الفصل السادس

الحوسبة الاستدلالية

ليس للعديد من المسائل حلول خوارزمية. فعند تعليم أحد الأبوين الطفلَ ركوبَ الدراجة، فإنه لا يستطيع أن يقدِّم له خوارزمية يمكنه أن يتعلمها ويطبِّقها مثلما يفعل حينما يتعلم طريقةَ ضرب عددين. كذلك لا يستطيع معلِّم الكتابة الإبداعية أو الرسم أن يقدِّم للطلاب خوارزميات لكتابة قصة واقعية جذابة أو رسم لوحة قماشية تعبيرية تجريدية.

يعود السبب في ذلك جزئيًّا إلى جهل المرء (وحتى لو كان أستاذًا متخصصًا في الكتابة الإبداعية) أو عدم فهمه للطبيعة الدقيقة لتلك المهام. يريد الرسام أن يصوِّر على سبيل المثال ملمسَ رداءٍ مُخملي، وصلابة تفاحة، وسر ابتسامة. لكن الشيء الذي يشكِّل ذلك الملمس المُخملي وتلك الصلابة وتلك الابتسامة الغامضة من منظور الرسامين ربما يكون مجهولًا أو غير معروف بالتحديد، ومن ثَم لا يمكن ابتكار خوارزمية لتصويرها في لوحة. بل إن البعض قد يقول إن الإبداع الفني أو الأدبي أو الموسيقي لا يمكن أبدًا شرحُه باستخدام الخوارزميات.

ثانيًا، تحدِّد الخوارزمية كلَّ الخطوات التي يجب اتباعها. إذ لا يمكننا بناءُ خوارزمية إلا إذا كنا مدركين على نحوٍ واعٍ لخطواتها التي تمثِّل قِوامها. لكن العديد من الإجراءات التي ننفِّذها عند ركوب الدراجة أو التقاط الفروق الدقيقة في المشهد الذي نريد رسمه تحدُث فيما يسميه علماء العلوم المعرفية «اللاوعي المعرفي». ومن ثَم، هناك حدود للمدى الذي يمكن أن ترتقي فيه هذه الأفعال اللاواعية إلى سطح الوعي.

ثالثًا، حتى إنْ فهمْنا طبيعة المهمة فهمًا جيدًا (إلى حدٍّ ما)، فقد تتضمن المهمة متغيرات أو معاملات متعددة تتفاعل بعضها مع بعض بطرق غير بسيطة. وقد تكون معرفتنا بهذه التفاعلات أو فهمنا لها مشوَّشة أو منقوصة أو غير ملائمة بشدة. على سبيل المثال، مسألة تصميم معمارية الكمبيوتر الخارجية (ارجع إلى الفصل الخامس) تُوضح هذه النقطة. قد يفهم اختصاصي معمارية الكمبيوتر الأجزاء الفعلية التي تكوِّن المعمارية الخارجية (أنواع البيانات، والعمليات، ونظام الذاكرة، وأنماط عنونة المعاملات، وتنسيقات التعليمات، وطول الكلمة) فهمًا جيدًا، لكن نطاق التباينات لكل جزء من هذه الأجزاء وتأثيرات هذه التباينات بعضها على بعض قد يكون مفهومًا فهمًا غيرَ دقيق أو غير واضح. في الواقع، إن فهْم الطبيعة الكاملة لهذه التفاعلات قد يتجاوز القدرات المعرفية لدى هذا الاختصاصي.

رابعًا، حتى إذا كان المرء يفهم المسألة جيدًا بالقدْر الكافي ويمتلك المعرفة بشأن مجال المسألة ويمكنه ابتكار خوارزمية لحلها، فقد لا يمكن توفير مقدار الموارد الحوسبية (الوقت أو المساحة) اللازم لتنفيذ الخوارزمية. ومن الأمثلة على ذلك الخوارزميات ذات تعقيد الوقت الأسي (ارجع إلى الفصل الثالث).

لعِبُ الشطرنج مثال على ذلك. طبيعة المسألة مفهومة فهمًا جيدًا. فاللعبة لها قواعد محدَّدة للحركات المسموح بها، كما أنها لعبة «تامة المعلومات» من حيث إن كل لاعب يستطيع أن يرى كل قِطع الشطرنج على الرقعة على الدوام. كذلك النتائج المحتملة معروفة بدقة: إما أن يفوز اللاعب الأبيض أو يفوز اللاعب الأسود أو يتعادلان.

