحلة الثانية، المرحلة العربية الإسلامية كانت هي المبدعة والحضارة الغربية هي المترجمة خاصة مؤلفات ابن رشد، وتيار الرشدية اللاتينية. وهو ما يُسمى في الغرب العصر الوسيط، وهو العصر الذهبي في الحضارة الإسلامية. في المرحلة الأولى الغرب هو المعلم والشرق هو المتعلم. وفي المرحلة الثانية الشرق هو المعلم والغرب هو المتعلم. في المرحلة الأولى الغرب هو المركز والشرق هو الأطراف. والآن تتقابل المرحلتان، الغرب ينتهي والشرق يبدأ بعد أن بدأ الغرب منذ خمسة قرون، وغاب الشرق. كان ابن خلدون هو الخط الفارق بين الشرق والغرب في القرنَين الثامن الهجري والخامس عشر الميلادي. والآن منذ القرن العشرين والغرب والشرق كلاهما يتعثَّران. الآن خطٌّ فارق ثانٍ في حاجةٍ إلى ابن خلدون جديد يضع القرون السبعة التالية له، عصر الشروح والملخصات والموسوعات بعين الاعتبار في مسار الحضارة العربية الإسلامية. ظهر هيجل والهيجليون الشبان في ذروة الحضارة الأوروبية في مسارها الثاني، القرن التاسع عشر، كما ظهر الفارابي وابن سينا في ذروة الحضارة العربية الإسلامية في عصرها الأول، وفي المرحلة الثالثة والتي تُسمى العصر الحديث في الغرب بدأ العقل بالعلم والموضوعية وانتهى إلى تدمير العقل وعدم الاعتراف بالعلم، وإنكار الموضوعية لصالح التفكيكية وما بعد الحداثة والعدمية. يكفي قراءة بعض المؤلفات المعاصرة مثل «ضد العقل» لفيرابند، و«ضد المنهج» له أيضًا، و«تحطيم العقل» للوكاتش، و«الوجود والموضوعية» لجابريل مارسل، وهو ما أسماه إشبنجلر «سقوط الغرب»، ونيتشه «العدمية» الشاملة وسولوفييف «أزمة الفلسفة الغربية» فإن المقدمات هي مركز تفكير هيجل. وهناك محاولات للنهوض في الفكر العربي الحديث منذ القرن الماضي حتى المشاريع العربية المعاصرة. وباختصار هو السؤال الذي طرحه شكيب أرسلان: لماذا تخلَّف المسلمون وتقدَّم غيرهم؟

(ب) علم المنطق

والمنطق علم وليس فنًّا أو وجهات نظرٍ. صدرت له في حياة هيجل عدة طبعات مما يدل على سرعة انتشاره. وكل طبعة لها مقدمة. فأصبح للكتاب طبعتان ومقدمتان. المقدمة بها التصور العام للمنطق ثم مقدمة ثانية بها القسمة العامة للمنطق وهي القسمة الجدلية. وتصدير لكل طبعةٍ مما يدل على أن العلم ما زال ينبني في شعور هيجل. وطبقًا للتقسيم الثلاثي: الوجود والماهية والتصور فإن نقيض الوجود هو العدم. والجمع بين الوجود والعدم في الصيرورة، من الوجود إلى العدم أو من العدم إلى الوجود. يتضح أن هيجل ما زال تغلب عليه الكانطية بوضعه الماهية في مقابل الوجود، والتصور Concept الذي يجمع بينهما. وإذا كان الوجود له ماهية فإن التقابل عند معظم الوجوديين بين العدم والوجود هو وجود لا ماهية له. والنقيضان لا حل لهما في طرف ثالث كالتصور بل يصارع كلٌّ منهما الآخر حتى يتغلب العدم على الوجود الذي لا ماهية له تقاوم. فالحياة والموت، الصحة والمرض نقيضان لا وسط بينهما. ثم يتغلب الموت على الحياة والمرض على الصحة فيتضح العدم، كما هو الحال عند جان بول سارتر.

وواضح أن «ظاهريات الروح» تمثل نظرية المعرفة كي تصل في النهاية إلى «علم المنطق»، كنظرية في الوجود. فالتقابل بين المعرفة والوجود معروف منذ القديس أنسليم في الدليل الأنطولوجي على وجود الله. وكرره ديكارت في «التأملات»، وكانط في التقابل بين القبْلي والبعدي.

والعجيب أن المنطق ليس كما هو معروف نظرية في العقل ووضع قوانين لصحة التفكير، ولكنه منطق وجود. وهذا يجعل من هيجل من كبار فلاسفة الوجود المعاصرين مثل هيدجر في «الوجود والزمان»، وسارتر في «الوجود والعدم»، وجابريل مارسل في «الوجود والملكية». فالوجود هو بداية البحث عن المنطق. وينقسم المنطق إلى ثلاثة أنواع: المنطق الموضوعي، والمنطق الذاتي، والمنطق الذاتي الموضوعي. وهذه هي الصورة الأولى للجدل. والبداية بالمنطق الموضوعي أي الوجود، ثم المنطق الذاتي أي الماهية، ثم المنطق الذاتي الموضوعي في التصور، الوجود والماهية والتصور في شكلٍ آخر من أشكال الجدل. وقد حاول دارون فيما بعدُ وضع قوانين للتطور في الطبيعة وليس في الروح كما فعل هيجل. فالطبيعة جزءٌ من الروح. أما عند دارون فالروح جزءٌ من الطبيعة. ثم ينقسم الوجود إلى الكيفية والكمية والمقدار، وكلها موازين كمية ربما باستثناء الكيف. ومنطق الوجود أكبر أجزاء المنطق الذي يشمل الجزء الأول بأكمله.

  • (١)
    المنطق الموضوعي: يشرح هيجل الوجود لذاته الذي استعمله جان بول سارتر في التفرقة بين الوجود في ذاته En-Soi والوجود لذاته Pour-Soi؛ فالوجود لذاته مفهوم مستقلٌّ بذاته. الموجود هنا وهناك هو الموجود لذاته أي الوجود الإنساني. وهناك الموجود للواحد. ويشرح هيجل الوجود للواحد. والواحد في مقابل الكثير. والواحد أيضًا يوجد بمفرده. فهل الواحد هو الله الميتافيزيقي؟ وهل يقابل الواحد الفراغ؟ ويشرح هيجل معنى الذرية Atomism. وقد يتكاثر الواحد فيسبب نوعين من النفور، ويعلِّق على موناد ليبنتز. ثم يأتي هيجل على الطرد والجذب كقوَّتين في الطبيعة. وربما يستبعد الواحد. ويشرح قضية الوحدة في الواحد والكثير. والواحد بمفرده بعيد عن التشتت Uttraction. ويشرح العلاقة بين الطرد والجذب. ويحيل إلى بناء كانط للمادة بمساعدة قوى الجذب والطرد.

    والفصل الثاني الوجود هنا أي الوجود المتعين في الزمان والمكان. وهو التعبير الذي استعاره الوجوديون لبيان أن الوجود هو الجسم، الوجود المتعين، وليس الوجود العام. فالوجود المتعين من حيث هو كذلك هو الكيف. والكيف مرتبط بالسلب وبشيء ما. والتناهي يعني شيئًا ما أو شيئًا آخر، والتجريد هو الطريق الذي يتجه نحو التناهي. وهناك علاقة مباشرة مع المتناهي. والعقبة لا تمنع من واجب الوجود مع شرحٍ لواجب الوجود. وهو مفهوم أخلاقي من كانط استعمله هيجل في منطق الوجود. ثم يشرح هيجل في ملاحظة ختامية قصيرة معنى واجب الوجود. بعد ذلك الانتقال من النهائي إلى اللانهائي. ثم يشرح معنى اللانهائي بوجه عام. ويبين التحديد المتبادل بين النهائي واللانهائي. فاللاتناهي والتناهي في تداخلٍ مشترك على التبادل. ثم يشرح معنى التحول باستعمال مفهوم التقدم اللانهائي. وهو ما يؤدي إلى المثالية.

    وفي القسم الأول الكيف. والكيف يسبق الكم كما يسبق الروح الجسد. وهو الموقف المثالي. ومع ذلك يوضع السؤال: لماذا كانت نظرية الوجود هي بداية المنطق؟ وبالتالي للعلم إذا كان المنطق هو نظرية العلم. ويقدم هيجل الأقسام العامة للوجود. وينقسم إلى الكيف والكم والمقدار. وينقسم الوجود إلى الوجود والعدم والصيرورة. الوجود والعدم التعبير عند سارتر، والعدم عند نيتشه، والصيرورة التي تحولت إلى نظرية التطور عند دارون. ويؤكد هيجل وحدة الوجود والعدم. ويتعارض الوجود وهو ما يسميه الوجوديون التناقض في الوجود، الحياة والموت، الصحة والمرض، الشقاء والسعادة، اليأس والرجاء، الخوف والشجاعة، والتعبيرات، والهوية والاختلاف في الوجود والعدم. ويلاحظ هيجل أن هذه التقسيمات والتفريعات منعزلة عن بعضها البعض. ولا يمكن تصور البداية كما يفعل الدين في الخطيئة الأولى أو لحظات الصيرورة مثلما في الظهور والاختفاء. فالصيرورة لها وجهان؛ الأول: الاختفاء في الظاهر ولكنها في الباطن تعمل وتنشط. والثاني: الظهور عندما ينفجر القدر. ثم يقضي على الصيرورة، وربما يبدو استعمال المصطلح اختفاء غريبًا بالتطور ولا يختفي.

    والقسم الثاني المقدار أو الكم. ويبدأ هيجل بعرض الكمية الخالصة وتمثلاتها. ثم يعود إلى تناقضات Antimonies كانط إلى ما ينقسم ولا ينقسم، والزمان اللامتناهي والمكان والمادة، والمقدار المتصل والمقدار المتقطع (الخفي). ويشرح هيجل القسمة العادية لهذه المقادير. ويمكن تحديد المقدار. أما الكوانتم فيتكون من العدد. ويشرح هيجل طرق العد الحسابي الكانطي للمحسوس. وتستعمل تحديدات العدد للتعبير عن التصورات الفلسفية. وهناك فرق في الكوانتم الممتد والكوانتم المتوتر. وهي اللغة التي يستعملها برجسون فيما بعدُ في الفرق في الظاهرة الطبيعية والظاهرة النفسية. هوية الامتداد Extention. وهو المقدار المادي المتميز عن هوية المقدار المتوتر Intention. فالامتداد هو هوية الكم الخارجي. وهي لغة برجسون فيما بعد حدسه الرئيسي ضد علم النفس الفيزيولوجي، السيكوفيزيقا. وهناك أمثلة عديدة على هذه الهوية. وقد طبق كانط هذا التحديد إلى هذه الدرجة على وجود النفس. ومع ذلك يتغير الكوانتم أو مفهوم اللانهائية الكمية. والتقدم الكمي لا نهائي كما هو الحال عند دارون. والفكرة التالية التي تمثلها. وقد وضع كانط تناقضًا بين اللانهائي والنهائي في تناقضات العقل الخالص بالنسبة للطبيعة مثل الفناء والخلود. ومع ذلك فالكوانتم لا نهائي. والعالم موجود في الزمان والمكان. ويحدد معنى اللانهائي، وهناك لا نهائية الكوانتم. الدقة التصورية للنهائي الرياضي للغاية من حساب التفاضل والتكامل يستنبط من تطبيقه. وأشكال أخرى متجددة في التجديد الكمي: العلاقة المباشرة، العلاقة الممكنة، الكم النوعي. الكوانتم أيضًا نوعي، المقدار الذي يفرز التنوع. وهناك القاعدة، العلاقة بين الموضوعين، ولكنها كيفية. والموجود لذاته تدخل في المقدار. المقدار الواقعي. العلاقة بين المقادير المستقلة والربط بين المقدارين. وامتداد سلسلة من العلاقات المتبادلة. ثم يتحدث هيجل عن التآلف الاختياري كما هو الحال في الكيمياء. وهو تصوُّر برتهولد Berthollet. وواضح اطِّلاع هيجل الواسع على العلوم الطبيعية في عصره لدرجة اعتماد منطق الوجود عليها. كما يعتمد هيجل هنا على نظرية هيراقليطس وبرزيليوس Brezellius. ويتكوَّن خط نمطي عن طريق العلاقات بين المقادير. فلا توجد قفزات في الطبيعة كما هو الحال عند برجسون. وهناك ما لا مقدار له مثل الظاهرة النفسية عند برجسون. أما تطور الماهية فإنه يبدأ بالحياد المطلق. ثم الحياد باعتباره علاقة عكسية لهذه العوامل. ويميز هيجل بين القوة الجاذبة Centrepète والقوة الطاردة Centrifuge.٣١
  • (٢)
    المنطق الذاتي: وهو منطق الماهية باعتبارها تفكيرًا على ذاتها. وتبدأ بالظهور الواقعي كي يظهر الفرق بين الماهوي واللاماهوي، الجوهري والواقعي. فهناك عنصران: الظهور والتفكير. ويتم التفكير طبقًا للأوليات المسبقة Postulate، والتفكير الخارجي، والتفكير المحدد. والماهويات وتحديداتها التفكيرية. والتحديدات التفكيرية في صورة قضايا. ثم يشرح هيجل الهوية مجردة. هو القانون العام للهوية أو الماهية Identité. ثم تأتي الاختلافات، بداية بالاختلاف المطلق. ثم يبين هيجل الفرق بين الاختلاف Difference والتنوع Diversité، وقضية التنوع. أما التعارض فيُعرف بقضية التنوع. أما المقادير المتعارضة في الرياضيات أو التناقض Contradiction فهو وحدة الإيجابي مع السلبي. قضية الثالث المرفوع. ويشرح هيجل قضية التناقض. ثم يساوي بين الأساس Fondement والعقل. فما هي قضية الأساس؟ هناك الأساس المطلق، الشكل والماهية، الشكل والمادة، الشكل والمضمون. وهناك الأساس الدقيق، الأساس المضمون. ويشرح هيجل طريقة التعبير الصورية طبقًا للعقل الذي يكرر نفسه Tautologique. أما الأساس الواقعي فهو طريقة التعبير الصورية طبقًا لأساس مختلف عن المؤسس، العقل التعب أو الإجهاد Exhaution وفي الشرط. اللامشروط النسبي واللامشروط المطلق. طوارئ الشيء في الوجود.٣٢

    ثم تأتي الظاهرة التي تتشعب إلى الوجود وخصائصه، الشيء في ذاته. والوجود، الشيء في ذاته والمثالية الرنسندنتالية والفعل المتبادل في الشيء. والمادة باعتبارها تركيبًا من الأشياء. ثم تتفكك الأشياء ووضع المادة. والعجيب أنه في منطق الماهية يطغى أيضًا تحليل الشيء والمادة. أما الظاهرة فلها قانونها، العالم الظاهري وعالم الشيء في ذاته، تفكيك الظاهرة والعلاقة الماهوية. العلاقة بين الكل والأجزاء هو أحد فصول دراسات منطقية لهوسرل. ويشرح هيجل القسمة اللانهائية والعلاقة بين القوة ومظاهرها الخارجية، والقوة وشروطها. وتتفرد القوة، لا نهائية القوة. علاقات الداخل والخارج. الهوية المباشرة بين الداخل والخارج.

    ثم يأتي الواقع Réalité. ويتكون المطلق. تفسير المطلق، الصفة المطلقة، نموذج المطلق. ويشرح هيجل الفلسفة الإسبينوزية والفلسفة الليبنتزية. ويتكرر الواقع باسم Réalité ويبدأ بالمطلق. وقد يبدو تناقضًا أن يبدأ الواقع بالمطلق. فالواقع تحديد والمطلق لا تحديد. فماذا يعني المطلق؟ وماذا تعني الصفة المطلقة، وكأننا ما زلنا في ذات الله وصفاته في المرحلة الدينية؟ وما هو نموذج المطلق؟ هل فلسفة اسبينوزا وفلسفة ليبنتز هو النموذج؟ ويدور الواقع Réalité من القسمة الكبيرة إلى القسمة الصغيرة. ويضع هيجل تقابلًا بين الحدوث أو الواقع التصوري، الإمكان والضرورة، الضرورة النسبية أو الواقع الواقعي، الضرورة المطلقة. وكل هذه المقولات أقرب إلى منطق الوجود منها إلى منطق الماهية. ثم تأتي العلاقة المطلقة، علاقة الجوهرية العلية الصورية، العلاقة العلية (تحدد الفعل ورد الفعل، الأثر والأثر المضاد). كل هذه مفاهيم فلسفة الطبيعة، الفعل المتبادل.
  • (٣)
    المنطق الموضوعي الذاتي: وهو منطق التصور. فما هو التصور بوجه عام؟ ويتحدث هيجل عن خطة العرض. القسم الأول هي الذاتية، وكأننا في فلسفة فشته. ويعود التصور من جديد إلى التصور الخاص، والأنواع الشائعة من التصوُّر الفردي. أما الحكم فيتكون من حكم الوجود والحكم الموضوعي والحكم السلبي والحكم اللانهائي. ثم ينقسم حكم التفكير إلى حكم جزئي وحكم خاص Particulier وحكم شامل. ويضم حكم الضرورة، والحكم القطعي Apodictique والحكم الافتراضي Hypothétique، والحكم الانفصالي. وينقسم الحكم التصوري إلى الحكم الثابت Assértorique والحكم الإشكالي، والحكم القطعي. وبعد الحكم يأتي القياس Syllogism. ويتم قياس الوجود أو الموجود. وهناك تعبير هيجل الشهير الذي استعاره الوجوديون للتفرقة بين الوجود العام والوجود الخاص. ويضم القياس عدة أشكال مثل المنطق التقليدي: الشكل الأول (A B E)، والشكل الثاني (B E A)، والشكل الثالث (E A B)، والشكل الرابع (A A A). وهو الشكل الرياضي الذي طالما تجادل حوله المناطقة هل هو من وضع جالينوس، وتابع الجدل المناطقة المسلمون. وهو المعنى الشائع المتداول للقياس إحساسًا من هيجل بأنه لم يضف جديدًا على ما هو معروف في علم المنطق القديم. ويضم قياس التفكير، ويتضمن قياس التفكير العموم والشمول Universalité، وقياس الاستقراء، وقياس التماثل Analogique. ثم تأتي الضرورة وتشمل القياس القطعي، والقياس الظني، والقياس الانفعالي.٣٣

    ويلاحظ أن التصور هو الضلع الثالث في الجدل. أضعف من منطق الوجود، وهو الأقوى، ومنطق الماهية وهو الأوسط. وأقسامه هو منطق الحكم. وهو منطق تقليدي لا يظهر فيه الجمع بين الماهية والوجود.

