الفصل التاسع

المصادر الأربعة للسعادة

هل المال من بينها؟

لقد مللت الحب، ومللت أكثر من القوافي. ولكن المال يمنحني السرور دائمًا.

هيلر بيلوك

إذا كان بوسعنا الاستعداد بشكلٍ أفضلَ للتقاعد بادخار المزيد والاستثمار بشكلٍ أفضل، فلا شك أن الأمريكيين يستطيعون التطلع إلى سنواتهم الذهبية. إن مزيدًا من المال في فترة التقاعد يمكن أن يكون أمرًا طيبًا. ولكن هل يمكن للمال أن يشتريَ السعادة؟ لقد اتجهَتِ الأبحاث الاقتصادية إلى جوانبَ غيرِ مألوفة؛ فمن الموضوعات الفرعية المتنامية التي اتجه إليها الجيل الجديد من الاقتصاديين هو ذلك المطروح في المجال المعروف ﺑ «اقتصاد السعادة». وقد صادفت كتابًا في غاية التشويق بعنوان «السعادة والاقتصاد: كيف يؤثر الاقتصاد والمؤسسات على سعادة الإنسان ورفاهيته»، لعالِمَي الاقتصاد برونو إس فراي وألويس شتوتسر. إنه كتاب متخصص، يحوي الكثير من المخططات البيانية والمنحنيات الرياضية، إلا أن هدفه ليس قياسَ الأرباح والخسائر المادية، بل قياس مشاعر السعادة والرفاهية الأكثر تجريدًا.

واستنتاجات المؤلفين واضحة إلى حدٍّ كبير: «النتيجة العامة على ما يبدو هي أن السعادة والدخل بينهما ارتباط موجب بالفعل.»1 بعبارةٍ أخرى، قد لا يشتري المالُ السعادةَ بشكلٍ مباشر، ولكن بإمكانه أن يوفِّر العديدَ من المزايا والفوائد، كتوفير فرصٍ أكبر، ومكانةٍ أعلى في المجتمع، والقدرة على السفر والاستمتاع بغذاءٍ، وسكنٍ، ورعايةٍ صحيةٍ، وترفيهٍ أفضل. ويشير العديد من الدراسات إلى أن الأشخاص الأكثر ثراءً ينعمون بحياةٍ أطول. بإيجاز، المال يحقق متطلباتٍ مرغوبةً للغاية.
أذكر اليوم الذي تبيَّنتُ فيه أنني سوف أصبح مستقلًّا ماديًّا. كان يومًا من أيام الصيف في أواخر سبعينيات القرن الماضي حين عُدتُ إلى المنزل وقدَّمتُ لزوجتي أكثر من اثني عشر شيكًا من مشروعٍ للطلب عبر البريد كنتُ قد بدأته. وفي غضون عام، اشترينا أول منزلٍ لنا، بأقلَّ من ثمنه ٢٠ بالمائة، وبحلول عام ١٩٨٤ صرنا ناجحَيْن بما كفل لنا نقل عائلتنا كاملةً (بأربعة أطفال) إلى جزر البهاما من أجل «التقاعد». لقد منحت تجربة «الأمان المادي» جو وآن وإياي شعورًا رائعًا بالرضا. بالطبع لم نتقاعد بالمعنى المفهوم؛ فقد كنا نستغل وقت فراغنا في القراءة والكتابة، والإبحار، وقضاء وقتٍ مع أبنائنا، والانخراط في أنشطة المسرح المحلي، ومدرسةٍ خاصة، والعمل الكَنَسي.2 وفي النهاية عدنا إلى البر الرئيسي، ولكننا استمرَرْنا على وضعنا شبه التقاعدي.

لماذا يشعر معظم الفقراء بالتعاسة

يوضح الشكل ٩-١ العلاقة بين الدخل والسعادة عبر الدول. بشكلٍ عام، يُعَدُّ الناس في الدول الفقيرة أقلَّ شعورًا بالرضا من الناس في الدول الغنية. وأحد الأسباب وراء ذلك هو أن الدول الفقيرة غالبًا ما تكون أكثرَ عرضةً للعنف وحالة اللايَقِين. وكما يقول فراي وشتوتزر: «غالبًا ما يكون لدى الدول التي يرتفع فيها متوسط دخل الفرد ديمقراطيات أكثر استقرارًا عن الدول الفقيرة … فكلما ارتفع الدخل، كانت حقوق الإنسان مكفولةً بشكلٍ أكبر، ومستوى الصحة أفضل، وتوزيع الدخل أكثر عدالة. وعلى ذلك، فقد تُسهم حقوق الإنسان، والصحة، وعدالة التوزيع فيما يبدو في رفع مستوى السعادة مع ارتفاع الدخل.»3
fig6
شكل ٩-١: العلاقة بين السعادة ومتوسط دخل الفرد. (المصدر: برونو إس فراي، «السعادة والاقتصاد». أُعيدت طباعته بتصريحٍ من مطبعة جامعة برينستون.)

