الفصل السابع والعشرون

الجدل حول غياب العدالة الاقتصادية

الأثرياء يزدادون ثراءً والفقراء يزدادون …

إن اقتصاد السوق الحديث يتعامل مع توزيع الثروة والدخل بأسلوبٍ جائرٍ للغاية وسلبيٍّ من الناحية الاجتماعية، فضلًا عن كونه أسلوبًا مدمرًا من الناحية الوظيفية.

جون كينيث جالبريث1

بعد حساب معدل التضخم، ستجد أن أجر العامل الأمريكي العادي قد ارتفع بأقل من ١ بالمائة منذ عام ٢٠٠٠.

ذي إيكونوميست (١٥ يونيو، ٢٠٠٦)
يظهر الادعاء التالي في كلِّ مكان: الأجور المتوسطة الحقيقية في ركود، وتوزيع الثروة والدخل في الولايات المتحدة يزداد تفاوتًا وظلمًا؛ ففي عنوان غلافها، «الأغنياء والفقراء والفجوة المتنامية بينهما»، تخلص مجلة «ذي إيكونوميست» إلى أن «جميع المقاييس تُبيِّن أنه على مدار ربع القرن الماضي، كانت أحوال مَن في القمة تتحسن بشكلٍ أفضل ممن في المنتصف، الذين تجاوزوا بدورهم أولئك الذين هم في القاع.»2
يُعَدُّ عدمُ المساواةِ في الدخلِ الأكبرَ في الولايات المتحدة مقارنةً بدول أخرى، وفقًا لقياسها بمعامل جيني. ويعرف معامل جيني بأنه رقم يقع بين ٠ و١؛ حيث يمثِّل البسطُ المساحةَ بين منحنى لورنز (انظر الشكل ٢٧-١) للتوزيع وخط التوزيع المستقيم؛ في حين يمثِّل المقامُ المساحةَ أسفل خط التوزيع المستقيم؛ ومن ثَمَّ يشير انخفاض معامل جيني إلى عدالةٍ أكبر في توزيع الدخل أو الثروة، فيما يشير ارتفاع معامل جيني إلى مزيدٍ من غياب العدالة في التوزيع.
fig9
شكل ٢٧-١: منحنى لورنز.

يقوم منحنى لورنز بقياس النسبة المئوية لإجمالي الدخول المكتسبة من قِبل فئاتٍ متعددة الدخل في دولةٍ ما. وعادةً ما يتم تقسيمه إلى خمس فئاتٍ للدخل. في الولايات المتحدة، عادةً ما يتحصل الخُمس الأعلى (ذوو الدخل الأعلى) على ٤٠ بالمائة من دخل الدولة، بينما يتحصَّل الخمس الأدنى (ذوو الدخل المحدود) على حوالي ٥ بالمائة. وباستخدام منحنى لورنز، تبدو هناك حالة من سوء التوزيع للدخل الأمريكي على نحوٍ خطير، حتى إنها تعتبر الحالة الأكثر استفحالًا بين الدول الصناعية الكبرى.

غالبًا ما يتعرَّض منتقدو رأسمالية السوق للتضليل بفعل المقاييس المتعارف عليها للرفاهية الاقتصادية، خاصةً منحنى لورنز ومعامل جيني. غير أن منحنى لورنز يؤسس دليلًا غيرَ منصِفٍ ومضللًا لقياس الرفاهية الاجتماعية. لنفترض، على سبيل المثال، أن خطًّا مثاليًّا للمساواة التامة متحقق على منحنى لورنز؛ أي إن الخُمس الأعلى (أعلى ٢٠ بالمائة من أصحاب الدخول) يحصلون فقط على ٢٠ بالمائة من دخل الدولة، بينما الخمس الأدنى (أقل ٢٠ بالمائة) يزيد نصيبهم من الدخل إلى ٢٠ بالمائة. ماذا يعني هذا التوزيع المثالي؟ يعني أن الجميع — المعلم، والمحامي، والسباك، والممثل — يحصلون على نفس الدخل!3

بما أن قليل من الاقتصاديين هم من يعتقدون أن تساويَ الأجور بين الجميع يُعَدُّ موقفًا مثاليًّا، فلماذا يعتقدون أن الانتقالَ نحو المساواة التامة على منحنى لورنز ملائم؟ علاوةً على ذلك، لا يستطيع منحنى لورنز تبرير أي زيادةٍ في المستوى المعيشي لدولةٍ ما بمرور الوقت؛ فهو فقط يقيس توزيع الدخل، في حين أن المستوى المعيشي الشخصي لكل فرد، في الواقع، قد يكون في تزايدٍ عامًا بعد عام.