    ثم تأتي الموضوعية. وتضم الآلية Mechanisme. فما هو موضوع الآلية؟ وما هي العملية الآلية الصورية؟ وما الفرق بينها وبين العملية الآلية، والعملية الآلية الواقعية Réel؟ وما هي نتائج العملية الآلية؟ وهناك أيضًا الآلية المطلقة. والتعرف عليها من المركز والقانون. لا تبقى الآلية على حالٍ بل تتغير. وكيف تتغير الآلية وهي في حاجةٍ إلى قوةٍ داخليةٍ تتغير؟ ومع ذلك تتغير الآلية طبقًا لقانون أعظم هو قانون التغير العام. وهو القانون الذي ظهر منذ دارون ونظرية التطور. ثم تأتي الكيميائية. فأين تظهر؟ ما هو الموضوع الكيميائي، وما هي العملية الكيميائية؟ ثم تتغير الكيميائية، والعجيب أن يشمل منطق التصور وهو المنطق الثالث والأخير في الجدل، المنطق للطبيعة أو للوجود.
    ثم تأتي الغائية. والغائية المتسامية التي تشمل الغاية الذاتية، والغاية، والغاية بعد أن تتحقق. ثم تظهر الفكرة Idée. وتشمل الفرد الحي، والعملية الحية والنوعية. وفكرة المعرفة تشمل فكرة الحقيقي، والمعرفة التحليلية. والمعرفة التركيبية تشمل التقريب أو الحد والتصنيف (القسمة الفرعية) والنظرية Theorem. ثم تأتي فكرة الخير وكأن علم المنطق ما هو إلا مقدمة لعلم الأخلاق كما هو الحال عند كانط. وينتهي التصور بالفكرة المطلقة وكأنه صورة لفلسفة الدين.
ويعيب علم المنطق الآتي:
  • (١)
    كثرة التقسيمات والتفريعات أو التقسيمات على التقسيمات، وتفريعات على التفريعات. ينقسم المنطق إلى كتب، والكتب إلى أقسام، والأقسام إلى فصول، والفصول إلى أرقام معدودة، والأعداد إلى أرقام هجائية. فيختلط كل شيء بكل شيء. وكلها تخضع للقسمة الثلاثية وكأننا في مظاهر جديدة للتثليث. فالتثليث يجمعه واحد هو الآب. ومع ذلك يتكرر التثليث كما يقال في الألمانية كل الأشياء الحسنة ثلاثة Alle Guten Sind Drei. وفي المثل الشعبي العربي «كل الأحبة اتنين اتنين». وهو جوهر التناقض. وقد يكون الحب هو الطرف الثالث الخفي. وهو ما أثبتته أيضًا الديانات الثنوية كالمانوية.
  • (٢)

    وإذا كانت غاية المنطق التطبيق فكيف يتم تطبيق كل هذه التقسيمات والتفريعات؟ يبدو أن هذا منطق وليس للاستعمال بل لاختبار المنهج الجدلي، للكشف عن جدل الوجود والفكر. وبعض التفريعات تتلوها ملاحظات.

  • (٣)

    يمكن التفكير في تقسيمات وتفريعات أخرى طبقًا للإحساس بالمقولات والتجارب الحية وراءها. ويقع المنطق في ألاعيب التقسيم، هل هو منطق للتأمل أم منطق للاستعمال؟ إنه منطق يجمع بين الوجود أي الطبيعة وقوانين الصيرورة وقوانين الفكر. ليس به نقدٌ للمنطق الصوري كما فعل القدماء مثل ابن تيمية في «نقض المنطق» و«الرد على المنطقيين» من أجل وَضْع منطقٍ جديدٍ مثل «ما لا دليل عليه يجب نفيه» أو «قياس الأولى» أو «منطق المشرقيين» لابن سينا أو «حكمة الإشراق» للسهروردي. وكما فعل المحدثون مثل جون استيوارت مل في نقد المنطق الصوري ووَضْع منطق جديد هو المنطق التجريبي في «المنطق الاستنباطي الاستقرائي». أو وضع الأصوليين منطق التعليل.

  • (٤)

    هل هو علم المنطق أم الميتافيزيقا؟

  • (٥)

    يختلط الوجود بالماهية والتصور، وتغيب الصيرورة كقسمة رئيسية. وبالتالي هو أقرب إلى المنطق التجريبي للوجود والصيرورة منه إلى المنطق الصوري، منطق الماهية.

  • (٦)
    يظهر الجدل الثلاثي في معظم التقسيمات الفرعية. وهو الحدس، المنهج الرئيسي. وهو تحويل فلسفي لعقيدة التثليث الدينية. وهو ما سماه القدماء الوسطية أي الجمع بين الطرفين تفسيرًا لآية وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا أو حديث «خير الأمور الوسط» منها للتطرف الذي إن حدث أنشأ رد فعل طبيعي وهو التطرف المقابل، مثل «باندور بوكس». ويصبح مكتفيًا بذاته، علمًا وعملًا دون حاجةٍ إلى تطبيق. وإذا كان المنطق للقدماء والمحدثين، يونان ومسلمين وغربيين للاستعمال، فكيف يتم استعمال هذه التقسيمات وهي لا تخرج المنطق عن ما قاله القدماء، المنطق إما تصور أو تصديق، والتصديق ينال بالحد، والتصديق بالبرهان.
  • (٧)

    القسمة الكبيرة: المنطق الموضوعي (الوجود)، المنطق الذاتي (الماهية)، المنطق الذاتي الموضوعي (التصور) ضاعَت وسط هذا الركام الجدلي. وكأن هيجل أراد أن يشحن طاقات عقله فزادت من الجدل المعقول. إذ تتفرع الشجرة إلى عدة فروع، والفروع إلى فروع، والفروع إلى فروع حتى يتوه الأصل ويقع المتسلق لها في غابةٍ من الأوراق، ولا يستطيع النزول من جديد.

  • (٨)

    كان من السهل على اليسار الهيجلي أن ينتقد ذلك كله باعتباره ميتافيزيقا لا فائدة منه ويسخر منها. ولا يضع منطقًا بديلًا بل يدخل في أتون الصراع الاجتماعي ويعيد الجدل إلى حركة التاريخ. فالجدل هو قانون التوارث، من الملكية إلى الفوضوية إلى حكم الشعب. ومن الرأسمالية إلى الشيوعية إلى الاشتراكية، ومن الاستبداد إلى الثورة إلى الديموقراطية.

  • (٩)

    علم المنطق هو هندسة الوجود أو بناء الفكر أو إكمال «نقد العقل الخالص»، وإخراجه من منطق الذات إلى منطق الوجود عودًا إلى اسبينوزا وليبنتز وسبقًا للوجوديين المعاصرين. فالعقل لا يضع قوانين المنطق بل التاريخ. ومنطق التاريخ هو تراكم منطق الصراعات الاجتماعية. فالمجتمع حلقة من حلقاته.

  • (١٠)

    كثرة استعمال لفظ العلاقة وكأن المنطق هو منطق العلاقات وليس منطق الجواهر. ويكون أقرب إلى منطق الرياضيات المجرد بالرغم من محاولته أن يكون منطقًا وضعيًّا. والعلاقة هي اللحظة الثالثة بين الطرفين. وهنا تطور المنطق الجدلي كوارث للمنطق الصوري.

وفي النهاية، علم المنطق ليس علمًا بكل هذه التفصيلات التي يمكن أن يُقال غيرها؛ لذلك احتاج كل تفصيلٍ إلى قول شارح. يرد المنطق إلى أصوله الاجتماعية والتاريخية. فالمنطق تحرير عقلي للعياني في نسق العقل فيه هو الروح في التاريخ.

وواضح ارتباط الوجوديين المعاصرين بهيجل وأفكاره عن الوجود بالرغم من تظاهرهم بأنهم ضد المذهب. ونموذجه هيجل. فتحليل الوجود على حد سواء عند هيجل أو عند جان بول سارتر. وظل هيجل يمثل تطور الفكر الغربي من ديكارت وكانط وبعده هيجل إلى الهيجليين الشبان إلى فلسفات القرن العشرين بالرغم مما يلاحظ الدارسون من فروق المراحل.

(ﺟ) مبادئ فلسفة الحق

يحتار القارئ لمؤلفات هيجل في وضع المؤلفات الأولى، ومؤلفات الشباب، والمؤلفات المنهجية والمذهبية. أين يضع «مبادئ فلسفة الحق» في المؤلفات المنهجية والمذهبية مع «ظاهريات الروح» و«علم المنطق» أم بداية المؤلفات المنهجية والمذهبية، تطبيقًا للمنهج الجدلي في الواقع أي في بناء الدولة؟ وعندما يُقال مذهب هيجل فإلى أي مؤلفات يقصدون، المنهج في «ظاهريات الروح» و«علم المنطق» أم المذهب في «مبادئ فلسفة الحق»؟ إذا كانت الهيجلية هي المنهج والمذهب. فقد يكون من الأفضل عدم التمييز بين المؤلفات المنهجية «ظاهريات الروح» و«علم المنطق» والمؤلفات المذهبية في «مبادئ فلسفة الحق». ثم تنشأ المشكلة من جديد. أين يوضع «موجز الموسوعة الفلسفية المختصرة» Precise؟

والسؤال هو: هل دراسة الدولة جزء نظري لاكتمال المذهب على الأرض بعد أن اكتمل في تاريخ الوعي في «ظاهريات الروح» ثم في العقل النظري الخالص بتعبير كانط في «نقد العقل الخالص» أو النظري؟ فالسياسة ليست مصالح دولية بل هو سلوك أخلاقي للسياسة وللدول مما يمنع الاستغلال والغزو والاستعمار، وبدلًا من الفكرة الشائعة أن الساسة كلهم كذَّابون يأتي شعار أن الساسة كلهم صادقون. وإذا أراد البعض أن يقيم السياسة على الدين فإن الدين أخلاق وليس عقائد أو شعائر.

والسياسة أخلاق. والأقسام الثلاثة لها: الأخلاق المجردة، والأخلاق الذاتية، والأخلاق الموضوعية.

figure

العلاج المجرد وتطوره في الذات الحية. وتطور الذات الحية يتم بتحولها إلى الموضوعية. فالأخلاق لا تكون مجردةً كما تفعل الحركات السلفية الشكلية ويمثله تحول الفقه إلى التصوف. وهو ما يفسر الصراع بين الفقهاء والصوفية. ثم التصوف فيتحول إلى موضوع وتخطيط وتشريع ذاتي موضوعي في علم أصول الفقه.

  • (أ)

    الأخلاق المجردة: الملكية التي جعلها ماركس سبب الاغتراب. فالإنسان لا تمتد يده إلى الأشياء في حين جعلتها الرأسمالية أساس المجتمع الاقتصادي، وكان جان جاك روسو قد نقد الملكية قبل الثورة الفرنسية. واستمرت الوجودية في نقدها كما فعل جابريل مارسل في مؤلفه الرئيسي «الوجود والملكية»؛ لذلك تقوم الثورات بنزع الملكية أو وضع قوانين لتحديدها كما فعلت الثورة المصرية في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م من أجل القضاء على الإقطاع الذي كان ٥٪ من السكان يملكون ٩٥٪ من الأراضي الزراعية من الملك والباشوات وكبار الملاك؛ لذلك كان يسميه عبد الناصر مجتمع النصف في المائة. وهو من أحد أسباب اختيار الاشتراكية فيما بعدُ طريقًا لإعادة توزيع الدخل، وإقامة مجتمع اشتراكي. فالملكية في نفس الوقت اغتراب ونذير بالثورة الاشتراكية ضد المجتمع الرأسمالي حتى ولو مر المجتمع بالاشتراكية الديموقراطية. قد يمر بالاشتراكية كما هو الحال في البلاد الاشتراكية وفي البلاد العربية مثل مصر، ولكن كان ينقصها وما زال الديموقراطية. وهناك الاشتراكية التعاونية في المجتمعات التي ما زالت تعيش على الطبيعة. وأسوأ صور الملكية هو «الاستحواذ» أو بالمعنى الشعبي الخطف أو التهريب والسرقة. وأفضلها الاستعمال. فالشيء للاستعمال ليس فقط الفردي بل أيضًا الجماعي. وهو نوعٌ من وضع اليد، تحويل الشيء إلى ملكيةٍ خاصَّة. وكما حدَّد روسو معنى السارق أنه ليس الذي يأخذ ملكيات غيره بل هو أول مَن يضع يده على شيء وقال: «هذا لي.» وهو السارق الأول، تحويل الطبيعة إلى ملكية. ثم يأتي السارق الثاني يسترد ما أخذ السارق الأول وقال: «لا، هذا لي.» فالسارق الحقيقي هو السارق الأول بوضع اليد أو وضع سياجٍ حول قطعةٍ من الأرض. أما السارق الثاني فهو مصلح اجتماعي يستعيد الشيء المستحوذ عليه ويرده إلى الطبيعة قبل القاضي وحكم الحاكم بالسرقة والتغريم. الملكية سبب الاغتراب وانحراف الوجود الإنساني إلى غير ذاته.

    ويصاحب العنف الملكية حين يتنازعان على وَضْع اليد على شيء؛ لذلك قامت الحروب والمنازعات الحدودية، والاستعمار ثم حركات التحرر الوطني مثل إسرائيل وفلسطين، الاستيلاء على أراضي الغير وتطرد شعوبها الأصليين. ثم تنشأ حركات المقاومة لاسترداد الأرض من المستوطنين. فالملكية هي السبب الأول للاغتراب أي انحراف الوعي عن مساره الذاتي. ثم تبدأ فترة التعوُّد لتحويل وضع اليد إلى علاقةٍ شرعيةٍ لا يتنازع على ملكية شيءٍ أحدٌ. والسؤال هو: هل كان هيجل يعبر عن روح القرن التاسع عشر، وفي نفس الوقت كان يعبر عن الحركة الرومانسية؟ وهذه إحدى التناقضات في الوعي الأوروبي، الاستعمار للخارج والحرية للداخل.

    والسبب هو تجنب الظلم. وقد يكون الظلم إراديًّا أو لا إراديًّا. الظلم اللاإرادي العفوي هو الظلم اللامقصود مثل حوادث الطريق، والظلم الإرادي هو الظلم القصدي. وهو الظلم الذي ذُكر في القرآن أكثر من مائة مرةٍ مع الظالمين والذين يتوعدهم القرآن بأشد العقاب. والحوادث الإرادية مثل الجرائم المقصودة، الخداع والاحتيال والتلاعب والسرقة. وكلها جرائم تعتمد على العنف في حالة كشفها أو قبلها للاستعداد لها. ثم ينتقل القانون المجرد إلى الأخلاق الذاتية.

  • (ب)

    الأخلاق الذاتية: وهي الأخلاق التي تبدأ بمشروع المسئولية ثم تتحول إلى الوجود الطبيعي. فالنظر غايته العمل. وهو موضوع كانطي شهير بين «نقد العقل النظري» و«نقد العقل العملي». ثم يتم الانتقال من الأخلاق الذاتية إلى الأخلاق الموضوعية، والأخلاق الموضوعية هي القانون. والقانون هو تحرر الأخلاق الذاتية في الواقع الاجتماعي والسياسي فتخرج مفاهيم الدولة والشرطة. ويختصر هيجل هذا الجزء من الأخلاق نظرًا لشيوعه منذ ديكارت حتى كانط. وهو لا يريد أن يكرر ما قاله قدماء اليونان؛ سقراط، أفلاطون، أرسطو أو المحدثون. فالسياسة هنا تبدأ من الأخلاق. وهو ما قاله كانط صراحةً في «مشروع السلام الدائم».

