سينما

لا أذكر من أول الأفلام التي شاهدتها، سوى أغنية ليلى مراد «مش ممكن أقدر أصالحك» تتجه بها إلى أنور وجدي (وُلد في ١١ أكتوبر ١٩١١م)، الذي أستطيع — وأنا مغمض العينين — أن أخمن حركاته الاستعراضية، سمة غالبة على أدائه في كل الأفلام التي قام ببطولتها، الشاب المعجباني الذي يأسر قلوب النساء، بصرف النظر إن كن صغيرات أم متقدمات في السن، مجرد الطلَّة التي ترافقها تعبيرات ملامح الوجه واليدين، وهزة الخصلة المتدلية من شعر رأسه، فضلًا عن شارب «إيرول فلين»، ثم أغنيات ست الحسن «ليلى مراد» لحبيبها الشاطر «أنور وجدي».

بالمناسبة، فإن «أنور وجدي» هو الاسم الذي اختاره الريجيسير «قاسم وجدي» لأنور الفتال، حين ألحقه عامل أكسسوار بفرقة يوسف وهبي، وأتاح له عمله بالفرقة مكانًا يبيت فيه.

اعتمد على الذكاء والفهلوة. لم يحاول أن يعوض ما فاته من الدراسة المنتظمة في مدرسة الفرير الابتدائية. عرَف الفشل في أيامه الأولى، ثم عرَف النجاح في الأفلام التي مزج فيها الغناء والرقص والميلودراما الفاقعة. وكان المغامر في داخله هو الذي دفعه لترشيح الطفلة «فيروز» بطلة لأحد أفلامه، ولقيامه بدور البطولة أمام ثلاث راقصات، بالإضافة إلى الطفلة «لبلبة» في فيلم «٤ بنات وضابط».

لم تكن تعجبني طريقة أدائه، تغلب عليه الحركات المصطنعة، وثقل الظل (ماذا وجدت فيه حبيبتي كي تحبه؟!)، لا أميل إلى الأداء التمثيلي، الذي يتعمد التمثيل، أحب العفوية في الأداء، يمثل لكنه يمتلك من قوة الأداء ما يقنعني بأن ما أراه هو ما يحدث بالفعل، المدرسة نفسها التي ينتسب إليها «أحمد علام» و«زكي طليمات» و«محسن سرحان» و«يحيى شاهين» و«يوسف وهبي» و«أمينة رزق»، وإن تجاوز الأخيران أسلوب الافتعال الساذج إلى أسلوب أكثر عفوية ونضجًا، بل هو قمة النضج في أفلام «فطين عبد الوهَّاب» و«عاطف سالم» و«أحمد بدرخان»، وغيرهم من أساتذة الإخراج الحقيقيين.

أميل إلى الأداء الذي يرفض الصنعة والتكلف، ما يحرص على العفوية، فهو لا يمثل وإن كان كذلك، أحببت أداء «فاتن حمامة» و«سعاد حسني» و«فردوس محمد» و«تحية كاريوكا»، ولم أحب أداء «محسن سرحان» و«ماجدة الصباحي». خفة روح «شادية» تنسيك تكلف أدائها.

وإذا كانت الكوميديا هي الفن الأصعب من حيث الأداء التمثيلي، فلعلي أشير إلى «سليمان نجيب» و«محمد عبد القدوس» و«بشارة يواقيم» و«زينات صدقي» و«عبد الفتاح القصري» و«شرفنطح» و«نجيب الريحاني» و«ماري منيب» وغيرهم، يتكلمون، ويتحركون، في تعبيرات تتسم بالتلقائية، أو هذا ما يفلحون في توصيله إلى المشاهد.

أحببت «إسماعيل يس» فترة طويلة من حياتي، تبدأ بالطفولة، وتنتهي بمطالع الشباب. والآن، فإني أسائل نفسي، وأنا أشاهد، مصادفة، أحد أفلام إسماعيل يس: كيف كنت معجبًا، إلى حد الافتتان، بهذا الممثل؟

لا أرى في أدائه وكلماته ونكاته ما يدعو إلى المشاهدة. أترك من يتابعون، وأنصرف إلى القراءة، أو التأمل. أذكر دهشتي في موعد العرض الأول لفيلم «الآنسة حنفي»، الناس يسيرون في الشوارع، ويقفون داخل الدكاكين، ويجلسون على المقاهي، ويطلون من الشرفات والنوافذ … لماذا لم يذهبوا لمشاهدة الممثل الذي أحبه؟!

«إسماعيل يس» هو «عادل إمام» في أيامنا الحالية. نفس الحركات الرتيبة المتكلفة، لا يكاد يغيرها، تغمض عينيك، وتستعيد أداءه التمثيلي، هو الأداء نفسه منذ كان ممثلًا ثانويًّا، حتى صار الزعيم!

أما الأفلام الكوميدية الأجنبية «لوريل وهاردي» و«إخوان ماركس» و«بودابوت ولوكاستلو» و«لوي دي فيني وفيتوريو دي سيكا»، فقد كنت أحاول أن أُعجَب بأداء الممثلين في تصور مغاير للكوميديا التي يقدمها الفيلم العربي. أحاول الضحك باعتبار أن ما أشاهده ينتسب إلى الكوميديا. أما الممثل الذي وجدت في أدائه تعبيرًا عن السُّخْف، فهو الأمريكي «جيري لويس»، كنت أشاهد أفلامه لأن شريكه في البطولة هو «دين مارتن» الذي كنت أُعجَب به، وأحرص على متابعة أفلامه.

•••

أصارحك أني كرهت أنور وجدي من أجل ليلى مراد، ساءني إلى حد الغضب ما أقدم عليه الرجل من تصرفات حاقدة ضد معشوقتي الجميلة، حاول أن يفسد عليها حياتها، عرفت الكثير من أفعاله المؤذية ضدها، لم تقتصر على الأذى البدني، لكنه وجد في الملابسات التي أعقبت أحداث ١٩٤٧م، دافعًا لأن يعيد تذكير المصريين بيهوديتها، أسرف عليها، وعلينا، فأبلغ السلطات بأنها يهودية تعمل لحساب الموساد، وأنها تدير شقتها للعب القمار، وحرمها من معظم أجرها عن الأفلام التي قامت ببطولتها. تلاشت المكائد برحيل أنور وجدي، حتى المَثل «العيار اللي ما يصبش يدوش» فقد دلالاته.

