الفصل الثالث عشر

قوة المريض

الخطة الطبية الجديدة الموجَّهة بالمستهلك

لا تنطبق المبادئ الأساسية للسوق على الرعاية الصحية اليوم؛ فالأسعار لا تتحدد وفق العرض والطلب.

«طريد أمريكا الاقتصادي: منظومة الرعاية الصحية الأمريكية»
نيويورك تايمز، ٢٦ أكتوبر، ١٩٩٣

إن منظومتنا للرعاية الصحية هي مزيج من سوقٍ حرةٍ محدودة، وجميع أنواع التدخلات واللوائح الحكومية، وهي تزداد ضَعفًا وتخلفًا … ولكن حسابات المدخرات الصحية هي الحل الذي يمكنه حل مشكلة الرعاية الصحية برُمَّتها.

جون ماكي، المدير التنفيذي لشركة هول فودز ماركت

مع تَحوُّل الرعاية الصحية إلى قضيةٍ قومية، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» قصة غلافٍ تزعم أن منظومة الرعاية الصحية الأمريكية «تعمل بشبه إغفالٍ كاملٍ للمبادئ الاقتصادية الأساسية»؛ ولذلك تستحق معالجةً خاصةً من جانب الحكومة. وزعم الصحفي أن «الأسعار تتحدد وفق العرض والطلب أو وفق المنافسة الدائرة بين المنتجين. والتسوق بالمقارنة أمر مستحيل، فالإنتاجية الأعلى لا تخفض التكاليف.» فتكاليف الرعاية الصحية تتصاعد على نحوٍ سريعٍ في الولايات المتحدة، وتُمثِّل الآن ١٥ بالمائة من الدخل القومي، وهي أعلى نسبةٍ في أي دولة.

ولكن هل الخدمات الطبية المقدَّمة حقًّا على هذا القدر من الاختلاف عن الصابون، أو السيارات، أو تذاكر مباريات البيسبول؟

لِنَعُدْ مرةً أخرى إلى مبادئ الاقتصاد لتحليل الجدل الدائر حول الرعاية الصحية، ولسوف نرى أن العرض والطلب، على عكس ما صرَّحتْ به «نيويورك تايمز»، يلعبان دورهما بشكلٍ تامٍّ في مجال الرعاية الصحية. والحقيقة هي أن التكاليف الطبية تتصاعد على نحوٍ سريعٍ والكثير من الناس عاجزون عن الحصول على التغطية المعقولة؛ لأن المبادئ الاقتصادية المحددة في الفصل الأول لا يُتاح لها العمل كما ينبغي؛ فمستوى المنافسة، والحوافز، والمحاسبة ليس بالارتفاع الذي ينبغي أن يكون عليه في أي اقتصادٍ حر.

لمَ تتزايد تكلفة الرعاية الصحية بهذه السرعة؟ إن العرض، بشكلٍ عام، لا يتواكب مع الطلب. وهناك أسباب عديدة لذلك؛ أولًا: تزايد الطلب من برامج الرعاية الطبية والتأمين الصحي «المجانية» أو «المنخفضة التكلفة»، الذي يُعَدُّ مسئولًا عن ٦٥ بالمائة من إجمالي النفقات الطبية. ثانيًا: القيود المفروضة من جانب الجمعية الطبية الأمريكية على عدد الطلاب المقبولين بكلية الطب، والحدود المفروضة على نوعية الخدمات المسموح بها للممرضات، وموظفي الإسعاف، وممارسي التمريض، ومساعدي الأطباء. ثالثًا: نظام الدفع عبر طرفٍ ثالث، الذي يفصل المستخدم عن المتكفل بدفع التكلفة.