لكن لننظر في مأزق اللاعب. كلما أتى دوره للعب، كان هدفه الأسمى اختيار حركة تؤدِّي به إلى الفوز. ومن حيث المبدأ، ثمَّة استراتيجية (خوارزمية) مثلى يمكن أن يتَّبعها اللاعب:

يفكر اللاعب الذي حلَّ دوره في اللعب في كل الحركات الممكنة لصالحه. ومع كل حركة يفكِّر فيها من تلك الحركات يفكِّر أيضًا في كل الحركات التي يُحتمل أن يقوم بها الخَصم؛ ومع كل حركة محتملة من خَصمه، يفكِّر مرة أخرى في كل حركاته هو المحتملة؛ وهكذا حتى بلوغ الحالة النهائية وهي: إما الفوز أو الخسارة أو التعادل. وبالعمل بطريقة عكسية، يقرر اللاعب إن كان الموقف الحالي سيعزز من الفوز أم لا، ويختار الحركة بناءً على ذلك، وذلك بافتراض أن الخصم يأتي بالحركات الأفضل لصالحه.

تسمَّى هذه الطريقة بطريقة «البحث المستفيض» أو «القوة الغاشمة». وهي تنجح من حيث المبدأ. لكنها «غير عملية» بالطبع. فقد قُدر أنه يوجد حوالي ثلاثين حركة مسموح بها محتملة في النسق النموذجي لرقعة الشطرنج. لنفترض أن مباراة نمطية تستمر حوالي أربعين حركة قبل أن يستسلم أحد اللاعبين. آنذاك ومنذ بداية المباراة، يجب على اللاعب أن يفكِّر في ثلاثين حركة محتملة تالية، ولكل حركة من هذه الحركات، يوجد ثلاثون حركة محتملة من جانب الخصم؛ وهو ما يساوي احتمالًا في الحركة الثانية، ولكل خيار من الخيارات هذه، يوجد ثلاثون بديلًا آخر في الحركة الثالثة، وبذلك يصبح لدينا احتمالًا. وهكذا حتى يصبح عدد الاحتمالات في الحركة الأربعين احتمالًا. ومن ثَم سيكون على اللاعب في بداية المباراة أن يفكر في حركة بديلة قبل أن يختار الحركة «المثلى». هنا يكون مدى المسارات البديلة كبيرًا بدرجة فلكية.

في نهاية المطاف، إذا وجب صياغة خوارزمية لحل مسألةٍ ما، فإن أي معرفة ضرورية بشأن المسألة كي تنجح الخوارزمية «لا بد أن تُدرج بالكامل في الخوارزمية». وكما أشرنا في الفصل الثالث، فإن الخوارزمية جزء قائم بذاته من المعرفة الإجرائية. فلكي نُجريَ اختبار ورقة دَوَّار الشمس، أو نحلَّ مسألة ضرب بالورقة والقلم، أو نقدِّر مضروبَ عددٍ ما، أو ننتج تعبيرات بولندية عكسية من تعبيرات حسابية مرتبة وسطيًّا (ارجع إلى الفصل الرابع)، فكلُّ ما يحتاج المرء إلى معرفته هو الخوارزمية ذاتها. وإن تعذَّر إدراج كل المعلومات الضرورية في الخوارزمية، فلن تكون ثمة خوارزمية.

إن العالم مليء بالمهام أو المسائل التي تتجلى فيها أنواع السمات المذكورة آنفًا. وهي لا تتضمن الأعمال الفكرية أو الإبداعية وحسب — مثل البحث العلمي، والاختراعات، والتصميم، والكتابة الإبداعية، والأعمال الرياضية، والتحليل الأدبي، والبحوث التاريخية — بل تتضمَّن كذلك أنواع المهام التي يقوم بها الممارسون المهنيون — مثل الأطباء، والمهندسين، والمهندسين المعماريين، والمصمِّمين الصناعيين، والمخطِّطين، والمدرسين، والحرفيين. حتى الأنشطة العادية الرتيبة — مثل القيادة وسط زحام مروري، واتخاذ قرار بشأن عرض وظيفي، والتخطيط لرحلة في عطلة — لا تؤدي إلى حلول خوارزمية، أو على الأقل حلول خوارزمية فعالة.