للرجل حياته الغريبة التي إن غابت عن سندريللتي، فهي لن تغيب عن داود حسني، أو منير مراد، أو غيرهما من الأقارب ذوي الديانة اليهودية.

•••

ثاني الأفلام، أو أول الأفلام التي أذكر مشاهد منها، هو «نادوجا» بطولة تحية كاريوكا ومحمد البكار. وافقت أمي أن أرافق أخي لمشاهدة الفيلم في سينما الأنفوشي. ظللت صاحيًا، أو نمت تخاطيف، حتى جاء الصباح، فارتدينا ثياب الخروج، ووقفنا على باب السينما أكثر من ساعة، قبل أن تفتح أبوابها لحفل العاشرة صباحًا.

توالت الأفلام فيستعصي ترتيبها في الذاكرة. ترددت على معظم دور السينما بالإسكندرية، بصحبة أخي، أو مع أصدقائي، أو بمفردي: «رأس التين»، «الأنفوشي»، «ركس»، «كونكورديا»، «ريتس»، «استراند»، «بلازا»، «فريال»، «الهمبرا»، «ماجستيك»، وغيرها. اجتذبني عالم السحر، أشارك المشاهدين لومهم البطل لأنه خذل حبيبته … نستحث «الشجيع» لكي ينقذ الفتاة من أيدي العصابة … نتأثر — كم بكيت! — لهتاف طفل: بابا … أو: ماما … نتألم لقول الرجل وهو يساق إلى المشنقة: «مظلوم يا ناس!» … نضحك — من قلوبنا — للمسكينة «نورماندي تو» وهي تواجه الغرق لحظة نزولها البحر … نتماهى مع حشد الفلاحين خلف الشيخ، يعلو صوته بالقول: «جواز عتريس من فؤادة باطل» يرددون: «باطل … باطل …»

لم يكن من أفلام طفولتي فيلم رديء. كانت كل الأفلام جيدة، مجرد توالي الصور المتحركة ينعشني، يلفني بالسعادة، هو الشعور الذي أتابع به الفيلم الأمريكي في سينما «كونكورديا»، والفيلم الهندي في «استراند»، والفيلم العربي في «ركس»، والفيلم الإيطالي في «ريالتو»، شعور مقيم دائم بالسعادة أو النشوة.

لعل المرة الوحيدة التي شاهدت فيها شريط الترجمة العربية للفيلم الأمريكي الذي عرضته سينما الأنفوشي، كانت آخر عهد دور السينما بذلك النوع من الترجمة؛ الرجل يقف إلى جانب شريط الترجمة العربية، يشير إليه بعصًا، ويعيد كلماته، ربما لمن لا يجيدون القراءة!

انتقلت الترجمة — بعد ذلك — إلى أسفل المشهد السينمائي، دون واسطة. من يغيب عنه المعنى — لأنه لا يجيد القراءة — يهمس متسائلًا في أذن جاره!

صارت السينما — بعضويتي في النادي الاجتماعي بمدرسة إبراهيم الأول — روتينًا أسبوعيًّا، أذهب في طابور الأطفال الأعضاء — صباح كل جمعة — إلى سينما «رأس التين». يسبقنا التوقع بفقرات البرنامج: «فيلم كارتون»، أو حلقة من مسلسل أجنبي، وفي الاستراحة يغني «عبد العزيز محمود»: «بحِّر يا بوي وجبِّل»، لتكرار سماعنا لها فقد كنا نرددها مع المطرب، أو نسبقه. ثم يُعرَض الفيلم العربي الطويل.

تحول حبي للسينما — فيما بعد — إلى ما يشبه الحالة المرضية، ترددت على كل دور السينما في الإسكندرية، قدراتي المادية هي التي تحدد دخولي دار سينما بالذات، أسعار التذاكر تبدأ من اثنين وعشرين مليمًا، ترتفع إلى حوالي الجنيه. حتى دور السينما البعيدة، كنت أسعى إليها للفرجة على أفلام لم يُتَح لي مشاهدتها، أشاهد حفلات الثالثة، والسادسة، والتاسعة. ربما جريت لألحق عرض فيلم السادسة بعد أن أنتهي من مشاهدة فيلم الثالثة، وهكذا، عالم من السحر والمآسي والفواجع والمواقف التي أتهيأ للضحك من قبل أن أشاهدها.

تطفأ الأنوار، ويبدأ عرض الفيلم، تجتذبني أحداثه إلى دنيا أخرى حافلة بالأحداث والبشر. أشارك — بإشفاق حقيقي — في تحذير البطل الولد الشجيع، من الأخطار التي تلاحقه، أو في حثه على الإسراع بإنقاذ البنت من قبضة الشرير، يرافق الصيحات والنداءات تصفيق لا يستهدف التحية بقدر ما يعبر عن الخوف. تذوي المشاعر التي صحبتني إلى السينما حتى تختفي تمامًا، لا هموم مذاكرة، ولا حياة أسرية قاسية، ولا فقدان للقدرة على التكيف مع ما حولي، يحل — بدلًا من ذلك — حب وعناقات ومعارك ودسائس ومؤامرات وبحار ومحيطات وحقول، أبادل فتاتي كلمات الحب، أرفع سيف الأسطورة، أحارب العفاريت والجان والمردة والوحوش، أطلق رصاصاتي على عصابات الشر، أخرج منتصرًا من المعارك التي أخوضها.

كانت دور العرض المستمر؛ أي التي تعرض ثلاثة أفلام في حفلات متوالية — دون توقف — فرصة لاستعادة مشاهدة الفيلم الذي أحببته أكثر من مرة، أتسلى — في أثناء عرض الفيلم الذي لم يصادف في نفسي هوًى — بالتأمل، والدردشة مع مرافقي — هو في الأغلب شقيقي الأكبر، أو جاري وصديقي عادل الصبروتي — فإذا بدأ عرض الفيلم الذي أترقب إعادته، أَوْلَيتُه انتباهي.