والإخفاق الأكبر الذي تواجهه سوق الرعاية الصحية يتعلق بمن يتحمل التكلفة. لقد كانت العلاقة الطبيعية بين المستفيدين والدافعين منقطعة إلى حدٍّ كبير؛ فمبدأ المستخدم يقضي بأن المستفيدين من خدمةٍ ما ينبغي أن يدفعوا مقابلها؛ فأنت إذا اشتريت رغيفًا واحدًا من الخبز، تدفع دولارًا مقابله، وإذا اشتريت رغيفين، تدفع دولارين. ولكن في مجال الرعاية الصحية القائم اليوم، إذا ذهبت إلى الطبيب، يتكفَّل شخص آخر بالدفع، إما شركتك، وإما شركة التأمين، وإما الحكومة.

وحين لا يدفع الناس، مباشرةً، مقابلَ الخدمات أو المنتجات التي يستخدمونها، توجد نزعة نحو الاستخدام المفرط للمزايا المتاحة وحافز أقل لتقليل التكلفة. والصلة هنا بديهية: إذا استفدت بخدمات طبيب، فلا بد أن تدفع مقابلها. وإذا استفدت بالمزيد منها، ينبغي أن تدفع أكثر. وإذا استفدت بأقل، لا ينبغي أن تدفع نفس المبلغ الذي يدفعه شخص يستفيد بالمزيد.

وللأسف، العلاقة بين الدافعِين والمستفيدين تنهار؛ ففي المزيد من الحالات، لا يدفع مرضى برنامج الرعاية الطبية الفاتورة، ويتكبَّدها دافعو الضرائب. ولا يدفع العملاء المستفيدون بالخدمات الطبية وزيارات الأطباء الفاتورة، وتتحمَّلها شركة التأمين المتعاقدة مع الشركة. ولعل من مصادر الإزعاج الأساسية انتشارَ استخدام التأمين الطبي الذي تتكفَّل به جهة العمل لدفع مقابل زيارات الطبيب الروتينية كذلك؛ فحين يعلم الموظفون أن شخصًا آخر — شركة التأمين — سوف يتكفل بسداد الفاتورة، يكون هناك حافز أقل للبحث عن أفضل سعر وتحجيم عدد الزيارات للطبيب أو غرفة طوارئ المستشفى. ولحسن الحظ، تحاول شركات التأمين بالفعل الحفاظ على شكلٍ من أشكال الرقابة على التكاليف على المستشفيات وخدمات الأطباء، ولكن المنظومة الحالية أقلُّ من مثالية؛ فالمنظومة في مأزق، للأسف؛ نظرًا لعدم قيام شركات التأمين برد نفس المبلغ المدفوع لإجراءاتٍ طبيةٍ مماثلةٍ للأطباء؛ فشركات التأمين تُحدِّد ما ستدفعه، وفقًا لمجموعةٍ من العوامل، من بينها الكيفية التي تُستوفى بها الإجراءات الكتابية. وحين تدفع شركات التأمين القليلَ للأطباء، يعمدون للبحث عن بدائل.

في المقابل يرد الأطباء على ذلك، إما بتحديد عدد مرضى الرعاية الطبية الذين يفحصونهم كل يوم، أو برفض التعامل مع شركات التأمين كليةً. والعديد من الممارسين الآن يقبلون المرضى الذين يدفعون للطبيب مباشرة، ولا بد أن يستردوا ما يدفعونه من قِبل شركات التأمين.

هل الرعاية الصحية الشاملة هي الحل؟

يؤيد الكثير من السياسيين والمثقفين تبنِّيَ ما تتبنَّاه معظم الدول الأخرى: رعايةً صحيةً شاملةً ونظامَ دافعٍ واحد. في الواقع، سوف تعني هذه السياسة أن كل فردٍ سوف يحمل تأمينًا صحيًّا تحت مظلة خطةٍ واحدةٍ تقوم على إدارتها الحكومة الفيدرالية. وتُسمَّى «الدافع الواحد»؛ لأن الحكومة الفيدرالية تُحرِّر الشيكات الخاصة بفواتير الخدمات الطبية. ووفقًا للمؤيدين، فإن نظامًا شاملًا ذا دافعٍ واحدٍ من شأنه تقليل التكاليف والروتين بالفعل.

