الفصل الخامس عشر

معرض أسلحة شيكاجو

وفقًا للمنهج الاقتصادي، يستجيب المجرمون، كغيرهم، للحوافز.

جاري بيكر1

يعتقد اقتصاديو شيكاجو أن الاقتصاد شديدُ القوة ويمكن أن يُستخدم لتحليل أي شيءٍ تقريبًا.

طالب بجامعة شيكاجو2

ها هم «صبية شيكاجو» يعودون مرةً أخرى. وفي هذه المرة يتصدَّر أساتذة الاقتصاد بجامعة شيكاجو عناوين الصحف في النقاش الخلافي المحموم الدائر اليوم حول عقوبة الإعدام والرقابة على الأسلحة. لقد أرسى ميلتون فريدمان القاعدة العامة منذ جيلٍ كاملٍ بالإصرار على نشاطٍ تجريبيٍّ شديد الدقة لدعم نظريةٍ وسياسةٍ اقتصاديةٍ سليمة (وإن كانت غير مرغوبةٍ في الغالب). ومؤخرًا قام جاري بيكر بتوسيع نطاق التحليل الاقتصادي على طراز شيكاجو ليشمل المشكلات الاجتماعية المعاصرة، مثل التعليم، والزواج، والتمييز، والرياضات الاحترافية، والجريمة.

يكمن الأساس الذي يستند إليه تحليل بيكر في مفهومٍ اقتصاديٍّ أساسي، وهو قانون الطلب: إذا ارتفع سعر سلعة، يعمد الناس إلى الحدِّ من استهلاكها. وفي حالة النشاط الإجرامي، إذا ارتفعت تكلفة وخطورة ارتكاب جريمةٍ ما، فسوف يقل عدد الجرائم المرتكَبة. وغالبًا ما يشار إلى ذلك بمبدأ حافز السوق. وأوضح بيكر أن زيادة تكلفة الجريمة من خلال أحكامٍ أشد بالسجن، ومحاكماتٍ أسرع، ومعدلات إدانةٍ أعلى تُقلِّل بشكلٍ فعالٍ من عدد المجرمين الذين يرتكبون جرائم السطو، أو السرقة، أو الاغتصاب.3

هل عقوبة الإعدام رادعة للجريمة؟

تشير دراسات حديثة إلى أن إعادة صياغة عقوبة الإعدام في كثيرٍ من الولايات أدَّى إلى انخفاضٍ بنسبة ٣٨ بالمائة في معدلات القتل. ويخلص بحث جديد أجراه اقتصاديون، بعضهم بجامعة شيكاجو، إلى أن كل إعدامٍ يُنفَّذ يردع ما بين ثلاثٍ إلى ثماني عشرة جريمة قتل محتملة.4
وقد أظهرت ورقة بحثية للورانس كاتز، وستيفن دي ليفيت، وإلين شوستوروفيتش، نُشرت في عام ٢٠٠٣ في جريدة «ذي أمريكان لو آند إيكونوميكس ريفيو» وجودَ «علاقة سلبية قوية» بين حالات الوفاة في السجن (بسبب الإعدامات أو لأسبابٍ أخرى) ومعدل الجريمة في المجتمع: «ما بين ٣٠–١٠٠ جريمة عنف وعدد مماثل من جرائم الممتلكات» رُدعت لكل حالة وفاةٍ بالسجن.5
ولخصت قصة غلافٍ نُشرت مؤخرًا في «نيويورك تايمز» ما يقرب من عشر دراسات عن العلاقة بين عقوبة الإعدام والجريمة، فكتبت تقول: «تقارن الدراسات التي أجراها الاقتصاديون خلال العقد الماضي عددَ الإعدامات المنفَّذة في نطاق الاختصاصات القضائية بمعدلات الانتحار بمرور الوقت — مع محاولة استبعاد تأثيرات معدلات الجريمة، ومعدلات الإدانة والعوامل الأخرى — وتقول إن معدلات جرائم القتل تميل إلى الانخفاض مع ارتفاع تنفيذ أحكام الإعدام.»6
ويبدو أن دراسات الاقتصاديين قد غيَّرت اتجاهها لصالح عقوبة الإعدام؛ فقد كتب اثنان من أساتذة القانون، هما كاس آر صنشتاين (بجامعة شيكاجو) وأدريان فيرميول (من جامعة هارفارد) في جريدة «ستانفورد لو ريفيو» أن «الأدلة الأخيرة على وجود تأثيرٍ رادعٍ لعقوبة الإعدام تبدو رائعة، ولا سيما في ضوء «قوتها وإجماعها الظاهرَين … إن عقوبة الإعدام قد تُنقِذ أرواحًا بالفعل».» وقد دفعت هذه الأدلة البروفيسور صنشتاين إلى تغيير آرائه. «لقد تحولت من مُعارضٍ لعقوبة الإعدام إلى التفكير في أنها إذا كان لها تأثير رادع كبير، فإنها على الأرجح لها ما يبررها.»7

غير أن الأدلة تشير فيما يبدو إلى أن البرامج غير الجادة لتنفيذ أحكام الإعدام ليس لها فعالية في محاربة الجريمة. وبحسب أستاذة الاقتصاد والقانون بجامعة إيموري، جوانا إم شيفرد، لا تكون عقوبة الإعدام رادعة إلا في الولايات التي أَعدمت على الأقل تسعة أشخاصٍ بين عامَي ١٩٧٧ و١٩٩٦.