ثمة صور أتذكرها، وأخرى نسيتها. لماذا التذكر؟ ولماذا النسيان؟

الإجابة — على نحو محدد — صعبة للغاية، لحظة التذكر — والنسيان أيضًا — مقترنة بلحظة المشاهدة، وبالكثير من المشاعر المتباينة التي قد تُودِع الحدث في الذاكرة، أو تُسقطه.

كنت أعطي انتباهي كله للفيلم الذي أشاهده، وإن شاركت مخيلتي في مجاوزة الآفاق إلى فضاءات أخرى، ربما ليست متصلة بمشاهد الفيلم، لكنها وليدة تلك المشاهد. أشاهد، فأتذكر، قد لا تتصل حالة المشاهد بحالة التذكر، يختلف ما أشاهده عما أتذكره، لكن المشاهدة تصنع الاستفزاز الذي يستدعي ما قد يكون مُودَعًا في الذاكرة. قد أستعيد ما علِق في وجداني من مشاهد الفيلم: المعارك، وملامسات الأيدي، والعناق، والمرض، والقتل، والخصام، والحب، وفعل المعجزات، والأفعال الشريرة، ونسج المؤامرة، والإمساك بالسيجارة، واحتساء الشاي، وشم المكيفات، ومصارعة حيوانات الغابة، والجري في أفق بلا حدود، والصراخ في قاعة المحكمة، وصخب القهوة الشعبية، والبسمة، والتكشيرة، والإيماءة، والعبارة المُلمِزة، والتشبيه الذي أزمع أن أضمِّنه تعبيراتي. تختلط الصور، وتتساقط، لا تثبت — غالبًا — إلا مشاهد الإثارة، تدفع يدي إلى موضع انطلاق الأحلام والتصورات والصرخات المكتومة، حتى تتحقق رجفة الانتشاء!

بعد أن نما الوعي، وجاوزت مشاهدة السينما حد الفرجة، صرت أفيد من الأفلام التي شاهدتها، أتأمل الكادرات والإضاءة والألوان والظلال والأداء والديكورات وكل ما يتصل بعملية الإخراج. أجد في الفيلم — على المستويين المضموني والتقني — خبرات مهمة، أفيد منها في محاولاتي للتعبير. القراءة والمشاهدة والسماع روافد مهمة تنهل من نهر الإبداع الخلاق، ومن واجب المبدع أن يروي بها حقله. ولعلي أعتبر الإبداع الذي يأتي في صورة فيلم أو مسرحية أو أغنية أو قصة أو رواية أو قصيدة شعرية، الإبداع على أي نحو، أعتبره تجرِبة لفنانين آخرين، أستوعبها وأهضمها، وأمزجها بتجارِبي الشخصية، بخبراتي الشخصية، مما يضيف — أتصور — إلى قدراتي الإبداعية.

•••

أصارحك أنه يستفزني — حتى الآن — تماهي تسمية السينما الأجنبية مع الفيلم الأمريكي. ثمة ما يمكن أن نسميه «هبَّات» سينمائية لفنانين من دول العالم الأخرى: هنود وإيطاليين وإسبان وفرنسيين وإنجليز وأمريكان لاتينيين، لكن تلك الهبَّات — وتحدث، غالبًا، في إطار مِهرجان سينمائي — ما تلبث أن تتلاشى، لتنفرد السينما الأمريكية، بكل ما تحمله من إمكانات فنية، ومعايب سياسية واجتماعية. إنها التعبير الوحيد — أو تكاد — عن معنى السينما الأجنبية في حياتنا!

أذكر أنه قد اجتذبتني السينما الإيطالية أعوامًا طويلة، أتيح لي مشاهدة أفلام من إبداعها، في مصر، وفي دول أخرى. لا أعرف ظروف اختفائها من حياتنا، لكنني أُعجبت — وما زلت — بما شاهدته ﻟ «فيتوريو دي سيكا» و«صوفيا لورين» و«جينا لولو بريجيدا» و«سيلفانا مانجانو» و«فيتوريو جاسمان»، وغيرهم.

الأفلام الإيطالية — في فضاءاتها — أقرب إلى الأفلام المصرية، الطبقات الأدنى والحارة واللمحة والنكتة والمواقف الزاعقة.

•••

شاهدت سينما الأبيض والأسود من بداياتها. أعاد التليفزيون ما لم يُتَح لي مشاهدته.

حدثني الفنان التشكيلي الراحل «عبد السلام الشريف» عن فيلم «تيتا وونج» الذي أرهص للسينما المصرية. من الصعب — باعترافه — أن يكون فيلمًا متكاملًا، هو إرهاصة لا بأس بها، وهو البداية لكل فنانيه وفنِّيِّيه: أمينة رزق وأمينة محمد (خالتها) وعبد السلام الشريف، وأسماء أخرى تخطئها الذاكرة، مجموع تكاليفه ٢٧ جنيهًا، وهو مبلغ طيب بالقياس إلى قيمة العملة المصرية آنذاك!

ظلت أفلام الأسود والأبيض صورة السينما — عندي — لأعوام طويلة، قبل أن تأتينا السينما الأجنبية الملونة. أذكر «كوفاديس»، و«شمشون ودليلة»، و«سبارتاكوس»، والفيلم الهندي «آن» الذي حظي بإقبال مجنون — أعني التعبير! — عند عرضه في سينما استراند.

ثم شاهدت السينما سكوب، وإن لم أفهم معنى مط المشاهد كالحلاوة الطحينية عند حافظ في شارع الميدان، أو الحلاوة الشعر في تسمية القاهريين. ثم قرأت عن الأفلام ذات الرائحة، وإن لم تستمر، ولم يتح لي التعطُّر بمشاهدتها. وأذكر الإعلانات التي تحدثت عن الفيلم المصري الملون «دليلة» الذي جرى تحميض مشاهده في استوديوهات لندن، بطولة شادية وعبد الحليم حافظ، وتصوير وحيد فريد، وإخراج محمد كريم.