ولكن الرعاية الصحية الشاملة تنتهك النصفَ الثانيَ من مبدأ الرعاية الاجتماعية في علم الاقتصاد، ألا وهو أنها تُقدِّم ميزةً من ميزات دافعي الضرائب لأشخاصٍ ليسوا بحاجةٍ إلى تغطيةٍ تأمينية. فهل يتعين على دافعي الضرائب سداد الفواتير الطبية لبيل جيتس، أو ديفيد روكفِلر، أو — بهذا الصدد — أي شخصٍ يربح أكثر من ١٠٠ ألف دولارٍ مثلًا؟ معظم الناس سوف يقولون: لا، لا ينبغي علينا أن ندفع دعمًا للأغنياء! غير أن هذا بالضبط هو ما يفعله أي نظامٍ للرعاية الصحية الشاملة؛ فهو يجبر الجميع على الانضمام إلى البرنامج من أجل الدفع له (من خلال الضرائب)، حتى هؤلاء الذين يستطيعون تحمُّل تكاليف تأمينهم الصحي الطبي.

ما مدى جودة نُظم الرعاية الصحية البريطانية والكندية؟

غالبًا ما ينظر مؤيدو نظام الدافع الواحد إلى بريطانيا وكندا باعتبارهما مصدرًا للبدائل الناجحة. أُنشئت هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية من قِبل الاشتراكيين حين تولَّوُا الحكم بعد الحرب العالمية الثانية. تحت مظلة هيئة الخدمات الصحية الوطنية، لا يدفع المرضى مباشرةً مقابل الخدمات الطبية أو خدمات المستشفيات؛ إذ يتم سداد جميع التكاليف من جانب الحكومة البريطانية. ولسنواتٍ عديدةٍ كانت هيئة الخدمات الصحية الوطنية تُعَدُّ واحدةً من أفضل نُظم الرعاية الصحية في العالم. ولكن الأمر لم يَعُدْ كذلك؛ فمع الطلب غير المحدود على الخدمات بسعرٍ هامشيٍّ منعدم، يجري الآن ترشيد الخدمات الطبية المقدَّمة في المستشفيات الحكومية وعيادات الأطباء. وفي بعض مستشفيات لندن، عادةً ما ينتظر المرضى لأكثر من ١٢ ساعةً للعرض على طبيب. (أعرف هذا من واقع التجربة الشخصية، حين كانت أسرتنا تعيش في لندن ذات صيف، وحين أُصيب ابني ذو الأعوام الثمانية إثر سقوطه، أخذناه إلى أحد مستشفيات هيئة الخدمات الصحية الوطنية وانتظرنا لثماني ساعاتٍ قبل أن نستسلم في النهاية ونعود إلى المنزل.)

جدول ١٣-١: متوسط فترة الانتظار لتَلقِّي العلاج من قِبل اختصاصيٍّ في كندا. (المصدر: معهد فريزر، فانكوفر، كولومبيا البريطانية، كندا.)
التخصص متوسط فترة الانتظار (بالأسابيع)
عظام ٣٢٫٢
جراحات التجميل ٢٨٫٦
عيون ٣٠
نساء وتوليد ١٥٫٣
أنف وأذن وحنجرة ١٦٫٤
مسالك بولية ١٣
جراحة الأعصاب ٢٠٫١
جراحة عامة ١٠٫٣
باطنة ١١٫١
القلب والأوعية الدموية ١٤٫١

ارتفع إجمالي الفريق الإداري في هيئة الخدمات الصحية الوطنية بسرعة الصاروخ إلى ٣٫١ موظفين لكل مريض، ولكن هذا المعدل المستحسن ظاهريًّا لم يُجْدِ مع مشكلة العجز؛ لأن هؤلاء الموظفين جزء من البيروقراطية ولم يتم تعيينهم من أجل علاج المرضى. ومنذ عام ١٩٤٨، انخفض عدد الأَسرَّة لكل ألف شخصٍ بمعدل النصف. ودائمًا ما تُبرز الصحف البريطانية قصصًا لعملياتٍ جراحيةٍ غير متقنةٍ ومرضى متروكين بلا رعايةٍ في ردهات المستشفيات.

