صور عائلية

الألبوم به مجموعة من الصور، معظمها عن سِنِي الطفولة، أعود إليها على فترات متباعدة، أتأملها، أستعيد ما تسعفني به الذاكرة.

أنشر الصور على مقدمة السرير، موضع الوسائد. أتمدد بطولي، بحيث يتاح لي أن أتأملها عن قرب.

مات جدي لأبي قبل أن أُولد، وماتت جدتي لأبي قبل أن أعي ما حولي، فلا يحضرني عنهما ما أستطيع روايته.

عرفت من أبي جوانب في حياة عائلتنا، باعثها انشغاله بوقف كان يُدر عليه دخلًا تافهًا — أقل من عشرة جنيهات — كل عام، ويجد في حل الأوقاف الأهلية أملًا في انفراجة لأوضاعنا المادية القاسية! قرأت — مؤخرًا — أن أحمد فريد باشا، والد الزعيم محمد فريد، اقترن بفتاة من عائلة قاضي البُهار — الجَد الذي خلَّف لعائلتي ما التهمه ناظر الوقف — هي «بَمبة»، وأنجب منها محمد فريد، فمن حقي أن أعتز إذن بقرابتي لرمز مهم من رموز الوطنية المصرية.

أرشيف صوري يخلو من صورة لجدي لأمي، لكنني أتذكر قامته الطويلة الممتلئة، ووجهه الأبيض المشرب بحمرة، والابتسامة التي بدت كأنها جزء من ملامحه. لم يكن عالم دين، لكنه — فيما أذكر — كان يرتدي الجبة والقفطان، وإن ظل عاري الرأس. اسمه محمد شمة الصغير.

سألت أبي: ماذا تضيف صفة الصغير إلى اسم جدي؟

قال: هو أصغر شقيقين لهما الاسم نفسه.

جدي لأمي هو أول راوية في حياتي، يقضي في البيت يومًا أو يومين، يملأ ذاكرتنا بحكايات ألف ليلة وحواديت المردة والغيلان والعفاريت المتجسدة في هيئة بشر وحيوان وطير وجماد، ويا ست يا ستنا، ياللي قصرك أعلى من قصرنا، ما تدِّنيش عنقود عنب، للعليل اللي عندنا، ويا بير يا بير، اديها صراصير كتير.

تعريف الحدوتة أنها فنٌّ نسائي، ربما منذ روت شهرزاد حواديتها، لكن حواديت الطفولة عندي هي ما رواه لي — ولإخوتي — جدي.

لا أذكر إلا القليل مما روته جدتي التي لم تكن تميل إلى رواية الحواديت، ولا ما روته أمي التي شغلها عن الحكي وَسواس النظافة في التركيز على العناية بالبيت، ثم مرض القلب الذي أتصوره نتيجة وَسواس النظافة، حتى ماتت.

كان الشعور في داخلي أقرب إلى اليقين بأن جَدِّي يعرف كل حكايات الدنيا. نطلب منه أن يروي حكاية الرجل الذي حمل — بدلًا من زوجته — في سمَّانة ساقه، أو حكاية علي بابا والأربعين حرامي، والشاطر حسن وست الحسن والجمال، والظاهر بيبرس، وعنتر وعبلة، والسفيرة عزيزة، وغيرها مما قرأته — بعد أن كبِرت — في العديد من الكتب. نسأله في الحكايات والحواديت التي استمعنا إليها من آخرين. نثق أنه يمتلك كل حكايات الدنيا.

أقول لجدي: «ارو لنا حكاية السفيرة عزيزة»، فقد استمعت إذن إلى الحكاية من قبل، مرة ومرات، لكن النشوة نفسها تظل في داخلي وأنا أتابع ما يرويه جدي، كل ما استمعت إليه من قبل. ربما قاطعت جدي لأشير إلى ما أجد أنه نسيه، أو بدَّله.

آخر ما كنت أتصوره، أن يعتذر جَدِّي بأنه لا يعرف الحكاية، هو لا بد يعرفها، وهو يعرف كل الحكايات. إذا اعتذر بأنه لا يعرف الحدوتة التي أطلب إعادتها، فالحقيقة أنه يعرف، لكنه لا يريد أن يحكي، هو فقط مشغول، وعلينا أن نحسن اختيار وقت التلقي.

كانت حواديت جدي تجذبني، تشرد بتصوراتي في آفاق لا نهائية، أتخيل، أخترع، أؤلف بيني وبين نفسي. ربما كانت — إلى جانب مكتبة أبي — وراء إقبالي على القراءة، ومحاولة الكتابة.

•••

أخفى أبي وأخوالي عن أمي موت أبيها قبل أن ترحل عن الحياة ببضعة أشهر. اختاروا — لأسئلتها الملحة — ردودًا مبهمة، أو كاذبة.

كنت — شخصيًّا — أفتقد قامة جدي المديدة وملامحه الطيبة وحكاياته وحواديته. كانت زياراته متقاربة، قبل أن تتقطع، وتتأخر. ثم قدِم ذات يوم تحفظه ذاكرتي جيدًا، ربما لغرابة الحوار بينه وبين أمي:

– أنذرتنا رسائلك بأنك تموتين!

– هل كنت تنتظر موتي؟!

– أنتِ بخير، لكنك تستسلمين للوهم!

لا أذكر بقية الحوار، ولا الأيام التي أمضاها جدي بيننا، ولا متى عاد إلى دمنهور. ما أذكره أنه حرمنا — إخوتي وأنا — تلك المرة من حكاياته وحواديته، ربما لأنه كان حزينًا، وإن أضمر مشاعره، لمرض أمي، وربما لأنه كان هو نفسه يعاني تأثيرات مرضٍ، ما لبث — بعد أيام قليلة — أن أسلمه إلى الموت.

•••

هل كان لجدي كل ذلك التأثير على جدتي؟ هل كان الإنسانَ الأهم في حياتها، فصار أبناؤها في مرتبة تالية؟

قدِمت جدتي من دمنهور ليلة تلقيها برقية أبي: خديجة توفيت. تقدَّمها الصراخ والعبارات الحزينة، وأصرت — رغم اعتراض أبي — أن تأتي «المعددة» إلى بيتنا. لكن أحاديثها اقتصرت — أو كادت — في الأيام التالية، على جدي، الذي سبق أمي في الرحيل: ملامحه، تكوينه الجسدي، عاداته، حبه للناس. بدا — في كلماتها — أقرب إلى أبطال الحكايات والحواديت. استعادت — مرات كثيرة — ظروف وفاته: تناوله طعام الإفطار في رمضان، أداءه صلاة المغرب، مغادرته البيت بحثًا عن مسكِّن للصداع، سقوطه المفاجئ في الطريق، عودة الناس به — محمولًا — إلى البيت.

كان غالبية المعزيات من الجيران وأقارب أبي، ولم يكونوا قد تعرفوا إلى جدي. ظني أنهم توقعوا حكايات لجدتي عن الابنة التي قدِموا للتعزية فيها، لكن جدتي كانت تجيب — بكلمات قليلة — عن أسئلة النسوة في ظروف رحيل أمي، ثم تعود إلى ما توقعتُ الحديث فيه، أعني الظروف المتصلة بوفاة جدي.

كان جدي رجلًا طيبًا، وكان صديقًا لأبي، ولنا، وكنا نحب قدومه ليروي لنا ما نحبه من الحواديت والحكايات. لا بد أن تلك الشخصية المحبة، الطيبة، قد تركت تأثيرًا عميقًا في وجدان زوجته — جدتي — فأحبته مطلقًا، وبما فاق حبها لأبنائها.

مجرد تخمين لكلمات استمعت إليها في سِنِي الطفولة، وفي إطار حدثٍ مأساوي، أدركت عمقه — فيما بعد — في حياة أسرتي.

عندما أتذكر جدتي في بيت أبو الريش بدمنهور، فإني أتذكر — بالتالي — أمينة في بيت «بين القصرين»، هي سيدة أخرى تختلف عن الضيفة التي تكتفي بالجلوس في الشرفة المطلة على المينا الشرقية، أو تجلس إلينا في حجرة القعاد، لا تشارك برأي في أمور البيت إلا أن ترد على سؤال.

هي الملكة المتوجة للبيت ذي الطوابق الثلاثة، تقضي الساعات أمام الفرن، وتربي الطيور، وتوجه النصائح والتعبيرات اللاذعة، الباسمة، إلى أحفادها الذين يملئون الحجرات. قد تغادر البيت، تميل إلى الشارع الجانبي الضيق، تتجه إلى بيتٍ ذي مشربيات، تقضي وقتًا في زيارة شقيقتها نبوية (أو خالتي نبوية كما كنا نسميها)، توزع ابتساماتها، ونصائحها المشفقة، ودعاباتها، على النسوة والأطفال الذين تصادفهم في طريقها.

لم أر خالتي نبوية خارج بيتها على الإطلاق. نذهب دون موعد، فنجدها في إحدى حجراته، أو في المطبخ، أو تؤدي الصلاة في القاعة التحتية. وكانت جدتي تحرص على زيارة شقيقتها، وربما غادرت البيت — ودمنهور كلها — إلى الإسكندرية بإلحاح من أبي. ربما لا أستطيع أن أفسر الرائحة التي أستعيد بها بيت «أبو الريش»، لكنها في ذاكرتي، أشمها في العديد من الأماكن التي أتردد عليها، لا أعرف البواعث، ولا لماذا تَعلَق رائحة المكان بذاكرة أنفي، منذ تلك الأيام البعيدة.

كانت جدتي ترتدي في البيت فستانًا مما ترتديه النساء في البيوت، يغطي الذراعين والساقين، وإن حرَصتْ على أن يكون قُماشه مزينًا بورود صغيرة. فإذا تأهبتْ لمغادرة البيت ارتدت عباءة سوداء فضفاضة ذات كرانيش، تُسمَّى «المَلَس».

أتصور أن المَلَس كان يليق بعصرٍ يُعتبر فيه سِمنة المرأة مُوضَة (كانت جدتي — ربما نتيجة تقدم سنها — أميل إلى النحافة) فهو يضيف، بتكسراته وضخامته، إلى جسم المرأة. فلما أصبحت النحافة هي الموضة، كان لا بد للمَلَس أن يختفي، وإن ظلت المُلاءة اللف على جسد المرأة في المدن الريفية والأحياء الشعبية بمدن الحضر. ثم تراجعت المُلاءة كذلك أمام زحف الزي الأوروبي، مثلما تراجع الطربوش والجلَّابية، وغيرها من أزيائنا الوطنية.

لم تكن جدتي تروي لنا الحواديت، ولا تلجأ إلى خيالها على أي نحو. كانت رواياتها تقتصر على ما حدث بالفعل، الشخص الذي نعرفه، الشارع الذي نسير فيه، المكان الذي نحفظ ملامحه، وكانت تملك رصيدًا هائلًا من الحِكم والأمثال والتعبيرات ذات الدلالة، تضفِّر بها ملاحظاتها ونصائحها وتوجيهاتها، تضيف إليها قدرة على الإقناع.