وعلى الرغم من ذلك، يشرع الناس في تنفيذ هذه المهام وحل هذه المسائل. فهم لا ينتظرون الخوارزميات، سواء كانت فعالة أو غير ذلك. في الواقع، لو كان علينا انتظار الخوارزميات كي نحل كل مسائل حياتنا، لانقرض نوعنا منذ زمن بعيد. ومن منظور تطوري، فإن سبل تفكيرنا لا تنطوي على الخوارزميات وحسب. وهذا يطرح السؤال التالي: ما الوسائل «الحوسبية» الأخرى المتاحة لنا كي ننفِّذ هذه المهام؟ الإجابة هي اللجوء إلى نمط حوسبة يستخدم «الاستدلال».

الاستدلال عبارة عن قواعدَ وضوابط ومبادئ وافتراضات قائمة على المنطق السليم والتجربة والحكم على الأشياء والمقارنات والتخمينات المبنية على علم وغير ذلك، والتي تبشِّر بحل المسائل من دون ضمان نجاح حلها. وقد أتينا على ذكر الاستدلال في الفصل السابق عندما تناولنا معمارية الكمبيوتر. لكن الحديث عن معمارية الكمبيوتر باعتبارها علمًا اصطناعيًّا قائمًا على الاستدلال شيء، واستخدام الاستدلال في الحوسبة التلقائية شيء آخر. وهذا الأمر الأخير، «الحوسبة الاستدلالية»، هو ما سنتناوله الآن.

ابحث «وقد» تجد

الحوسبة الاستدلالية تجسِّد روح المغامرة! فهي لا تخلو من عدم اليقين والغموض. فمن يبحث عن حل استدلالي (سواء كان إنسانًا أو كمبيوتر) ليحل مسألةً ما هو فعليًّا كمن يستكشف «أرضًا مجهولة». ومثلما ينخرط الإنسان المتواجد في أرض مجهولة في استكشاف هذه الأرض والبحث فيها، يبحث مَن يقوم بالبحث الاستدلالي عن حل للمسألة — فيما يسميه علماء الكمبيوتر «فضاء المسألة» — وهو ليس على يقين من أنه سيصل إلى الحل. وبذلك يُطلق على أحد أنواع الحوسبة الاستدلالية اسم «البحث الاستدلالي».

لننظر، على سبيل المثال، إلى السيناريو التالي. أنت داخل إلى ساحة كبيرة جدًّا لركن السيارات ملحقة بصالة عرض كبيرة تريد أن تشاهد حدثًا فيها. والمسألة هي العثور على مكان لركن سيارتك. السيارات مصفوفة في أماكنها بالفعل، ولكن يبدو أنك ليس لديك معرفة بتوزيع الأماكن الفارغة أو موقعها. ما الذي يفعله المرء في هذه الحالة؟

في هذه الحالة، تصبح ساحة الركن هي فضاء المسألة حرفيًّا. وكلُّ ما يمكنك فِعله حرفيًّا هو البحث عن مكان فارغ. لكن بدلًا من البحث من دون هدف أو عشوائيًّا، قد تقرر اتباع سياسة «الملاءمة الأولى»؛ بحيث تركن سيارتك في أول مكان تراه فارغًا ومتاحًا. أو يمكنك اتباع سياسة «الملاءمة المثلى»؛ وهي البحث عن مكان فارغ ويكون هو الأقرب إلى صالة العرض.

هاتان السياستان استدلاليتان تساعدان في «توجيه» البحث عبْر فضاء المسألة. بالطبع لا يخلو الأمر من التنازلات: فاستراتيجية الملاءمة الأولى قد توفِّر وقتَ البحث، ولكن قد تضطر إلى أن تسير مسافةً طويلة حتى تصل إلى صالة العرض، أما استراتيجية الملاءمة المثلى فقد تحتاج إلى وقتٍ أطول للبحث لكنها ستختصر وقت السير نسبيًّا إن نجحت. لكنْ بالطبع «السياستان الاستدلاليتان لا تضمنان النجاح»: كلتاهما ليستا خوارزمية بهذا المعنى. وفي كلتا الحالتين، قد لا يوجد مكان فارغ، وفي هذه الحالة إما أن تظلَّ تبحث وتبحث أو تنهيَ البحث باتباع معيار مختلف مثل «الخروج إن تجاوز وقت البحث الحد المعقول».