لم تُطل الألوان — لماذا سميت الطبيعية؟! — تحسس خطواتها، اقتحمت الساحة السينمائية بخطًى واثقة، واقتصر تقديم التليفزيون على الأبيض والأسود، حوالي خمسة عشر عامًا، قبل أن يواجه وزير الإعلام «عبد المنعم الصاوي» استجوابًا في مجلس الشعب، يسأل عن جدوى إنفاق أموال المصريين على تلوين التليفزيون. وكان رد الصاوي — فيما أذكر — حاسمًا: «ليس الأمر ترفًا، لكن معدات التليفزيون — في العالم كله — مقصورة على الإرسال الملون!»

لعلي أصارحك أن الفيلم السينمائي عندي — حتى الآن — هو الأبيض والأسود. إنه الأشد قدرة على إبراز المشاعر الإنسانية، وإسقاط الهوامش اللونية والإبهار، بما قد يصرف المتلقي عن المشاهدة الحقيقية، بل إن القلة من المخرجين الجادين فضلوا أفلام الأبيض والأسود ثقة في أنها تحسن اللغة السينمائية. أذكرك بأفلام: «لك يوم يا ظالم»، «شباب امرأة»، «شيء من الخوف»، «البوسطجي»، «دعاء الكروان»، «المستحيل»، «بداية ونهاية»، وغيرها.

أجدني مضطرًا للاعتذار عن السهو والخطأ، فلست مؤرخًا سينمائيًّا، ما أكتبه مصدره الذاكرة.

•••

آخر ترددي على دور السينما منذ أعوام طويلة. التليفزيون الآن هو دار السينما والمسرح والراديو والملعب وملتقى الندوات والمؤتمرات، وكل شيء، هو رب الأسرة الذي يتكلم، ويحكي، وينصح، ويعرض ما ينبغي — وما لا ينبغي — مشاهدته. لولا الحاجة إلى الوقت، والخشية من البلاهة، أو التحول إلى جزء من الكرسي الذي يجلس عليه المرء، ربما ظل في موضعه حتى يغلبه النوم!

من ناحيتي، فإني أجد في القراءة متعة مطلقة، تتخللها أوقات للكتابة، وإن حرصت — أمام جهاز التليفزيون — على متابعة الأخبار، ومشاهدة الجديد من العروض الفنية.

قبل الأعوام العشرين، كان للجزء الأول من العرض السينمائي قيمته، حلقات المسلسل الأجنبي في سينما رأس التين، أترقبها متلهفًا بما يفوق لهفتي لمشاهدة فيلم الفقرة التالية، الطويلة. دور السينما الأخرى تعرض أفلام الكارتون، عالم جميل من المقالب يدبرها الفأر الصغير جيري للقط توم، ينتصر الفأر دائمًا، وهو — للأسف — انتصار على الطبيعة الأقرب للمسالمة، فإذا ثارت فللدفاع عن حقها، أو حق الآخرين. تنبهت للأمر من طفولتي، وخالط مشاهدتي المبتهجة خيط من الحزن لتصرفات الصغير جيري ضد المسكين توم. أما الفقرة التالية، أو البديلة، فهي جريدة مصر الناطقة، يجد فيها وعيي الباكر ما يجتذبه من أحداث كتبت عنها الصحف، أو تحدثت عنها الإذاعة.

في المرات القليلة التي سبقت انقطاعي عن السينما — إلا في مناسبات قليلة، كدعوة العرض الأول لفيلم ما — لاحظت شغل الفترة الأولى من عرض دار السينما بإعلانات تجارية، وإعلانات عن الأفلام التي تُعِد السينما لتقديمها، اختفت أفلام الكارتون والجريدة الناطقة. ظني أنه لو تواصل تقديم الفقرتين، فستكونان مثل الطبيخ البايت، ثمة قنوات فضائية خُصصت لأفلام الأطفال، وأخرى تلاحقنا بأخبار العالم. بل إن الفضائيات خصصت قنوات للبرامج الوثائقية.

•••

تركت السينما في ذاكرتي أصداء من تعبيراتها، لم يغيِّبها توالي السنين: «أحلى من الشرف ما فيش»، «جواز عتريس من فؤادة باطل»، «وشرف أمي»، «نشنت يا فالح»، «أعوذ بالله من غضب الله»، «ناس لها بخت وناس لها حسنين»، «الجوازة دي لا يمكن تتم»، «هي دي اللي كنت ناوية تهزئيها … دا ما فيش حد ما أُعجبش بيها»، «مرزوق أفندي: اديله حاجة»، «مرزوق أفندي ماتدلوش حاجة»، «يعني انت ضليع في اللغة العربية؟»، «نورماندي تو»، «كتاكيته بني»، «ما تفرجهاش بالشكل دا»، «أنا كلمتي ما تنزلش الأرض أبدًا»، «سي محمد»، «أهرام ومصري يا سنية»، «جدر البطاطا هو السبب يا ولدي» … إلخ.

ومن الأسماء التي لا تزال في ذهني من ذلك الزمن القديم: «وحيد فريد»، «تاكفور أنطونيان»، «رمسيس نجيب»، «كمال سليم»، «حسين صدقي»، «توجو مزراحي»، «عيسى كرامة»، «عبد العزيز خليل»، «محمود إسماعيل»، «أنور وجدي»، «قاسم وجدي»، «بركات»، «رياض القصبجي»، «محمد مصطفى سامي»، وغيرها.

لا أذكر بعض هذه الأسماء. حتى المهن التي ينتمي إليها أصحابها، لكنها تمثل ومضات التذكر في محاولات استدعاء أيامي السينمائية.

•••

أحببت ليلى مراد — كما رويت لك — منذ شاهدتها في فيلم «قلبي دليلي» تغني إلى جانب أنور وجدي وهو يقود السيارة: «مش ممكن أقدر أصالحك، وكمان ماقدرش أخاصمك». وُلدَتْ في اليوم نفسه الذي وُلدتُ فيه، وإن سبقتني في التاريخ بعشرين عامًا، فهي من مواليد العام نفسه الذي شهد مولد جمال عبد الناصر. وكانت قد أسلمت، قبل أن ترحل عن دنيانا في ٢١ نوفمبر ١٩٩٥م.