أَمْيز ما في حكايات جدتي أنها لم تكن تتحدث عن الأمر من بداياته، لا يشغلها ما يصح تسميته «المسكوت عنه». الصور تُكَر في ذهنها، تناقشها، وتبدي الملاحظات، يعلو صوتها في لحظة قد لا تختارها، وصلَتْ إلى نقطة تُملي عليها البوح، لا تصله بما قبل: الولد فلان هو الذي قذف الكرة، أخطأ الشيخ في رفع الأذان ناقصًا، عيب على فلانة أنها طلبت استرداد العُربون بعد أن ذبحت الجاموسة … وقائع مقتطعة من سياقها، تثير فضولي وإحساسي بعدم الفهم، أتمنى لو أنها التقطت طرف الخيط من بداياته.

لم تكن جدتي — كما أشرت حالًا — من رواة الحواديت، لكنني أدين لها بفضل قراءات الطفولة. أخشى أن يرفض أبي إذا لجأت إليه كي ينقُدَني ثمن المَجلة التي أحبها: البلبل، الفارس، البعكوكة، وغيرها، في بالي غضبه لانشغالي عن كتب الدراسة. تدس جدتي يدها في صدرها، تخرج الكيس الجلدي الصغير، وتدفع لي بثمن المجلة: ما تزعَّلش منِّي أبوك … عاوز مصلحتك!

وحين صدر العدد الأول من مَجلة «سندباد» اعتذرت جدتي عن عدم وجود القرشين ثمن المَجلة.

قلت لها في تهديد حقيقي: إذا لم أحصل على المَجلة فسأبيعك!

المعنى ساذج كما ترى، لكن الكلمات انطلقت من فمي كقذائف، دون أن أعي معناها، ولا تأثيرها.

أدركت جدتي — وأظن أنها كانت تعرف القراءة والكتابة — حرصي على المَجلة. قالت ويدها داخل الكيس الصغير: خايفة أبوك يزعل مني!

أذكر أول مرة — ولعلها آخر مرة — شاهدَتْ فيها جدتي فيلمًا سينمائيًّا. صحبنا أبي إلى سينما — لا أذكرها، ولا أذكر الفيلم — لكنني أذكر مشهد اقتراب مقدمة قطار بمساحة الشاشة. صرخت جدتي بعفوية، ومدت يديها — اتقاءً — بالعفوية نفسها.

رحلت جدتي عن الدنيا في أثناء عملي بالخليج. عرَفت بالأمر عقب عودتي إلى القاهرة، شغلتني المشكلات الوقتية حتى عن زيارة قبرها (قيل لي إنها أوصت بأن تُدفن بالقرب من وجه الطريق لأنها تخشى الظلمة!)، لكن صورة العينين الخضراوين، والشعر الذي زحف البياض على لونه الحِنطي، والابتسامة الطفولية، والطيبة التي لا حد لها … ذلك كله لم يغادر وجداني منذ غابت عن حياتي إلى الآن.

جدتي أنيسة هي محور العديد من قصصي القصار، ولها حضورها — الذي يصعب إغفاله — في روايتي «البحر أمامها». ذلك هو باعث رفع إهدائي المطبوع إلى مقامها.

•••

لأمي صورة في إطار خشبي، يبدو أنها التُقطت في استوديو، ترتدي فستانًا أنيقًا، يصل إلى ما فوق القدمين، وحزامًا عريضًا من اللون نفسه، وفتحة العنق على هيئة الرقم سبعة، مطرزة ﺑ «سيرما»، وزينتْ جِيدها بعِقد من اللؤلؤ، وتنتعل حذاء عالي الكعبين، تزينه «توكة» فضية.

هذه الصورة هي الوحيدة لأمي، وإن لم تتركني ملامحها منذ طفولتي حتى الآن. تبدو واضحة، أو تعاني الشحوب، لكن ما استقر في الذاكرة يشكل ملامح مهمة، يصعب نسيانها.

كانت أمي مهمومة بما يمكن تسميته وَسواس النظافة. أكاد أذكر مرات خروجها من البيت، في صحبة أبي أو برُفقة أخي الأكبر، تقضي النهار بأكمله في نظافة البيت؛ في الكنس والمسح والغسيل وغسيل الأوعية وتنفيض السجاجيد، تهمل قول أبي إن ما تفعله هو عمل الخادمة. لا يقتصر الأمر على قطع الأثاث، لكن العصا المسماة «رأس العبد» تصل إلى الأركان والزوايا، لا تترك موضعًا دون أن تصل إليه، والكراسي تقلبها على ترابيزة السفرة، تنظفها كرسيًّا كرسيًّا، ثم تعيدها إلى موضعها، وتُجري الخرقة المبلولة على الترابيزة الخالية. إذا تبينت عنكبوتًا صغيرًا، نسج شباكه في زاوية السقف، فإن معنى ذلك هو الإهمال الذي أنساها رأس العبد، وما ينبغي أن تؤديه، حتى يظل كل شيء نظيفًا، خاليًا من الأوساخ.

أقسى الأمور — بالنسبة لنا — إصرارها أن ندخل الحمام عقب عودتنا إلى البيت من المدرسة، أو من أي مشوار — حتى لو كان قريبًا، وقصيرًا — نغسل أقدامنا، ووجوهنا بالمرة، لا تلقي بالًا إلى اعتراضاتنا بأننا أمضينا الوقت في جامع سيدي «علي تِمراز».

وكان وباء الكوليرا الذي اجتاح المدن المصرية في عام ١٩٤٧م فرصة لكي يبلغ وسواس النظافة في شخصية أمي ذروة تجلياته.

كان مرض القلب قد ألزمها الفراش، وكان ما تعانيه يثير قلقنا. مع ذلك، فإنها فرضت على حياتنا مفردات البِرمَنجنات واليود والليمون والماء الساخن، وتحددت خطواتنا في نهاية كل يوم دراسي، ما بين باب الشقة والحمام، تطمئن بنفسها إلى إزالة ما علِق بأجسادنا من أثر المدرسة أو الطريق، ونستبدل ثيابًا جديدة بما كنا نرتديه من ثياب. ولكي تنفذ الخادمة طلب أمي بأن تغسل كل طعام بالماء، فقد وضعت في الماء الساخن حلاوة طحينية، اشتراها أبي من حلواني حافظ بشارع الميدان (تختلف عن الحلاوة الطحينية في تسمية أبناء القاهرة)، وضربت الخادمة صدرها في خوف: حضرتِك قلتيلي أَغْلي كل حاجة!

•••

كانت نصيحة أمي لنا — قبل أن نبدأ في تناول الطعام — «كلوا نونو نونو». يقول أحدنا وهو يُخلي مكانه: أنا شبعت.

ترد: وأنا فرحت!

ولم يكن لذلك صلة بحاجة مادية. كانت ظروفنا الاجتماعية مستورة. لا يجد أبي وقتًا ينهي فيه أعمال الترجمة من لغة إلى أخرى، وقته بالساعات والدقائق، فلا يأتي البيت إلا لأقل من الساعتين في القيلولة. حتى جلسته إلى أصدقائه في قهوة فاروق، أو المهدي اللبان أسفل بيتنا، كانت أوقاتها تتباعد.

لعل تحريض أمي لنا على تصغير اللقمة، ثم إظهار فرحتها لإحساسنا بالشِّبع، كان لأسباب تربوية، بحيث نعي جيدًا قيمة التدبير، وإن لم تُتِح لي سنوات حياتها القصيرة معنا أن نعرف ما إذا كانت تميل إلى التقتير، أم العكس.

•••

لا أذكر أن أمي روت لنا حكاية مما ترويها الأمهات لأبنائهن قبل النوم. السبب — في تقديري — هو انشغالها بالبيت، منذ استيقاظها حتى تذهب للنوم، بالإضافة إلى المرض الذي كان يلازم أنفاسها، فهي تصعد إلى السرير المعدني ذي الأعمدة، لتنام لا لتروي الحكايات، وإن كانت تبدي إعجابها بالحكايات التي نلاحقها بها في أثناء انشغالها بالبيت، وهي حكايات كنا ننقلها — في أحيان كثيرة — عن جدي، وفي أحيان قليلة عن جدتي.

•••

أمضت أمي عامها الأخير راقدة في الفراش، لا تتركه إلا لتمضي إلى الحمام، وتعود. يفاجئها الإغماء وهي جالسة، فتسقط على ظهرها فوق السرير، يتدلى وجهها المفتوح العينين والفم، ويلامس شعرها الأسود الطويل أرضية الحجرة. يلفني الارتباك، لا أعرف كيف أتصرف، أعجِز حتى عن الصراخ، أو الاستغاثة، تظل أمي في هيئتها المتقلصة، الساكنة، حتى تدفع المصادفة أبي، أو جارة لنا (كان السكان أقرب إلى عائلة واحدة) فتعود أمي إلى الوضع الذي كانت عليه.

لم أكن أعرف معنى الموت تمامًا؛ لماذا يموت الإنسان؟ كيف؟ إلى أين يذهب؟ لكنني كنت أشعر أن الموت قاسَم أمي ترددات أنفاسها، فأنا ألحظ — بِأسًى — كل ما يصدر عنها. لم أتصور أن الشخصية التي ألِفتُ أوامرها وشخطاتها وملاحظاتها التي لا تنتهي، يحاصرها المرض في الفراش، تتوقع ما ينعكس قلقًا في نفوس الجميع.

•••

لم يفاجأ أبي برحيل أمي؛ سبق الوفاة مرضٌ طويل، لكن الارتباك هو ما يعلَق بذاكرتي من تصرفاته. وقبل أن تحل ذكرى الأربعين لوفاة أمي، لم يعد الحزن وحده في حياتنا. صحونا — ربما في الأسبوع الأول من الوفاة — على صوت خالتي تتهم أبي وعمتي وديدة بأنهما تبادلا حوارًا في هدأة الليل، عن ضرورة زواجه من ثانية، تُعنَى بالأولاد — نحن — وترعى شئونهم. بدا ما حدث مثل تحويل دفة القارب إلى مسارٍ آخر في قلب الموج. تناثر التسخيف والاتهامات والآراء القاسية وكلمات المعايرة. وأبلغتنا خالتي أن أبي اعتزم الإساءة لذكرى الأم الراحلة بالزواج من أخرى، تفسد علينا حياتنا، وتوقعت أن أم عايدة (الاسم مستعار) المربية، والتي تنتسب لنا — في الوقت نفسه — بصلة قرابة، هي التي ستكون بديلًا لأمنا.

قررنا أن نلجأ إلى كل السبل كي لا تدخل البيت سيدة أخرى غير أمنا، واجهنا أم عايدة بالعداء، وانعكس في تصرفاتنا ما يدفعها إلى الغياب عن حياتنا.