ماذا عن كندا؟ يشير بعض المؤيدين إلى كندا باعتبارها نموذجًا مثاليًّا لخطة الدافع الواحد؛ فالحكومة تتحمل فاتورة النفقات الطبية كاملةً نيابةً عن الكنديين. ويُعَدُّ نظامهم منخفِضَ التكلفة. وتُخصِّص كندا ٩٫٥ بالمائة فقط من دخلها القومي للرعاية الصحية، مقارنةً ﺑ ١٥ بالمائة في الولايات المتحدة.

ولكن التكلفة المنخفضة تُعزى إلى حدٍّ كبيرٍ إلى فشلٍ في مواكبة التكنولوجيا الطبية وأحدث الأجهزة والإجراءات الطبية. وتصنف ضمن الثلث السفلي من الدول المتطوِّرة فيما يتعلق بتوافر التكنولوجيا، مثل آلات التصوير بالرنين المغناطيسي أو ماكينات غسيل الكُلى. وكما يوضِّح الجدول (١٣-١)، هناك فتراتُ انتظارٍ طويلةٌ لتَلقِّي العلاج على يد اختصاصيٍّ في كندا.

ولا غرابة في أن الكنديين الذين يحتاجون إلى علاجٍ وجراحةٍ متخصصَيْن يتجهون جنوبًا إلى الولايات المتحدة؛ حيث وقت الانتظار في أدنى حدوده، وأحدث التكنولوجيا الطبية متوافرة، هذا إذا كنتَ على استعداد لتحمُّل تكاليف العلاج بنفسك.

باختصار، حينما تسمع مرشحًا أو قائدًا سياسيًّا يقول: «نحن بحاجةٍ إلى رعايةٍ صحيةٍ شاملة»، يمكنك أن تتأكد من أن ذلك الشخص لا يفهم الاقتصاد السليم.

الحل السوقي: تكاليف أقل، جودة أعلى، ودون انتظار

لكي نوضح كيف يمكن للرعاية الصحية أن تكون مجديةً لو اتبعت مبادئ السوق، تأمل مثالين: جراحة العيون بالليزر، وجراحة التجميل. لقد أصبحت معظم منتجات وخدمات الرعاية الصحية أكثر غلاءً، ولكن ليس جراحة العين بالليزر. لقد أُجريت جراحة الليزك أكثر من ثلاثة ملايين مرةٍ خلال العقد الماضي، وأصبحت أفضل بمرور الوقت. وتحظى عملية الليزك بأعلى معدل رضًا من جانب المرضى من أي جراحةٍ أخرى. وفي عام ١٩٩٨، كان متوسط سعر جراحة العين بالليزر نحو ٢٢٠٠ دولارٍ للعين الواحدة، وكانت النتائج مرتبكة. أما اليوم، فقد انخفض متوسط السعر إلى ١٣٥٠ دولارًا للعين الواحدة؛ أي بنسبة ٣٨ بالمائة، إلى جانب ازدياد رضا العملاء. لماذا أصبحت جراحة العين بالليزر أقل تكلفةً وأفضل، بينما صارت أشكال الرعاية الصحية الأخرى أكثر غلاءً؟ الأمر بسيط؛ فجراحة العين بالليزر لا يغطيها التأمين الخاص بنظام الدفع عن طريق طرفٍ ثالث، أو برنامج الرعاية الطبية، أو التأمين الصحي؛ وهكذا يكون لدى أطباء العيون حافز لتحسين التكنولوجيا المستخدَمة وتقليل التكاليف من أجل المنافسة على المرضى. وتُعَدُّ جراحة العين بالليزر واحدةً من الإجراءات الطبية القليلة في سوقٍ حرةٍ حقيقيةٍ من المنافسة السعرية واختيار المستهلك.