ظل حبي لمطربة جيلي حتى بعد أن اعتزلت الغناء، وإن احتفظتْ ذاكرتي — البصرية والسمعية — بصور وأصوات، كانت السينما وسيلة اجتذابي إليها. مثلت ليلى مراد ٢٨ فيلمًا، في الفترة ما بين ١٩٣٨م و١٩٥٥م. ظني أني شاهدت معظمها، استمتعت بصوتها، وطلتها الآسرة، وكانت دندناتي — في صباي — بأغنيات لها، مثل: «الميه والهوا»، و«رايداك»، و«أنا قلبي دليلي» … إلخ.

•••

فاتن حمامة، رحلة فنها هي رحلة عمري.

أشرت في اللوحة الأولى من تبقيعاتي النثرية «مد الموج» إلى أول ما أذكره من وقائع الطفولة: المشهد — كما أتذكره — وقفتي في الصالة، تتوسط الحجرات الثلاث، الملامح باهتة، غائمة، واللحظة مقطوعة الصلة بما قبلها وما بعدها. متى صحوت من النوم؟ وهل ناديت على أمي، فظل الصمت سادرًا؟ وكيف نزلت من السرير، فتركت الحجرة لأقف وسط الصالة، تحوطني رمادية الغروب الشفيفة، وهي تتسلل إلى داخل الشقة، والصمت يواجهني بما يخيفني. عرفت — بعد سنوات — أن الأسرة صحبت أبي إلى «محمد عبد الوهَّاب» و«فاتن حمامة» في «يوم سعيد».

توالت اللوحات الفاتنة — نسبة إلى فاتن حمامة — في حياتي، من خلال الأفلام التي تشكل معالم مهمة في تاريخنا الفني، وفي حياتي الشخصية في الوقت نفسه، كل فيلم له موقعه في الذاكرة والوجدان، يرتبط بشخصية أو حدث أو قضية، وما قد يعكسه مشهد أو حوار أو أغنية.

«لا وقت للحب» — على سبيل المثال — يستدعي نضال الفدائيين المصريين في القناة عام ١٩٥١م ومطالع ١٩٥٢م، حين أطاحت بالمد الثوري انتكاسة أحرقت القاهرة، ودمرت تطلعات المصريين إلى الغد المتحرر، الأفضل.

وكانت ليلى في «الباب المفتوح» تعبيرًا عن أزمة المرأة في مرحلة مهمة من تاريخ النضال المصري، سعيًا لاستقلال الوطن، وتخلص نصف المجتمع من الضغوط الذكورية.

أما «أيامنا الحلوة» فهو انعكاس للمرحلة التي عاشها كل الشباب المصري فترات من حياته، فترة التهيؤ للحياة العملية من خلال مشكلات شخصية وعامة، تبلغ — أحيانًا — حد المأساة!

وثمة الأفلام التي تعبر عن مراحل مهمة أخرى في رحلة المرأة المصرية لتأكيد استقلالها، في موازاة التعبير عن قضايا المجتمع بعامة، ومنها: «الطريق المسدود» (المقابل الدلالي للباب المفتوح)، «الخيط الرفيع»، «أفواه وأرانب»، «الحرام»، «دعاء الكروان»، «الأستاذة فاطمة» (فيلم كوميدي يختلف إلى حد التضاد مع كوميديا التفاهة التي نقرأ عنها هذه الأيام!)، «الزوجة العذراء»، «صراع في الميناء»، «لا لن أبكي أبدًا» … وغيرها.

حتى مشكلاتنا الاجتماعية أجادت «فاتن حمامة» التعبير عن بعد مهم فيها، هو مشكلة زيادة النسل من خلال فيلم «أفواه وأرانب» الذي تدور أحداثه في قرية مصرية. أجادت فاتن التعبير عن الفلاحة المصرية؛ طريقة النطق، واللهجة، والعبارات، والسير، والزي، وتناول الطعام. قرأت أنها لجأت إلى فلاحة مصرية علمتها طريقة المشي المنتصبة التي تذكرنا بفلاحة مختار في تمثاله الشهير!

أما مشكلة عمال التراحيل، فإنها قد تحولت في «الحرام» من خلال نص روائي جميل، وإخراج متميز، وأداء مقتدر، إلى علامة في مسار السينما المصرية.

وثمة الفتاة البريئة التي تواجه عداوات، بعضها له ما يبرره، ومعظمها بلا مبرر. أذكرك بأفلام: «أنا بنت ناس»، «اليتيمتان»، «لك يوم يا ظالم»، «ليلة القبض على فاطمة»، «لحن الخلود»، «أفواه وأرانب»، «سيدة القصر» … وغيرها.

وإذا كان فيلم «لا أنام» تجرِبة غريبة عن مجتمعنا المصري، فإنه طرح — بالنسبة لي — قضية مهمة، هي التأثر بتجرِبة القراءة عند المبدع، بحيث يحيل النص الأجنبي الذي استهواه، إلى تجرِبة فنية مغايرة، تختلف في سماتها المجتمعية، فيطرح بالتالي قضية الأدب المقارن، إضافة للتأثر بالقراءة، إلى حد نقل نص إبداعي آخر، يظل — رغم التعديل والتحوير — تجرِبة فنية مغايرة، تنتمي إلى عالم مغاير!

بالإضافة إلى ذلك كله، فقد كان اعتزازي دومًا أن الكثير من الأفلام التي قامت فاتن حمامة ببطولتها مأخوذ من أعمال أدبية لكتاب مصريين: «الحرام»، «الطريق المسدود»، «لا تطفئ الشمس»، «ليلة القبض على فاطمة»، «دعاء الكروان»، «لا أنام»، «سيدة القصر»، «نار الحب» … وغيرها.

أستعيد الأفلام التي قامت فاتن حمامة ببطولتها، وشكلت معالم بارزة في تاريخنا السينمائي، أخطئ العدد، لوفرتها: «أيامنا الحلوة»، و«اليتيمتان»، و«أنا بنت ناس»، و«موعد مع الحياة»، و«لحن الخلود»، و«بين الأطلال»، و«موعد غرام»، و«صراع في الوادي»، و«سيدة القصر»، و«لحن الخلود»، و«دعاء الكروان»، و«الخيط الرفيع» … وغيرها، عالم من الرومانسية التي قد تستدر الدمع، لكنها تحرك في الوجدان أنبل مشاعره.