  • (جـ)
    الأخلاق الموضوعية: وهو أكبر الأجزاء. وتبدأ بالأسرة. فهي الوحدة الاجتماعية الأولى. وتبدأ بالزواج. وتبحث عن مصادر الرزق التي تحدد ثروتها، مهمتها تربية الأطفال. وقد يكون مصيرها التفكك والطلاق أو هجرة الأب وترك الأطفال وحدهم. وبعد الأسرة يأتي المجتمع المدني الذي يكثر الحديث عنه هذه الأيام. ثم غيابه وتخليه عن مسئوليته لصالح المؤسستين الدينية أو العسكرية على التبادل أو بتبرير إحدى السلطتين للأخرى. ولها نماذج كثيرة وطرق لإشباعها، وكأن ماركس هو الذي يتحدث. وهناك أنماط للعمل. كما يتم التعرف على مصادر الثروة. ثم يأتي دور القضاء. فالحق Recht قانون. الحق نظر خالص. وإذا نزل من التحقيق إلى الأرض فإنه يتحوَّل إلى قانون. ويوجد القانون من خلال المحاكم بالرغم من وجود القانون كعاداتٍ شعبية. فالقانون له أصول يستند إليها ومنها القانون الطبيعي ويشمل القانون الإداري والتعاوني. وأخيرًا تأتي الدولة التي يظن البعض أنها البداية والنهاية في السياسة، ويتم التنازع المسلح من أجل الحصول على السلطة فيها. وتشمل القانون السياسي الداخلي، والدستور الداخلي لذاته. وتشكل سلطة الأمير. وهو ما يعادل الرئيس حاليًّا. كما تشمل سلطة الحكومة. وتضم أيضًا السلطة التشريعية. وهناك السيادة تجاه الخارج. وهناك القانون السياسي الخارجي. وكل ذلك حصيلة التاريخ الشامل. فالتاريخ ينتمي إلى التطور ويظهر أيضًا في البنية النهائية حتى ولو كان هامشيًّا. فالتاريخ هو الكاشف للحقيقة والحامل لها.

    وبالرغم من اعتماد هيجل في منهجه ومذهبه على العقل الخالص إلا أنه يُحيل إلى مصادره ومرجعيَّاته مثل أفلاطون وأرسطو وفشته وعشرات غيرهم في عصره وعلى بعضٍ من مؤرخي مكونات هذا الفرع المعرفي.

ثالثًا: المقررات الجامعية

(١) التعليم الفلسفي

يبدو أن هيجل بعد أن انبثق من مؤلفاته الأولى في الدين والفلسفة: «روح المسيحية ومصيرها»، «الإيمان والمعرفة»، «وضعية الدين المسيحي»، «الفرق بين مذهبَي فشته وشلنج الفلسفيين من وجهة نظر راينهولد»، قراءة على القراءة. وبعد اكتمال المنهج والمذهب في «ظاهريات الروح»، و«علم المنطق»، و«مبادئ فلسفة الحق». وقبل أن يدخل في سلسلة من المحاضرات التطبيقية عن المنهج والمذهب في تاريخ الفلسفة، وفلسفة التاريخ، وعلم الجمال، وفلسفة الدين، عودًا على بدء يعيد النظر في تنظيم معلوماته الفلسفية بطريقة القدماء، مُسلِمين مثل ابن سينا في «الشفاء»، و«النجاة»، و«الإشارات والتنبيهات»، ومسيحيين مثل توما الأكويني عاد إلى الفلسفة في «التمهيد الفلسفي» Propédeutique، و«ملخص موسوعة العلوم الفلسفية».٣٤
وهناك ثلاثة مقررات فلسفية أعدَّها هيجل للجامعة. الأول «عقيدة القانون والواجبات والدين» ويفرق فيها بين الدين في مرحلة الشباب والقانون آخر مؤلف في مرحلة البلوغ. ويشرع في المقدمة في شرح طبيعة المجتمعات التي تتكوَّن فيها الدول. كما يشرح نظرية الدين مما يؤكد وجود علاقةٍ بين الدين والسياسة. يشرح نفسه بنفسه ماذا يقصد بهذه الفقرة أو تلك بدلًا من أن يفهم الطلاب نصوصًا تبدو عميقة في الظاهر ولكن يفهمونها. ويبدو أن صعوبة «علم المنطق» جعلت من الصعب قراءته أو فهمه أو تدريسه. وهيجل في النهاية أستاذ جامعي. مرَّ بمرحلة متوسطة بين التأليف الفلسفي في «ظاهريات الروح» و«علم المنطق» و«مبادئ فلسفة الحق» ومرحلة المحاضرات في تاريخ الفلسفة وفي فلسفة التاريخ، وفي علم الجمال، وفي فلسفة الدين. وتتكوَّن هذه المرحلة من مؤلَّفيْن متقاربَيْن: «التمهيد الفلسفي» و«موسوعة العلوم الفلسفية». يلخص فيهما علم المنطق، وفلسفة الروح (الظاهريات)، وفلسفة الوجود.٣٥
والمقرر الثاني عن «ظاهريات الروح»، و«علم المنطق». ويبين هيجل أن ظاهريات الروح هو علم الوعي. وأول درجةٍ له هو الوعي المتكلم على الإطلاق. وهنا يُدخِل هيجل عامل اللغة والكلام، والوعي الحسي والإدراك الحسي والذهن. والدرجة الثانية الوعي الذاتي. ويشمل الرغبة، السيادة والعبودية. والوعي الذاتي شامل. ثم بعد ذلك يأتي المنطق والعقل والوجود. ثم يأتي الكيف. ويقدم هيجل الثلاثي: الوجود والعدم والصيرورة، والحضور، والوجود لذاته، والمصطلحات الوجودية المعاصرة الشهيرة. ثم يشرح الكمية والمقدار. ثم يشرح الماهية وتحديدها في حد ذاتها. ثم الظاهرة. ثم الجوهر والعلة والفعل ورد الفعل المتبادل. ثم يصف ملحقًا فيما يتعلق بالتناقض antinomies مصطلح كانط في تناقضات العقل النظري الذي يفسح المجال للعقل العملي وهو الدين الأخلاقي والذي جعله هيجل في العالم المتناهي أو اللامتناهي في الزمان والمكان. وتناقض البساطة مع التركيب في الجوهر، تناقض التعارض بين العلية طبقًا لقوانين الطبيعة والحرية، تناقض بين الضروري والعرضي. ثم يشرح التصور في ذاته، معناه والتصور الغائي. وأخيرًا يشرح الفكرة.٣٦
والمقرر الثالث للدراسات العليا عن نظرية التصور والموسوعة الفلسفية. يبدأ بشرح نظرية التصور ويسميها عقيدة Doctorine وكأن مصطلحات الدين ما زالت فارغة. ثم يشرح الحكم الذي يضم الكيف أي الحكم الداخلي Inherence، وكم الحكم والحكم التأملي، وأخيرًا العلاقات بين الأحكام وأحكام الضرورة، ثم ما هي أنماط الحكم أو أحكام العلاقة بين التصور والواقع الحالي. ثم يشرح القياس، القياس الداخلي Inherence، ثم يأتي قياس الكم أو التأملي. ثم قياس العلاقة ثم يأتي التصور. وتظهر نظرية «عقيدة» الأفكار، وفيها فكرة الحياة، فكرة المعرفة والخير، الإلزام الخلقي والخير، فكرة المعرفة أو الحقيقة. ثم تأتي الموسوعة الفلسفية وتبدأ بالمنطق. وهو على أنواع: منطق أنطولوجي ينطبق على الوجود. ويتكون من منطق الكيف والكم والمقدار. ثم منطق الماهية. ويتكون المنطق الكيفي من الحضور التأملي والتغير. ومنطق الكم من الوجود لذاته والكوانتم. ثم منطق الماهية من مفهوم الماهية وقضيتها، الأساس والتأسيس (المؤسس). ويشمل منطق القوة وتخارجها، الداخل والخارج. ثم يأتي الواقع الطبيعي. ويشمل الجوهر والعلية، والفعل ورد الفعل. ثم يأتي المنطق الذاتي. ويضم التصور والحكم. يضم كيفية الحكم، وتحديد المحمول، وكم الحكم، وتحديد الذات، وعلاقة الحكم أو تحديد العلاقة. ثم يأتي القياس. وهو عقيدة الأفكار، فكرة الحياة وفكرة المعرفة والفكرة المطلقة أي المعرفة.٣٧

أما علم الطبيعة فيضم الرياضة والطبيعة (الفيزيقا) التي تضم أيضًا الميكانيكا وفيزيقا اللاعضوي وفيزيقا العضوي. ثم يأتي أخيرًا علم الروح. فماذا يعني تصور الروح؟ تضم العالم والتمثل والذاكرة والخيال والتذكر والذهن والكم والفكر العقلي. وواضح دخول مقولات الرومانسيين مثل الخيال مع مقولات كانط مثل الذهن. ثم يأتي الروح العملي. ويضم القانون والأخلاقية والدولة. أما الروح في تحققها الخالص فتشمل الفن والدين والعلم.

(٢) ملخص موسوعة العلوم الفلسفية (١٨١٧م)

ويبدو أن هيجل ما زال يشعر بصعوبة المقولات الفلسفية، مثل «ظاهريات الروح» و«علم المنطق»، التي يعتمد على هذَين المؤلفَين في إعادة بناء العلوم الفلسفية بالرغم من تعارض الملخص مع المنهج والمذهب. ويضم ثلاثة أقسام: «علم المنطق» و«علم الطبيعيات» و«علم الروح». وهي قسمةٌ شبيهة بقسمة ابن سينا لعلوم «الحكمة»، «الحكمة المنطقية» و«الحكمة الطبيعية»، و«الحكمة الإلهية» في «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات». والسؤال هو: هل هذا التشابه عرضًا أم أنه الوسيط المسيحي والإسلامي أم أنه تأثر وتأثير بالفلسفة الإسلامية في الفلسفة الحديثة منذ بدايتها؟ وللموسوعة ثلاث مقدمات. الإحساس بضرورةٍ تقتضي عدة مرات.٣٨

(أ) علم المنطق

ويبدأ بأول وضع للفكر في علاقته بالموضوعية، وبالوضع الثاني للفكر بالنسبة أيضًا للموضوعية. ويشرح النزعة التجريبية والفلسفة النقدية. ثم يأتي ثالثًا وضع الفكر بالنسبة للموضوعية. ففيها المعرفة المباشرة. ويعطي هيجل تحديدًا أكثر دقة لعلم المنطق وتقسيماته. وأول قسمةٍ للمنطق هي منطق الوجود، منطق الماهية، منطق التصور. وأول قسم في منطق الوجود هو الكيف ويتضمن الوجود. والوجود هنا والآن أي الوجود المتعين في مقابل الوجود العام، والوجود لذاته في مقابل الوجود في ذاته، تقابل الوجودين. ثم يأتي الكمُّ. ويضم الكمَّ الخالص والكوانتم والدرجة والمقدار. ثم تأتي نظرية الماهية. فالماهية هي سبب وجود الوجود وسبب الوجود Raison d’etre. كما تضم الوجود، والشيء. ثم تأتي الظاهرة وتضم العالم الظاهري، المضمون والصورة، والعلاقة. ثم يأتي الواقع Réalité ويضم الجوهرية، وعلاقة العلية، والفعل المتبادل.
وثالثًا تأتي نظرية التصور Concept أو المفهوم Notion. وينقسم إلى المفهوم الذاتي. ويتضمن المفهوم من حيث هو كذلك والحكم والقياس. ثم يأتي الموضوع في مقابل الذات. ويتضمن الآلية والكيميائية والغائية. ثم تأتي الفكرة ldée. فتشمل الحياة والمعرفة والفكرة المطلقة.

(ب) فلسفة الطبيعة

وتبدأ بالآلي Méchanique. ويتضمَّن المكان والزمان معًا أو كلًّا من الزمان والمكان. كلٌّ بمفرده. فالإنسان إحساس بالزمان أكثر من وجوده في المكان، الرابطة والحركة. والمادة والحركة. والمادة صامتة Inèrete. الشيء والسقوط. وهناك المادة المطلقة. أما الفيزيقي فيضم الفردية الشاملة والأجسام الطبيعية الحرة والعناصر العملية الأولية. وهناك فيزيقا الفردية الخاصة. وتضم الثقل النوعي، والتداخل Cohésion. والصوت والحرارة. ثم تأتي فيزيقا الفردية الكلية Totale، وتضم الشكل Figure، تخصيص Particulation الأجسام الفردية، العملية الكيميائية. ثم تأتي الفيزيقا العضوية. وتشمل الطبيعة الجيولوجية بالرغم من إمكانية التساؤل: وهل الجيولوجيا من الطبيعة العضوية؟ وتضم طبيعة الجيولوجيا الطبيعية النباتية، والعضوية Organisme. والحيوانية. وتشمل الشكل Figure والتمثل Assimilation وعملية النوع Genre.٣٩

وواضح أن فكرَ هيجل فكرٌ تجميعي من عدة مدارس سابقة عليه ومعاصرة له؛ فهو تجميع بين اسبينوزا وليبنتز دون أن يذكر ديكارت، كما يجمع بين كانط وفشته وشلنج؛ لذلك يجد الباحثون أنفسهم بين أسوار اليمين واليسار الهيجلي. كما يجد الرومانسيون فيه. والفلسفة الوجودية تقرأ نفسها فيه فيما يتعلَّق بالوجود. وبرجسون المعارض نفسه يجد فلسفة الحياة فيه. وتتداخل مفاهيم الفيزيقا مثل الصوت والحرارة مع مفاهيم الفلسفة مثل الفردية والخصوصية. ويبدو انبهار هيجل بالعلوم الطبيعية في عصره وإنجازاتها في الطبيعة والكيمياء. والسؤال الآن: كيف يستفيد القارئ أو المواطن من كلٍّ من هذه التقسيمات وتقسيم التقسيمات؟ ما هي دلالتها على عصره؟ ما علاقتها بالثقافة الشعبية الألمانية الوسيط بين فلسفة الفلاسفة والجمهور؟ هل هناك نوعٌ من التعالم ومجرد تغليب النقل على العقل وأن الفلسفة ما هي إلا تجميع لفلسفة العصر في المنطق أو في العلوم الطبيعية أو العلوم الفلسفية؟ وما فائدة التكرار، تكرار المنطق خاصةً أكثر من مرة من «علم المنطق» إلى «المختصر» و«الموسوعة»؟ هل كان هيجل من أنصار الكتاب المقرر كما هو الحال في الدراسات الجامعية لدينا هذه الأيام؟

(ﺟ) فلسفة الروح

وتبدأ بالروح الذاتية. وتتضمن الأنثروبولوجيا. وموضوعها النفس. والنفس حسية أو واقعية. ثم بيَّن هيجل معنى «ظاهريات الروح» وأنها مسار الوعي. ويبدأ بالوعي لذاته، ثم الوعي في ذاته، العقل. ثم يأتي علم النفس الذي يشمل الروح النظرية والروح العملية ثم الروح الحر. ثم يأتي الروح الموضوعي. ويبدأ من الأخلاق ويضم الملكية والعقد أو القانون ضد اللاقانون. تبدأ الأخلاقية كمرحلة ثانية من الروح. وتضم الوجود Dassein، والقصد أو النية والوجود الحسي. ثم تظهر الأخلاق الاجتماعية. وتتضمن الأسرة والمجتمع المدني والدولة. وفي النهاية يظهر الروح المطلق، الفن، ودين الوحي، والفلسفة؛ ومن ثم الفن ليس ضد الدين. والقرآن عمل فني نزل في بيئةٍ فنيةٍ هي الشِّعر العربي وجمال الطبيعة الصحراوية والسماء المرصعة بالنجوم. والدين هو دين الوحي وليس دين الشعائر والأحكام، الدين الفقهي. وهي مرحلة الدين اليهودي. أما الدين المسيحي فهو مرحلة الأخلاقية، العفو والتسامح والمحبة.٤٠ والفلسفة لا تكفير ولا رِدة فيها كما حدث لابن رشد ولمَن سبقوه، البيروني والمعري. الفلسفة قمة تطور الروح. والفيلسوف مثل النبي. ولا فرق بين تبليغ الوحي وإعمال العقل. والعلماء ورثة الأنبياء.

رابعًا: تطبيقات المنهج والمذهب في المحاضرات العامة

بالرغم من كتابة هيجل في مرحلة الشباب في الدين والفلسفة والسياسة. فيبدو ظاهرًا نشأة الهيجلية منهجًا ومذهبًا. وبالرغم من تلخيصهما في مقرراتٍ دراسيةٍ في «التمهيد» و«الموسوعة» إلا أنه طبق المنهج والمذهب في «محاضرات في تاريخ الفلسفة»، و«محاضرات في فلسفة التاريخ»، و«محاضرات في علم الجمال» أخيرًا في «محاضرات في فلسفة الدِّين». فالروح تنشأ ليس في أعمال الشباب ولكنه يكتمل في المنهج والمذهب. ثم يتجلى في تاريخ الفكر وفلسفة التاريخ وعلم الجمال وفلسفة الدين، بصرف النظر عن الترتيب الزماني لهذه العلوم.