الرقابة على الأسلحة والجريمة

دخل الاقتصاديون أيضًا مجال الرقابة على الأسلحة المثير للجدل؛ ففي أواخر تسعينيات القرن العشرين، أثبت جون آر لوت الابن، زميل مركز جون إم أولين للقانون والاقتصاد بشيكاجو، أن التسليح الجيد للمواطنين يُحبط جرائم العنف. وقد حلَّل لوت الإحصائيات السنوية الضخمة لمكتب التحقيقات الفيدرالي عن الجريمة للمقاطعات الأمريكية البالغ عددها ٣٠٥٤ على مدار ١٨ عامًا، ووثائق شرطة الولاية عن الاستخدام غير القانوني للسلاح، ووُجدت نتائجُه المذهلة، المنشورة في كتابه الصادر مؤخرًا بعنوان «مزيد من الأسلحة، قليل من الجرائم» أن:
  • الولايات التي تشهد الآن أكبر انخفاضٍ في معدل الجريمة هي أيضًا الولايات التي تحظى بأعلى معدلاتِ نموٍّ لتملُّك الأسلحة.

  • فترة خمسة الأيام انتظارًا التي ينص عليها قانون برادي، وبرامج إعادة الشراء، وفحص الصحيفة الجنائية؛ كانت محدودةً أو عديمةَ التأثير على الحد من الجريمة.

  • الولايات التي أجازت مؤخرًا تراخيص حمل السلاح قد شهدت انخفاضاتٍ كبيرةً في جرائم العنف.

  • معدل استخدام الأسلحة في الدفاع عن النفس يفوق معدل استخدامها في ارتكاب جريمةٍ خمس مرات.8

وبحسب لوت، فإن الجهود التشريعية الأخيرة لتقييد ملكية السلاح قد تمنع العديد من المواطنين الملتزمين بالقانون من حماية أنفسهم من الاعتداء، فيما يُعَدُّ مثالًا لقانون آدم سميث للنتائج غير المقصودة.

ذهب لوت أيضًا إلى أن قوانين الولايات التي تجيز حمل المسدسات تردع الجريمة؛ «حين تُحمل الأسلحة مخبأة، لا يستطيع المجرمون تحديد إن كان الضحية مسلحًا قبل الهجوم أم لا؛ مما يزيد من الخطر المعرَّض له المجرمون.»9 وأجرى مجموعةً متنوعةً من الإحصائيات والرسوم البيانية لدعم حجته. على سبيل المثال، يقارن الشكل ١٥-١ بين متوسطَيْ عدد جرائم العنف في الولايات قبل وبعد تَبنِّي قانونٍ لحمل الأسلحة المخبأة.
وتعيد أشكال لوت البيانية للجريمة إلى الأذهان مقال فريدريك باستيا الرائع «ما يُرى وما لا يُرى»؛ ففي عام ١٨٥٠، كتب هذا الصحفي الفرنسي العظيم يقول: «في المجال الاقتصادي … لا يُحدث قانونٌ تأثيرًا واحدًا، بل سلسلةً من التأثيرات. من بين هذه التأثيرات، يكون الأول … هو المنظور. أما التأثيرات الأخرى، فلا تظهر إلا لاحقًا؛ فهي لا تُرى.»10
fig7
شكل ١٥-١: تأثير قوانين حمل الأسلحة المخبأة على جرائم العنف. (المصدر: جون آر لوت الابن، «مزيد من الأسلحة، قليل من الجرائم»، أُعيدت طباعته بتصريحٍ من مطبعة جامعة شيكاجو.)

وبحسب لوت، ينطبق مبدأ باستيا على إحصائيات الجريمة: «كثير من الاستخدامات الدفاعية [للأسلحة] لا يُبلَّغ به الشرطة.» ويُقدِّم لوت سببين لهذا؛ الأول: أنه في كثيرٍ من حالات الدفاع عن النفس، يُشهَر السلاح، فيتراجع المعتدي، ولا يتعرَّض أحد لأذًى؛ ولذا لا يتم الإبلاغ عن شيء. والثاني: أنه في الولايات التي لديها قوانين متشددة للسلاح، يعجز المواطنون الذين يستخدمون سلاحًا من أجل الحماية عن الإبلاغ عن الحادث؛ خوفًا من القبض عليهم بواسطة الشرطة بتهمة الاستخدام غير القانوني للسلاح. وعلى ذلك يؤكِّد لوت (من خلال استطلاعات رأيٍ موسعة) العمل المبدئي لجاري كليك، أستاذ العدالة الجنائية بجامعة ولاية فلوريدا، الذي وجد أن الأسلحة تُستخدم في الدفاع عن النفس أكثر بكثيرٍ من استخدامها في ارتكاب الجرائم. ولطالما كان كليك، بالمناسبة، يتخذ موقفًا متحيزًا ضد الأسلحة إلى أن كشف عن هذه الإحصائية الكاشفة.

تعرضت فرضية لوت لانتقاداتٍ شديدةٍ من جانب اقتصاديين آخرين يختلفون مع تأويله لإحصائيات الجريمة؛ فهم يذهبون إلى أن هناك عواملَ أخرى كانت أكثر تأثيرًا في الحد من الجريمة خلال تسعينيات القرن العشرين، من ضمنها الاقتصاد القوي، وانحسار وباء تعاطي الكوكايين، وكذلك الإجهاض (وقد كان الأخير محل مناقشةٍ من جانب ستيفن ليفيت، عالم الاقتصاد بجامعة شيكاجو). غير أن هناك شيئًا واحدًا تتفق عليه جميع الدراسات، ألا وهو أن قوانين حق حمل السلاح لا تزيد جرائم العنف، وأن عددًا كبيرًا من الدراسات يثبت أنها تحد من جرائم العنف.

كل هذا يؤكِّد مبدأً قانونيًّا راسخًا في أمريكا: ينبغي أن يكون للناس الحق الدستوري في امتلاك سلاحٍ من أجل حماية النفس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