حتى سذاجة السيناريو وضعف الإخراج يغيبان في أداء فاتن حمامة التي يسبق حبنا لها ما عداه من ظواهر سلبية!

لا أعرف من أطلق على فاتن حمامة تسمية «سيدة الشاشة»، لكنها — بالتأكيد — سيدة القلوب. نحن نحبها، لأننا نحبها، نحب — في مراحلها الفنية — طفولتنا وشبابنا وكهولتنا والمحطات الفائتة من العمر.

وجدت في حبي لفاتن حمامة ما يذكرني بحب «كمال عبد الجواد» بطل ثلاثية نجيب محفوظ لعايدة شداد، وضعتها في إطار من الشفافية المحلِّقة، واحتفظت في ذاكرتي بأصداء من أفلامها: «أنا بنت ناس يا ناس»، «أهرام ومصري يا سنية»، «غنِّ يا وحيد»، «جدر البطاطا هو السبب يا ولدي»، «اوع تتكلم، أنا اللي أرفضك».

ولما انفصلت عن زوجها المخرج الراحل «عز الدين ذو الفقار»، وتزوجت الممثل «عمر الشريف»، ثم أذنت لعمر بتقبيلها في «صراع الوادي»، أصابتني صدمة، أثق أنها مثلت عدوى بالنسبة للكثيرين من أبناء الفترة.

وإذا كنت قد اكتفيت بمشاعري السلبية لما فعلته فاتن بنفسها، وبزوجها، وابنتها — وبي! — فإن أقلام الكُتَّاب تبارت في التعبير عن تلك المشاعر السلبية، إلى حد اتهامها بأنها تركت مصر للجري وراء شاب مشكوك في مصريته، فأساءت إلى كل المعاني الجميلة التي كانت تحتلها في النفوس.

لا أنسى كاريكاتير عبد السميع في الكواكب للمرأة الذليلة (فاتن!) وهي تحاول اجتذاب الشاب (عمر) الذي أهملها تمامًا!

•••

سعاد، ابنة الخطاط العربي محمد حسني البابا، ضمن سبعة عشر ابنًا أنجبهم الرجل من زيجات متعددة.

في روايتي «ذاكرة الأشجار» أصداء لحياة أسرة محمد حسني البابا، من خلال تعرف بطلة الرواية إلى فاروق الابن الأكبر لحسني البابا، لجأت إلى قدراته الفنية في تزييف أوراق تتيح لها التصرف — بالخطأ — في حياتها.

أحببت «سعاد حسني» في سِنِي الوهج التي أمضتها في صبانا وشبابنا. لوحة العطاء لسعاد حسني مترامية المساحة، زاخرة بالتفصيلات والمنمنمات والأعماق والألوان والظلال بما يصعب أن ينسبه إلى نفسه فنان آخر. نتذكر — على سبيل المثال — أدوار سعاد حسني في «السفيرة عزيزة»، «القاهرة ٣٠»، «الكرنك»، «الحب الضائع»، «الزوجة الثانية»، «شفيقة ومتولي»، «المتوحشة»، «حسن ونعيمة»، «صغيرة على الحب»، «الراعي والنساء»، وغيرها من الأفلام التي أضاف فيها إلى أداء سعاد حسني العفوي سيناريو متماسك، وإخراج متفوق.

طالعتني شمس حبها منذ أطلَّت من الشباك الصغير على «محرم فؤاد» وهو يغني: «رمش عينه اللي جرحني». أحببتها كملاك يحتويك بالأخوة والصداقة الجميلة، تضافر الحب والإعجاب في بساطة أدائها في «السفيرة عزيزة» و«القاهرة ٣٠» و«حسن ونعيمة» و«الكرنك» و«شفيقة ومتولي»، وحتى في «خللي بالك من زوزو»، «سعاد حسني» هي أشد الممثلات بعدًا عن الأداء التمثيلي.

احتفظت بين أوراقي — لأعوام — بما كتبه أحمد بهاء الدين (صفحة كاملة في جريدة «الأخبار») عن هذه الفتاة المصرية الحقيقية التي يجب أن يؤرخ لظهورها بين ما سبق، وما سيأتي.

لا أعرف من أطلق على «سعاد حسني» تسمية «السندريلَّا». المعنى — في تصوري — هو براءة الملامح وعفوية التصرفات، صفتان يصح إطلاقهما على أية فتاة مصرية حقيقية. سعاد حسني فتاة مصرية، أخت، أو ابنة، أو قريبة، أو جارة، نأنس إليها، نحبها، تكوينها الجسدي يحض على الإثارة، لكننا نهمل ذلك المعنى، تتحدد نظراتنا لها في إطار البراءة، السندريلا التي يحبها الأمير كما تروي الحدوتة القديمة. سر سعاد حسني ليس في جسدها، وإنما في عينيها، هاتين العينين اللتين تفيضان براءة وشقاوة وعفرتة.

أتاح لي عملي الصحفي أن أتعرف إلى من سُمي بمجنون سعاد حسني، أذكر اسمه الأول «فكري»، كان بعيدًا عن الوسامة، وله أنف بالغ الضخامة. قدم إلى الجريدة يطلب عونًا في إعادة محبوبته سعاد حسني إليه، قال إنه نشأت بينهما صداقة حميمة أثناء عمله في الاستوديو مساعدًا للريجيسير، وجدتْ فيه ما يجتذبها، جاوزت علاقتهما — في روايته — حد الصداقة إلى الاتفاق على الزواج. لما زار سعاد في بيتها، أنكرت أنها تعرفه وطردته، تكرر إلحاح زياراته، وتكرر — في المقابل — طرده بواسطة أهلها، ثم بواسطة الشرطة، لكن الشاب اتهم الآخرين، كل الآخرين، بأنهم يبعدون عنه محبوبته الجميلة، وألجأه اليأس إلى دور الصحف — لم تكن الفضائيات موجودة — يطلب إعادة علاقة الحبيبين إلى ما كانت عليه.