وماذا يعني لفظ «محاضرات»؟ هل كان هيجل يلقي محاضراته في الدين أو الفلسفة أو التاريخ أو علم الجمال شفاهًا، فإن أحد الطلاب الموجودين كان يكتبها وراءه ثم يعطيها له؟ أم كان هيجل يكتبها بيديه ثم يقرؤها وهي مكتوبة وهو ما يعيب الأستاذ؟ أم أنه لفظ مجازي يدل على تواضع المعلم؟ فلم يقل فلسفة الدين، فلسفة التاريخ، تاريخ الفلسفة أو علم الجمال وكأنه يمتلك الحقيقة كلها في هذه العلوم وذلك مثل لفظ «مقدمة». أم أن اللفظ لا يعني أكثر من عادة كانت عند الأساتذة الألمان في الجامعات مثل حرف «في» الذي يُستعمل «في الفلسفة الإسلامية»؟ والمعنى محاضرات تخرج من الجامعات الألمانية التي تحمل لواء الفكر والسياسة، هموم الفكر والوطن؟

(١) محاضرات في تاريخ الفلسفة

ويقسِّمها هيجل إلى ثلاث المراحل المعروفة؛ القديمة: وتشمل الشرق القديم مع اليونان؛ والوسيطة المسيحية: وتشمل العربية (الإسلامية) واليهودية؛ والحديثة والمعاصرة: تبدأ من ديكارت وتلاميذه في القرن السابع عشر حتى هيجل وعصره في القرنَين الثامن عشر والثُّلث الأول من القرن التاسع عشر. وهي من المرات الأولى التي يتم الاعتراف بفلسفةٍ شرقيةٍ في الصين والهند قبل اليونان، وفلسفةٍ عربيةٍ تصل بين فلسفة اليونان والفلسفة الحديثة. فالروح لا ينشأ عند اليونان بل في الصين والهند. ولا يبدأ بداية جديدة في العصر الحديث بل عبر الفلسفة العربية واليهودية كما لها اتصال بين القديم والجديد.

وتدل «المحاضرات» على معرفةٍ واسعةٍ بتاريخ الفلسفة وليس فقط بالفلسفة. يجمع هيجل بين البنية في المنهج والمذهب في التاريخ، والتاريخ في سلسلة المحاضرات الأربع في تاريخ الفلسفة وفي فلسفة التاريخ وفي علم الجمال وفي فلسفة الدين.٤١
وتعرض المقدمة فكرة تاريخ الفلسفة، والأفكار الشائعة حوله. وتعطي ملاحظاتٍ موضحةً لتحديد هذا المفهوم، والنتائج المترتبة على تحديد هذا المفهوم، والعلاقة بين هذا المفهوم وفروع المعرفة الأخرى، والجانب التاريخي في هذه العلاقة. والانفصال بين الفلسفة وفروع المعرفة الأخرى، بداية الفلسفة، ومراحلها ومنهج كتابة تاريخ الفلسفة.٤٢
وتبدأ الفلسفة الصينية بكونفوشيوس ثم فلسفة إي شنج I. Ching. ثم فرقة التاو. ويدل هذا العرض البسيط على مدى معرفة الغرب بفلسفة الشرق، وتمركز الغرب حول الذات. فهو المركز والشرق هو الطرف.
أما الفلسفة الهندية فتبدأ بفلسفة سانهايا Sanehya وفلسفة كابيلا Capilae ثم فلسفة جوفاما Gofama. ولم يُذكر نيابا واضع المنطق الصوري. وقد عرض ذلك ناكامورا في كتابه «التاريخ الموازي».٤٣ وواضح من المعلومات عن فلسفات الشرق القديم أنها شحيحة. يكفي تذكر أنه قبل الفلسفة اليونانية كانت هناك فلسفة شرقية في الصين والهند ولم يُذكر أحدٌ من الفلسفة المصرية القديمة التي كانت أيضًا قبل الفلسفة اليونانية. وكان فلاسفة اليونان وعلماؤهم يأتون لجامعة منف للتعلم. وكان عند المصريين القدماء فلسفة في خلود الروح ورياضيات في البناء والهندسة وكيمياويات التحنيط.
والفلسفة اليونانية أطول الأجزاء، جزآن تقريبًا، الأول والثاني لأنها معروفة، وأحد مصادر الفلسفة الغربية. ويُشبَّه هيجل بأرسطو العصر الحديث أو هيراقليطس اليونان. ويبدأ بما تحكيه الروايات عن الحكماء السبعة قبل تقسيم الموضوع إلى مراحل تاريخية. تبدأ بالمدرسة الأيونية، طاليس، أنكسماندرس، أنكسمانس. ثم يأتي فيثاغورث والفيثاغورية ونظرية الأعداد. ولديهم تطبيق هذا النظام على العالم وما ينتج من فلسفةٍ عمليةٍ في أخلاق الزهد. ثم تأتي أخلاق الإيليائية، إكسانوفان، بارمنيدس، ملسيوس، زينون. ثم يفرد هيراقليطس بقسم. وكان هيجل يرى نفسه فيه. فيعرض مدى التناقض، والفلسفة التطبيقية، وعلاقة هذا المبدأ بالزمن. ثم يأتي إمبادوقليس، التسبوس، وديموقراطيس. ويعرض هيجل المبدأ المنطقي باعتبار المنطق أول العلوم الفلسفية في الموسوعة. وقمته في «علم المنطق»، ومعرفة العالم والروح Soul. ثم يأتي إمبادوقليس خاصة. ثم يعرض فلسفة أنكساجوارس، المبدأ العام Universal، والتشبيه الإنساني Hommomerim، والعلاقة بين الاثنين. ثم يأتي بعد ذلك السوفسطائيون، بروتاجوارس، وجورجياس ثم يواجههم سقراط بمنهجه ومبدأ الخير. ثم يعرض هيجل مصير سقراط ثم فلسفة السقراطيين مثل ميجاريس، إقليدس، أوبليدس Eubulides، ستيلبوه Stilpo، ومدرسة سيرينال Cyrenale، أرستبوس، ثيودورس، هيجسياس Hegesias، أنيسيرس Annice، والمدرسة السينائية cynic، وفلاسفتها أنتيوثنيس Antsthenes وديوجين والقورنائيين المتأخرين. والعجب أن يجعل صاحب الأفكار يؤرخ بالشخصيات وعلى أكثر تقديرٍ الشخصيات داخل المدارس الفلسفية. وبالرغم من هذا التكاثر العددي للحكماء لا يسري فيهم روح واحد لفرط حبات العقد. وإلَّا تناثر العقد فطارت الحبات وأصبح الخيط بلا روح.٤٤
وتأخذ فلسفة أفلاطون مساحةً كبيرةً في تاريخ الفلسفة أكثر من أرسطو مما يدل على أفلاطونية هيجل بالرغم من منطقه وشموله. وتتكوَّن فلسفة أفلاطون من الجدل وفلسفة الطبيعة التي تقوم على اعتبارها مجرد ظاهر، وفلسفة العقل mind. ولا يوجد ذِكر لفلسفة أفلاطون السياسية في الجمهورية. وقد عرض هيجل لأسلوب المحاورات حيث يعبر أفلاطون عن فلسفته على لسان سقراط.٤٥
ثم تأتي فلسفةٌ في الميتافيزيقا، وفلسفة الطبيعة، وفلسفة العقل mind. وهي قراءة هيجل لأرسطو. وتتضمَّن علم النفس والفلسفة العملية في الأخلاق السياسية. ثم يأتي المنطق في النهاية. ثم يأتي موضوع القطعية Dogmatism والشك Scepticism. وهو الموضوع الذي كتب فيه الشاعر شيللر رسائله «رسائل في القطعية والشك». وهما تياران نقيضان. يتميز العصر الوسيط بالقطعية والعصر الحديث بالشك.٤٦
ثم تأتي فلسفة الأبيقوريين، القانون والميتافيزيقا والفيزيقا والأخلاق. ثم تأتي فلسفة الأكاديمية الجديدة، أرسيلاوس Aresillaus وقارنياؤس Carnead ومذهب الشكوكية له، المتقدمون والمتأخرون في تروبيز Tropes، ثم يأتي الأفلاطونيون الجدد، فيلون و الكابلا cabala وهو التصوف اليهودي والغنوصية وهو التصوف المسيحي. ثم تأتي فلسفة الإسكندرية، أمونيوس سكاس وأتباعه. ولا يظهر أرسطو لأن هيجل هو أرسطو العصر الحديث. يقرأ ثقافته؛ فهيجل لا ينقسم على نفسه إلى ذات وموضوع، هيجل وأرسطو.٤٧
ثم ينتقل هيجل إلى فلسفة العصور الوسطى. بداية يشرح فكرة المسيحية. ثم الآباء والهراطقة، والكنيسة والتولد، الموضوعان الرئيسيان، ثم تأتي مراجعة العلوم. تبدأ بدراسة القدماء: بومباناتيوس Pompanatius باساريون Pasarion فيشنوس Ficinus، جاسندي، ليبيوس روسلان، هلمونت، الفلسفة الشعبية الشيشرونية. وتقع بعض المحاولات في الفلسفة: كاردانوس، كامبانيلا، برونو، فانيني، بطرس راموس. وبعد العلماء يأتي المعلمون ما دمنا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.٤٨
ثم يأتي دور الفلسفة العربية بداية بفلسفة المتكلمين Medbbarism، ثم بشارحي أرسطو. ويعنى الفلاسفة وكأنهم لم يكن لهم دور إلا شرح أرسطو دون وَضْع فلسفة خاصة بهم. ثم تأتي الفلسفة اليهودية وموسى بن ميمون وكأنه لا يوجد إلا هذا الفيلسوف دون اليهود في اللغة وفي الطب. بعد ذلك ينتقل هيجل إلى الفلسفة المدرسية وصلتها بالمسيحية. ويقدم التاريخ العام بين الفلسفة المدرسية والمسيحية. النقاط التاريخية العامة لوجهة النظر، ثم بناء العقائد على أسس ميتافيزيقية. ويركز على أنسليم وأبيلار. ثم يعرض التمثلات المنهجية للنسق العقائدي للكنيسة عند بطرس اللومباردي وتوما الأكويني ويوحنا دنزسكوت. ثم تداخل مذهب توما الأكويني مع الكتابات الأرسطية. ثم يأتي ألكسندر الهالي مع ألبير الكبير. ويعرض للتعارض بين الواقعية والاسمية عند روسلان ووالتر دي مونتي ووليم أوكام وبيوريدان وحماره الشهير. ثم يترك الشخصيات ويتناول الموضوعات مثل الجدل الصوري عند جوليان أسقف بولندا والأقل شهرة. ثم باشاسيون رادبريس Paschasion Radberius. ومن الصوفية يذكر جون شارليي John Charlier ورايموند سابونت Raymondus Sabunete وروجر بيكون باعتباره متصوفًا، وريمون دي ليل.٤٩
وتبدأ الفلسفة الحديثة بفرنسيس بيكون قبل ديكارت بقليل ويعقوب البوهيمي. ثم تبدأ مرحلة التفكير للفهم، بميتافيزيقا الفهم، ديكارت، اسبينوزا، مالبرانش. والتيار الثاني، لوك، وهيوم، وجروسيوس، كرونت شارل، ولاستون، وبوفندروف Puffendorf، ونيوتن. والتيار الثالث، ليبنتز، فولف. ثم تأتي الفلسفة الشعبية الألمانية. ثم تأتي مرحلة انتقالية في المثالية النقدية عند بركلي وهيوم. ثم تأتي الفلسفة الأسكتلندية، توماس ريد، جيمس اسفالد، دوجالد، أوزفالد، ستيفالا. أما الفلسفة الفرنسية، الجانب السلبي، المادية، روبنييه Robinet. فكرة وحدة واقعية شاملة، التعارض بين الإحساس والفكر: منتسكيو، هلفتيوس، روسو. التنوير الألماني. أما الفلسفة الألمانية المعاصرة فهي عند جاكوبي وكانط وفشته، وتكون فلسفة فشته من مبدأ أول، مذهب فشته في صورة إعادة بناء. والأهم في مذهب فشته. أهم أتباعه شليجل، شليرماخر، نوفاليس، فريس، لفوترزيك، كروج، شلنج. فالهيجليون هم الشيوخ قبل الشبان، اليمين قبل اليسار، التقليد قبل التجديد.٥٠
ويلاحظ على هذا التاريخ للفلسفة الآتي:
  • (١)

    هو أشبه بتاريخ الفلسفة في المدارس. ويخلو من فلسفة هيجل الذي يربط شخصيات الفلاسفة بعضها البعض بدلًا من تراقيها واحدًا تلو الآخر حتى ولو كانوا في مدارسه مثل المدرسة القورينائية. وهو تغليب تاريخ الفلسفة على الفلسفة، والرصد للتاريخ على مسار التاريخ ودلالته.

  • (٢)

    غياب «ظاهريات الروح» أي فلسفة التاريخ وارتباط كل فيلسوف داخل الرحلة أو المرحلة كلها بخيط واحد وهو نشأة الوعي واكتماله. فتاريخ الفلسفة هنا معلومات أكثر منها علمًا.

  • (٣)

    طول الفلسفة اليونانية على حساب الفلسفة الحديثة والمدرسية، عربية ويهودية، والشرقية. فالغرب هو مركز الإبداع الفلسفي. بل إن تاريخ الفلسفة هو الفلسفة في الغرب. فهو المركز وغيره الأطراف. وهو ما كتب ناقضًا له «مقدمة في علم الاستغراب».

  • (٤)

    الملل في القراءة لغياب الفلسفة داخل تاريخ الفلسفة بالرغم من وجود عدة مقدمات عن صِلة كلٍّ منها بالآخر.

  • (٥)

    غياب التجارب الحية وراء فلسفة كل مرحلةٍ حتى يسهل استعادتها مرة ثانية في لحظات متشابهة في مسارات فلسفية أخرى؛ وبالتالي يحتاج القارئ لأن يقوم بهذا الدور «بعث الموتى» حتى يمكن أن يتمثل تاريخ الفلسفة. ويعرف هو في أي مرحلةٍ من التاريخ هو يعيش، وإلى أي حضارةٍ هو ينتسب؟

(٢) دروس في فلسفة التاريخ

هل هناك فرق بين المحاضرات والدروس؟ في الظاهر لا فرق إلا في الكم. فالمحاضرات أكبر من الدروس. وقد تكون المحاضرات عامة والدروس خاصة، المحاضرات لمرحلة الشهادة الجامعية، والدروس للدراسات العليا، المحاضرات للعامة، الدروس للخاصة، المحاضرات شفاهية، والدروس مدوَّنة. ويبدو أن الملخص كان له رواد أكثر من المحاضرات وربما لأن النهاية قد قربت. فقد كتب الملخص قبل أن يرحل بعام واحد ١٨٣٠م؛ لذلك أتى مركزًا واضحًا كرسالة وداعٍ. الملخص له طبعتان. الأولى والثانية مع مقدمة عن فلسفة التاريخ التي كتب فيها هيجل أيضًا «العقل والتاريخ» باعتباره روح التاريخ. ثم يقدم هيجل مقدمةً عن فلسفة التاريخ لأن «الملخص» أقرب إلى التاريخ منه إلى فلسفة التاريخ. لذلك يعتبر العقل في التاريخ هو روح التاريخ لإكمال «الملخص».٥١ ويدخل هيجل في رصد مراحل التاريخ. أولًا، العالَم الشرقي، الهند والبوذية. وفارس دون الصين. ثم يضيف شعب الزند ثم الآشوريين والبابليين ثم آلهة ميديس وبارسيس. ثم تأتي الإمبراطورية الفارسية وأقسامها المختلفة. ثم تأتي سوريا وآسيا الصغرى السامية ثم العراق. ثم مصر ثم العبور إلى العالَم اليوناني. فالعالَم الشرقي وحدة واحدة سواء الشرق البعيد أو الشرق الأوسط ابتداءً من فارس والعراق وتركيا.٥٢
وفي الجزء الثاني العالَم اليوناني. فما هي عناصر العبقرية اليونانية؟ هناك صورة الفردية الجميلة، قدمت العمل الفني الذاتي ثم العمل الفني الموضوعي. ثم يأتي العمل الفني السياسي، ونشأت الحرب بين اليونان والفرس أو بين أثينا وإسبرطة. ثم نشبت الحرب البليبونوزية. وتكونت الإمبراطورية المقدونية. ثم سقطت العبقرية اليونانية. وفي الجزء الثالث العالَم الروماني. ويضيف هيجل حال روما حتى الحرب البونية puniya. ويحدد عناصر العبقرية الرومانية. ويصف تاريخ روما حتى الحرب البونية الثانية ثم منذ الحرب البونية الثانية حتى الإمبراطورية وحال روما فيها.
ثم تحولت روما إلى المسيحية وتكوين الإمبراطورية البيزنطية ثم نشأت المحمدية (الإسلام). وتكونت إمبراطورية شارلمان. وفي العصر الوسيط تكوَّن الإقطاع والتراتبية Hierarchie. ووقعت الحروب الصليبية. ثم تحول النظام الإقطاعي إلى النظام الملكي.٥٣ ثم تأتي الفنون والعلوم كعوامل لتفكيك العصور الوسطى. ثم تأتي العصور الحديثة ممثلة في الإصلاح الديني. ثم يصف هيجل أثر الإصلاح في تكوين الدولة. ثم أتى عصر الأنوار والثورة.٥٤

والدرس المستفاد من هذه الدروس هو تقدم الوعي الحضاري تدريجيًّا من العصور القديمة إلى العصور الحديثة، ومن حضارةٍ إلى حضارة، من حضارة الشرق القديم إلى حضارة اليونان إلى حضارة الرومان إلى الحضارة الإسلامية (المحمدية) إلى الحضارة الحديثة. أما الروح التي تسري في هذه المراحل كلها فهي موجودة في «العقل والتاريخ». الدروس هي الجسم والعقل هو الروح.