وتُعَدُّ جراحات التجميل مثالًا آخر أدَّت فيه المنافسة السعرية واختيار المستهلك إلى خفض الأسعار ورفع الجودة بمرور الوقت؛ فالمرضى يدفعون من مالهم الخاص مقابل جراحةٍ اختيارية؛ ومن ثَمَّ يُقيِّمون تكاليف وفوائد كل إجراء. كما أنهم يختارون طبيبهم بِناءً على الجودة والسعر، لا على كون الطبيب ضمن الشبكة أم لا؛ ومن ثَمَّ كانت الأسعار المعدلة في ضوء نسبة التضخُّم تنخفض كل عامٍ من ١٩٩٢ حتى ٢٠٠١.1

من المسئول؟

يُلقي كاتب مقال جريدة «تايمز» مسئولية مشكلات الرعاية الصحية في أمريكا على قطاع الأعمال الخاص، إلا أن السبب الحقيقي هو فشل الحكومة في ترك السوق تعمل بشكلٍ كامل. فحتى التأمين الطبي المدفوع من جهة العمل هو صنيعة الحكومة بشكلٍ ما، فارتفاع ضرائب الشركات يُشجِّع الشركات على تقديم مجموعةٍ كبيرةٍ من المزايا الإضافية، وهي مزايا تُخصم من الضرائب بالنسبة إلى الشركات ودخلٌ مُعفًى من الضرائب بالنسبة إلى الموظفين. واختارت الشركات تقديم هذه المزايا في الأساس من أجل خفض الضرائب.

قارنْ مجال الرعاية الصحية بمجال الطب البيطري. إن مراكز علاج الحيوانات لا تُعاني المشكلات التي تواجه مجال الطب البشري (التكاليف التصاعدية، البيروقراطية، فترات الانتظار الطويلة في المنشآت الطبية)، ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبيرٍ إلى كون معظم الخدمات البيطرية يُدفع مقابلها بشكلٍ مباشرٍ من قِبل أصحاب الحيوانات. ولطالما كان مجال طب الأسنان مثالًا جيدًا آخر؛ نظرًا لأن تكاليف معظم خدمات طب الأسنان ظلت لسنواتٍ تُدفع بشكلٍ مباشرٍ من قِبل المرضى، وكانت التكاليف يتم احتواؤها. ولسوء الحظ، صار المزيد من المؤسسات وشركات التأمين، بمرور الوقت، يُقدِّم تأمين الأسنان باستقطاعاتٍ منخفضة. ولا غرابة في تصاعد فواتير علاج الأسنان على نحوٍ سريعٍ بسبب نظام الدفع عن طريق طرفٍ ثالث.

كيفية حل مشكلة الرعاية الصحية

ما الذي ينبغي القيام به لتحسين الموقف؟ إن محاكاة برامج الصحة القومية في كندا وأوروبا لن تُجديَ نفعًا؛ لأنها تنتهك مبادئ السوق. (إذا أردت أن تعرف موطن الضعف في نظام الرعاية الصحية لكل دولة، فحلِّلْ كل نظامٍ وفقًا لمبادئ السوق.) كذلك لن تفيَ خطة هيلاري كلينتون للرعاية الصحية — التي عُرضت بإيجازٍ في عام ١٩٩٣ — بالغرض أيضًا؛ فقد جعلت خطة كلينتون تكلفة الخدمات الطبية متباينةً وفقًا لدخل المتلقِّي، وليس العرض والطلب؛ ولم يكن المستفيدون سيدفعون بشكلٍ مباشرٍ مقابل الخدمات الطبية، وكانت وكالة فيدرالية جديدة ستفرض ضوابط تكلفةٍ على الأدوية والخدمات الأخرى ذات الصلة على المستوى الطبي. وكان ذلك سيُسفر عن أزمات، وبيروقراطية، وتكاليفَ أعلى، وخدماتٍ منقوصة، وبحثٍ وتطويرٍ أقل. ولحسن الحظ أُجهضت الخطة.