لم أتصور — أعترف — النهاية الأليمة التي أودت بحياة «سعاد حسني»، تعددت الروايات عن ظروف وفاتها، بحيث يصعب الاطمئنان إلى رواية محددة، حتى تحقيقات «سكوتلانديارد» التي وجدت في سقوط سعاد من شرفة شقتها بلندن حادثًا عارضًا، وأنهت التحقيقات بالتالي، تلك التحقيقات تحيطها الشكوك، مثلما أحاطت بواقعة الانتحار، أو أن يد الصديقة هي التي دفعتها من الشرفة، أو أنها حادثة مدبرة من جهات أمنية مصرية … روايات متعددة، ومتضاربة، جعلت من رحيل سندريلا السينما المصرية لغزًا يصعب تفسيره، وشكلت من ذلك الرحيل الغريب امتدادًا لحياة فتاة مصرية، تغلبت على الظروف القاسية، وفي مقدمتها عدم تعلم القراءة والكتابة. ومع أنها هي المتسببة في الكثير من تلك الظروف — وبعضها، للأسف، مخجل! — فإنها ظلت في موضعها داخل وجدان المصريين، بحيث استحقت تسمية سندريلا، والتسمية — في ظني— لا تخلو من دلالة إنسانية.

•••

رغم إعجابي بأداء «لبنى عبد العزيز» في «الوسادة الخالية» أمام «عبد الحليم حافظ»، فإن مجموع أفلامها لم يُتِح لها مكانة في نفسي مساوية للمكانة التي احتلتها فاتن حمامة، ربما للتكلف الذي يتميز به أداؤها، وهو السبب نفسه الذي أقنعني بأن «ماجدة» ليست ممثلة حقيقية. الممثل الحقيقي — في تقديري — هو الذي لا يمثل، من يصادق العدسة، أو يتحرك أمامها كأنها غير موجودة، يتحدث بعفوية الأحاديث العادية، مع أن الموقف كله تمثيل في تمثيل!

وضعت — ومثلي الكثيرون أيضًا — «مريم فخر الدين» في الإطار الملائكي نفسه، أحببتها مطلقًا، وحين كانت تؤدي دور البنت الطيبة، المسكينة، المغلوبة على أمرها، كنت على ثقة أنها تعكس شخصيتها في الحياة، هي الطاهرة بالفعل كما سُميت في أحد أفلامها. وكم كانت سعادتي حين غنى «عبد الحليم حافظ» لشعرها الحرير، ثم طالعتني «مريم فخر الدين» — فيما بعد — في صور سلبية كثيرة، دفعتني إلى محاولة إقصائها من وجداني تمامًا.

•••

الأفلام التي مثلت فيها «شادية» ثنائيًّا مع مطربي جيلها: «عبد الحليم حافظ» و«كامل حسني»، فضلًا عن بطولتها لبعض روايات «نجيب محفوظ»، هي ما أذكره من أداء شادية، تناسيت تصنع أدائها في إعجابي بأعمال محفوظ، وطلتها الآسرة في «دليلة»، و«زقاق المدق»، و«اللص والكلاب». ومع أني قليل التردد على المسارح، فإن المصادفة الحسنة هي التي أتاحت لي مشاهدة شادية في مسرحية «ريا وسكينة»، أحببت أداءها، وأحببتها شخصيًّا، شدتني الملامح البريئة التي تعبر عن شخصية شريرة!

لا أعرف الأسباب التي دفعت «شادية» إلى الاحتجاب، والابتعاد عن الفن. قيل إنها أصيبت بمرض خطير، فأزمعت أن تُخلِص — بقية عمرها — لعبادة الله. وشاهدتها — على شاشة التليفزيون — وهي تغني: «ادخلوها بسلام آمنين». لم تكن شادية التي أعرفها، وأرجعت رغبتها في الاعتزال إلى المرض.

•••

بتوالي مشاهدتي لأفلام السينما، تعرفت إلى قائمة طويلة من الممثلات: «مديحة يسري»، «نادية لطفي»، «آمال فريد»، «زهرة العلا»، «إيمان»، «ماجدة الخطيب»، «مديحة كامل»، «نبيلة عبيد»، «سميرة أحمد»، «ميرفت أمين»، «نجلاء فتحي»، «ليلى علوي»، «يسرا» … إلخ. كان باعثَ إعجابي بهؤلاء الممثلات مزيجٌ من العاطفة والغريزة. أُعجَب بالملامح الفاتنة، وتثيرني الإيماءة المحرِّضة. اقتصر البعد الغريزي على ممثلتين فقط هما: «هدى سلطان» و«هند رستم»، اختار لهما المخرجون ما مزج بين كل من شخصيتهما الفنية والإنسانية في نفس المتلقي. أذكرك بأداء «هند رستم» في «الجسد»، و«باب الحديد»، و«شفيقة القبطية»، و«صراع في النيل»، و«سيد درويش»، و«اعترافات زوج»، و«بنات الليل»، و«قبلني في الظلام»، وأداء «هدى سلطان» في «امرأة على الطريق» (ناس لها بخت وناس لها حسنين)، و«زوجة من الشارع»، و«عبيد الجسد»، و«صائدة الرجال»، و«بين القصرين» … إلخ.

•••

أصارحك بأن حرصي على مشاهدة أحد الأفلام أكثر من مرة، كان لما يثيره في مراهقتي أداء الممثلات!

أخذتني متعة الاستمناء في العديد من الأفلام التي شاهدتها، في النظر إلى بطلاتي الجميلات، المثيرات: «مارلين مونرو»، «سلفانا مانجانو»، «آفا جاردنر»، «جين راسل»، «جينا لولو بريجيدا»، «هدى سلطان»، «هند رستم»، «ناهد شريف» … إلخ.

ربما حملت الصور المثيرة في داخلي إلى البيت، أغلق الحمام، فأستعيدها، ويدي تجري باللذة المجنونة، أتخيل المواقف والكلمات وتعبيرات الأيدي والأعين والشفاه وبحَّة الصوت وغُنْجه، وكل ما يصنع الإثارة، أضيف بما يصنع توليفة من مشاهد الفيلم ومشاهدي الخاصة.