لقياس التغيرات في مستوى الرفاهية الاجتماعية، غالبًا ما يعتمد الاقتصاديون على مقياسٍ ثانٍ، هو متوسط الدخل الحقيقي. ولهذا المقياس عيوبه أيضًا؛ فقد تُخفي إحدى الإحصائيات التحسينات في المستوى المعيشي للفرد على مدار الوقت. على سبيل المثال، يكاد متوسط الدخل الحقيقي لا يُظهر أي تغيرٍ منذ منتصف السبعينيات. غير أن مقاييس أخرى للرفاهية، مثل مصروفات المستهلك والكمية والجودة، ومجموعة متنوعة من السلع والخدمات، تُبيِّن تطورًا كبيرًا على مدار اﻟ ٣٥ عامًا الماضية؛ فقد ارتفع فعليًّا معدَّل إنفاق المستهلك بنسبةٍ كبيرةٍ بلغت ٥٠ بالمائة للشخص الواحد خلال هذه الفترة. وكما يتساءل ريتشارد فيدر الأستاذ بجامعة أوهايو: «كم من الأمريكيين في عام ١٩٧٥ كان يمتلك أجهزة فيديو، وأجهزة ميكرويف، ومشغلات أسطواناتٍ مدمجة، وأجهزة كمبيوتر منزلية؟»

عمل ستانلي ليبرجوت

ربما كان ستانلي ليبرجوت، أستاذ الاقتصاد المتفرغ بجامعة ويسليان، هو أكثرَ من أجرى دراساتٍ في هذا المجال مقارنةً بأي شخصٍ آخر؛ فبدلًا من الاعتماد على المقاييس العامة مثل متوسط الدخل الحقيقي، يستخدم منهجًا أكثر بداهةً؛ ألا وهو النظر إلى أسواق المستهلك الفردي في الطعام والملبس والإسكان والوقود والأعمال المنزلية والنقل والصحة والترفيه والدين. إن عمله مبهر حقًّا!

جدول ٢٧-١: مستويات المعيشة من عام ١٩٠٠–١٩٧٠. (المصدر: ستانلي ليبرجوت، كتاب «الاقتصاد الأمريكي» (مطبعة جامعة برينستون، ١٩٧٦).)
النسبة المئوية للمنازل التي تشتمل على بين جميع الأسر في عام ١٩٠٠ بين الأسر الفقيرة في عام ١٩٧٠
مراحيض دافقة ١٥ ٩٩
مياه جارية ٢٤ ٩٢
تدفئة مركزية ١ ٥٨
فرد واحد (أو أقل) للغرفة الواحدة ٤٨ ٩٦
كهرباء ٣ ٩٩
أجهزة تبريد ١٨ ٩٩
سيارات ١ ٤١
على سبيل المثال، لقد طوَّر القياسات الظاهرة في الجدول ٢٧-١ لتوضيح التغيرات في مستويات المعيشة منذ عام ١٩٠٠ إلى عام ١٩٧٠.

في عملٍ آخر، بعنوان «البحث عن السعادة»، يوضِّح ليبرجوت مرارًا كيف سعى المستهلكون الأمريكيون لتحويل عالَمٍ متشككٍ وقاسٍ في الغالب إلى مكانٍ جميلٍ وأكثر راحة؛ فالعقاقير والمنشآت الطبية والإضاءة الصناعية والتبريد ووسائل النقل والاتصالات والترفيه والملابس الجاهزة، كل ذلك ساهم في تطوير ظروف المعيشة.