تطبيق حسابات الادخار الصحي: قصة هول فودز

تُعَدُّ حسابات الادخار الصحي حلًّا عمليًّا للأزمة الطبية. وقد قام الكونجرس بتشريع حسابات الادخار الصحي في ٢٠٠٣ كجزءٍ من حزمة إصلاحات برنامج الرعاية الطبية. وقبل ذلك الحين، كانت تُسمَّى حسابات الادخار الطبية. وقام الرئيس بيل كلينتون بإقرارها في عام ١٩٩٦.

وحسابات الادخار الصحي هي حسابات مؤجلة الضرائب تتيح لك ادخار المال من أجل النفقات الطبية.

ولكي أوضح لك كيفية عمل حسابات الادخار الصحي، ولماذا كانت بهذا القدر من النجاح، دعني أستعنْ بمثالٍ لواحدة منٍ أنجح الشركات، وهي شركة «هول فودز ماركت»، التي تُعَدُّ أسرعَ سلاسلِ متاجرِ الغذاء الطبيعي نموًّا في العالم، وتُصنَّف في المركز الخامس في قائمة «فورتشن لأفضل ١٠٠ شركة للعمل لديها». حتى عام ٢٠٠٣، كان لدى هول فودز ماركت خطة متنوعة سخية في التأمين الصحي. كانت الخطة مكلفة، وبلا أي حوافزَ للاقتصاد والتدبير. وواجهت هول فودز عجزًا يُقدَّر ﺑ ٧ ملايين دولار في ٢٠٠٣؛ ما أجبرها على رفع قيمة الأقساط بنحو ٣٥ بالمائة. ولم يكن الموظفون (المعروفون بلاعبي الفريق) سعداء بخطة هول فودز الطبية.

كانت هول فودز واحدةً من أولى الشركات التي جرَّبت تطبيق حسابات الادخار الصحي لموظفيها. وللتأكيد على اتباع منهجٍ إيجابيٍّ في التعامل مع الرعاية الصحية، تطلق عليها الشركة «حسابات الصحة الشخصية».2 وتدفع الشركة ١٠٠ بالمائة من أقساط التأمين لجميع العاملين بدوامٍ كلي، الذين يتم تسجيلهم تلقائيًّا. غير أن هناك استقطاعاتٍ تتراوح بين ٣٥٠٠ و١٠٠٠ دولارٍ في النفقات الطبية، و٥٠٠ دولارٍ مستقطعة للأدوية التي تُصرف بوصفةٍ طبية، و٢٠٠٠ دولارٍ في الدفع المشترك. ولتغطية هذه الاستقطاعات، يُمنح كل عضوٍ في فريق العمل بالشركة بطاقة خصم ماستركارد يستطيع استخدامها من أجل الحصول على نفقات «الصحة» (ترصد الشركة مصروفات الماستركارد بدقةٍ للتأكد من أنها لا تُستخدم إلا للأغراض الطبية فقط).
إذا لم يستخدم الموظفون الاستقطاعات بأكملها، يتم تحويل الأموال المتبقية إلى حسابٍ للادخار الصحي، يتنامى دون الخضوع لأي ضرائبَ إلى أن يتم سحبه. وحسابات الادخار الصحي، بموجب القانون الجديد، قابلة للنقل؛ ومن ثَمَّ يمكن للعاملين أن يأخذوا حسابهم معهم إذا انتقلوا إلى شركةٍ أخرى. وهكذا تخلق حسابات الادخار الصحي حافزًا للعاملين كي يصبحوا مستهلكين أذكياءَ للرعاية الصحية؛ لأن بإمكانهم الاحتفاظَ بأي أموالٍ تتبقَّى. ولديهم خياران للتعامل مع أموال حساب الادخار الصحي التي لم تُنفَق:
  • بإمكانهم ادخار الأموال (المعفاة من الضرائب) للنفقات الطبية المستقبلية في حساباتٍ ذات فوائدَ تتراكم دون الخضوع لضرائب.

  • بإمكانهم سحب الأموال من حساب الادخار الصحي في نهاية السنة، ما داموا يحتفظون بحدٍّ أدنى من الرصيد.