لكن العديد من الاستراتيجيات التي تستخدم الاستدلال تتضمن كلَّ سمات الخوارزمية (كما ذكرنا في الفصل الثالث) — لكن هناك فرقٌ واحد ملحوظ وهو أنها لا تعطي سوى إجابات «تكاد تكون صحيحة» للمسألة، أو أنها لا تعطي إجابات صحيحة إلا لبعض صور المسألة. ومن ثَم يشير علماء الكمبيوتر إلى بعض الأساليب الاستدلالية في حل المسائل باسم الخوارزميات «الاستدلالية» أو «التقريبية»، وقد نحتاج في هذه الحالة إلى أن نفرِّق بينها وبين الخوارزميات «الدقيقة». ويشمل المصطلح «الحوسبة الاستدلالية» كلًّا من البحث الاستدلالي والخوارزميات الاستدلالية. وسنعرض مثالًا على الخوارزميات الاستدلالية بعد قليل.

هناك أسلوب استدلالي ذو مستوًى أعلى يسمَّى «القبول بما هو مُرضٍ»

في أي مسألة تحسين، عادةً ما يكون الهدف هو البحث عن أفضل حل ممكن للمسألة. والعديد من مسائل التحسين لها حلول خوارزمية دقيقة. ولسوء الحظ كثيرًا ما تكون هذه الخوارزميات ذات تعقيد وقت أسي، ومن ثَم فمن غير العملي — وحتى من المتعذر — استخدامها في صور كبيرة من المسألة. ومن الأمثلة على ذلك مسألةُ لعبة الشطرنج التي تناولناها من قبل. إذن، ما الذي يجب أن يفعله المكلَّف بحل المسألة إذا كانت الخوارزميات المثلى يتعذر تطبيقها حوسبيًّا؟

بدلًا من السعي العنيد لتحقيق هدف الأمثلية، قد يطمح المكلَّف بحل المسألة إلى تحقيق أهداف ممكنة أو مقبولة أكثرَ تكون أقلَّ من حيث المثالية، ولكنها «جيدة بشكل مقبول». وعند الحصول على حلٍّ يلبي هذا المستوى من الطموح، فسيشعر المكلَّف بحل المسألة بالرضا. وقد صاغ هيربرت سايمون مصطلحًا لهذا النوع من التفكير، ألا وهو «القبول بما هو مُرضٍ» (satisficing). الطموح للوصول إلى حلٍّ مُرضٍ أهونُ من الطموح إلى المثالية؛ إنه اختيار الجيد الممكن على الأمثل غير الممكن.

هذا المبدأ أسلوبٌ استدلالي عام وعالي المستوى للغاية، ويمكن أن يكون بمثابة نقطة انطلاق لتحديد المزيد من الأساليب الاستدلالية الخاصة بالمجال. وبذلك يمكننا أن نطلق عليه «الأسلوب الاستدلالي العالي المستوى».

دعنا نتأمَّل «الأساليب الاستدلالية المُرضية التي لها علاقة بمسألة الشطرنج». لنفكرْ في مأزق لاعب الشطرنج. وكما رأينا، فقد استبعدنا حلَّ البحث الأمثل. ويلزم توافر استراتيجيات عملية أكثر، وهذا يتطلب استخدام مبادئ استدلالية متعلقة بالشطرنج (أي، مرتبطة بالمجال). والاستراتيجية التالية من أبسطها.

لنتأملْ نسقَ رُقعة الشطرنج (مواقع كل قِطع الشطرنج على الرُّقعة حاليًّا) . ثم علينا تقييم ما إذا كان النسق واعدًا باستخدام أحد مقاييس «الجودة» والذي يراعي السمات العامة للنسق (عدد قِطع الشطرنج وأنواعها، ومواقعها النسبية، وغير ذلك).
لنفترض أن M1، وM2، …، وMn هي الحركات التي يمكن أن يقوم بها اللاعب في النسق ، ولنفترض أن النُّسق الناتجة بعد كل حركة هي M1C، وM2C وهكذا. بعدها نختار الحركةَ التي تزيد من قيمة جودة النسق الناتج. نقصد اختيار الحركة Mi التي تكون قيمةُ جودتها هي الأعلى.