•••

شهدت صلتي بالسينما مغايرة مهمة في أثناء الشهر الذي أمضيته في موريتانيا. العروض المتوالية، والظلمة السادرة، أتاحت لي مشاهدة أفلام فرنسية تأتي مباشرة من المطار إلى دور السينما، يراها الجميع للمرة الأولى، لا يُحذف منها أي مشهد، حتى لو طفح بالجنس، حتى لو أساء إلى العرب، كما كان يفعل الممثل الفرنسي «لوي دي فينيس». وجدت نفسي — دون تعمد — طرفًا في علاقة عابرة، لامستني «الأخرى» دون أن أشاهد من ملامحها إلا ما تتيحه الظلمة. أشرت إلى تلك العلاقة العابرة، الغامضة، المثيرة، في أكثر من قصة لي. أذكر — على سبيل المثال — قصتي «الحي الإفريقي».

•••

أحب الممثلة في السينما، لا لأنها فاتن حمامة (كانت ماجدة تتصنع الأداء، فلم أحبها) أو هدى سلطان أو مديحة يسري إلخ، وإنما لأنها البنت الغلبانة عائشة (فاتن حمامة) في الفيلم المسمى بهذا الاسم، أو الخرساء (سميرة أحمد) في فيلم بهذا الاسم، أو ليلى (ليلى مراد) التي واجهت أخس المؤامرات في «شاطئ الغرام»، أو إحسان شحاتة (سعاد حسني) في «القاهرة ٣٠»، أو سنية (فاتن حمامة) التي ضيع الإهمال نور عينيها في «اليتيمتان» … إلخ.

أغادر دار السينما، لكن الشخصية السينمائية — لا الممثلة التي قامت بأدائها — تظل في داخلي، أستعيد ما عانته من ظروف قاسية، وأبتسم — بيني وبين نفسي — للنهاية السعيدة (لا بد لكل فيلم من نهاية سعيدة!)، ولعلي أناقش السؤال: إلى أين كانت تمضي الأمور، لو لم يجد تشابك المشكلات حله الرومانسي؟!

•••

نشأت علاقات صداقة بيني وبين عدد من ممثلات السينما. المصادفة وحدها هي باعث العلاقة بين «فاطمة رشدي» وبيني، زارت الجريدة التي أعمل فيها لتكليفِ صحفي بكتابة سيرتها الذاتية. التقيتها — فيما بعد — في شارع عماد الدين، وفي مقهى الكورسال، وكان آخر لقاءاتنا في الطائرة المتجهة إلى الأردن. لم يكن الأردن هدفها، لكنها تطلعت لعبور الحدود إلى إسرائيل، كي تقدم مذكراتها في التليفزيون الإسرائيلي، بررت تصرفها بأنه المنفذ المتاح من الأزمة المادية القاسية التي كانت تعانيها. «فاطمة رشدي» ليست مجرد نجمة سينمائية، فأتغافلها في حديث عن ممثلات السينما اللائي يمثلن عندي صورة المرأة في الأفلام العربية، لا أنسى جلستها على السلم مع حسين صدقي، تناديه «سي محمد»، هي التعبير الأبلغ عن المرأة التي تنتمي إلى الحارة المصرية بفتنتها ودلعها، وحتى صوتها الذي لا يخلو من خشونة (يذكرنا بوصف «نجيب محفوظ» لصوت «حميدة» زقاق المدق)، وتحديها الفطري لما تصادفه من عقبات، إنها عائشة عبد الرحمن القفاص في روايتي «قلعة الجبل».

أمضيت ثلاث ساعات ضيفًا على «سميرة أحمد». شقتها العلوية أقرب إلى فيلا، تطل على كوبري الجامعة. ما أذكره أن الشقة كانت تجمع بين الأناقة والبساطة، وهو ما اتسمت به مضيفتي نفسها. زميلي القديم «عادل سليم» قال بنبرة معتذرة إنه حدد موعدًا للقائها دون أن يعد أسئلة، وأبدت «سميرة أحمد» إعجابها المجامل — في نهاية الحوار — بذكاء الأسئلة، وأعلنتُ إعجابي الحقيقي بذكاء الأجوبة.

تخليت عن صداقتي لمديحة كامل بعد فترة قصيرة من نشوئها، أحسست بالنفور من لهجتها الآمرة وتعاليها، وإن لم يفتر إعجابي بها — على البعد — ممثلة جميلة، تحسن التعبير بعينيها الصافيتين الواسعتين، وشفتيها اللتين كأنهما خُلقتا للتقبيل! عاتبني صديقي كاتب السيناريو الراحل «أحمد عبد الوهَّاب» بما يبلغ حد اللوم، لإهمالي اعتبارات العمل بينها وبينه!

تعرفت إلى ماجدة الخطيب — للمرة الأولى — في بروفات مسرحية «فاتسيلاف هافيل» «الباتادب» بمسرح المائة كرسي، توثقت صداقتنا، وزارتني في مكتبي بالجريدة، كلمتني عن حرصها على أدوار البطولة، والشخصيات التي تترك تأثيرًا، وكانت أحلامها بلا حدود. دوامة المشكلات المتلاحقة اجتذبت «ماجدة الخطيب»، وانتهت بها إلى السجن. التقيتها بعد عودتي من رحلة عمل طويلة، ذكَّرتها بنفسي، أبدت ترحيبًا وودًا، لكن النسيان أطل من عينيها.

زرت «هدى سلطان» في بيتها، خلف قصر محمد محمود خليل الذي اختاره «أنور السادات» لإقامته. صحبني إليها الفنان المصور «شمس السلاب»، بدت مختلفة عن امرأة السينما المثيرة، محتشمة، خافتة الصوت، اتجاه نظراتها إلى الأرض، تُظهر الحياء لما قد يَبين في أسئلتي من جرأة. وعندما وصل زوجها الفنان «حسن عبد السلام»، ألقى التحية، وتركت له يدها، فقبلها. لم أتصور أن العلاقة بين الزوجين السعيدين — هذا ما رأيته — تنتهي بالطلاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