أما فيما يتعلق بعمل المرأة، فيشير ليبرجوت إلى أن الساعات الأسبوعية للمهام المنزلية والعائلية قد انخفضت من ٧٠ ساعة في عام ١٩٠٠ إلى ٣٠ ساعة بحلول عام ١٩٨١؛ فقد كانت ربة المنزل في عام ١٩٠٠ تُضطر إلى تحميل موقدها بأطنانٍ من الخشب أو الفحم كل عامٍ وملء مصابيحها بزيت الفحم أو الكيروسين. كذلك قلَّلتِ التدفئة المركزية من مهام ربة المنزل، فلم تَعُدْ مضطرةً إلى إزالة بقع الكيروسين المكربن أو الفحم أو الخشب من الملابس والستائر والجدران، وكذلك لم تَعُدْ مضطرةً إلى كنس الأرضيات والسجاد باستمرار. وجاءت الأجهزة الآلية والميكانيكية لتقلِّل من جهدها أكثر … فبحلول عام ١٩٥٠، كان ما يزيد عن ٩٥ بالمائة من الأُسر الأمريكية تمتلك مرافق التدفئة المركزية والماء الساخن والغاز والإضاءة الكهربائية وأحواض الاستحمام والمكانس الكهربائية.4
وفيما يتعلق بالماء، يعلق ليبرجوت بأن «المواطن الحضري العادي كان يستهلك قرابة ٢٠ جالونًا من الماء يوميًّا في عام ١٩٠٠. ولم يكن لدى الأسر الريفية أي مياهٍ تصل عبر المواسير تقريبًا، و٥٥ بالمائة لم يكن لديهم حتى مراحيض خاصة … وبحلول عام ١٩٩٠، كانت الأسر الأمريكية تخصص ما قيمته يومان من دخلها السنوي لضخ نحو ١٠٠ جالون من المياه النظيفة يوميًّا إلى المنزل عبر المواسير.»5

كل شيءٍ رخيص ويزداد رخصًا

في كتابهما «خرافات الأغنياء والفقراء»، أجرى كلٌّ من دبليو مايكل كوكس، الاقتصادي بمجلس الاحتياطي الفيدرالي بدالاس، وريتشارد آلم، الكاتب في مجال الأعمال بصحيفة «دالاس مورنينج نيوز»، دراسةً موسعةً عن تكلفة السلع والخدمات الأساسية في الولايات المتحدة. وخلصا إلى أن الأسعار الحقيقية للإسكان والطعام والجازولين والكهرباء وخدمة الهاتف والأجهزة المنزلية والملبس، وغير ذلك من الأساسيات اليومية الأخرى؛ قد انخفضت بشكلٍ كبير. الأمثلة: في عام ١٩١٩ كان الأمر يستغرق ساعتين و٣٧ دقيقة من العمل لشراء دجاجةٍ تزن ثلاثة أرطال، أما اليوم، فقد انخفضت هذه المدة إلى ١٤ دقيقة. في عام ١٩١٥، كانت المكالمة الهاتفية التي مدتها ثلاث دقائق من نيويورك إلى سان فرانسيسكو تتكلف ٢٠٫٠٧ دولارًا، أما اليوم، فصارت تكلفتها أقل من ٥٠ سنتًا؛ ما يعادل دقيقتين من العمل بالأجر المتوسط. في عام ١٩١٨، كانت السيارة فورد موديل تي تتكلف ٨٥٠ دولارًا؛ ما يعادل أكثر من أجر عامين بالنسبة إلى عامل مصنعٍ عادي، أما اليوم، فيكِدُّ العامل العادي نحو ثمانية أشهرٍ فقط لشراء سيارة فورد توروس.

وقد انخفض الكثير من المنتجات بشكلٍ كبيرٍ من حيث السعر (انخفاضًا حقيقيًّا، إن لم يكن اسميًّا) على مدار اﻟ ٢٥ عامًا الماضية، من ضمنها: أجهزة الكمبيوتر والراديو والاستريو والتليفزيونات الملونة والهواتف وأفران الميكرويف والجازولين والمشروبات الغازية ومعظم تذاكر الطيران. ويشير كوكس وآلم إلى استثناءين: الرعاية الطبية والتعليم العالي. ولكن حتى في هاتين الحالتين يذهبان إلى أن الرعاية الطبية صارت أفضل مما كانت عليه، وأن ارتفاع تكاليف التعليم يفضي إلى دخلٍ أعلى مدى الحياة. ويلخِّص كوكس وآلم كل ذلك بقولهما: «ونحن على مشارف القرن ٢١، يسلِّم الأمريكيون بقدرتنا على تحمُّل أعباءِ رفاهيةِ أسلوبِ حياةِ طبقةٍ متوسطةٍ هي الأكثر مثارًا للغبطة في أنحاء العالم؛ إنها نتيجة انخفاض الأسعار الحقيقية في اقتصادٍ ديناميكي.»6

استفاد المزيد من الأمريكيين من الزيادة في الكم، والجودة، والسلع والخدمات؛ نظرًا لطبيعة منظومة الاقتصاد الحر؛ فالمنافسة تقلل التكاليف، وتشجِّع على ظهور منتجاتٍ جديدةٍ وتحسين العمليات، وتعزِّز التحسينات في الجودة. وفي سوق العمالة، تؤدِّي زيادة الإنتاجية إلى أجورٍ أعلى؛ مما يسمح للعاملين بشراء منتجاتٍ أفضل وأرخص ثمنًّا.