أذكر أن شقيقتي عرضت على أم عايدة — أثناء زيارتها لنا — أن تعد لها كوب ليمون. وأعدت شقيقتي كوب الليمون بالفعل، ثم دعتنا إلى المطبخ لنبصق فيه بما وسعنا، حتى تقرف أم عايدة، وتموت.

والحقيقة التي صارحني بها أبي — في لحظات مؤانسة — أن حب أمي ملأ حياته، في حياتها، وبعد أن صارت ذكرى، وتصنعتُ النظر ناحية البحر لأخفي حركة إصبعه العفوية يمسح الدمعة في عينه.

•••

المنادي وإعلانات الوفَيات الملصقة على الجدران ظاهرةٌ سكندرية، تعبير عن تكافل أبناء المدينة في حالات الوفاة، يلي نبأَ الوفاة وموعدَ الجنازة في ملصقات الجدران اسمُ جامع الشيخ موضعًا لصلاة الجنازة (أقيمت صلاة الجنازة على جثمان أمي وأبي في جامع الشيخ إبراهيم، في قلب سوق راتب). لا أعرف متى بدأت صلاة الجنازة في الجامع ذي الدرجات المفضية إلى الباب، فوق الدكاكين، لكن الصلاة في الجامع القديم (هو المدرسة الدينية التي تعلم فيها عبد الله النديم) تحولت إلى ما يشبه التقليد الثابت، المرادف للجنازات المتجهة إلى مقابر العامود.

رحلت أمي قبل أن أبلغ العاشرة، لكن معرفتي للمقابر سبقت ترددي على حوش حسن جبريل— جدي — في مقابر العامود، بصحبة جدتي وخالتي وإخوتي، تُرافِقنا أقراص الكعك والفطائر والمنين، أو بصحبة أبي وأخي، يمسك كلٌّ منا بباقة ورد صغيرة.

كان أول ترددي على المقابر بعد وفاة أخي الأصغر. صحبنا أبي في زيارات متوالية، عرَفنا الموضع الذي دُفن فيه أخي أحمد إلى جانب باب الحوش. نتجه إلى الضريح الهائل، نضع الورود فوقه، ونقف أمامه، نتلو ما نتذكره من قصار السور، ثم نمضي نحو الباب، يطيل أبي الوقوف إلى جوار الباب الخشبي (رُفعت الأبواب والنوافذ — فيما بعد — وتحطم كل شيء!) يتلو آيات القرآن، وما لم أتبينه من الأدعية، وهو يعيد تسوية الموضع الذي دُفن فيه أخي الأصغر. يمسك أبي بيدينا، ونخترق الأرض الترابية، من حولنا أحواش وأضرحة وأشجار صبار وقطع حجارة. يتلقفنا — خارج الباب الرئيس — صخب الزحام، ونداءات الباعة، وأغنيات الراديو في دكان العصير المواجه.

أصارحك أني لم أكن أتصور رقدتي الأخيرة بعيدًا عن أبي وأمي وأخي الأصغر، فضلًا عن الإسكندرية. كنت أتصرف وأتكلم وأسافر وأعود، في داخلي يقين أن تلك ستكون النهاية، لكنني غالبت الحسرة وأنا أوقع — ذات يوم — على عقد بناء مقبرة لي في طريق الفيوم. كانت مدافن العامود قد تحولت إلى شبه أطلال، نهب اللصوص كل ما يصلح للبيع، حتى أشجار الصبار انتُزعت من مواضعها، ورُوي أن جماجم الموتى لقيت مصيرًا مؤلمًا، سرقها اللصوص، وصَحَنوها، تحولت إلى رماد يخلطونه في بودرة الشم — لا أعرف اسمها — سعيًا لمضاعفة الكم والكيف، وظني أن الكلمة الأخيرة تشي بأكثر من دلالة.

حرصت أن يكون المدفن لعائلتي جميعًا، وإن علت اللافتة اسمي. نحن نعتز بمواهبنا وقدراتنا، لكننا نعي النهاية جيدًا، وأنها تحتاج إلى الستر نفسه الذي نطلبه لأنفسنا في الدنيا، ودون أية محاولة للتفلسف فإن المرء قد لا يحرص على سكناه في حياته، لا يعنيه إن كان يملك البيت، أو يستأجره، أو ينزل ضيفًا، لكنه لا بد أن يطمئن إلى سُكنى الآخرة. هذا هو بيتنا الحقيقي، أنت تزور الآثار الفرعونية، تتعرف إلى المقابر والمصاطب والسراديب وغيرها من الآثار التي تدل على الحياة الأخرى، في حين أنك لن تجد طللًا لبيت نتعرف من خلاله إلى بنايات قدامى المصريين في دنياهم المعاشة.

•••

عندما تهيأت لقراءة الصور، واستعادة لحظاتها، تذكرت — فيما يشبه المفاجأة — أن صورة واحدة لم تجمعنا مع أبوي، إنما هي صور قليلة جمعت الأبناء، أو اقتصرت على أحد الأبوين. لم يحاولا الوقوف معًا أمام الكاميرا. ما حدث لا صلة له بقيم ولا تقاليد ولا عادات، فقد كانت أمي تصحب أبي إلى المسارح ودور السينما، وتقرأ الصحف، وتستمع إلى الإذاعة، ولها آراؤها المعلنة في الأحداث. وكان من بين المتعلقات التي تركتها قبعة تعلوها ريشة طائر، موضة العصر آنذاك. ربما المرض الذي ألزمها البيت — في مراحله الأخيرة — فرض تأثيراته السلبية، فغابت عنهما أشياء.

مع أن أبي ظل بيننا — بعد رحيل أمي — ما يقرب من ثماني سنوات، فإني لم أُوفَّق في أن أجد صورة له معي، أو مع إخوتي. ظني أنه لم يُعْن بأن تُلتقط له صورة مع أفراد أسرته، لا لأنه لم يؤمن بقيمة الصورة، فقد كان — فيما أذكر — هو المحرض لنا على أن نقف — أخواي وأنا — وسط شارع إسماعيل صبري، كي تُلتقط لنا صورة.

كما قلت، فإني لا أجد سببًا أفسر به عزوف أبي عن التصوير، ليس معنا فقط، بل مع أمي. لم تكن لهما حتى صورة زِفاف مما ألِفه كل زوجين في بداية حياتهما، لم أعثر على صورة تجمعهما على الإطلاق.

أستعيد — في أوقات متقاربة ومتباعدة — ومضات من أبي؛ ملامحه وكلماته وتصرفاته؛ انشغاله بالتقليب في قواميس اللغة، صعوده المتباطئ على السلم، يلتقط أنفاسه — من كتمة الربو (كم أعاني منها!) — عند كل بسطة، جلسته بين أصحابه في قهوة فاروق بشارع إسماعيل صبري، أو قهوة المهدي اللبان أسفل البيت، أو في «أوضة القعاد» المطلة على المينا الشرقية، إنصاته المتأمل لتلاوة الشيخ «محمد رفعت» في الراديو، حرصه أن يكون كل شيء هادئًا، لا إلحاح أسئلة، ولا ملاحظات سخيفة، ولا مناقشات تشغلها الثرثرة، عودته إلى البيت ومن خلفه ولد يحمل مشترياته من شارع الميدان، تأمله الشامت لما فعله عم عبد السلام الحلاق لتقصير شعر رأسي، عودته من رحلة الصيد إلى «إكنجي مريوط» (هذه هي التسمية كما كان يسجلها في نوتته الصغيرة)، جلوسه على كرسي، وإسناد رأسه — للنوم — على كرسي مقابل، ارتباكه المتأثر لَمَّا احتوت أمي يده — قبل رحيلها — وقبلتها، وقفته أمام بوفيه حجرة القعاد ليكتب على ورقة صغيرة: خديجة (أمي) توفيت، ضِيقه من تقليدي صريرَ الترام في الانحناءة أمام فرن حبيب: «أمك ماتت مالهاش شهر!»

أذكر أن الصداقة كانت سمة العلاقة بين أبي وعم أحمد بواب بيتنا، في سن الشيخوخة، أَمْيل إلى القِصر والنحافة، يصعد إلى شقتنا، يجالس أبي في أوضة القعاد المطلة على المينا الشرقية، تشرِّق أحاديثهما وتغرِّب، وإن بدت المناقشات — في عمومها — أسئلةً من عم أحمد وأجوبةً من أبي. قد يتبدل الأمر إن طرأت على بحري، أو السوق التي يتردد عليها عم أحمد، ما يدفع أبي إلى إلحاح السؤال.

يسحب عم أحمد، بعفوية، صحيفة من فوق الطاولة، يقرؤها بلغة متعثرة.

سأله أبي — ليلة — عن برنامج السهرة في الإذاعة، قرأ الرجل: «عن عزاف على الكانون»!

أعاد أبي القراءة، ضحك في ود حقيقي: عزف على القانون يا عم أحمد!

هدَّت الشيخوخة عم أحمد في نهايات أيامه. لم يعد يصعد السلم، الساكن الذي يطلب شيئًا، يُدلي الحبل في نهايته «سَبَت»، النقود داخل السبَت. ثم بدت حركة عم أحمد صعبة للغاية، حتى في مجرد عبور الطريق.

سافر عم أحمد — ذات يوم — إلى بلدته أَصفُون المطاعنة بالصعيد، ربما لإحساسه بدُنو النهاية.

عرَفنا من أبي أن صاحب البيت كلمه عن بوابٍ جديد.

مات عم أحمد في بلدته.

•••

أتأمل الصورة الباقية، الوحيدة، لأبي: البشرة السمراء، الشعر المتداخل السواد والبياض، العينين اللتين تشيان بطيبة واضحة، الشارب الخفيف من طرفيه، الشفتين الممتلئتين. ومع أن أبي كان يرتدي البدلة الكاملة والطربوش، فإنه اختلف عن أفندية جيله في إهمال المِنشة التي كانت — في الأغلب — لزوم الأناقة الكاملة! فضلًا عن أنه كان يدس ساعة في جيب بنطلونه الأمامي، دون أن يصلها بسلسلة، أو كاتينة حسب التعبير المتداول آنذاك. كان رأيه أن أناقة المرء في شيئين: قميص أُجيدَ كيُّ ياقته، وحذاء أُحسنَ تلميعُه.

يقاسم أبي — في جلسته الثابتة — «سبرتاية» وكنكة وعلبة بن وأكواب صغيرة وملاعق. يطمئن إلى «التلقيمة»، تظل يده ممدودة بها فوق «السبرتاية» حتى يغلي الماء المخلوط بالبن، وتتكون — أعلى الكنكة — طبقة رقيقة تُسمى «الوش» (الوجه)، يصبها في كوب، ويبدأ في احتساء القهوة.