«العقل في التاريخ» هل هو ملحق لمحاضرات في فلسفة التاريخ كما أن البراهين على وجود الله ملحق أو الجزء الرابع لمحاضرات في فلسفة الدين أم هو مستقل لبيان سريان العقل إلى الروح النظري والعملي، الروح الذي يسري فيه، ويقسم العالم إلى قديم وجديد. وهناك مقدمتان؛ الأولى أنماط كتابة التاريخ وكيفية تدوينه. فالتاريخ ليس علمًا موضوعيًّا بل هو زاوية ومنظور. هناك تصور عام لفلسفة التاريخ، وتشمل المقدمة الأولى التاريخ الأصلي، والثانية التاريخ مفكرًا فيه، والتاريخ الفلسفي. فلا يوجد تاريخ واحد. هناك وعيٌ طبيعي بالتاريخ أو طبيعة واعية بالتاريخ. وهناك التاريخ كموضوعٍ للتأمل والتفكير كبُعدٍ إنساني وكوعيٍ تاريخي. وهو ما حاول هردر وهيجل وفيكو وكوندرسيه ولسنج وباقي فلاسفة التاريخ تأسيسه، أما نحن فليس لدينا إلا ابن خلدون في «المقدمة» في تاريخه الدائري الذي ما زلنا نفخر به، والبلخي في «البدء والتاريخ» وغيرهما. وهو التاريخ الفلسفي عندما يصبح التاريخ تجربةً ماضيةً تصب في التجارب الحاضرة.

والمقدمة الثانية عن التاريخ الفلسفي بدايةً بالتصور العام لفلسفة التاريخ وتحديد معنى العقل، فالتاريخ ليس مصمتًا بل هو تاريخ حي. يحركه العقل أو الروح، كما هو الحال في «ظاهريات الروح» على مستوى الوعي الذاتي. ثم يبدأ هيجل بتجديد معنى العقل النظري ومقولة المعرفة التاريخية. ويخرج كانط من ثوب العقل النظري إلى رحابة العقل التاريخي الذي تركه كانط بحزمة ورقات في آخر «نقد العقل الخالص» بعنوان «تاريخ العقل». ويعني به الاجتهادات السابقة للوصول إلى «العقل الخالص» ويذكر فيه ابن رشد. ويشرح هيجل مقولات العقل التاريخي. وقد تطوَّر مفهوم العقل من المفهوم القديم إلى فكرة المسيحية عن العناية الإلهية Providence والعدل الإلهي Theodiceé. ويتحقق الروح في التاريخ.٥٥
ويتحدد الروح عن طريق الحرية والشيء في ذاته والشيء لذاته والشعوب، مفاهيم ميتافيزيقية وأوضاع عملية. ويتقدم الوعي، وهنا تكمن عظمة أو انحطاط الشعوب. والغاية القصوى هو التقدم. ووسائل تحقق الروح في التاريخ والمحرك له مثل الانفعالات والمصالح. ويتحدث هيجل عن مقولته المشهورة «احتيال العقل» سلبًا أم إيجابًا. كما سيتحدث عن الفرد والسعادة الأخلاقية. فالأخلاق تسير جنبًا إلى جنب مع مسار التاريخ. وهناك دور العظماء من الرجال في التاريخ. والتاريخ إحساس بالمسئولية. وتحقيق الروح في التاريخ له جانب مادي مثل الدولة وبخاصة دولة القانون. أما دولة الدين فإنها مخاطرة كبيرة توقع في الطائفية والصراع الديني؛ وبالتالي يضع هيجل بذور العلمانية، وهو الراهب والقسيس في أول حياته. ويعود هيجل إلى الدوائر المختلفة للحياة الشعبية كما تدعو الرومانسية. ثم يصف واقع الروح.٥٦
ويصف هيجل مسار التاريخ بداية بمبدأ التطور. ويضم الحركة والكمال في التطور والتقدم. وهناك أربعة عصورٍ في التاريخ. أولًا بدء التاريخ وتمثل واقع الروح. بداية التاريخ، ثم نقد الرومانسية، ثم التاريخ المسبق. ثم يضع هيجل شروط الوعي التاريخي. ويضيف مسار التطور، وينتقد النزعة الصورية المضادة للتاريخ، الديمومة والتاريخانية، ومعنى التطور، والحضور الروحي الماضي.٥٧
أما الشروط المادية فيحددها هيجل بوجهٍ عام بأنها الشروط الطبيعية أشبه بالهوية ونشأة العلوم الطبيعية والبلد المرتفع الذي تصب فيه حضارات السهول أو الأنهار، ثم حضارات البحار. وهنا يبدأ أثر العامل الجغرافي في تطور الحضارات مثل نهر النيل وحضارة مصر القديمة، ونهرَي دجلة والفرات وحضارات بابل وآشور. وفي العالم الجديد هناك خصائص عامة مثل الاعتماد على النفس Autoctone مثل أمريكا اللاتينية وأمريكا الشمالية ومصيرها. أما العالم القديم فله خصائص عامة مشتركة مثل الهجرات كمصدر لشعوبه وثقافته مثل أفريقيا وآسيا وأوروبا. وبالتالي يمكن تقسيم التاريخ العام إلى الإمبراطوريات الشرقية والعالم اليوناني، العالم الروماني والمسيحية، والعالم الجرماني. قمة ما وصل إليه تطور التاريخ أي عصر هيجل المكتمل كما هو الحال في تطور الأنبياء إلى آخرهم عيسى أو محمد. عيسى بمعجزاته أكبر دليلٍ على النبوة. فكم مؤمن به من اليهود؟ محمد نهاية دين الوحي، وبداية العقل والعلم، التوحيد والعدل. ويُضاف ملحق عن التاريخ العام مستمد من فلسفة الحق أو القانون Droit. وفي ثقافتنا العربية الإسلامية «الحاكمية لله» تعني الدولة الشرعية التي تحكم بالقانون الشرعي وليس بالقانون المدني وكأنهما متضادان في حين أن مقاصد الشريعة في كليهما متطابقة: الحفاظ على الحياة، والعقل، والحق، والعرض، والمال. وهي المصالح العامة التي تقوم عليها كل المجتمعات بصرف النظر عن دياناتها. وهو أقرب إلى التصور اليهودي. وهو تصور ديني عقائدي بعيد عن تحليل نشأة السلطة في المجتمع، والتحول الطبيعي من النظام الاستبدادي إلى النظام الديموقراطي. من النظام الإلهي إلى النظام الإنساني.٥٨

(٣) في علم الجمال

لا هي محاضرات، ولا هي دروس، ولا علم الجمال فحسب. وقد يعني ذلك أن هيجل دوَّنه كتابةً دون أن يلقيه شفاهًا. وهو ليس دراسة في علم الجمال بل هو تصنيف للفنون. وبعد المقدمة يعرض هيجل في المجلد الأول التصور الأول وهو تجربة ذاتية خالصة. ومع ذلك يعطي هيجل تحديدات عامة مثلًا العلاقة بين الجميل في الفن والجميل في الطبيعة، وما هي نقطة البداية في الجمال؟ والاعتراضات ضد فكرة فلسفة الفن. ثم يعرض هيجل الفكرة الشائعة مثل تقليد الطبيعة داخل النفس، الوظيفة الأخلاقية للفن. ثم يعرض هيجل الأفكار التجريبية للفن، الأفكار المتعلقة بالعمل الفني، قواعد الفن، العبقرية، الحاجة إلى الفن، معنى الفن، التذوق والمعرفة Connaissancism، الحدس، العقل Intelligence، الفكرة. فما هو علم الفن؟ النظريات القائمة على التذوق، التحديدات الحديثة للجميل، تحديد الغاية القصوى للفن. ثم يحدد هيجل الفن من وجهة النظر الفلسفية. ومع ذلك هناك الفن الشامل من وجهة النظر الفلسفية، فلسفة كانط، فلسفة شيللر وجوته، وشلنج، السخرية والرومانسية رؤية شاملة لخطة الكتاب. والكتاب كله بأجزائه الثلاثة أقرب إلى فلسفة الفن منه إلى علم الجمال؛ لذلك لم تتكرر كلمة «جمال» في الكتاب وهو عنوان الكتاب. وقد كتب فيه كانط «نقد ملكة الحكم» لتحليل الحكم الجمالي مع الحكم الغائي.٥٩
وتقوم فلسفة الفن على التمثيل الحسي للمثال. فما الفرق بين الفكرة Idée والمثال Idéal؟ الفكرة هي الروح المطلق. وعندما تلتحم الفكرة بالواقع تصبح وتوحد الفكر الواقعي في العالم الخارجي حيث الجمال في الطبيعة. الحياة الطبيعية والجمال. ورؤية الحياة من وجهة نظر طبيعية خالصة. أما المثل الأعلى فهو الجمال المجرد الخارجي، جمال الصورة المجردة، والنظام، الخضوع للقوانين، الانسجام Harmonie. ثم يشرح هيجل الجمال باعتباره وحدة مجردة للمادة الحسية. ثم الجمال الطبيعي. خيالات الجمال الطبيعي، النقص Imperfection. الجانب الداخلي المباشر ليس إلا الداخل، حالة الاعتماد، الوجود الذي لا ينقسم. تحديد الوجود الذي ينقسم. ثم يتحدث هيجل عن الجمال الفني أو المثل الأعلى. ويبدأ بتحديد المَثل الأعلى من حيث هو كذلك. وتبدأ بالفردية الجميلة. وعلاقة المثل الأعلى بالطبيعة. ثم يتحدد المثل الأعلى والإلهي باعتباره وحدة وشمولًا. والإلهي باعتباره كثرة من الآلهة، المثل الأعلى. فما هي الحالة العامة للعالم؟ والفن فعل. والاستقلال الذي لا يمكن قسمته. الهراطقة السمة المتجزئة. ويعاد النظر في الاستقلال الفردي للعصر الحاضر، وإذا أردنا تحديد المثل الأعلى فإنه يمكن إعادة النظر في الاستقلال الفردي، والأفراد الفاعلة، الشخصية، غياب الوضع. ثم يظهر الاغتراب، الوضع المحدد. الاصطدام. وضع الصور العامة للفعل، الأفراد الفاعلون، الشخصية. أما التحديد الخارجي للمثال. والخارجية المجردة من حيث هي كذلك. الاتفاق بين المثال الواقعي والواقع الخارجي. الجانب الخارجي للعمل الفني المثالي في علاقته مع الجمهور.٦٠ أما الفنان فهو صاحب الخيال العام والإلهام. الفرق بين العبقرية Génie والمهارة Talent. ويعترض التمثل الأسلوب والأصالة. الطريقة الذاتية.٦١

ويضم المجلد الثاني ثلاثة فنون: الفن الرمزي، والفن الكلاسيكي، والفن الرومانسي. في الموسيقى ذلك الفن الرمزي هي الموسيقى الكنسية مثل القداس. والموسيقى الكلاسيكية عند هندل. والموسيقى الرومانسية هو التحول من موتسار إلى بيتهوفن. وهو ما يقدمه هيجل في المقدمة من أجل إلقاء نظرة عامة على الموضوع. ويبدأ هيجل بشرح الرمز على العموم وبين أقسام الكِتاب. ثم يبين أن الرمز لا شعوري. ويبين العلاقة المباشرة بين المعنى والصورة. فهناك ارتباط مباشر بين المعنى والصورة. ويتضح ذلك في دين زرادشت. فهناك سمة رمزية في هذا الدين. وهو الذي جعله نيتشه يتكلم في «هكذا تكلم زرادشت». وهناك تصورات وتمثلات غير فنية في الدين.

وهناك رمزية خيالية Fanstastique. مثال ذلك التصور الهندي لبراهمن. ثم يبين هيجل العلاقة بين المادية وخلل المقادير Demesure والاتجاه نحو الشخص. والعلاقة هي أهم ما يميز الخيال الهندي، والتطهر والتوبة لهما مكانهما في الفن الهندي. ثم يتحدث هيجل عن الرمزية الحقيقية غير المرتبطة بتاريخ الأديان. وتتجلَّى في رمزية الموت، في فكرة الموت وتمثلات الموتى. وهو ما يفسر الأهرامات. ومعها الأراجوز وأقنعة اللاعبين به. وهناك الرمزية الشاملة، ممنون بيس وأوزوريس، وأبو الهول، ثم يشرح هيجل رمزية الجليل، مصطلح كانط في التفرقة بين الجميل والجليل، الجميل الحسي والجليل الروحي.٦٢
ويبدأ ببيان وجدانية الفن Pathétism كما هو واضح في الشِّعر الهندي. والشِّعر المحمدي العربي والتصوف المسيحي. ومن ظواهر فن الجليل الله الخالق ورب الكون. فلسفة الخطاب الديني لغة رمزية. وكذلك العالم النهائي اللاإلهي. والفرد الإنساني. فالألوهية رمز، إعطاؤها لله أو نزعها عن العالم والإنسان. ثم بعد ذلك تأتي الرمزية الشعورية في الفن الشبيه Analogue. والتشابه القبلي في البداية الخارجية: الخرافة Fable، والحكاية الرمزية Parabole، المثل Prabe، الاعتذار Apologie، التحول Metamorphose.
والمتشابهات لها بدايتها في الدلالة Signification مثل اللغز Enigm، والحكاية الرمزية Allégorie، والاستعارة، والمقارنة Comparaison. ويحتفي الفن الرمزي في الشِّعر التعليمي والشِّعر الوصفي. الأول يبدأ بالأخلاق، والثاني يبدأ بالطبيعة.٦٣
والفن الثاني هو الفن الكلاسيكي. ويقوم على الاعتماد Autonomie مثل التفسير الروحي والمادي. فماذا يعني الكلاسيكي بوجه عام؟

والفن اليوناني تحقيق للفن الكلاسيكي. ووضع الفنان المبدع في الفن الكلاسيكي.