لاحظ أننا حاولنا تحقيقَ نوع من الأمثلية هنا. لكنها محاولة تحسين «موضعية» أو «قصيرة الأجل»؛ حيث إنها تتعلق بحركة تالية واحدة فقط. وليس هذا باستدلال بالغ التعقيد، ولكنه نوع يمكن أن يتحلَّى به اللاعب العادي. لكنه يتطلب بالفعل مستوًى من المعرفة العميقة لدى اللاعب (سواء أكان إنسانًا أم كمبيوترًا) بشأن الجودة النسبية لأنساق الرقعة.

إنَّ لعب الشطرنج يجسِّد صورًا من البحث الاستدلالي المُرضي. أما الآن فلننتقل إلى مثال على الخوارزميات الاستدلالية المُرضية.

الخوارزمية الاستدلالية

تذكَّر الحديث عن المعالجة المتوازية في الفصل السابق. يقول هذا الحديث إن بالإمكان معالجة مهمتين Ti، وTj في تدفُّق مهام (بأي مستوًى من التجريد) بالتوازي بشرط تلبية شروط برنشتاين بشأن استقلالية البيانات.

لندرس الآن تدفقًا تسلسليًّا لتعليمات آلة يولدها برنامج مترجِم لكمبيوتر مادي مستهدف من برنامج تسلسلي مكتوب بلغة عالية المستوى (ارجع إلى الفصل الرابع). لكن إذا كان الكمبيوتر المستهدف ينفِّذ التعليمات بصورة متزامنة، فسيكون للبرنامج المترجِم مهمةٌ أخرى إضافية وهي: تحديد التوازي بين التعليمات في تدفُّق التعليمات وإنتاج «تدفُّق تعليمات متوازٍ»؛ حيث يتكوَّن كل عنصر من هذا التدفق من مجموعة تعليمات يمكن تنفيذها بالتوازي (لنطلق على ذلك «مجموعة متوازية»).

في واقع الأمر، هذه مسألة تحسين إذا كان الهدف هو تقليل عدد المجموعات المتوازية في تدفُّق التعليمات المتوازي. وكما هو الحال مع مسألة الشطرنج، ستنطوي خوارزمية التحسين على استراتيجية بحث مستفيض، ومن ثَم لن تكون عملية حوسبيًّا.

عمليًّا، ستطبَّق أساليبُ استدلالية مُرضية أكثر. لنضرب مثالًا بخوارزمية أُطلق عليها هنا خوارزمية «الخدمة بأسبقية الوصول».

تأمَّل تدفُّق التعليمات التسلسلي التالي . (ولغرض التبسيط، لا توجد عبارات تكرارية ولا عبارات goto في هذا المثال.)
I1: A B;
I2: C D + E;
I3: B E + F - 1/W;
I4: Z C + Q;
I5: D A/X;
I6: R B - Q;
I7: S D Z.

ستكون خوارزمية الخدمة بأسبقية الوصول كما يلي:

لكل تعليمة متتالية I في التدفق تبدأ ﺑ I1 وتنتهي ﺑ In، ضع I في أقرب مجموعة متوازية موجودة ممكنة وتستوفي شروط برنشتاين بشأن استقلال البيانات. وإذا لم يكن ذلك ممكنًا — بسبب اعتمادية البيانات التي تحول دون وضع I في أيٍّ من المجموعات المتوازية الحالية — يتم إنشاء مجموعة متوازية جديدة (فارغة) «بعد» المجموعات الحالية ووضع I فيها.
وعند تطبيق خوارزمية الخدمة بأسبقية الوصول هذه على المثال السابق، نرى أن المخرجات هي تدفُّق التعليمات المتوازي :
I1 I2;
I3 I4 I5;
16 17.
هنا، يعبِّر الرمز عن المعالجة المتوازية، ويعبِّر الرمز ; عن المعالجة التسلسلية. وبذلك، يصبح لدينا تدفُّق متوازٍ من ثلاث مجموعات متوازية من التعليمات.

