الخاتمة: هل يندرج علم الكمبيوتر ضمن العلوم الشاملة؟

عبْر هذا الكتاب، كانت الفرضية المطروحة هي أن علم الكمبيوتر يندرج ضمن العلوم الاصطناعية؛ ذلك أنه يرتكز على أدوات معالجة رمزية (أو حوسبية)، وأنه من العلوم التي تهتم بالكيفية التي من المفترض أن تكون عليها الأشياء وليس بتلك التي هي عليها بالفعل، وأنه يجب أخذُ أهداف منشئي الأدوات الحوسبية (مصمِّمي الخوارزميات، والمبرمجين، ومهندسي البرمجيات، واختصاصيي معمارية الكمبيوتر، واختصاصيي نُظم المعلومات) في الاعتبار عند فهْم طبيعة هذا العلم. في كل هذه النواحي، الفرق بينه وبين العلوم الطبيعية واضح.

لكن رأينا في الفصل الأخير أن التفكير الحوسبي يعمل بمثابة جسرٍ بين عالم الأدوات الحوسبية والعالم الطبيعي، وعلى وجه التحديد، عالم الجزيئات الأحيائية والإدراك البشري والعمليات العصبية. إذن، أيمكن ألَّا توفِّر الحوسبةُ عقليةً فقط، وإنما تشمل أيضًا — بشكل أكثرَ دهاءً — ظاهرةَ العالمين الطبيعي والاصطناعي؟ وأن علم الكمبيوتر يندرج ضمن العلوم «الشاملة»؟

في السنوات الأخيرة، فكَّر بعض علماء الكمبيوتر في هذا الاتجاه تحديدًا. وعليه حاجج بيتر دينينج بأنه ما عاد ينبغي النظر إلى الحوسبة باعتبارها علمًا اصطناعيًّا؛ حيث إن عمليات معالجة المعلومات توجد بغزارة في الطبيعة. وقد أكَّد دينينج وعالم كمبيوتر آخر وهو بيتر فريمان أنه في العقود القليلة الماضية تحوَّل تركيز الانتباه (الخاص ببعض علماء الكمبيوتر) من الأدوات الحوسبية إلى عمليات معالجة المعلومات في حد ذاتها — بما في ذلك عمليات معالجة المعلومات الطبيعية.

من ثَم، ومن وجهة نظر دينينج وفريمان وعالم كمبيوتر آخر وهو ريتشارد سنودجراس، تندرج الحوسبة ضمن العلوم «الطبيعية»؛ حيث إن علماء الكمبيوتر معنيون باكتشاف «الكيفية التي عليها الأشياء» (في الدماغ وفي الخلايا الحية وحتى في عالم الأدوات الحوسبية) بقدرِ ما هم معنيون بتوضيح الكيفية التي من المفترض أن تكون عليها الأشياء. يشير هذا الرأي إلى أن الأدوات الحوسبية تنتمي إلى الفئة الوجودية نفسها التي تنتمي إليها الكيانات الطبيعية؛ أو أنه لا يوجد فرقٌ بين ما هو طبيعي وما هو اصطناعي. بل إن سنودجراس في واقع الأمر ابتكر كلمةً لوصف الجانب الطبيعي في علم الكمبيوتر، وهي Ergalics وهي مشتقة من الجذر اليوناني ergon وتعني «العمل».

وفي اتفاق واسع النطاق من جانبه مع سنودجراس، ورغبةً منه أيضًا في تجنُّب ابتكار ألفاظ جديدة، ضمَّ بول روزنبلوم «علوم» الكمبيوتر إلى جانب العلوم الفيزيائية والحياتية والاجتماعية وقال بأنها «رابع المجالات العلمية العظيمة».

تفرُّد علم الكمبيوتر باعتباره نموذجًا معرفيًّا قائمًا بذاته كان موضوعًا ثابتًا في هذا الكتاب، ومن ثَم تتوافق أطروحة روزنبلوم وتناوُل الكتاب. السؤال هو ما إذا كان ينبغي التمييز بين دراسة عمليات «معالجة المعلومات الطبيعية» وعمليات «المعالجة الرمزية الاصطناعية». هنا، يبدو أن الفرق بين المعلومات والرموز له مسوِّغاته. في المجالات الطبيعية، لا تمثل الكيانات شيئًا غير نفسها. فالكيانات، كالخلايا العصبية أو النوكليوتيدات التي هي لبنة بناء الحمض النووي، أو الأحماض الأمينية التي تشكِّل البروتينات، لا تمثل أي شيء غير نفسها. ومن ثَم، أجد أنه من الصعب الإشارة إلى عمليات معالجة الحمض النووي على أنها عمليات معالجة «رمزية»، على الرغم من أن الإشارة إلى هذه الكيانات على أنها ناقلات للمعلومات غير المرجعية تبدو صحيحة.

من المنظور الوجودي، أعتقد أنه ينبغي التمييز بين علم الكمبيوتر باعتباره علمًا اصطناعيًّا وعلم الكمبيوتر باعتباره علمًا طبيعيًّا. ففي الأول، الوساطة البشرية (في شكل الأهداف والغاية، والوصول إلى المعرفة، وإحداث تأثير) جزءٌ من العلم. أما في الثاني، فلا يخفى على أحد غيابُ هذه الوساطة. فالنموذجان المعرفيان مختلفان جوهريًّا بعضهما عن بعض.

مهما كان الأمر وبغض النظر عن أي اختلاف وجودي محتمَل مثل هذا، فإن ما قدَّمه لنا علم الكمبيوتر — كما حاونا التوضيح في الفصول السابقة — هو طريقة مميزة بنحو ملحوظ لإدراك مجموعة هائلة للغاية من المسائل — تندرج تحت مجالات طبيعية واجتماعية وثقافية وتكنولوجية واقتصادية — والتفكير فيها وحلها. هذا بالتأكيد هو إسهامه العلمي الأكثر «أصالة» في العالم الحديث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