ويبدأ عرض الفن الكلاسيكي بانهيار الفن الحيوي Animalité. ثم تأتي التضحية بالحيوانات للصيد مع أن الفن الكلاسيكي يخلو من الحركة. وهو ما يميز الآلهة الجديدة عن الآلهة القديمة. فالفن الكلاسيكي يعتمد على الفكر الكلاسيكي وتطوره من القديم إلى الجديد، مع بيان أهمية الآلهة القديمة. والاعتماد الإيجابي للعناصر المدركة كسالبة. ثم يأتي دور الأسرار، الإبقاء على الآلهة القديمة في التحقيق الفني. وللآلهة الجديدة أساس طبيعي. أما المثال في صور الفن الكلاسيكي فيشرحه هيجل شرح المثال في الفن الكلاسيكي بوجه عام. فيبدأ بدورة الآلهة الخاصة. فالمثال باعتباره إنتاج الخلق الفني، الآلهة الجديدة والمثال الكلاسيكي. فهناك معدات للآلهة الخاصة. هناك كثرة من الآلهة الفردية. وتغيب التصنيفات النسقية Systematique. والخاصية الرئيسية لهذه الدورة الفردية الخاصة للآلهة، الإبقاء على مادة التفرد، الإبقاء على الأخلاق الأساسية Base. التطور نحو الفضل الإلهي Grâce والكرم Charité.
ويتفكك الفن الكلاسيكي. فهناك القدر والمشيئة Anthroprohisphie. وهما سبب في تفكك وغياب الذاتية الداخلية. والمرور عبر المسيحية كموضوع للفن الحديث. وقد تفكك الفن الكلاسيكي بفعل يديه. أما السخرية فتتضمن الفرق بين تفكك الفن الكلاسيكي وتفكك الفن الرمزي، اليوناني والروماني في أرضية للسخرية.٦٤
أما الفن الرومانسي فيحدد هيجل معناه على العموم. ويبدأ بوضع مبدأ الذاتية الداخلية مع أنه لا توجد ذاتية خارجية. ثم العناصر الرئيسية للمضمون. المضمون والصورة للفن الرومانسي. ويعرض العناصر الرئيسية للمضمون. وكيف يتعامل الفن الرومانسي مع مضمونه؟ وللفن الرومانسي دائرته الدينية. وهنا يعود الدين من جديدٍ من خلال الفن الرومانسي. مثلًا تاريخ المسيح في الخلاص Redemption. والظاهر أن الفن الرومانسي هنا ظاهري. وهنا يلزم التدخل الضروري للفن من أجل تحويل الظاهر إلى باطن والرؤية الخارجية إلى انفعالات وعواطف. خصوصية الظهور للفن. والتدخل الضروري للفن والخصوصية بالمصادفة للظهور الخارجي. والمحبة في الدين مفهوم المطلق باعتباره مطلقًا. وهنا يظهر مستوى النفس والعواطف. فالمحبة مثالٌ رومانسي كما ظهر في أدب روميو وجولييت، وكذلك في أدبنا حسن ونعيمة وجميل وبثينة. والموضوع الثاني الروح والجماعة الإنسانية. ويتضمن الشهادة والتوبة والتحول الداخلي أو المعجزات أو الخرافات Fables. ثم تأتي الفروسية Chévalrie. وتضم مفاهيم مثل الشرف Honneur. والشرف مجروح، ورد الشرف. ثم تأتي الصداقة والإخلاص والأمانة والتوبة. ثم يأتي الإخلاص مثل الإخلاص في العمل. الاستقلال الذاتي في الإخلاص. وقد ينتج الصراع عن الإخلاص، والاستقلال الصوري للخصوصيات الفردية. ويقوم هيجل بالموضوع وخطته. وتشكل صوريًّا. والاستقلال الذاتي للسمة الفردية. والاستقلال الذاتي للفرديات. والشخصية باعتبارها تحولًا داخليًّا ولكن متناقض، المصلحة الجوهرية الداخلة في سماتها الصورية جانب المغامرة. سمة المصادفة للغايات والصراعات، الجانب المضحك في المواقف تكون فيها المصادفة في العامل المحدد، والرومانسي Romanesque. ثم يتفكك الفن الرومانسي. ويبدأ التقليد الذاتي للواقع الموضوعي. والسخرية Humour أي الذاتية. ثم ينتهي الفن الرومانسي.٦٥

ويعرض هيجل في الجزء الثالث الفنون الكلاسيكية. وتتضمن أولًا الهندسة والنحت والفنون الرومانسية مثل الرسم والموسيقى. مع أنه يصعب الجمع بين الرسم والموسيقى. فالرسم فن بصري. والموسيقى فن سمعي، والهندسة مستقلة أو رمزية.

أولًا: الهندسة

وهناك أعمال هندسية مخصصة لتخليد ذكرى آلهة الشعوب. وهناك أعمال هندسية متوسطة مثل الأعمدة Phalliques والمسلات والمعابد المصرية. ثم تتحول الهندسة المستقلة إلى الفن الكلاسيكي في الأبنية تحت الأرض في الهند ومصر. وهناك مساكن مخصصة للأموات مثل الأهرامات. ثم تتحوَّل الهندسة النفعية إلى الهندسة الكلاسيكية. والسؤال هو: ما هي السمات العامة للهندسة الكلاسيكية؟ هو التأقلم مع غاية محددة، اتفاق المبنى مع الغرض، المنزل باعتباره نموذجًا أساسيًّا. والتحديدات الخارجية بالأشكال. وكانت الأبنية من الخشب والحجارة. وكان للمعابد أشكالها الخاصة. وكان المعبد الكلاسيكي وحدة واحدة كما هو الحال في المساجد التي بناها الإخوان في مصر، مسجد ومستشفى ومدرسة ونادي رياضي أو ثقافي في الأماكن التي لا تحتاج إلى ألعاب واسعة مثل كرة القدم. وللهندسة الكلاسيكية عدة أساليب في البناء: الأعمدة الأيونية والدورية والكورنثية. ويقوم البناء الروماني على الأشكال الهندسية. وتعرض السمات العامة للبناء الروماني.٦٦ والهندسة الرومانية لها طابعها الخاص. ولها أشكالها المتميزة مثل المنزل المنعزل عن العالم الخارجي باعتباره شكلًا رئيسيًّا. وله شكل خارجي يعبر عن الشكل الداخلي. ويضم أيضًا زخرفة الكنائس القوطية التي لها أشكال متعددة مقارنة بالهندسة ما قبل القوطية. وهناك الهندسة الشعبية Profane في العصر الوسيط.٦٧

ثانيًا: النحت

Sclupture والمضمون الرئيسي للنحت يتمثَّل في مجال الشكل واستبعاد المظاهر الخاصة والإرشادات الرمزية Mimique، ثم الإبقاء على الفردية الجوهرية. أما مثال النحت فيظهر في الفن الكلاسيكي. والجوانب الخاصة للشكل المثالي في النحت مثال ذلك الشكل Profile اليوناني. اتجاهات الجسد وحركاته، ثم اللباس. فردية الأشكال، والمثال في النحت: المثال والذراع والعشب والخلاف في العمر والجنس، والخلاف في الآلهة والأبطال والحيوانات. وتمثل الآلهة فرديًّا. وهناك طرق عديدة التمثل والأشكال المتعددة للمواد ومراحل التطور التاريخي للنحت. التمثال المنفرد، الجماعة، القاعدة Relief، المواد المستعملة في النحت: الخشب، العاج، البرونز، الرخام، الحجارة الكريمة والزجاج. أما التطور التاريخي للنحت من المصريين إلى اليونان والرومان وأخيرًا المسيحيون وكأنهم شعب واحد كالسابقين.٦٨

ثالثًا: الفنون الرومانسية

وتبدأ بالرسم، فما هي السمات العامة للرسم؟ التحديد الرئيسي للمضمون، المواد الحسية للرسم، ويبدأ التعامل الفني. ثم يأتي التحديد الخارجي للرسم: التصور، التركيب أو التأليف والسمات الفنية. وهناك المضمون الرومانسي للرسم، وقد تطور الرسم تاريخيًّا من الرسم البيزنطي إلى الرسم الإيطالي إلى الرسم الهولندي والألماني. أما الموسيقى، فإن لها خصائص عامة. تبدأ بمقارنة الموسيقى بالفنون التشكيلية Plastique، بين الموسيقى والشِّعر، والتصور الموسيقي للمضمون هو طريقة أداء الموسيقى، التحديدات الخاصة لوسائل التعبير الموسيقي، وتتكون من عناصر ثلاثة: الزمان والمقدار Messure، والإيقاع والهارموني، واللحن، والعلاقة بين وسائل التعبير الموسيقية ومضامينها. الموسيقى المصاحبة، والموسيقى المستقلة والخارج الفني. والموسيقى أصغر الأجزاء مع أنه زمن بيتهوفن.٦٩

رابعًا: الشِّعر

هو الجزء الرابع من علم الجمال أو القسم الثاني من الجزء الثالث. وكما أن الموسيقى هي أصغر الفنون فإن الشِّعر أكبرها أو يشمل الجزء الرابع كله. ولا ريب فهو عصر جوته وشيللر. ويبدأ ببيان الفرق بين العمل الشِّعري والعمل الفني. وهناك Prosolique طريقة للتأليف الشِّعري بالتأليف. وهناك التمثل الشِّعري عن طريق كلٍّ منهما والتمثل والمضمون. وهناك خصوصية الحدس الشعري. والعمل الفني الشعري والعمل الفني Prosolique. أما السيرة الشعرية فهي فن كتابة التاريخ ببعض المفاهيم الشعرية. ويختلف الشِّعر عن العمل الفني الشعري الحر، والتعبير الشعري يبدأ بالتمثل الشعري، وهناك التمثل الذي كان في الأصل شعريًّا. وهناك التمثل النثري. أما التعبير بالقول فهو اللغة الشعرية على وجه العموم، الطرق التي تستغلها اللغة الشعرية. وهناك استعمالات عديدة لهذه الوسائل. ويتقطَّع الشعر إلى عدة مقاطع اتباعية، والإيقاع، وارتباط المقاطع الإيقاعية.٧٠
والأنواع الشعرية مختلفة. والخاصية العامة للشعر الغنائي. السمة العامة للشعر الملحمي: التلغراف Epigrame، المقاطع Gnowes. وهناك الشعر التعليمي الفلسفي، الكونيات Cosmologie، والإلهيات Theologie، الملحمة Epopee، والتحديدات الخاصة للشعر الملحمي بوجه خاص، والحالة العامة للعالم الملحمي، والفعل الملحمي الفردي. الشعر الملحمي باعتباره وحدة شاملة لكل واحد. ثم يرصد هيجل التطور التاريخي للشعر الملحمي. الشعر الملحمي الشرقي، الملحمة الكلاسيكية عند اليونان والرومان، الملحمة الرومانسية. وهناك أنواع كثيرة من الشعرية. وهناك الشعر الغنائي، وهناك سمات عامة للشعر الغنائي منها صورة الشعر الغنائي، ومضمون الشعر الغنائي. الشعر الملحمي كوحدة شاملة واحدة: الشاعر الملحمي، خصائص الشعر الملحمي، سمة خاصة للشعر الملحمي، الخاصية الهامة للشعر الملحمي، مضمون الشعر الملحمي، العمل الفني الغنائي، والحروب كما يتصورها الشعر الملحمي خاصة. والتطور التاريخي للشعر الغنائي. والشعر الغنائي الشرقي، الشعر الغنائي عند اليونان والرومان. الشعر الغنائي الرومانسي.٧١
أما الشعر الدرامي، فالدراما باعتبارها عملًا فنيًّا دراميًّا. الدراما عمل فني شعري. يبدأ الشعر الدرامي. العمل الدرامي الفني. العمل الدرامي في علاقته بالجمهور، الترتيب الخارجي للعمل الفني الدرامي، التنفيذ الخارجي للعمل الفني الدرامي، قراءة وتسميع العمل الدرامي، فن الممثل، الفن المسرحي أكثر أو أقل استقلالًا عن الشعر. كما يوضح هيجل الفرق بين الشعر الدرامي القديم والجديد. وللشعر الدرامي أنواعه وتطوره الحسي.٧٢
ويلاحظ الآتي:
  • (١)

    أن علم الجمال أقرب إلى الفلسفة منه إلى علم الجمال. فهو يتحدث عن مفاهيم فلسفية مثل الفردية والشمول والمحدد واللامحدد بحيث يكون الجمال مجرد تطبيق للفلسفة النظرية.

  • (٢)

    تدل كثرة التفريعات في علم الجمال على صعوبة التطبيق بل والفهم النظري لماهية الجميل.

  • (٣)

    لا توجد إحالات مرجعية فيه إما لأسماء الفنانين أو لأعمال فشته. وهو عصر الرومانسية.

  • (٤)

    العناوين الرئيسية والمجازية مجرد ملاحظاتٍ مفردةٍ في الغالب وليست عبارات موجزة. فهو يتحدث عن أشياء ولا يُصدر أحكامًا. فتصنيف الفنون بمفرده حكم.

  • (٥)
    هل المثال Ideal بديل عن الله أو أحد تصورات الألوهية خاصة وأن لفظ إلهي Divin ما زال أحد مصطلحات العلم؟
  • (٦)

    أقرب العلوم إلى «علم الجمال» في تحديدها هو «علم المنطق»، مقاطع وتفريعات. وعلى القارئ الربط بينهما، وهذه المقاطع أقرب إلى الفلسفة منها إلى الجمال والمنطق.

  • (٧)

    الفن الرومانسي هو الأخلاق المسيحية: المحبة، الشرف، التسامح. فالرومانسية والمسيحية اختياران.

  • (٨)

    وأين أرسطو مؤسس علم الأخلاق، سواء في الفن الكلاسيكي أو في الفن الرومانسي. يبدو هيجل هنا أفلاطوني المزاج كما أن أفلاطون يبدو أنه كان صاحب رؤية رومانسية للعالم.

  • (٩)

    لم يتوسع هيجل في بيان أن الأوبرا هي الفن الكامل الذي يجمع بين الموسيقى والشعر. وهل الجمع على التساوي أم أن الغلبة أحيانًا تكون للشعر مثل أوبرا فاجنر وأحيانًا للموسيقى.

  • (١٠)

    لم يبين هيجل وماذا عن الجمع بين الموسيقى والشعر على التوالي كما هو الحال في السيمفونية التاسعة لبيتهوفن والتي تنتهي بنشيد الفرح لشيللر.

  • (١١)
    وماذا عن الموسيقى الشعرية التي تضم الأفكار الفلسفية وتعبر عنها مثل السيمفونية الثالثة Eroica عن البطولة التي كتبها بيتهوفن تحية لنابليون ابن الثورة الفرنسية. ثم شطب اسمه لما نصَّب نفسه إمبراطورًا. وكذلك السيمفونية الخامسة التي تعبر عن ضربات القدر بمقدمتها والتي حاول محمد عبد الوهاب عمل مثلها في مقدمة أغنية «عاشق الروح». والسيمفونية السابعة التي تُسمى الرعوية Pastorale لسماع غناء الطبيعة.
  • (١٢)

    لم ينقد هيجل موسيقى الصالونات مثل موسيقى موزار، الأب الروحي لبيتهوفن. وهل هو أقرب إلى كلاسيكية هاندل أم رومانسية بيتهوفن؟

(٤) محاضرات في فلسفة الدين

وهي آخر مرحلة لتطبيق الهيجلية، منهجًا ومذهبًا في موضوع الدين الذي كان بدايتها في أعمال الشباب مثل «روح المسيحية ومصيرها»، «الإيمان والمعرفة»، «وضعية الدين المسيحي». وذلك يثير سؤالًا: هل استطاع هيجل أن يخرج عن الدين حتى في مؤلفاته المنهجية والمذهبية، «ظاهريات الروح»، و«علم المنطق»، و«مبادئ فلسفة الحق» أم ظل أسيرًا للدين ورغبته الأولى في الرهبنة والتخصص في الدين المسيحي؟

(أ) ماذا تعني فلسفة الدين؟

وقد خصص هيجل الجزء الأول من المحاضرات لتعريف ماذا تعني فلسفة الدين، وتحليل مفهوم الدين. وهو أصعب الأجزاء الثلاثة إيغالًا في التحليل النظري. ومع ذلك يجعل هيجل الدين ظاهرة شعورية بالرغم من عقلانية هيجل.

فلسفة الدين ضرورية لحل التعارض بين الإيمان والعمل أو كما يقول القدماء بين النقل والعقل لبيان اتفاق النقل الصحيح مع العقل الصريح كما يقول ابن تيمية وإلا تم تأويل النقل كي يتفق مع العقل. ولكي يثبت هيجل التطابق بين الدين وفلسفة الدين يعرِّف الدين ثم يعرِّف الفلسفة ثم يعرِّف فلسفة الدين. ويزيد هيجل على ثنائية العقل والنقل الشعور فتتحول ثنائية القدماء، مسلمين ومسيحيين في العصر الإسلامي وفي العصر الوسيط المسيحي إلى ثلاثية. فالعقل والنقل كلتاهما حالتان من حالات الشعور. وهنا يأتي الهيجليون مثل دافيد شتراوس في «حياة يسوع» وشليرماخر في «مقال في الدين». فقد جعل شتراوس الشعور التاريخي أساس روايات المسيح. كما جعل شليرماخر العاطفة الإنسانية بداية نشأة الدين. فالفلسفة والدين تعبيران عن الحياة، ومقرونان في المجتمع وحركات التاريخ.٧٣

(ب) مفهوم الدين

ويحدد هيجل مفهوم الدين بعد هذه المقدمة الطويلة لتعريف فلسفة الدين. ويحلل جوانب ثلاثة: أساس الدين، كيف ينشأ الدين، وما مصدره. معرفة الدين، بالوحي أم العقل أم الطبيعة. فواقع الدين جعله يحيل الدين إلى أشياء أم إلى مجموعةٍ من الخيالات تؤدي إلى الاغتراب. وهناك نوعان من الأساس: التجريبي عندما يلاحظ المؤمن علامات سمعية أو بصرية على وجود الله كما طلب من إبراهيم أن يقطع الطير إلى أربعة أجزاء ويلقي بكل جزء في اتجاه. فيأتي الطير حيًّا ساعيًا إليه. والثاني التأملي مثل حي بن يقظان الذي يتأمل في العالم ويفترض نشأته. فلسفة الدين إذن هي حل التعارض الذي وضعه فلاسفة التنوير الفرنسيون بين الفلسفة والدين والذي يستدعي إقصاء الدين وإبقاء الفلسفة أي الفكر الحر؛ فالفلسفة تؤدي إلى الدين، والدين يؤدي إلى الفلسفة، وكلاهما يقودان إلى الله وكأن هيجل يعيد ما كتبه ابن رشد في فتواه الشرعية، «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال». الطريقان مختلفان ولكن الغاية واحدة. الفلسفة تبدأ من الطبيعة إلى الله كما هو الحال في اللاهوت الطبيعي. والدين يبدأ بالوحي والكتاب. عيب الأول التأمل الخالص كما هو عند كانط. وعيب الثاني الاشتباه والتأويل. وكلاهما ضد اللاهوت العقائدي عند فولف. ففلسفة الدين ضرورية لحل التعارض بين الإيمان والعقل أو يرفض التعارض بين «أُومِن كي أعقل» كما يريد المتدينون و«أعقل كي أومِن» كما يريد العلمانيون، بين الحياة الدينية والحياة الدنيوية، بين الديني والدنيوي، بين الإلهي والإنساني، بين الفلسفة والدين.