عانى أبي مرض الربو، فأنا لا أذكره إلا مريضًا، يسعُل، ويشكو ضيق التنفس، نسبقه بكرسي على سلم البيت إلى شقتنا في الطابق الثالث. يجلس على كرسي، ويسند ساعديه إلى كرسي آخر لينام، يستغيث بفمه المفتوح، ونظراته، فنحرك ورقة كرتونية استجلابًا للهواء!

أذكر يومًا ضبابيًّا، بمعنى أن تفصيلاته تغيب، إلا من نثارات متباعدة. أقام أبي في «مَبرَّة محمد علي» ما يقرب من عشرة أيام، أُخضع فيها صدره لتجرِبة دواء جديد — حينذاك — أكد الأطباء أنه قد عالج حالات كثيرة، خارج مصر، وأن تعاطي الدواء — تحت إشراف طبي — يبدو المتاح الوحيد لشفاء أبي من مرضه المزمن.

غادر أبي المَبرَّة دون أن يطرأ على صحته تحسنٌ ما، وسافر إلى القاهرة أشهرًا طلبًا للجو الجاف في حُلوان — حيث تقيم عمتي — وبعيدًا عن رطوبة الإسكندرية. لكن المرض ظل على رُفقته القاسية له. وكان أبي يوقظني — في ليالٍ كثيرة — لأجري بآخر قوتي إلى صيدلية الإسعاف، بالقرب من ميدان المنشية — الصيدلية الوحيدة التي كانت تقدم خدمة ليلية — وأعود بالمناوب — لا أعرف إن كان طبيبًا أم ممرضًا — يحقن أبي بالأدرينالين الذي كان يجد فيه مسكِّنًا لا بأس به. وكان الأدرينالين — فيما أذكر — هو الذي أنقذ أبي (أذكرك بما رويته في «حكايات عن جزيرة فاروس») من موت حقيقي. صوتت أمي، ورددت ما تقوله النسوة في وداع الأحباء، ونقلَنا الجيران إلى شقة الدخاخني المقابلة، وتمدد أبي — للمرة الأولى منذ أكثر من عشرين عامًا — على حَشِيَّة فوق الأرض، قبل أن يُعِدَّه الحانوتي للرحيل، فلما حقنه موظف الإسعاف بالأدرينالين، عاد إليه وعيه، وعادت إليه حياته، وماتت أمي قبل رحيله بثمانية أعوام.

لا أذكر الأمراض التي كان يعانيها أبي، لكنني أذكر الربو وتأثيراته القاسية في حياة أبي وحياتنا، حتى إني — لتواصل معاناته — كنت دائم التوقع لوفاته. وحين رحل أبي — قبل أن يبلغ الستين — لم أعرف ما إذا كان الباعث هو الربو، أم أنه أصيب بأزمة صحية لم يكن الربو سببًا لها.

أدت الجينات دورها في رُفقة المرض لي، ثم لابنيَّ «أمل ووليد»، صار صديقًا أسريًّا، نعاني سُخْف زياراته، ونحاول — بالعلاج — تلطيف تأثيراتها القاسية. الشفاء التام — كما أرى — يلامس المستحيل. ولعلي أضيف أن بعض الأدوية — الكورتيزون مثلًا — قد تهدئ ثائرة الربو في داخل الجسد، لكنها تتسلل إلى أجهزة أخرى، فتصيبها بتأثيرات يصعب التعافي منها.

•••

كانت أمي تحرص على النظافة إلى حد الوسوسة. وكان أبي يحرص على الترتيب والنظام بما يثير انتباهي، حتى ارتداء ثياب الخروج، واستبدالها بثياب البيت والعكس، يدس ساقيه في البنطلون، ثم ينزع الجلباب، ويرتدي القميص، فالكرافتة، فالجورب، ويلمع الحذاء بقطعة قماش، قبل أن يدس قدميه فيه. وبعد أن يطمئن إلى كل شيء، يلتقط الطربوش من فوق الشماعة، يثبته على رأسه، ويتجه إلى باب الشقة. البنطلون والجاكت، وحتى البيجامة أو الجلباب، لها مواضعها في الشماعة، أو يتأكد من تجاورها لما في الدولاب. كتبه وقواميسه وأوراقه وأجنداته ونوتته الصغيرة، يعود إليها — بين فترة قصيرة وأخرى — ليعيد تصنيفها وترتيبها. وعندما لاحظت أن ذقني تحتاج إلى حلاقة، لجأت إلى الماكينة التي يحلق بها أبي. وأذكر أنه نبهني إلى الجانب المطوي في غلاف الموسى، ذلك هو الجانب الذي استخدمه في الحلاقة، وبوسعي أن أستعمله لأن ذقني ما تزال خضراء — على حد تعبيره — ومن الأصوب ألا تكون الشفرة حادة!

ولأن أبي كان مشغولًا بعمله وقراءاته، فقد تنازل عن سُلطاته في البيت لأمي، ولم تكن في حاجة إلى ذلك. كانت قد أهملت مرضها، وانصرفت إلى تربيتنا كما ينبغي — في تصورها — أن يكون.

لا أذكر أن أبي وجَّه لي، أو لإخوتي — عدا مرة وحيدة حدثتك عنها في «حكايات عن جزيرة فاروس» — لومًا أو عتابًا أو توبيخًا، أو عقابًا لأي سبب، بل إنه كان يؤدي دور الوسيط بيننا وبين أمي، لتهبنا مساحة من الحرية، فنهبط إلى الشارع الخلفي، نشارك الأولاد ألعابهم.

ومع أن أبي لم يقترب مني بصورة حقيقية، لم يعرف اهتماماتي، وما أحب وأكره، فإنه اكتفى بنظرة الأب التقليدية التي ترى في الابن مجرد «عيِّل» يحتاج — دومًا — إلى النصح والتوجيه والمساعدة.

وكان أبي يحب السمك والكوارع. ربما تناول الغداء — بمفرده — في مطعم سلامة بشارع فرنسا. يقول وهو يتجه إلى باب الشقة: «اقضوها». وكان «أبو فروة» فاكهته المفضلة، يطلب مني شراء أُقَّة من بائع «أبو فروة» الضرير، في التقاء شارع الميدان والسعارنة، تطول وقفتي حتى ينهي الرجل تحميصها — هل هذا هو التعبير الصحيح؟ — أدفع ثمنًا لها ستة قروش. رغم التعب الذي كان يستغرقني في شراء «أبو فروة»، فإنه لم يكن من الفاكهة التي أحبها!

•••

لا أدري كيف كوَّن أبي صداقات مع ناس مهمين في الحياة المصرية بعامة، والسكندرية بخاصة. كانت له صداقات يعتز بها مع «أحمد مرسي بدر باشا»، و«أحمد فرغلي باشا»، ومؤسس مشروع المواساة «فهمي عبد المجيد»، والكُتَّاب «صِدِّيق شيبوب» و«خليل شيبوب» و«محمد مفيد الشوباشي» و«الأجهوري» — لا أذكر بقية الاسم — نائب الوفد عن دائرة الجمرك، و«حسين فهمي» رئيس مجلس إدارة شركة الملح والصودا، ومدير مكتب «المقطم» في الإسكندرية الذي نسيت اسمه، وإن أتذكر قامته المتوسطة، وشاربه المربع، وشفتيه الممتلئتين، وبنطلونه الواسع، والحمالتين تشدانه، وتضغطان على القميص، وتصرفاته الجادة وهو يتسلم مني مقالات في الأمور الاقتصادية من أبي لنشرها في «المقطم»، ويسلمني نسخة من الأعداد التي نشرت مقالات سابقة.

كان صوت أبي يشي بالتأثر وهو يتحدث عن المؤامرة التي حاكها الملك فاروق لانتزاع مستشفى المواساة من مؤسسه «محمد فهمي عبد المجيد»، وإسناد إشرافه إلى رجل من حاشيته «أحمد النقيب»، وهو — بالمناسبة — والد الطبيب سعيد الذي كان يمتلك بيتنا بشارع إسماعيل صبري.

وكان أبي يعتز بصداقته للصحفي الشهير «محمد عوض جبريل». ومع أن قراءة التاريخ والكتابة فيه، هي المجال الذي حدده لنفسه الدكتور «يونان لبيب رزق»، فإنه كتب عن «محمد عوض جبريل» باعتباره قارئًا اسمه كذا. لم يقرأ الرجل مقالات «عوض جبريل» في صحف الثلث الأول من القرن العشرين، ولا قرأ عن دوره الوطني الذي عرض له «مصطفى أمين» في تحقيقاته بالأخبار عن أحداث ثورة ١٩١٩م. وظني أنه كان يكفي نشر المقال الطويل الذي أشار إليه «يونان لبيب» في صفحة الأهرام الأولى، ليدرك القيمة التي يمثلها الرجل، وأنه من العيب الذي يستحق المؤاخذة، أن يشار إليه باعتباره قارئًا مجهولًا.

بالمناسبة، فقد مارست عادة القراءة في زياراتي المتعددة لبيت «محمد عوض جبريل» في المنيل. كم كانت سعادتي وأنا أقرأ ديوانًا للشاعر «علي محمود طه»، ورواية ﻟ «محمد لطفي جمعة»، وكتبًا للمنفلوطي، كلها مهداة بكلمات جعلتني أتحسر على أني زرت بيت الرجل بعد رحيله. كنت في صحبة عمتي التي حرصت على زيارة أرملة ابن عمها.

بديهي أن تنشأ صداقات بين أبي ورجال الأعمال، سواء من المواطنين أم الأجانب، أتاح له عمله نشوء تلك الصداقات، واستمرارها … لكن اتساع صداقاته بحيث شملت ساسة وأدباء وصحفيين وغيرهم، ظل يثير تأملي، وبالذات في ظل العزلة التي فرضها عليه المرض، فهو يزاوج بين حياته الوظيفية وحياته الاجتماعية.

•••

أهديت أبي كتابي «مصر من يريدها بسوء»، كنت أعني الإهداء تمامًا؛ أعني كلماته ودلالاته. كانت «مصر» هي المفردة التي تتخلل معظم آرائه، هو دائمًا ينتصر لها؛ للتاريخ والمكان والأحداث والناس والزعامات. قد يبدِّل رأيه في زعيم ما أحبه، لأنه — في تقدير أبي — تصرف بما يجاوز المصلحة العامة. وعلى سبيل المثال، فهو قد أحب «محمود فهمي النقراشي» لعصاميته ونظافة يده، ولأنه هتف في الإنجليز من منصة مجلس الأمن: «اخرجوا من بلادنا أيها القراصنة»، لكنه أخذ عليه — بكلمات غاية في القسوة — حادثة فتح كوبري عباس، ليسقط العشرات من الطلبة في قلب النيل، ما بين قتيل ومصاب، إذا لم تكن تلك هي خيانة الوطن، فماذا تكون الخيانة؟!