أما الأموال التي يتم سحبها لأغراضٍ غير طبية، فسوف تكون خاضعةً للضرائب بشكلٍ كاملٍ وخاضعةً لغرامةٍ ضريبيةٍ قدرُها ١٥ بالمائة. يقول المدير التنفيذي جون ماكي: «بعض أفراد فريقنا سوف يوضع في حساباتهم ٨٠٠٠، و٩٠٠٠، بل ١٠٠٠٠ دولار. ليس عليهم أن يقلقوا من الإفلاس جراء المشكلات الطبية.»

وجاءت النتائج استثنائية؛ فقد انخفض معدل تغيير العمالة إلى نحو ٢٠ بالمائة، وصارت التكاليف الطبية للشركة تحت السيطرة؛ فنحو ٧٤ بالمائة ينفقون أقل من ٥٠٠ دولارٍ على حساب الادخار الصحي خاصتهم، و٤٥ بالمائة من الموظفين لا يستخدمون حساب الادخار الصحي الخاص بهم مطلقًا. لماذا لا يستخدمونه؟ لأن لديهم الحافز ليظلوا أصحاء، ولا يُهرعون إلى الطبيب كلما سعلوا.

إن موظفي هول فودز ماركت لديهم الحافز للبحث من أجل الحصول على أفضل صفقةٍ فيما يتعلق بالخدمات الطبية؛ فالاستقطاعات المرتفعة تُقلل الأقساط التأمينية بينما تغطي الموظفين فيما يتعلق بالأمراض أو الإصابات المفجعة. كما يتم تشجيعهم على تناول الأطعمة الصحية وممارسة الرياضة. ومن خلال الحد من عدد الزيارات للأطباء والمستشفيات، يمكنهم ادخار المال في حساب الادخار الصحي خاصتهم. ويطلق جون ماكي على ذلك «نموذج مشجع».3

وفقًا لشركة فورستر للأبحاث، سوف تضم سوق التأمين الصحي، بحلول عام ٢٠١٠، برامج صحية يُحرِّكها المستهلك (حسابات الادخار الصحي). إنها مستقبل الرعاية الصحية الأمريكية.

وفيما يلي بعض الطرق التي يمكن للاقتصاد التطبيقي من خلالها تحسين جودة الرعاية الصحية وتقليل تكلفتها:
  • (١)

    زيادة الأطباء من خلال فتح الأبواب لمزيدٍ من الطلاب للالتحاق بكلية الطب.

  • (٢)

    زيادة تنوُّع الرعاية الطبية. يجب منح ممارسي التمريض ومساعدي الأطباء مزيدًا من الصلاحيات لافتتاح عياداتٍ وتقديم الرعاية الطبية العامة للاحتياجات الصحية الأساسية مثل عدوى الأذن، والجروح البالغة، والإنفلونزا.

  • (٣)

    السماح للسوق بتحديد الأسعار، وليس شركات التأمين.

  • (٤)

    إصلاح قوانين التقصير المهني: تحجيم أحكام أخطاء الممارسة لتقليل التأمين ضد أخطاء الممارسة.

  • (٥)

    المصارحة الكاملة: اجعل معرفة إن كان أحد الأطباء قد تعرَّض للتقاضي أو أُدين بالإهمال المهني أمرًا أكثر سهولة.

إن الحل لأزمة الرعاية الصحية هو الحد من التدخُّل الحكومي لأقصى حد، وليس توسيع نطاقه؛ فالتأمين الخاص سيكون كفيلًا بحل المشكلة وحده من خلال الاستقطاعات المرنة وإجراءات الدفع المشترك، وهو ما سيكون من شأنه تشجيع المنافسة والبحث عن أقل التكاليف، وتحفيز تحقيق مزيد من التطويرات الطبية، وتشجيع الرعاية الوقائية وممارسة التمارين الرياضية. وحينها ستكون الولايات المتحدة مطمئنة على وضعها باعتبارها الدولة صاحبة منظومة الرعاية الصحية الأفضل في العالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