فلسفة الدين ضرورية إذن من أجل القضاء على هذه الثنائية، بين الدين والدنيا، بين السلفية والعلمانية. وهو ما زال سائدًا في ثقافتنا حتى اليوم بالرغم من مرور قرنين من الزمان على محاولات الإصلاح والنهضة والتحديث والتجديد. وفي حقيقة الأمر هو صراع على السلطة بين تيارين، فلسفي وديني، بالرغم من ظهورهما كتيارين فلسفيين، المثالية والواقعية، المطلق والنسبي، واللامتناهي والمتناهي. مهمة فلسفة الدين هي القضاء على هذه الثنائية، الذاتية والموضوعية. وهنا يسترجع هيجل مقولات علم المنطق، المنطق الذاتي والمنطق الموضوعي. مهمة فلسفة الدين هي خلق منطق ذاتي موضوعي كطرف ثالث؛ وبالتالي يكتمل الجدل وتصدق عقيدة التثليث. ويرفض هيجل الاعتماد على الدراسات اللغوية والتاريخية للكتاب المقدس لأنها دراسات خارجية. ويؤثر البقاء في دائرة الشعور الديني، ويصبح أقرب إلى الكاثوليكية منه إلى البروتستانتية. وهو أشبه بنقد الصوفية للفقهاء، أهل الروح لأهل الحرف.

الفلسفة والدين موضوعهما واحد، إنما الاختلاف في التسمية. في الفلسفة المطلق. وفي الدين يسمى الله. الخلاف إذن لفظي، في الأسماء لا في المسميات. فالله هو المطلق في التاريخ أي الدولة. وهو قريب من مقولة أنصار الحاكمية، المودودي وقطب في مرحلته الأخيرة، بصرف النظر عن الأسماء، الله أو المطلق أو الشريعة، وفلسفة الدين ليست فرعًا من اللاهوت العقلي كما هو الحال عند كانط وإغراق الدين في العقل. ولا تتأسس في أعماق العواطف والانفعالات كما هو الحال عند الرومانسيين مثل جاكوبي وشليرماخر. كما رفض هيجل الاتجاه اللاأدري الشاك الذي نشأ في مواجهة الاتجاه العقائدي. وهو المعنى الذي كتب فيه الشاعر شيللر «رسائل في العقائدية Dogmatism والنقدية» فكل اتجاه يلغي الآخر. وقد أخطأت فلسفة التنوير بنقدها للعقائد والقطيعة معها. والأفضل تأويلها كرموز دينية. وهي مهمة فلسفة الدين. ويعيب هيجل على فلسفة التنوير في عصره أنها أولًا: أبقت على الحد الأدنى من العقائد مما أدى بالناس إلى اللامبالاة بها. ثانيًا: أعطت أسسًا نفسية للعقائد مثل الخلاص بدلًا من أن تقترب منه وتتشخص في مخلص، ثالثًا: رفض كل ما يتعارض مع الحياة في المجتمع السليم مثل اللعنة الأبدية. وهنا يبدو هيجل خطوة رجعية إلى الوراء بالنسبة لفلسفة التنوير؛ لذلك خرج منه المحافظون والتقدميون كما حدث لمحمد إقبال بعد وفاته. ثم يرفض هيجل التيار الثالث الذي يقول بإمكانية معرفة الله معرفة مباشرة عن طريق التجربة الصوفية، والذي يقوم على أن «الحرف يميت، والروح تحيي.» كما يرفض هيجل التيار الشكلي الذي يجعل الله مجرد خواء لا يمكن توصيفه. وهو ما سماه القدماء «التنزيه».

والدين هو ما يميز الإنسان عن الحيوان بالرغم مما يوصف به الحيوان ببعض صفات المتدين مثل الوفاء لصاحبه. أما الدين باعتباره شعورًا بالخلود وبالحياة بعد الموت فهو ما يخص الإنسان. هو الإحساس بحقيقة ما مطلقة مثل الله.

وبعد هذه المقدمة الطويلة عن فلسفة الدين يشرح هيجل مفهوم الدين ويجعله في جوانب ثلاثة: أساس الدين، ومعرفة الدين، وواقع الدين.

  • أساس الدين: يرى هيجل أن للدين أساسَين، تجريبي وتأملي. وتعني التجربة هنا الإحساس المباشر والعاطفة والتجربة الحية كما يقول الصوفية. أو مثل تجربة الأنبياء عندما يأتيهم الوحي مباشرة. وهو أيضًا موقف جاكوبي. والتمثل الديني نوع من المعرفة المباشرة عندما ترقى العاطفة وتتحول إلى صور ذهنية. تتحول بعدها إلى عقائد ثم إلى أشياء مثل الحق، النار، الملائكة والشياطين. أما الأساس التأملي للدين فلوجود الإنسان بين عالمين: النهائي واللانهائي. وبالتفكير في النهائي أي في الوجود الإنساني الهش الذي يمرض ويموت. يأتي التفكير في اللانهائي كرد فعلٍ وينتهي إلى البعث والخلود.
  • معرفة الدين: أما معرفة الدين فهناك طريقان لها؛ الأول طريق البرهان. والثاني طريق تتبع اللحظات المثالية لتطور الدين أي التاريخ. وهي قصص الأنبياء. ويتم الطريق الأول، طريق البرهان لأن الدين مجاله المطلق، والعقل قادر على فهمه. ثم تستنبط ضرورات أخرى من الضرورات الأولى. هذه الضرورات المطلقة تتبلور بنشاطها الخاص لاحقًا بالطريق الثاني، تاريخ الدين، من الشرق إلى الغرب، من الصين إلى الهند وفارس ومصر القديمة واليونان والرومان إلى اليهودية والمسيحية والإسلام، من التوحيد إلى الثنائية إلى التثليث عن طريق التوسط، قد ينقسم، وتعود القسمة إلى الواحد من جديد. فالثنائية مقدمة التوحيد والتثليث حقيقة الثنائية. وهناك طريقان لإثبات وجود الله بعدية ابتداءً من النهائي إلى اللانهائي وقبلية ابتداء من اللانهائي إلى النهائي. الأولى برهان وجود والثانية برهان ماهية. ويسمى أحيانًا البرهان البعدي البرهان الكوني، من الكون إلى خالق الكون.
  • واقع الدين: أما واقع الدين فيعني الدين عندما يتحول من الفكر إلى الوجود، من النظر إلى العمل. وله شكلان: الأول العبادة. والثاني الحضارة. وهو ما فعله القدماء. أما نحن الآن فاقتصرنا على العبادة. واستعرنا الحضارة من الغير خاصة العلم. والشعائر لا تؤول فقط على العلاقة بين الإنسان والله بل أيضًا بين الإنسان والإنسان أو الإنسان والمجتمع. فالصلاة عمل جماعي. والزكاة اقتسام الثروات بين الجماعة. والحج اجتماع على مستوى الجماعة لتحديد الأعداء من الأصدقاء. والصوم مشاركة الفقراء في الجوع والعطش. والحضارة ضد التخلف وتقليد حضارات الغير. فالعبادة أكثر من رمزٍ مثل القداس. والقداسات السبعة في المسيحية مثل طقس العماد وطقس المناولة.
إن واقع الدين لا يعني الشعائر، وإن كان يعني الحضارة كما فعل القدماء، بل يعني الواقع الاجتماعي الذي يظهر ضد الدين باعتباره حركة اجتماعية تقدمية وبناء مجتمع جديد يقوم على الحرية والمساواة أو العدالة الاجتماعية.٧٤

أما الجانب التنظيمي في الدين مثل الكنيسة فهو تنظيم اجتماعي خالص لا شأن له بالدين. نشأ نشأة مسيحية، وتحول الإمبراطور قسطنطين إلى المسيحية ثم انحياز الدولة كلها إلى الدين بعد أن كان المسيحيون من المعارضين للدولة. وقد تطور هذا التنظيم من الآباء اليونان إلى الآباء الرومان إلى الكنيسة في العصر الوسيط. ثم سيطر على كل مظاهر الحياة الخاصة والعامة، الأسرية والاجتماعية والسياسية حتى أصبح هو الدولة. وبدأ المفكرون الأحرار مثل الرشديين اللاتين في الصراع ضد التنظيم الذي سيطر على حرية الفكر. وهنا كانت بداية المفكرين الأحرار عند بيرانجيه دي تورا ونيقولا داميان. ثم ارتبطت حرية الفكر بالأخلاق الموضوعية منعًا للأهواء والانفعالات.

(ﺟ) تطور الدين

فالتطور ليس فقط في الكائنات الحية كما قال دارون، ولكن أيضًا في الروح كما وصف هيجل في «ظاهريات الروح». فقد مر الدين بثلاث مراحل؛ الدين المحدد والذي يشمل دين الطبيعة، ودين الفردية الروحية ثم الدين المطلق. والحقيقة هي قسمة ثنائية بين الدين المحدد والدين المطلق، ثم قسمة ثنائية أخرى للدين المحدد بين دين الطبيعة ودين الفردية الروحية. وقد ينقسم الدين المطلق الذي يؤمن بإله واحد بين اليهودية والمسيحية والإسلام، آخر الأديان. وهو تطور من الشرق إلى الغرب، لا يفترق فيه تطور الدين عن تطور الحضارات، من حضارات الشرق القديم، الصين والهند وفارس وبابل وآشور ومصر القديمة إلى حضارات الشرق الأوسط عند اليونان والرومان إلى حضارات الحضارة الغربية الحديثة من اليهودية فالمسيحية فالإسلام. فالغرب الحديث قائم على حضارات الشرق الأوسط. ويسمي هيجل الإسلام المحمدية مرة والأتراك مرة أخرى والمسلمين مرة ثالثة جامعًا بين المرحلة الدينية والمرحلة التاريخية. ويسميه مرة أفريقيا ومرة آسيا جامعًا بين المناطق الجغرافية التي انتشر فيها الإسلام، والإسلام ذاته. هو كل دينٍ غير أوروبي. وهو دين الواحد المجرد، ويقصد التنزيه الخالص.

  • (١)

    الدين المحدد: الدين المحدد أو المتحدد أو المحدود أو المتعين. هو الدين الذي يمكن أن يُشار إليه بالبنان أو كما يقال الدين الذي يقوم على التشبيه أو التجسيم. وهو الدين الذي يقوم على عبادة الأوثان أو الأشخاص أو الصلب والذي ساد في أفريقيا وآسيا، وأولها الدين الطبيعي وهو الدين الحسي المباشر. لا مكان للفرد فيه لأنه دين خارج الفكرة. هو دين يعارض العقل. يقوم على الخيال أو النار. دين يبدأ بالخطيئة والطرد من الجنة وفقدان الحرية. وإذا كان للدين لحظات ثلاث: الفكرة، التمثل الحسي، والعبادة فإن الدين الطبيعي يقوم على وحدة الوجود، وتصور اللانهائي في النهائي.

  • (٢)

    أما الدين الطبيعي فيشمل أيضًا ثلاثة أنواع: دين السحر، ودين الجوهر، ودين الذاتية المجردة. دين السحر نوعان: دين السحر المباشر مثل دين القبائل الأفريقية، ودين السحر غير المباشر كما هو الحال في الصين. ودين السحر المباشر على الخوف من الله والرغبة في السيادة على الطبيعة، سيادة مباشرة وليس عن طريق الصلاة. دين السحر المباشر هو أقدم أنواع الدين وأكثرها بربرية. تقدر دور الشمس والقمر دون عبادتهما؛ لذلك كان السحر هو الصورة الأولى للدين، أما السحر غير المباشر فقد تدخل فيه الذات عندما تموضع نفسها في صورة شيطان.

  • (٣)

    أما دين الجوهر فيشتمل بدوره على دينَين: دين الموجود بذاته ودين الخيال. والموجود بذاته هو أول تحديدٍ حقيقيٍّ لله. وهو ما أدركه اسبينوزا بالفكر. أما حقيقته الحسية ففي بوذا. وهو أقرب إلى العدم أو اللاوجود. ثم يتحول دين الجوهر إلى دين الخيال في قصص الخلق والبعث.

    ودين السر هو مثل الدين المصري القديم. لا توجد به معجزات بل إيمان بالبعث والخلود. والعبادة لمظاهر الذات في الحيوان مثل عجل أبيس أو لأرواح الموتى التي من أجلها بُنيت الأهرامات. وتم التعبير عن ذلك بالفن. وسرها أبو الهول.

  • (٤)

    دين الفردية الروحية: وهو الدين الذي تحررت الروح فيه من أَسر الطبيعة، وتعطي الفكر فيه الأولوية على الأشياء. وتصبح الطبيعة مجرد مظهر للحقيقة أو عارض في مقابل الجوهر. ويبدو هذا الدين في صورتَين؛ الأولى الإله المتعالي على الطبيعة، والثانية الطبيعة المتألهة. الأولى تعطي إلهًا واحدًا والثانية تعطي إنسانًا ذا إرادة حرة. ثم تظهر صورة ثالثة يصبح فيها الله غائية الطبيعة. الصورة الأولى دين الحلال مثل اليهودية، والثانية دين الجمال وهي الديانة الرومانية. دين الحلال هو دين الواحد القادر العادل الخير. ويتضمن الدين أحكام الحلال والحرام والميثاق والطاعة والعصيان. أما دين الجمال فهو دين الضرورة الكونية التي عبر عنها الشعراء في مقابل الحرية الفردية.

  • (٥)

    الدين المطلق: بعد أن طال تصنيف الدين المحدد وكأننا في علم تاريخ الأديان المقارن وليس فلسفة الدين، يظهر الدين المطلق أخيرًا. هو نهاية تطور الأديان بالرغم من أن لفظ «المطلق» له رنين سلبي في الأذن العربية المعاصرة مثل السلطة المطلقة. والأفضل هو اكتمال الأديان بعد تطورها اعتمادًا على العقل وحرية الإرادة أي على مبدأَي التوحيد والعدل كما قال المعتزلة من قبل. فقد انتهى تدخل الوحي في التاريخ. وأصبح الإنسان هو المسئول بعقله وحريته عن أفعاله. فقد أدى الوحي دوره في التاريخ. واكتملت مراحله. وأصبح الإنسان هو الرسول والمرسَل إليه. وهو دين الكلمة وليس دين الشخص مثل المسيحية أو دين القوم مثل اليهودية. هو دين التأويل الذي يسمح باجتهادات عدة طبقًا لتغير الزمان والمكان والمصالح العامة.

    أما عند هيجل فيقوم الدين المطلق على التثليث، ملكوت الآب، ملكوت الابن، ملكوت الروح القدس. فالمسيحية هي الدين المطلق. الآب يكشف عن نفسه بكلمته وهي الابن. والابن يعود إلى الآب بفعل الروح القدس. الآب هو الخالق، والابن هو المخلوق، والروح القدس هو الرباط بين اللانهائي والنهائي، بين الخالق والمخلوق. وهو الزمان الذي احتار فيه الفلاسفة، لا نهائي مثل الأب أو نهائي مثل الابن. والعجيب أن هيجل وهو البروتستانتي كان يعد نفسه كي يصبح راهبًا. وأهم شيءٍ في البروتستانتية هو الثورة ضد السلطة الدينية أي الكنيسة، أن تكون الروح القدس هو عمل الكنيسة أو الجماعة. وهو ما تبقى في اليهودية باسم القوم. فالمسيحية بلا كنيسة تصبح دينًا فرديًّا روحيًّا. والإسلام الذي ليس به كنيسة، فيستبدل بها سلطة الإفتاء أو هيئة كبار العلماء أو مشيخة الأزهر. وهذا هو الجانب المحافظ في فلسفة هيجل الذي ما زالت الكاثوليكية والبروتستانتية المحافظة تتمسك به. ويظهر هيجل المسيحي العقائدي والذي يدافع عن عقيدَتي الصلب والفداء بطريقة الفلاسفة الذين يبحثون عن الدلالة وراء الرمز. ويعتمد هيجل في ذلك على الإنجيل الرابع؛ إنجيل يوحنَّا، الإنجيل الروحي بصرف النظر عن نتائج نقد الروايات فيه.

(د) بعض النتائج العامة

القضية في هيجل هي خطوتان إلى الأمام، وخطوة إلى الخلف. يخرج منه الهيجلية التقدمية والهيجلية المحافظة مثل محمد إقبال الذي خرج منه الإسلاميون التقدميون والإسلاميون المحافظون، وذلك مصير كل فيلسوف عظيم مثل أفلاطون وأرسطو وابن رشد. ومن الطبيعي أن تتنازع هيجل قوتان اجتماعيتان، تقدمية ومحافظة. وهيجل يقبل الاثنين في القراءة والتأويل.