مزايا للفقراء وغير الماهرين

تؤكِّد أعمال حديثة لمؤرخين اقتصاديين النتائج التي توصَّل إليها ليبرجوت على مدى فتراتٍ أطول؛ فقد تنبَّأ كارل ماركس وديفيد ريكاردو بأنه في ظل الرأسمالية سوف يجني أصحابُ الأراضي والعقاراتِ والرأسماليون مكاسب على حساب العمال. ولكنهم كانوا على خطأٍ بيِّن. وقد لخَّص جريجوري كلارك، رئيس قسم الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في دافيس، النتائج التي توصل إليها العديد من المؤرخين الاقتصاديين عن توزيع الدخل منذ الثورة الصناعية. والمدهش أنه يخلص إلى أن العائد على الأرض ورأس المال قد انخفض بالنسبة إلى الأجور كنسبةٍ مئويةٍ من إجمالي الناتج المحلي. ويأتي إلى الإعلان الصادم بأن «أجور الذكور غير المؤهلين في إنجلترا قد ارتفعت منذ الثورة الصناعية بشكلٍ أكبر من أجور العاملين المهرة، وهذه النتيجة تسري على جميع الاقتصادات المتقدمة؛ فقد انخفضت علاوة الأجر لعمَّال البناء المهرة من نحو ١٠٠ بالمائة في القرن الثالث عشر إلى ٢٥ بالمائة اليوم … ومن ثَمَّ يكون المقابلُ لكل وحدةٍ من العمالة غير الماهرة قد ارتفع بشكلٍ أكبر نتيجةً للثورة الصناعية مقارنةً بالمقابل بالنسبة إلى الأرض، أو المقابل بالنسبة إلى رأس المال، أو حتى المقابل لكل وحدةٍ من العمالة الماهرة.»7
علاوةً على ذلك، فقد تقلَّصت الفجوة، وفقًا لكلارك، بين أجور الرجال وأجور النساء. «في عصر إعادة التصنيع كان متوسط أجور النساء أقل من نصف متوسط أجور الرجال … أما الآن فتتحصل العاملات غير الماهرات في المملكة المتحدة على ٨٠ بالمائة من أجر الذكور غير الماهرين في الساعة.»8
ينظر كلارك أيضًا إلى عوامل أخرى بجانب الدخل، من بينها متوسط العمر، والصحة، وعدد الأطفال الذين هم على قيد الحياة، والإلمام بالقراءة والكتابة. ويشير إلى أن الأغنياء لا يزالون أطول قامةً من الفقراء في المتوسط، ويحظَوْن بمتوسط حياةٍ أطول، ولكن الفارق تقلَّص. ويخلص إلى أن «الاختلافات بين الأغنياء والفقراء ربما تكون قد تقلصت منذ الثورة الصناعية.»9

الفقراء يربحون اليوم

يتسم هذا النوع من المنظور التاريخي بأنه مجدِّد للمعلومات وكاشفٌ لأمورٍ جديدة. لقد ارتفعت الزيادة في مستوى المعيشة حسبما تقاس بالكمية، والجودة، والتنوُّع في السِّلَع والخدمات بشكلٍ كبيرٍ وعميقٍ في القرنين التاسع عشر والعشرين، للناس من جميع فئات الدخل. ومن نواحٍ عدةٍ كان التطوُّر الأكبر من نصيب الفقراء، وهم الآن قادرون على العيش في إسكانٍ مقبول، وامتلاك سيارة، والاستمتاع بالعديد من المتَع التي لم يكن يقدر عليها سوى الأثرياء. فتتيح لهم خدمات الطيران الرخيصةُ الثمنِ السفرَ على نطاقٍ واسع. ويمنحهم التليفزيون الفرصة لمشاهدة الأحداث والفعاليات الرياضية والعروض الموسيقية التي كانت فيما مضى مقتصرةً على الأغنياء والطبقة الوسطى. ومقارنةً بالأمس، صار كل منزلٍ اليوم بمنزلة قلعة، وكل رجلٍ بمنزلة ملك. وكما يستنتج كلارك: «لقد ورث الحاسدون الأرض.»10

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