وأذكر أن أبي تابع — صامتًا — حديثي عن امتحان اللغة الفرنسية في الشهادة الابتدائية، أشرت — لأطمئنه — إلى سكوت المدرسين عن محاولات الغش، كل تلميذ يميل على جاره، يلتقط ما استعصت إجابته.

تبدَّل وجه أبي في اللحظة التالية، كساه غضب أفزعني: هل فعلت هذا؟ هل تنجح بالغش؟

صحت لأنقذ نفسي: الامتحان كان سهلًا، لم أحاول الغش!

وفاجأني أبي بالسؤال عند عودتي — ذات مغرب — إلى البيت: أين كنت؟

– ألعب في الشارع الخلفي.

استطردت متسائلًا: لماذا سألتني؟

– كما تعرف، فأنا لا أسألك عن تصرفاتك، افعل ما تشاء بالطريقة التي تناسبك.

صمت قليلًا، ثم استطرد: لكن إن وجهت إليك سؤالًا، لا تلجأ إلى الكذب!

حاولت — من يومها — ألا أضع نفسي في موقف، أُضطر لمداراته بالكذب. لا ألامس الغرور، أو أبتعد عن التواضع، لو قلت إن الخشية من سؤال أبي هي باعث كل تصرفاتي حتى الآن، رغم انقضاء أكثر من نصف قرن على مفاجأة السؤال!

وحين وضع أبي الساعة الصغيرة على الطاولة أمامي، لم أكن قد ارتديت ساعة يد من قبل، وإن ظل في مقدمة أمنياتي أن أقرِّب ساعدي من عيني، فأطالع الوقت.

لا أذكر المناسبة التي أهداني فيها أبي الساعة، ربما أهداها لي بلا مناسبة، لكن فرحتي كأنها ماردٌ ظل حبيسًا في داخلي حتى غادر قمقمه بتصرف أبي.

أصبحت الساعة — منذ أحطت بها مِعصم يدي — جزءًا من سلوكياتي، أنظر إليها في كل وقت، وفي غير وقت، أمسح السطح الزجاجي بكم قميصي، أتهجى الكلمات الإنجليزية، أتابع حركة العقارب الثلاثة: الساعات والدقائق والثواني، أتأكد من التفاف السوار الجلدي حول رُسغي، ومن تثبيت الإبزيم في السوار، مجرد أن أقرب الساعة من عيني، أقول لنفسي، أو لمن يلمح تصرفي: الساعة كذا، أكرر الفعل في الشارع والترام والمدرسة وحلقة سماع دروس المغرب حول إمام جامع سيدي علي تِمراز، أكرره حتى وأنا أذاكر في الحجرة المطلة على الميناء الشرقي — أو المينا الشرقية في تسمية السكندريين — وربما مِلْت على الواقف بجواري في ترام رقم ٤، أسأله: كم الساعة؟ … وأنظر إلى ساعة يدي لملاحظة الفرق، لا يشغلني الوقت في ذاته، إنما الذي يشغلني هو تقديم ساعتي للآخرين.

ذات مساء، وقفت أمام شُباك تذاكر الترسو في سينما «ركس». لا أذكر الفيلم الذي أردت مشاهدته، لكنني أذكر الزحام الهائل أمام شُباك التذاكر، والتعبير — أعترف — تنقصه الدقة، فقد تلاصقت الأجساد البشرية في مساحة الشارع الضيق، إلى ما بعد الميدان قبالة السينما، من يريد أن يحصل على تذكرته قبل الآخرين يتسلق جدار السينما على أي نحو: عمود النور، ماسورة الصرف الصحي، ثقوب الجدار … ثم يلقي بنفسه فوق الرءوس المتلاصقة، ويعوم — هل ثمة تسمية أخرى؟ — حتى يصل إلى موضع الشُّبَّاك، ويمد يده بالنقود ليحصل على التذكرة، أو التذاكر إن كان معه أصدقاء!

لم أشفق على نفسي من الزحام الخانق (أعاني منذ الطفولة كتمة نفَس لأقل سبب) ولا خشيت الإصابة، ولا حتى تقطيع هدومي. خشيت — فقط — على الساعة في يدي، ولعلي أردت أن يعرف البحر المتلاطم من حولي أني أتميز بساعة يد جميلة‍.

رفعت يدي وأنا أحاول تبين الاتجاه نحو الشباك، تكررت رؤيتي المتباهية للساعة أعلى الرءوس، حتى تبينت خلو ساعدي من الساعة، ابن الحلال رقمها، فلم يتح لي — في الزحام الخانق — مجرد الشعور بلحظة انتزاعها من يدي.

شغلني — في اللحظة التالية — أن أبتعد — بحزني القاتل — عن المكان.

عدت إلى البيت، رويت لأبي ما حدث.

واجهني بما توقعته: إهمالي ضيع الساعة، فأنا أستحق ما حدث!

ما لم أتوقعه، وفاجأني به أبي، أنه سحب كرسيه (لم يعرف جسده الرقاد على السرير — بتأثير الربو — معظم حياته) وجلس أمام سريري، وقال بلهجة مهوِّنة: مش عاوزك تنام زعلان … بكرة أجيب لك ساعة تانية!

•••

كنت طرفًا في أزمة الثقة بين أبي وبيني. كان يتشكك في تصرفاتي، ويرفضها، ويجد في تصرفات أخي «علي» ما يستحق الثناء، دون أن يحاول التثبت بين ما هو خطأ، وما هو صواب. تصورت الباعث لما نعانيه، إصرار أبي على أن ينفق ما في الجيب ليأتي ما في الغيب. وكان أفق الغيب ضبابيًّا أو قاتمًا.

أقعَد المرض أبي عن العمل في ثلاث شركات، واحدة فأخرى، ثم لم يعد يغادر البيت. صرت أتردد على الشركات الثلاث، وشركات أخرى غيرها. أعود بأوراق للترجمة من لغة إلى أخرى، أسلم كل شركة أوراقها، وأتسلم المقابل. ثم فرض المرض على حياتنا خيمة من الحزن السادر. بدا التوقع مشكلة، ونَعَينا همَّ الوجبة التالية، واتسمت علاقاتنا الشخصية بالارتباك والتوتر، حتى أبي لم يَسْلم من كلماتٍ تعيب عليه تصرفاته.

أذكر أن أخي قال — ونحن نتناول طعام الغداء — ما أثارني. رفعت عبوة زيت شركة الملح والصودا، من الكرتون أو الورق المقوى، وعليها صورة لأبي الهول، وقذفت بها في وجهه. تنقلَتْ نظرات أبي الغاضبةُ بيننا، واكتفى بالقول: «خلاص». ومضى إلى حجرته دون أن يستكمل غداءه.

عرضت على أبي أن ألتحق بعملٍ ما يعينني على مواجهة ظروفي المادية الشخصية (في داخلي عقدة — حدثتك عنها من قبل — كيف أحيا من إنفاق شخص آخر، حتى لو كان أبي؟!)

قرن أبي موافقته بأن أحقق تقدمًا في الدراسة. وأحرزت درجات متقدمة بالفعل في كل المواد، عدا الفرنسية التي فاجأني أبي — ذات يوم — بفرمان يستبدل الفرنسية بالإنجليزية، لأنها — في رأيه — لغة المستقبل.

لم يكن أبي يضربني، فأكرهه. لكنه تدخل في حياتي بما هو شر من الضرب، أصر على قولبتي في الشخصية التي يريدها، وليس كما أمنِّي نفسي.

ما كان يضايقني — في داخلي رواسب منه — أن أبي لم يكن مقتنعًا بأن ما أكتبه هو بقلمي، وأني أمتلك الموهبة بالفعل. لم يحاول أن يناقش كتاباتي، ولا حتى أن يسخِّف ما قرأه. كان يعيدها لي دون قراءة، دون أن يفض الأوراق المطوية، يكتفي بالقول: «أعرف قدراتك!» … كيف عرَف قدراتي دون أن يتعرف إليها؟!

عملت في شونة ستاني بالورديان. أوصى بي رئيسَ قسم القضايا ببنك التسليف الزراعي الذي يمتلك الشونة، ابنُ عمي المحامي محمد جبريل. تحدَّد عملي في متابعة العتالين وهم ينقلون أجولة الغلال من اللُّوريات إلى داخل الشون، يرصونها في لوطات على امتداد مساحة الشونة.

لم أكن أؤدي — في شونة ستاني — عملًا حقيقيًّا. وظيفتي هي مراقبة الشيالين في أثناء عملهم. لم تُحدَّد لي طبيعة المراقبة: هل هي تكاسل الشيالين عن نقل الأجولة من عربات النقل إلى داخل الشونة؟ أو أنهم يسرقون كميات من الغلال لأنفسهم؟ أو أنهم يغيِّبون أجولة كاملة؟

أصل في الصباح الباكر. في السابعة تمامًا يفتح ميخائيل أفندي باب الشونة الحديدي، لم أعرف وظيفته تمامًا، وإن أدركت أنه هو المسئول الأول في الشونة. يشير إلى موضع أمام بلوطات الأجولة، أقف أمامه، أتأمل حركة الشيالين بين اللوريات وصفوف الأجولة، يضيفون إليها حتى تكتمل، أكتفي بالفرجة، أو شعور التأثر، ربما شاركت الشيالين أغنياتهم.

حين طلب ميخائيل أفندي أن أنتقل لإدارة الحسابات داخل الشونة، عرفت أن العمل — بالنسبة لي — ليس مطلوبًا، وإنما المطلوب مجاملة ابن عمي!

دفعت مكافأتي الأولى مقابلًا لمشتريات من شارع الميدان، أحاول تلافي المأزق الذي كنا نواجهه، لكن أبي ساءه تصرفي كثيرًا.

كان ما حدث أشبه بالشرارة التي أشعلت نيرانًا لا تخمد حتى تشتعل في العلاقة بين أبي وبيني. كان لأَخويَّ على تصرفاته ملاحظات، وكانا يواجهانه بها، لكنه — لا أدري لم؟ — كان يضيق بملاحظاتي، ويسخِّفها.

وحين سافر إلى القاهرة لاستجلاب الغوث من عمتي، قصر رسائله على أخي وأختي، ولم يُعْنَ بمراسلتي، ولا التحدث عني بخير أو بشر. ولما أتقنت الفرنسية، وقرأت ما كان يسجله أبي في أجندات صغيرة، حزنت لرأيه السلبي في أفكاري وتصرفاتي. مع ذلك، فإني أَدين لأبي بالكثير من الأفكار المهمة التي كانت — فيما بعد — قِوامًا لمشروعي الإبداعي.

إذا حاولت أن أتبين — في نفسي — مدى تأثري بنظرة أبي إلى الكثير من الأمور، فإن أول ما ألاحظه انشغاله بالهموم المصرية، هو دائم التحدث — حتى مع أمي التي قَصَرتْ حياتها على رعاية البيت ومعاناة المرض! — عن تزوير الانتخابات، وخيانة أحزاب الأقلية، ومظاهرات الطلبة المنددة بتصرفات الملك وحاشيته، وخطورة قيام دولة صهيونية في قلب الوطن العربي، والتلوث الذي يُلحقه صرف المجاري في مياه المينا الشرقية.