(١) بعض الجوانب التقدمية في فلسفة هيجل

  • (أ)

    توحيد هيجل بين الديني والدنيوي، بين المقدس والعلماني. فالدين دنيا، والدنيا دين. التثليث ليس فقط عقيدة بل هو جدل وتاريخ، فكل دنيوي مقدس. وكل مقدس دنيوي. وهو موقف إسلامي خالص. وهو توحيد الفكر إلى وجود والوجود إلى فكر؛ وبالتالي تحول الفكر المجرد إلى وجود مجرد.

  • (ب)

    التوحيد بين الفكر والوجود بعد اسبينوزا وحجة الكمال عند أنسليم وديكارت التي تستنبط الوجود من الكمال. فلا فرق بين الروحي والزمني، بين اللانهائي والنهائي، بين الخالق والمخلوق. وهو ما فعله أنصار وحدة الوجود من الصوفية المسلمين.

  • (جـ)
    إخضاع الإيمان للعقل، وجعل العقل أساسَ النقل.٧٥ صحيح أن العقل يعني أحيانًا الروح. ومع ذلك لا شيء يتجاوز العقل. جعل هيجل العقل كل شيء: الروح والجدل والتاريخ والفن بل والدين ذاته.
  • (د)

    تطور الدين كأي ظاهرةٍ طبيعيةٍ أو إنسانيةٍ إلى أن يصل إلى الدين المطلق وهو دين العقل والحرية. وهو الموقف الاعتزالي في علم الكلام الإسلامي، أول أصليْن، التوحيد والعدل، من الأصول الخمسة.

  • (هـ)

    يظهر الدين في حضارة. فلا فرق بين الدين الصيني أو الهندي أو الفارسي أو المصري القديم والحضارة الصينية أو الهندية أو الفارسية أو المصرية القديمة. وكذلك الأمر في الدين المسيحي والحضارة المسيحية، والدين اليهودي والحضارة اليهودية، والدين الإسلامي والحضارة الإسلامية.

  • (و)

    الدين مرادف للذاتية والحرية. فالدين انعكاس للتطور من الموضوعية الشيئية إلى الذاتية الفردية. فلُبُّ الدين هو الإنسان. وهو ما سيخرج به فيورباخ في «جوهر المسيحية» عندما ينتقل الدين من الثيولوجيا إلى الأنثروبولوجيا.

  • (ز)

    ارتباط الدين بالفن. فالدين ظاهرة فنية في الترانيم والصور والعمارة واللباس. يدخل في القلب عن طريق الفن كما دخل القرآن الكريم قلوب العرب الأوائل عن طريق الشِّعر. له حلاوة وعليه طلاوة. به موسيقى الشعر، وإيقاع النغم؛ ومن ثم يكون تناقضًا تحريم الفن باسم الدين، الموسيقى أو الغناء. وقد كتب كثيرون عن «التصوير الفني في القرآن الكريم». كما أن فن «الأرابيسك» هو تحويل النهائي إلى لا نهائي عن طريق تكرار الأشكال الهندسية.

(٢) بعض الجوانب المحافظة في فلسفة هيجل

وكل مَن يتعامل مع الدين يفهمه بطريقتَين: الثابت والمتحول، العقيدة والشريعة، الغيبيات أم الحسيات، الزمن الآني أم الزمن الحاضر، في الخلود أم في الزمان.

  • (أ)

    وتتمثل الجوانب المحافظة في الهيجلية في الدفاع عن الدين ضد العقلانية النقدية كما كان في العصر الوسيط. وانتهى إلى تبرير العقائد المسيحية خاصة التثليث بالجدل الثلاثي والتجسُّد بالروح في التاريخ. وهو موقف كانط بالرغم من استعماله لفظ «نقد» في الكتب النقدية الثلاثة «نقد العقل الخالص»، «نقد العقل العملي»، «نقد ملكة الحكم». وهو في الحقيقة عقل تبريري يتمثل في التمييز بين القبلي والبعدي أو الشيء في ذاته والظاهر؛ فالقبلي هو الإيمان أو الشيء في ذاته. والبعدي هو العقل أو الظاهر. ويصرح بذلك في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب «نقد العقل الخالص»: «كان لزامًا عليَّ هدم قواعد المعرفة لإفساح المجال للإيمان».

  • (ب)

    تبرير وجود الكنيسة باعتبارها الروح في التاريخ بعدما قضى لوثر على سلطتها. فالكنيسة لديه هي التي تمثل الروح القدس الذي يربط بين الأب والابن. كما قام هيجل بتبرير كل الطقوس التي تقوم بها الكنيسة وهي سبعة، من طقس العماد وحتى طقس الوفاة. وهي طقوس رومانية خالصة لا شأن لها بالمسيحية.

  • (جـ)

    معاداة فلسفة التنوير لموقفها الرافض من الدين مع أنها رفضت شيئًا وقبلت شيئًا آخر هو جوهر الدين، الحرية والإخاء والمساواة أو العقد الاجتماعي أي الديموقراطية ضد السلطة الدينية والسياسية. وما زالت تعيش حتى الآن. وأنبتت الثورة الأمريكية ضد الاستعمار البريطاني. فظهرت في كل ثقافةٍ بما في ذلك الثقافة العربية المعاصرة حتى إن لفظ التنوير الآن أصبح كلمة سرٍّ لكل تقدمٍ. ويظهر التنوير الفرنسي أكثر جرأةً من التنوير الألماني الذي ما زال مرتبطًا بالمسيحية والكنيسة والدولة.

  • (د)

    معاداة النقد التاريخي للكتب المقدَّسة بدعوى أن هذا نقد للحرف وليس للروح، للجسد وليس للنفس كما يقول محمد عبد الوهاب في أغنية «عاشق الروح» في آخر فيلم «غزل البنات»: «وعشق الروح مالوش آخر، لكن عشق الجسد فاني».

  • (هـ)

    لا تخلو الهيجلية من نزعةٍ قوميةٍ وربما عنصرية. فالتطور ينتهي إلى ألمانيا، والدولة البروسية هي الروح في التاريخ وظل الله في الأرض. فالوحدة التي هي قلب الهيجلية هي وحدة الشعب الألماني وليس فقط وحدة الفكر والوجود. ليست وحدة ميتافيزيقية بل وحدة شعب لديه نابليون بونابرت وليس فقط الشعب الفرنسي. وكل شعب يود إقامة إمبراطورية عالمية تحت إمرته وليس فقط الشعب الفرنسي. وفرق بين فيلسوف التبرير مثل هيجل وفيلسوف الثورة مثل فولتير.

  • (و)

    كثرة التقسيمات وتشعُّب التفريعات أدت إلى غلبة التصنيف على الفكر. كان لا بد لهيجل أن يجمع بين تصنيف الديانات خاصة الآسيوية والأفريقية ويجعل لها مكانًا في تفريعاته وتقسيماته. فكان من الصعب التمييزُ بين تاريخ الأديان وفلسفة الدين. وبطبيعة الحال لم يأخذ الإسلام مكانًا إلا كدين المحدود وليس في تطور الدين المطلق، على عكس جوته المعاصر له الذي أدرك جوهر الإسلام ورسالة الرسول في «الديوان الشرقي للشاعر الغربي».

١  كنت أريد أن أحوِّل قسم الفلسفة بآداب القاهرة من النقل إلى الإبداع، وتكوين مدارس فلسفية فيه وليس فقط التدريس والتصحيح. أردت تكوين مدرسة هيجلية. فقدمَت فريال حسن خليفة رسالتها للدكتوراه عن «فلسفة الحق»، ويوسف سلامة (سوريا) رسالته عن هيجل، و«فلسفة الدين عند هيجل» لمحمد عثمان الخشت، د. أحمد عبد الحليم رسالته عن فيورباخ، د. أيمن محمد أحمد رسالته عن شترنر وباور وشتراوس. ثم تغير نظام الدراسات العليا ناقلًا النظام الأمريكي باسم الجودة والساعات المعتمدة، ضرورية واختيارية لمدة عام للماجستير وعامين للدكتوراه ثم تقديم رسالةٍ صغيرة. معظمها منقول من شبكة الإنترنت. فأصبح همُّ الطالب الحصول على تقدير A في الساعات المعتمدة ونقْل الرسالةِ مما هو متوافر في شبكة المعلومات. فتوقفتُ عن الإشراف على الرسائل. كما توقفتُ من قبل عن التدريس في مرحلة الليسانس لظروفٍ صحية. وكان يمكن ضم د. إمام عبد الفتاح إمام الذي قضى عمره كتابة وترجمة لهيجل مثل «علم المنطق عند هيجل» وترجمة «العقل في التاريخ»، انظر: ذكريات (١٩٣٥–٢٠١٨م)، ٨– رئاسة القسم ومحاولة تكوين مدارس فكرية (١٩٨٧–١٩٩٥م).
٢  ذكريات (١٩٣٥–٢٠١٨م)، ٣– السفر إلى فرنسا.
٣  يعتبر هذا الكتاب مثل غيره: فشته، فيلسوف المقاومة، برجسون فيلسوف الحياة من شروح «علم الاستغراب» بالإضافة إلى الترجمات: «رسالة في اللاهوت والسياسة» لاسبينوزا، «تربية الجنس البشري» للسنج، «تعالي الأنا موجود» لسارتر، «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط»، «المعلم» لأوغسطين، «أُومِن کي أعقل» لأنسليم، «الوجود والماهية» لتوما الأكويني. بالإضافة إلى عدة دراساتٍ في قضايا معاصرة (الجزء الثاني) في الفكر الغربي، ودراسات فلسفية (الجزء الثاني)، ويظل التخطيط العام للجبهة الثانية من مشروع التراث والتجديد «موقفنا من التراث الغربي» هو «مقدمة في علم الاستغراب».
٤  الإحالة فقط إلى اسم الكتاب رمزًا، ورقم الجزء، ورقم الصفحة دون نصوصٍ. وربما يكون ذلك رد فعلٍ على إرهاقي بنصوص الهوامش وهي آيات القرآن الكريم فيما انتهيت منه وهو «النص والواقع، التفسير الموضوعي للقرآن الكريم»، القاهرة، ٢٠١٨م.
٥  انظر كتابنا: الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي.
٦  Hegel: Le Christianism et son destin: introduction par jean Hyppolite, tradction de Jacques Martin, Vrin, Paris, 1948, p. 126.
٧  Hegel: op. cit., pp. 3–27.
٨  Ibid., pp. 35–38, pp. 58–68, 78, pp. 101–239.
٩  Ibid., p. 124.
١٠  Ibid., pp. 55–75, 78–87–96.
١١  Ibid., pp. 26–34, 43–53.
١٢  وهما الجزآن الأولان في «نقد العقل العربي» لمحمد عابد الجابري.
١٣  التفسير الموضوعي، الباب الثامن، الوعي والتاريخ.
١٤  Ibid., pp. 193–320.
١٥  Ibid., pp. 10–34.
١٦  Ibid., pp. 206–225.
١٧  Hegel: Early theological writings, trans. By Tom. Knox, p. 67.
١٨  Hegel: Permiers Publications Difference des systemes phiolophiqyes de Fiechte et de schelling. Foi et savoir. Tradiction, Introduction et notes par Marcel Mery. Vria, Paris, 1952.
١٩  Hegel: Les systemes phiolophiqyes de Fiechte et de schelling. par rapport aux contributions de Reienhold. A. une vie d’ensemble plus aussi surneuviem saecle, 1980, pp. 77–190.
٢٠  انظر كتابنا: فشته فيلسوف المقاومة.
٢١  Ibid., pp. 79–108.
٢٢  Ibid., pp. 109–138.
٢٣  Ibid., pp. 130–154.
٢٤  Ibid., pp. 155–192.
٢٥  Hegel: Earlier Politiques, Ed Champ Libre, Bern, 1977.
٢٦  Hegel: La Phenomenologie de L’esirit (2 vols), Trad. Jean Hyppolite, Aubier, Paris.
٢٧  مثل «فشته فيلسوف المقاومة»، و«برجسون، فيلسوف الحياة»، وكتاب «التراث والتجديد» الذي على ثلاثة مستويات؛ الأول: مستوًى علمي خالص للمتخصصين لإعادة بناء العلوم الإسلامية القديمة في «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم» (الجبهة الأولى)، «من العقيدة إلى الثورة» (علم الكلام)، «من النقل إلى الإبداع» (علوم الحكمة)، «من النص إلى الواقع» (علم أصول الفقه)، «من الفناء إلى البقاء» (علوم التصوف)، «من النقل إلى العقل» (العلوم النقلية الخمسة: القرآن، الحديث، السيرة، التفسير، الفقه)، «مقدمة في علم الاستغراب» (الجبهة الثانية، الموقف من الغرب)، «التفسير الموضوعي للقرآن الكريم» (الجبهة الثالثة، الموقف من الواقع). ثانيًا: المستوى الثقافي لجموع المثقفين مثل «قضايا معاصرة» (جزآن)، «هموم الفكر والوطن» (جزآن)، «حصار الزمن» (ثلاثة أجزاء)، دراسات إسلامية، «دراسات فلسفية»، جمال الدين الأفغاني، «شخصيات وقضايا»، «هيجل والهيجليون الشبان». والمستوى الثالث هو المستوى الشعبي العام في الثقافة السياسية مثل «الدين والثورة في مصر» (ثمانية أجزاء)، «الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي»، «من منهاتن إلى بغداد»، «جذور الاستبداد وآفاق الحرية»، «وطن بلا صاحب»، «نظرية الدوائر الثلاث»، «الواقع العربي المعاصر»، «الثورة المصرية في أعوامها الخمسة الأولى (٢٠١١–٢٠١٦م)»، «مصير الربيع العربي، الثورة المصرية في أعوامها السادس والسابع والثامن (٢٠١٦–٢٠١٨م)»، «أمريكا، الأسطورة والحقيقة».
٢٨  التفسير الموضوعي، القاهرة، ٢٠١٨م.
٢٩  حسن حنفي: حكمة الإشراق والفينومينولوجيا، دراسات إسلامية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٢م.
٣٠  برجسون، فيلسوف الحياة، القاهرة.
٣١  Ibid., p. 195.
٣٢  Ibid., II, pp. 103–116.
٣٣  Ibid., II, pp. 343–549.
٣٤  Hegel: Propédeutique Philosophique, Trad. Maurice de Gandillace, Ed. De Minss.
٣٥  Ibid., pp. 15–88.
٣٦  Ibid., pp. 89–138.
٣٧  Ibid., pp. 89–138.
٣٨  Hegel: encyclopedia of the philosophical sciences, 1817.
٣٩  Ibid., pp. 137–214.
٤٠  Ibid., pp. 215–310.
٤١  Hegel: Lectures on his history of philosophy (Svds). Trans. By E. S. Holdare, university of Nebraska Press, Nilcon and London, 1995.
٤٢  Ibid., pp. 10–116.
٤٣  Nakamura: Histoire Parallel.
٤٤  Ibid., pp. 149–487.
٤٥  Ibid., pp. 1–116.
٤٦  Ibid., pp. 119 ff.
٤٧  Ibid., pp. 313–453.
٤٨  Ibid., pp. 1–169.
٤٩  Ibid., III,. pp. 10 ff.
٥٠  Ibid., p. 110.
٥١  Hegel: Lectures sur la philosophie de l’historie, Trad. Gibelin, Virn, Paris, 1945, pp. 7–99.
٥٢  Ibid., pp. 103–201.
٥٣  Ibid., pp. 205–252.
٥٤  Ibid., pp. 253–400.
٥٥  Hegel: La raison dans l’historie, Introduction a la philosophie de l’historie, Trad. Kostos Radiannqu. Coll. Le Mondien, pp. 10–18.
٥٦  Ibid., pp. 2–164.
٥٧  Ibid., pp. 165–215.
٥٨  Ibid., pp. 165–215.
٥٩  Hegel: Esthetique (3 vols), Idee de l’Ideal, Trad., J. Q. Aubien, Paris, pp. 1–49.
٦٠  Ibid., pp. 123–234.
٦١  Ibid., pp. 285–335.
٦٢  Ibid., II, pp. 11–73.
٦٣  Ibid., pp. 74–174.
٦٤  Ibid., pp. 149–247.
٦٥  Ibid., pp. 245–335.
٦٦  Ibid., III, 1, pp. 31–88.
٦٧  Ibid., III, 1, pp. 81–100.
٦٨  Ibid., III, 1, pp. 101 ff.
٦٩  Ibid., pp, 210–299.
٧٠  Ibid., III, pp. 11 ff.
٧١  Ibid., IV, p. 212.
٧٢  Ibid., III, pp. 213–261.
٧٣  قضايا معاصرة ﺟ٢، ص١٧١-٢١٦.
٧٤  انظر: «من النص إلى الواقع»، محاولة لبناء علم أصول الفقه، الوحي والواقع، دمشق.
٧٥  انظر من النقل إلى العقل (خمسة أجزاء)، القاهرة، ٢٠١٤–٢٠١٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