ولكن الشكل البياني يشير أيضًا إلى أن المال يعاني من عائداتٍ متضائلةٍ في السعادة. إن السعادة الشخصية ترتفع بارتفاع الدخل، ولكن بمجرد أن يتجاوز حدًّا معينًا، يصبح تأثير الدخل على السعادة محدودًا أو منعدمًا. وقد واجه العديد من الأثرياء قانون تضاؤل العائدات هذا، وهم ليسوا أكثرَ سعادةً من أرباب الطبقة الوسطى بأي حال. بل إن بعض الأثرياء يعانون من تعاسةٍ تامَّة. ويخلص فراي وشتوتزر من ذلك إلى أن «السعادة التي تتزايد مع الأشياء المادية زائلة.»

العناصر الأربعة للسعادة

قرأتُ منذ سنواتٍ عظةً عن «المصادر الأربعة للسعادة». كان القَسُّ يتحدث عن العمل، والترويح، والحب، والعبادة. ماذا كان يقصد؟

عليك أولًا، والحديث على لسانه، أن تجد عملًا مُجزيًا وشريفًا كي تكون سعيدًا؛ فالعمل الجاد وإنشاء المشروعات يوفران الفرصة لتكوين فائض ثروة. ووجود مال في البنك يمنحك إحساسًا حقيقيًّا بالأمان، وكذلك الحرية في القيام بما تشاء. علاوةً على ذلك، توضح الدراسات أن الأشخاص العاطلين عن العمل يشعرون بالتعاسة عمومًا، في ظل اعتقادهم بأنهم لا يُقدِّمون شيئًا للمجتمع ولا لأنفسهم.

ثانيًا، يُعَدُّ الترويح شيئًا أساسيًّا لسعادتك. ومن المفيد أن تأخذ راحةً من العمل من آنٍ لآخر؛ فالاسترخاء والأنشطة عناصر أساسية للحياة السعيدة. والأشخاص الذين يقضون وقتًا أكثر من اللازم في العمل ولا يستطيعون الاستجمام مع عائلاتهم أو أصدقائهم بالمنزل يحتاجون إلى معرفة متعة الاستجمام وبهجته بهواية، أو رياضة، أو السفر، أو أي نشاطٍ آخر. إن بعضًا من أكثر أوقاتي التي لا تُنسى كانت في لعب الكرة اللينة أو كرة السلة مع الأصدقاء، والسفر مع أفراد العائلة في عطلة نهاية الأسبوع، أو زيارة أحد محالِّ الكتب.

ثالثًا، يعد الحب والصداقة أيضًا عنصرين مهمين للسعادة؛ فكل شخصٍ يحتاج إلى شخص يأتمنه على أسراره، ويقضي وقتًا معه، ويتعلَّم منه، ويسترجع معه الذكريات، ويبادله الحب. والحب والصداقة، في نظر معظم الناس، يستغرقان وقتًا ومجهودًا. صحيح عليك أن تبذل جهدًا لبناء صداقات، ولكن عوائد ذلك عليك لا تنتهي أبدًا.

وأخيرًا العبادة. إن تنمية الجانب الروحي لدى المرء ضرورية للسعادة. يقول بعض أصدقائي إنهم لا يحتاجون إلى الدين في شيء، ولكني أرى أنهم يفتقدون أحدَ مباهج الحياة؛ الاستماع إلى عظةٍ رائعة، وإنشاد الترانيم، والتأمل في كلام الله، والعمل الخيري، والتضرُّع إلى الله طلبًا لعونه في حلِّ مشكلات العمل أو المشكلات العائلية.

دعني أختتم هذا المقال بمقطعٍ شعريٍّ مبهجٍ للكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن، الذي سلَّط الضوءَ على دور المال بمنظوره الصحيح:

قد يكون المالُ قشرةً تُغلِّف أشياءَ كثيرة، ولكنه ليس النواة.
إنه يجلب لك الطعام، وليس الشهية؛
الدواء، وليس الصحة؛
المعارف، وليس الأصدقاء؛
الخَدَم، وليس الإخلاص؛
أيامَ الفرح، وليس السلام أو السعادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