لم يكن أبي مقتنعًا بضريبة الاثنين في المائة، يعتبرها عقد إذعان لا مبرر له، فرضته حكومة إسماعيل صدقي لتمويل عملية إنشاء كورنيش الإسكندرية. مضت الأعوام على إنشاء الكورنيش، فلماذا تصر الحكومة على مواصلة فرض تلك الضريبة؟

بلغ عدم اقتناع أبي بالاثنين في المائة حد رفض دفعها، لم يرجع عن قراره إلا حين وقف صول يتبع المحافظة وسط الصالة، يحصي ما سيتم الحجز عليه من أثاث البيت لقاء الضريبة التي يرفض أبي دفعها!

ثمة قضايا أخرى كثيرة، لم يكن أبي يضيق بأسئلتي فيها، ولا الآراء التي قد أتجرأ فأهمس بها، لذلك جرى القلم بهذه الكلمات في الإهداء المطبوع لكتابي «مصر من يريدها بسوء»: «إلى أبي … فمن أحاديثك، ونفسك المحبة الطيبة المتسامحة، تعلمت حب مصر.»

وأذكر أن الإحساس بالطِّيَرة كان يغلب — ساعات الصباح — على أفكار أبي وتصرفاته. ربما بدَّل ثيابه، ولا يغادر البيت، لترامي صوت شجار من الطريق، أو نُباح كلب فيما يشبه العُواء، أو مُواءٍ متواصل من قط.

(استعدت تلك اللحظات في روايتي «زمان الوصل».)

•••

مات أبي في سن تسبق السن التي أكتب فيها هذه الكلمات بحوالي عشر سنوات. مع ذلك، فإني أذكر خوفي الذي كان يتجدد — كل صباح — من أن أبي قد رحل، فأنا أنظر من زيق الباب الموارَب، أطمئن إلى أنه يحتسي القهوة، أو يقرأ، أو يغفو على المقعد الذي أسند إليه ذقنه.

أجد أبي؛ ملامح من شخصيته، في «حكايات الفصول الأربعة» و«كوب شاي بالحليب» و«رباعية بحري» و«تكوينات رمادية» و«أهل البحر» و«مد الموج»، وغيرها. ليس أبي بالتحديد، ليس طبق الأصل، أو الحافر على الحافر على حد التعبير اللغوي، لكنه ذكَّرني — في لحظات الكتابة — بشخصية الرجل المترجم، المحب للقراءة، المهموم سياسيًّا، المحب لأسرته، وهي الصفات التي يمكن تلخيصها في تسمية «أبي».

•••

المشكلة التي تواجه المبدع هي القارئ الذي يخلط بين الواقع والخيال، يقرأ النص الأدبي باعتبار أنه قد حدث بالفعل، يعمق تصوره عندما يأتي السرد على لسان الراوي، فهو إذن يروي تجرِبة شخصية، والأوفق أن ينسب العمل إلى السيرة الذاتية.

بعد قراءته قصتي القصيرة «نبوءة عراف مجنون» جاءني صوت ابن عمي اللواء «عادل جبريل» عبر التليفون، محملًا بالغضب: لماذا كتبت عن أبيك بهذه الصورة القاسية؟!

وتبين لي — بعد لحظات من محاولتي توضيح الأمر، وأن نسبة الحدث إلى الأب، أو الأم، أو شخصية ما يذكرها المبدع مسبوقة بصفة تقرِّبها منه، لا يعني بالضرورة أن ذلك كذلك، إذا تبدى الصدق، فهو صدق فني يُحسب للمبدع، ولا يُحسب عليه، بمعنى أن الفن ليس هو الواقع، وإن وظف الفنان الواقع، أو أجاد فأوهم بالواقع — تبين لي أني أخاطب من أَلصقَ اقتناعه الشخصي في أذنيه، فلا سبيل لإقناعه بغير ما استقر عليه فهمه!

أذكر أن «إيزابيل الليندي» أبدت تخوفها من أن تُغضب ذكرياتها — التي أزمعت كتابتها في عام ١٩٦٠م — بعض أقاربها، قالت لها وكيلتها الأدبية: «إذا كان لا بد من الاختيار بين الكتابة الإبداعية، وإغضاب الأقارب، فإن الكاتب المحترف سيختار الخيار الأول.» واطمأنت «الليندي» إلى صواب ما اعتزمته، وألَّفت كتابها «حصيلة الأيام».

•••

الصورة لثلاثة إخوة: سميرة وعلي ومحمد، التقطها مصور متجول، رآه أبي في جلسته على قهوة المهدي أسفل بيتنا. وضع الرجل عدسته الضخمة ذات الحامل الخشبي والستارة السوداء، واصطففنا أمامه، من حولنا — كالعادة — جيران تصادف وجودهم، ومارة لا نعرفهم. أصدر الرجل أوامره من داخل الستارة، ثم نزع الغطاء الأسود من فوهة العدسة، وعلا صوته بالقول: «مبروك.»

كان أبي قد خلف لنا — بعد رحيله — ظروفًا قاسية، أو مأساوية. لا مدخرات، ولا معاش، ولا إيراد من أي نوع.

بدأنا في معاناة همِّ الوجبة التالية. حاول أهلنا تخفيف الأزمة، نزلنا لفترةٍ — فرادى — ضيوفًا على بيت عمتي، أو عمي، في محرم بك، أو بيت عمتي في حي المنيرة بالقاهرة. ثم الْتأم شملنا ثانية، ونزلت وأخي الأكبر إلى سوق العمل، لننفق على البيت والدراسة، بينما اكتفت شقيقتي الكبرى سميرة بمؤهلها المتوسط، كي تُعنَى بأمورنا.

صارت أختي أمًّا لنا — بحكم الضرورة — قبل أن تبلغ الرابعة عشرة. كان أبي يحب سميرة — أو سمرة كما كان يناديها — لكنها لم تكتم استياءها حين ألقى بقفاز المسئولية في براءة طفولتها، ورحل.

عانت سميرة في تسيير أمور حياتنا بما لا تقوى عليه سنها الصغيرة. دبَّرت، واختصرت، واختزلت، حتى تستمر حياتنا بأبسط المقومات. وكانت تتفنن في إعداد الطعام بأقل تكلفة، وألذ طعم.

«يحيى حقي» يقول: «الماضي مهما كان مرًّا فهو حلو.» هذا القول يصح في ذكريات كثيرة، لكن الواقع المأساوي (لا أجد تعبيرًا آخر!) الذي عشناه، وعاشته سميرة بخاصة، من المستحيل أن نجد فيه شبهة حلاوة! كنا نعاني هم قدوم الليل، لنعاني هم مجيء النهار، ونعاني هم اليوم التالي، والأيام التالية، ما نسيناه — أو اضطُررنا لتناسيه — سِنِي الرخاء التي أتاحتها لنا موارد أبي الكثيرة من وظائفه كمترجم في العديد من الشركات الأجنبية المهمة، وفي العديد من اللغات. وكان استياء سميرة أن أبي أنفق ما في الجيب، فأتى الغيب بما لم نكن نتصوره!

أصارحك بأنه لو لم يقدِّم جمال عبد الناصر إلى المواطن المصري (قدم له الكثير) سوى التأمينات التي تتيح له معاشًا شهريًّا، فإن تطبيق ذلك القانون، مثَّل بداية حياة جديدة للملايين من الأسر المصرية التي كانت حياتها تتبدل إلى النقيض، لمجرد وفاة العائل!

تذكرني سميرة بدومينيك في روايتي «ذاكرة الأشجار»، لا تشابه بين الشخصيتين في الديانة، ولا الملامح الظاهرة، ولا نوعية البيئة التي تنتسب إليها كلٌّ منهما، ربما التشابه في رعاية سميرة الصامتة للبيت، لا تتكلم، ولا تناقش، ولا تتذمر، العناية بأمور البيت قدرها الذي لا سبيل إلى مقاومته، حتى بعد أن رحل أبي، لم يرتفع صوت سميرة، ولا شخطت في أحدنا، ورغم الأعوام القصيرة — بينها وبيني — فإنها كانت تحرص أن تدفع بي إلى الحمام، في فترات متقاربة (وسواس النظافة عادة ورِثَتْها عن أمنا) تدلك أعلى جسدي بيدها، وتنصرف قائلة: «كمِّل انت!»

تزوجت سميرة المهندس مصطفى الباشا، عملت مدرسة بمؤهلها المتوسط، أعوامَ اشتغاله مهندسًا للبترول في ليبيا (وطن جده) ثم عاد الزوجان إلى مصر، بداية لرحلة المعاش.

•••

الصورة تحتل معظم الصفحة في الألبوم، سحبتها من الغلاف البلاستيكي، قربتها من عيني، وأسلمت نفسي للتذكر.

ميَّز أبي أخي الأكبر «علي» لا لأنه الأكبر أو «الولد البكري» — كما عند الكثير من الآباء — وإنما لأنه ورث سحنة أمي، وخضرة عين جدتي. لم يقتصر الأمر عند إعجاب أبي ببعض «خِلفته»، بل امتد الإعجاب إلى الأهل والجيران، فهم يُولُون أخي اهتمامًا، بدا — بالنسبة لشقيقتي الكبرى ولي — أقرب إلى الروتين، أو المألوف، أو الحقيقة التي يعترف بها الجميع. «محمد — اسم الله عليه — جميل، لكن علي قمر … ربنا يحميه!»

مع ذلك، فإنه لم يداخلني — ذات يوم — شعور سلبي تجاه أخي. لم أكن أجد في تصرفاته الكثيرة تجاهي ما يحض على الكراهية، لم أناقش الأمر على أي نحو، واعتبرت حبي له أمرًا مسلَّمًا.

لا أذكر لارتباك العلاقة بين أخي وبيني سببًا محددًا، لا أذكر سببًا ما، لم يكن ثمة مجال للتنافس، فاهتماماتنا مختلفة، هو يحب السباحة وركوب الدراجة والنزهة مع أصدقائه، وأنا أميل إلى الاعتكاف في البيت للقراءة. حتى أيام الشقاوة في الطفولة، كنت أَلزَم دور التابع للمتبوع، هو أخي، يأمر وأطيع، إن حاول الفرار من العقاب انطلقت وراءه دون أن أتبين طبيعة ما فعل، وربما عوقبت للظن بأني هو. رويت لك — في «حكايات عن جزيرة فاروس» — ما واجهته من مآزق، نتيجة لتطابق ما كنا نرتديه من ثياب.

أذكر مواقف كثيرة، غاب فيها الحب عن أخي: في طفولتي الباكرة، كان يتسلى بلطمي على رأسي، أو لكزي في كتفي أو ظهري. السبب لا أعرفه، فهو لم يكن يُردف ما يفعله بشرح المعنى، إنما يكتفي بفعل الإيذاء، وتعرف أمي ما حدث دون أن تغادر حجرتها، أو إن كانت في المطبخ، يعلو صوتها: «عيب يا علي، ما لكش دعوة باخوك!»

كانت هوايات أخي متعددة، ومنها مشاهدة الأفلام (في ذكرى الأربعين لوالدتي همس في أذني: سأذهب إلى السينما، إن سأل أبي، قل: ذهب لمشوار قريب!). حدثتك في «حكايات عن جزيرة فاروس» عن استكمال أخي ثمن إيجار الدراجة من نقودي مقابلًا لكتاب «الأيام» الذي سحبه من مكتبة أبي، وكان بداية تعرفي إلى الكتب الأخرى في المكتبة.

ظلت القراءة حبًّا شبه وحيد، منذ اجتذبتني مكتبة أبي.

كانت «البعكوكة» من المَجلات التي يأتي بها أبي إلى البيت، ضمن صحف بلغات متعددة. لم تكن مَجلة أطفال، لكنني حرصت على قراءتها من الغلاف إلى الغلاف؛ شخصياتها وفكاهاتها وأحداثها المخترعة والغريبة، دفعت خيالي إلى غير مدى، الأزجال ليست مجرد كلمات مرصوصة، لكنها تنطوي على معانٍ تستحق التأمل: «السيد عقل»، «محمود الكمشوشي»، «محمد مكيوي»، «كامل حسني»، «ميلاد واصف»، «محمود خطاب»، وعشرات غيرهم، إذا اتسعت لهم الذاكرة، فإن المساحة لن تتسع لهم. مثَّلت قصائدهم لي دافعًا، كتبت بتأثيره محاولات في الزجل، وفي شعر الفصحى، ثم تبينت سذاجة ما كتبت. كما أذكر يوميات «أم سحلول» عن البيئة التي تنتسب إليها، عالم حافل بالفكاهة والسخرية والمأساة، والضغط — بشدة — على مواجعنا الاجتماعية، هي تعيد إلى أنظارنا وذاكرتنا ما كنا عبرناه بالمشاهدة أو القراءة، نجد العبرة والمعنى الذي ربما لم نفطن إليه.

الزعم بأن القارئ المصري لا يحب حجم «التابْلُويد»؛ أي نصف حجم الجريدة العادية، وجد نفيًا له في إقبال القراء على «البعكوكة»، حققت مبيعاتها ما يفوق مبيعات بعض الصحف اليومية والأسبوعية، ثم جاءت نهايتها — كأغلب مشروعاتنا الخاصة، الناجحة — بوفاة صاحبها عزت المفتي!

ذوى حبي لتنس الطاولة والجمباز والصيد بالسنارة واللعب في الشارع الخلفي، حل — بدلًا من ذلك — حبٌّ للقراءة قويٌّ، ومسيطر. أصابني ما يمكن أن أسميه مرض القراءة، أقرأ في كل الأوقات المتاحة، في مكتبة أبي، في فسح المدرسة، في فراغ ما بين المذاكرة، على شاطئ البحر، في صحن «أبو العباس»، في حديقة سراي رأس التين، في مكتبة البلدية، في كل بيت لأقاربي يوجد فيه كتب ودوريات. وقد ظلت ثقتي أني قارئٌ أكثر مني كاتبًا، قبل أن أقرأ الرأي نفسه ﻟ «بورخيس» عن صلته بالقراءة.

رغم تقدم العمر، فأنا — حتى الآن — أقرأ في كل مكان، على طاولة السفرة، سرير النوم، مكتبي في الجريدة، وفي البيت، في الأوتوبيس. ربما تشاغلت بالقراءة وأنا أنتظر صديقًا في مكان عام، صارت القراءة هدفًا في ذاتها، أقرأ وأقرأ وأقرأ، هذا هو التعبير الذي عبرت به — في أكثر مِن عملٍ لي — عن معنى القراءة في حياتي، أجلس إلى آلاف الشخصيات التي تغادر صفحات الكتب؛ علماء وأدباء وشعراء وفنانين ومؤرخين وفلاسفة وعلماء دين وساسة وقادة، شخصيات لا حصر لها، متباينة الصور والأمزجة والديانات والمذاهب، تتباين آراؤهم ما بين المحافظة والتطرف، الغباء والفهم، الحرص على الذات والحرص على الجماعة.

أذكر — بعد أن قرأت ما استطعت فهمه، أو ما صادف قبولي من مكتبة أبي — أني بدأت في التنقل بين المتاح من القراءة في بيوت أقاربي وبيوت الجيران، وحتى الكتب التي أعارها لي زملاء المدرسة من مكتبات أسرهم، قرأت في سلسلة «أولادنا»، وكتب «كامل كيلاني»، ومجلة «البلبل»، ومجلة «سندباد» التي كان يحررها «محمد سعيد العريان»، ويبدع لوحاتها الفنان «بيكار» (أذكرك أني قرأت الأعمال المكتوبة للأطفال في مرحلة تالية)، وقرأت في روايات الجيب وروايات الهلال، وتعرفت — للمرة الأولى — إلى «يحيى حقي» و«عبد الرحمن الشرقاوي» و«نزار قباني» و«صلاح جاهين»، في الكتب التي استعرتها من «ممدوح الطوبجي» زميلي في المدرسة الفرنسية الأميرية. كما حصلت على رواية «صالح حمدي حماد» «الأميرة يراعة» من تلميذ — لا أذكر اسمه — قذفها لي من شرفة منزله المطلة على شارع صفر باشا. وأتيت — فيما أظن — على كل ما كان جيران الطابق الثالث، في البناية المقابلة، يحتفظون به من مَجلات ودوريات.

رفض أبي فكرة أن أجلِّد ما أقتنيه من كتب، ما اعتبرته أقرب إلى اهتماماتي من كتب الأدب: «التجليد أولى به المكتبات العامة، فلا يتأثر بتداوله في الأيدي. أما مكتبتك (أسعدني نطقه الكلمة!) فأنت قارئها الوحيد، بقيمة التجليد تستطيع أن تشتري كتابًا جديدًا.»

لا أذكر أين قرأت أن الجنة تشبه المكتبة، المكتبة عندي لها مكانة ترقى — بالتجاوز — إلى مكانة الجنة! أسعد اللحظات حين أكون في مكتبة، أقف، أو أجلس فيها، أو حتى أدخلها للسؤال عن كتاب أريده.

يشير الأصدقاء إلى ضخامة مكتبتي، يقولون: يمكن اختزال هذا كله في بضعة أقراص مدمجة «سيديهات». أعرف أن الأمر ممكن، لكنني لا أريده، لا أتصوره، لا أتصور أني أتخلى عن أصدقائي الكتب، وأستبدل بهم أصدقائي السيديهات، اختزلت عالمي في المساحة المحدودة والمحددة. هذه الجدران المغطاة بأرفف الكتب، مجرد التطلع إلى الكتب المصفوفة، أو حتى المتراصَّة في كُومات على الأرض، يهبني إحساسًا ملتذًّا، سأفتقده في اختزال المكتبة الهائلة إلى حجم قبضة اليد، «قد الفيل وتنصر في منديل!»

كان أخي قد أضاف إلى هواياته عناوين هواياتي؛ والمعنى أنه كان يأخذ متعلقاتي الشخصية — الأقلام والكشاكيل بخاصة — ويحتفظ بها، حتى تنقضي أيام، ثم يظهرها باعتبارها أشياءه.

ذلك ما فعله أيضًا حين جاوزت قراءات مكتبة أبي إلى «المكتبة الحجازية»، و«مكتبة حمادة النن» بشارع إسماعيل صبري، و«مكتبة النن الكبير» بالموازيني، و«مكتبة فارس» بشارع رأس التين، وخلوت إلى القراءة في «مكتبة البلدية»، ولجأت إلى الاستعارة من «المكتبة الأمريكية» بطريق جمال عبد الناصر (أهم ما أذكره أجزاء قصة الحضارة لول ديورانت) ومن مكتبات أخرى، عامة وخاصة.

لعل «المكتبة الحجازية» كانت أشد تلك المكتبات تأثيرًا في حصيلتي المعرفية. أتاح لي الترددَ عليها قربُها من بيتنا في شارع إسماعيل صبري، فهي في بناية على مفترق الطريق بين الشارع وشارع الميدان، واجهتها أقرب إلى دكاكين البقالة؛ «البنك» الخشبي بعرض الباب المفتوح، يقف وراءه عم حجازي بجلبابه الأبيض، وطاقيته البيضاء. على الجوانب أرفف تمتد إلى السقف، غطتها الكتب، وعلت فوق الطاولة المستطيلة أوسط المكتبة، وثمة كتب بِرَبَطاتها على الأرض، ولِصْق الجدران.

تَذكُر اسم الكتاب، إذا نظر عم حجازي إلى أرفف المكتبة، فمعنى ذلك أنها تضم الكتاب الذي تطلبه، ربما قال: «أمهلني يومين أو ثلاثة.» أو دَلَّك على مكتبة في العطارين، أو عرض كتابًا بديلًا كالدواء البديل في الصيدليات!

قد يتحدث الرجل عن كتبٍ غير التي يجري السؤال عنها، يسأل عن طبيعة البحث، يقترح كتبًا تتناول الموضوع نفسه. وقد يشير إلى باحثين تشغلهم قضايا مماثلة للقضية التي تُعنَى بها. إذا كانوا قد أفادوا من مصادر ومراجع، فإنك تستطيع أن تعود إلى المصادر والمراجع نفسها.

لا أعرف كيف كان عم حجازي يزود مكتبته، لكنها كانت تضم الكثير من الكتب التي لا توجد حتى في المكتبات العامة، مثل «مكتبة البلدية» بالإسكندرية، و«مكتبة البلدية» بدمنهور، و«مكتبة جامعة الإسكندرية»، وغيرها. لم أره يشتري كتبًا قديمة يعرضها عليه أصحابها، لكن قِوام مكتبته — كما كان يصارح زبائنه — باعة الكتب القديمة بالعطارين، والمزادات التي تكون الكتب ضمن معروضاتها، بالإضافة إلى المستغنى عنه من مكتبات الأفراد.

لم يُتَح لي التعرف إلى الظروف التي أُغلقت فيها المكتبة الحجازية، رجحتُ — في عودتي المتقاربة إلى بحري — وفاة الرجل. وراثة النشاط المهني — عدا الشركات الكبرى — أمر يغيب عن حياتنا، منذ اتجه أبناء أحمد عبد الجواد — في ثلاثية نجيب محفوظ — إلى مهنٍ أخرى، تختلف عن تجارة العطارة التي ورثها عن أبيه. الأب التاجر، أو الحِرفي، يُعِد أبناءه — إلا نادرًا — لوظيفة في الحكومة، أو في القطاع الخاص.

جعلت من عم حجازي شخصية رئيسة في روايتي «أهل البحر»، وكان الرجل شخصية رئيسة في حياتي. الأمر نفسه بالنسبة لكثير من الباحثين عن القراءة الجادة، ليس في بحري فقط، ولا الإسكندرية وحدها، وإنما كان يأتي إليه أساتذة وطلاب ودارسون يطلبون الكتب التي تغيب عن المكتبات الأخرى.
أفدت من الظروف القاسية التي عاناها أبي، بتأثير مرض الربو، في تصور ظروف إغلاق المكتبة الحجازية، كما رويتها في «أهل البحر». قل نشاط أبي في العمل كمترجم من لغة إلى أخرى، داخل النشاط الاقتصادي للإسكندرية «الكوزموبوليتانية»، مقابلًا لزيادة تأثيرات المرض، حتى توقف عن العمل تمامًا. وكان تفاقم الربو في صدر عم حجازي هو النهاية التي تصورتها للمكتبة الحجازية؛ أتعبه المرض، فباع المكتبة، ولزم البيت.

ذلك ما فعله أبي، اكتفى بمذكِّرات وتقارير يترجمها من لغة إلى أخرى، أحملها إلى الشركات التي ظلت على صلتها به، وأعود إليه بمقابلها المادي، حتى مات في أثناء مراجعته قاموسَ فرنسيٍّ عربي، أو العكس (مرة وحيدة، شاهدت أبي يتحدث بلغات لا أفهمها، وإن بدا اختلاف كل لغة عن الأخرى. لَمَّا عدنا إلى البيت، عرَفت من أبي أنه كان يتكلم بالفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية والتركية واليونانية، بالإضافة — طبعًا — إلى العربية، تلك هي اللغات التي دفعته طبيعة عمله، وطبيعة التكلم باللغات التي يجيدها، إلى التكلم لمتحدثين، يجيد كل منهم لغة واحدة).

طالعتني المكتبة الحجازية — في زيارة تالية — مفتوحةً، وإن بدَّلت نشاطها؛ تحولت إلى دكان فاكهي! استعدت مكتبة شهيرة بشارع قصر النيل، كانت معروضاتها تقتصر على الكتب الأجنبية، ثم أُغلقت ليحل — بدلًا منها — دكان أحذية! والفاكهة — كما تعرف — طعام للبطن، مثلما أن الكتب طعام للعقل.

•••

كان عليٌّ يقلِّب الكتب، يختار منها — في غيبتي بالطبع — ما كتبت عليه اسمي، فيخفيه، ويظهره بعد المدة التي يحددها، وقد وضع اسمه بعد أن محا اسمي! أحتفظ — حتى الآن — بروايات ﻟ «إحسان عبد القدوس» و«عبد الحليم عبد الله» و«يوسف إدريس»، تناثر اسم أخي في صفحات كلٍّ منها، وكنت قد اشتريتها بمدخرات مصروفي!

لا أحاول ارتداء ثوب الملاك، فأنفي عن نفسي محاولة رد الاعتداء بمثله، طبيعتي المسالِمَة (دعك من شقاوة الطفولة!) أقرب إلى طبيعة أبي، هياجٌ وزعيق، ثم يهدأ البحر حصيرة، لا أُحسن رد الفعل الذي ينبغي حدوثه، أفكر في الشر لكنني لا أجيده، لا أستطيع التدبير، ونسج الخيوط بما يصنع «المؤامرة» (قالت لي زوجتي: أظن أن شخصية «زاو مخو» في روايتك «اعترافات سيد القرية» هي التعويض الفني لشخصيتك الحقيقية!)، ثم ما ألبث أن أنسى، وأتسامحَ، وأصفوَ، أمام ما أتصوره مراجعة للذات من الآخرين. أذكرك بما فعله الأخ الأكبر طارق حين طلب من شقيقه الأصغر حاتم — بعد وفاة الأبوين — أن يترك البيت لقاء مبلغ يدفعه الأخ الأكبر، ترك حاتم البيت بالفعل، وحين التقيا — مصادفة — في شارع الميدان، صفت نفس حاتم بتأثير كلمات طارق عن مصارين البطن وخناقاتها!

ذلك ما حدث معي بالفعل، تنقلت بين أكثر من شقة في أحياء الإسكندرية، حتى أُتيح لي العودة إلى البيت. قبلها، كان الحنين قد عاد بي، دخلت من الباب الحديدي المفتوح دائمًا. صعِدت الدرجات الرخامية الضيقة، فتحت باب الشقة بالمفتاح الذي أحتفظ به. بدت مكانًا آخر غير المكان الذي تركته منذ أيام قليلة، الأثاث هو نفسه، والأشياء في مواضعها، لكن المشهد بدا مختلفًا، ربما لأن أخي استبدل الإضاءة الخافتة غير المباشرة بما اعتادت الشقة أن تسبح فيه من إضاءة مباشرة، مصدرها لمبات كبيرة، أو نجفات متعددة اللمبات.

من الصعب أن أحدد المشاعر التي طالعتني. وقفت وسط الصالة، أجول بنظراتي بين الحجرات المفتوحة: هل هذا هو البيت الذي عشت فيه حياتي منذ الطفولة إلى الآن؟

ثمة شعور بالغربة، إلى جانب مشاعر أخرى، تبدأ بالحنين، وتنتهي بالحزن، لأني أُجبرت على ترك الموطن في صورته الأولى.

•••

حاولت أن أخطب ود علي، يتيح لي الاقتراب منه، يصبح أخي بالفعل، حتى إني كنت أعرض عليه محاولاتي الأولى في الكتابة. لم يكن أبي يثق في قدراتي، فتمنيت أن أحصل من أخي على اعتراف بهذه القدرات. كان يكتفي بتصفح ما أقدمه له، ويعيده مكتفيًا بالقول: «كويس»! وعرَفت — بعد أن كبِرنا — أن الكتابة ليست من اهتماماته.

لا يشغلني — أثق في تصديقك لي — أن أرتدي زي البراءة، نقيضًا لما كان يرتديه أخي، لكنني اكتفيت بالصمت عندما قالت لي الجميلة نيللي ابنة أخي: «حدثني أبي كثيرًا عن محمد الطيب وعلي الشرير … هل كان ذلك صحيحًا؟»

لعلي وجدت في اعتراف الفاعل بفَعلته ترضيةً مناسبة!

ظلت علاقتنا — أخي وأنا — مرتبكة. طبيعة أخي المنطوية داخل البيت، المنفتحة خارجه، أقامت جدارًا بينه وبيني، لا يخصني بخبر. أعلم بأحواله من أصدقائه: «هل عاد علي من السينما؟» … ولم أكن أعرف أنه في السينما. «ماذا فعل علي في رحلة أبو قير؟» ولم يكن حدثني عن تلك الرحلة … «هل وجد علي الكتاب الذي كان يبحث عنه؟» ولعله لو كلمني عن ذلك الكتاب ربما أفلحت في العثور عليه.

•••

أظن أني كنت الوريث الوحيد لمكتبة أبي بعد رحيله. لم تكن حرفة الأدب قد أدركت أيًّا من إخوتي، فلم يقربوا المكتبة، حتى شقيقي علي (أذكرك بأول كتاب حقيقي قرأته لمَّا باعني «أيام طه حسين» بخمسة مليمات ليكمل ثمن إيجار دراجة!) عُني بأشياء أخرى مما خلفه أبي، فتح الدولاب وأدراج المكتب، قلَّب، وعاين، واحتفظ لنفسه بكل ما يراه ذا قيمة: الأقلام وساعات اليد والميداليات والهدايا التَّذكارية، وأشياء أخرى كان أبي يحرص أن يغلق عليها. حتى الصور والرسائل الشخصية ورسائل العمل ومراسلاته، وكل ما يتعلق بحياة أبي الشخصية، تركها علي في مواضعها، وإن احتفظ بالمفاتيح، فلا أفكر — ولا أحد — في مجرد التقليب فيها، وتأملها، أخذ علي كل ما خلفه أبي من متعلقات شخصية، ثم أخذ الشقة كلها فيما بعد (أذكرك برواياتي: «الشاطئ الآخر» و«مواسم للحنين» و«ذاكرة الأشجار») فنحن — إخوته الثلاثة — أقرب إلى الضيوف، نتلقى توجيهاته ونصائحه وأوامره، ونعاني ميله إلى السيطرة.

لم يكن أمامي — إزاء ضياع الأوراق التي كانت ستمثل حافزًا لذاكرتي — إلا أن أعتمد في رواية أحداث ما بين الطفولة والشباب، على ما علِق بذاكرتي من ملامح وقَسَمات.

استطرادًا في الكلام، فقد عانيت — بعد أن تزوجت وأنجبت — صدمة ثانية أشد قسوة، حين سطت من كانت أقرب الناس إلى نفسي على كل ما احتفظتُ به من أوراقِ عمل وأوراقٍ شخصية، وحاولَتْ أن تفيد منها في الكيد لي، لم تفلح فيما سعت إليه، وإن أفلحت في تبديد ما كنت قد ادخرته، كي أعود إليه لاسترجاع ما تطلبه الذاكرة.

صرت بلا سند لذاكرتي، فأنا أعتمد عليها وحدها. ليس ثمة إلا مفكرات صغيرة أهمل أخي الاحتفاظ بها، كان أبي يكتب فيها ملاحظاته اليومية بالفرنسية، وهي لغة لم يكن أخي يجيدها.

•••

كان آخر تصرفات أخي «الأسرية» حين فاجأنا — بعد أن توزعت إقامتنا بين بيوت أقاربنا: أختي في بيت عمتي بمحرم بك، وأخي الأصغر في بيت عمتي بالمنيرة، وسفري إلى القاهرة بحثًا عن فرصة في الساحة الثقافية — فاجأنا بالتصرف في الشقة فيما يشبه «الجَدَك»؛ وهي التي تُطلق على المحالِّ التجارية المعروضة للبيع، تنازل عن كل ما فيها من أثاثٍ لقاء مبلغٍ تصوُّري أنه كان ضعيفًا، لأنه — حين قدم إلى القاهرة للبحث عن عمل — طلب أن أعِينه في مجاوزة ظروفه القاسية، لكن التوفيق جانبني بالصورة التي أرجوها. كنت أحيا مشكلات البداية بكل أزماتها المادية والنفسية، وهو ما أشرت إليه في روايتي «كوب شاي بالحليب». وربما كان ما واجهه الراوي في «مواسم للحنين» أصداء ذلك الحدث المأساوي الذي فاجأني به أخي عند قدومه إلى القاهرة — ذات ظهر — ليبلغني أنه قد جعل من الشقة ماضيًا، الذاكرة وحدها هي السبيل لاستعادته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