إن خوارزمية الخدمة بأسبقية الوصول استراتيجية مُرضية. فهي تضع كلَّ تعليمة في أقرب مجموعة متوازية ممكنة بحيث تظهر أيضًا التعليمات اللاحقة المعتمدة على البيانات في أبكر مرحلة ممكنة في التدفق المتوازي. ويكون معيار الإرضاء: «افحص كلَّ تعليمة بالنسبة إلى سابقاتها وتجاهل ما يليها». وفي هذا المثال بالتحديد، تُخرِج خوارزمية الخدمة بأسبقية الوصول نتيجةً مثلى (أقصر تسلسل ممكن من المجموعات المتوازية). لكن قد يكون هناك تدفقات مدخلات أخرى تُنتج لها خوارزمية الخدمة بأسبقية الوصول مجموعات متوازية لا ترقى إلى المستوى الأمثل.

إذن، ما الفرق بين الخوارزميات الدقيقة والاستدلالية؟ في الخوارزميات الدقيقة، تقاس «الجودة» بتقييم تعقيد الوقت (أو المساحة) فيها. ولا يَلحق بالمخرجات مفاجآت أو عدم يقين. ولن يكون ثَم تباين في مخرجات خوارزميتين دقيقتين أو أكثر للمهمة الواحدة (مثل حل نظم المعادلات الجبرية أو فرز ملفات البيانات بترتيب تصاعدي، أو معالجة كشوف المرتبات، أو حساب العامل المشترك الأكبر لعددين صحيحين، أو غير ذلك)؛ ستختلفان (أو قد تختلفان) فقط في أدائهما أو الشكل الجمالي الخاص بهما. أما في حالة الخوارزميات الاستدلالية، فثمة الكثير من التفاصيل. بالتأكيد يمكن المقارنة بين الخوارزميات من حيث تعقيدات الوقت الخاصة بها. (خوارزمية الخدمة بأسبقية الوصول ذات تعقيد وقت بالنسبة إلى تدفُّق مدخلات بالحجم .) ولكن يمكن أيضًا مقارنتها من حيث المخرجات؛ لأن المخرجات قد تسبِّب مفاجآت في بعض الحالات. فربما نخرج بنتائجَ مختلفة من خوارزميتَي توازٍ أو برنامجَي شطرنج يستعملان مجموعات مختلفة من الأساليب الاستدلالية.

ومدى الاختلاف بينهما مسألة تجريبية. فلا بد من تنفيذ الخوارزميات في صورة برامج قابلة للتنفيذ، وإجراء التجارب على بيانات اختبارية متنوعة، ودراسة المخرجات، والتحقق من نقاط القوة ونقاط الضعف بناءً على التجارب. إذن، تنطوي الحوسبة الاستدلالية على إجراء التجارب.

الاستدلال والذكاء الاصطناعي

«الذكاء الاصطناعي» فرعٌ من علم الكمبيوتر ويهتم بالجوانب التنظيرية والتصميمية والتنفيذية لأدوات حوسبية تنفذ مهامَّ نربطها عادةً بالتفكير البشري: يمكن رؤية هذه الأدوات على أنها «تمتلك» ذكاءً اصطناعيًّا. وبذلك فهي تمثل جسرًا بين علم الكمبيوتر وعلم النفس. وأول مَن فكر في احتمالية تحقيق الذكاء الاصطناعي هو مهندس الكهرباء كلود شانون في أواخر أربعينيات القرن العشرين حينما تأمَّل فكرة برمجة كمبيوتر ليلعب الشطرنج. ومنذ ذلك الحين في الحقيقة، ظل شطرنج الكمبيوتر محلَّ اهتمام كبير في بحوث الذكاء الاصطناعي. لكن أكثر بيان مؤثِّر فيما عُرف بعد ذلك باسم الذكاء الاصطناعي (المصطلح ذاته صاغه أحدُ رواد المجال، وهو جون مكارثي في أواسط خمسينيات القرن العشرين) ورد في مقال مثير كتبه آلان تورنج (صاحب آلة تورنج) عام ١٩٥٠ حيث طرح السؤال التالي واقترح إجابة عنه: «ما الذي يعنيه الزعم بأن الكمبيوتر بإمكانه أن يفكر؟» وقد تضمنت إجابته إجراء تجربةٍ ما — «تجربة فكرية» — وفيها يطرح إنسان أسئلة على كيانين غير مرئيين عبر وسيلة اتصال «محايدة» (بحيث لا يستطيع السائل تخمين هوية المجيب عبر وسيلة الرد)، وكان أحد الكيانين إنسانًا والآخر جهاز كمبيوتر. وإذا لم يستطِع السائل أن يصيب في تخمين هوية الكمبيوتر باعتباره المجيب لأكثر من 40 إلى 50 بالمائة من الوقت، فيمكن اعتبار أن الكمبيوتر يُظهِر ذكاءً يشبه ذكاء الإنسان. عُرف هذا الاختبار باسم «اختبار تورنج» وكان بمثابة الغاية المنشودة في بحوث الذكاء الاصطناعي لسنوات.

مجال الذكاء الاصطناعي مجال شاسع، ويوجد في واقع الأمر أكثرُ من «نموذج فكري» يفضِّله باحثو الذكاء الاصطناعي. (أستخدم كلمة «نموذج» بالمعنى الذي يستخدمه فيلسوف العلم توماس كون.) ولكن كي نزيد من إيضاح نطاق الحوسبة الاستدلالية وقدراتها في هذا المقام، فلن أتناول غير «نموذج البحث الاستدلالي» في الذكاء الاصطناعي.

يهتم هذا النموذج بالكيانات الذكية — سواء الطبيعية أو الاصطناعية: أي، البشَر والآلات. كذلك يرتكز النموذج على فرضيتين ذكرهما مبتكِراه ألين نيويل وهيربرت سايمون بوضوح شديد وهما:
فرضية نظام الرموز المادية: يمتلك نظام الرموز المادية الوسائل الضرورية والكافية للأفعال الذكية بوجه عام.
فرضية البحث الاستدلالي: يحل نظام الرموز الفيزيائية المسائل عن طريق البحث على نحوٍ تدريجي وانتقائي (استدلالي) عبْر فضاء المسألة المكوَّن من البنيات الرمزية.

يقصد نيويل وسايمون ﺑ «نظام الرموز المادية» الأنظمةَ التي تعالج البنيات الرمزية وترتكز رغم ذلك على أساسٍ مادي — ما أسميته الأدوات الحوسبية المادية والحدية، غير أنها تتضمن الكائنات الطبيعية والاصطناعية تحت مظلتها على حد سواء.

يصوِّر الشكل ٦-١ صورةً عامة للغاية لكيان حل مسائل قائم على البحث الاستدلالي (سواء بشري أو اصطناعي). تُحَل المسألة أولًا بإنشاء تمثيل رمزي للمسألة في ذاكرة عاملة أو «فضاء مسألة». عادةً ما سيشير تمثيل المسألة إلى «الحالة الأولية» وهي التي يبدأ منها الكيان، و«الحالة الهدف» التي تمثِّل أحدَ حلول المسألة. إضافة إلى ذلك، يجب أن يكون فضاء المسألة قادرًا على تمثيل كل الحالات المحتملة التي يمكن الوصول إليها في محاولة الانتقال من الحالة الأولية إلى الحالة الهدف. وقد يكون فضاء المسألة هو ما يطلِق عليه علماء الرياضيات «فضاء الحالة». فضاء المسألة.
تحدُث الانتقالات من حالةٍ إلى أخرى بالاحتكام إلى محتويات «فضاء المعرفة» (محتويات الذاكرة الطويلة الأجل) لدى الكيان. كذلك تُنتقى العناصر من فضاء المعرفة هذا، وتُطبَّق على «الحالة الحالية» في فضاء المسألةِ، ما يؤدي إلى حالة جديدة. والجهة التي تفعل ذلك موضَّحة في الشكل ٦-١ باسم «المترجِم» (الذي سنتناوله بمزيد من التفصيل لاحقًا). تؤدي التطبيقات المتتالية لعناصر المعرفة ذات الصلة إلى قيام الكيان بالبحث عن حلٍّ عبر فضاء المسألة. وعملية البحث هذه تشكِّل عملية حوسبة. وتُحل المسألة عندما — بدءًا بالحالة الأولية — يؤدي تطبيق لسلسلة من عناصر المعرفة إلى الوصول إلى الحالة الهدف.

لكن وبما أن فضاء المسألة يمكن أن يكون كبيرًا للغاية، فإن البحث فيه لا يكون عشوائيًّا. بل يستخدم الكيان الأساليبَ الاستدلالية للتحكم في مقدار البحث، واستبعاد أجزاء من فضاء البحث على أنها غير ضرورية، ومن ثَم الوصول إلى الحل في أسرع وقت ممكن.

fig8
شكل ٦-١: الهيكل العام لنظام البحث الاستدلالي.

الطرق الضعيفة والطرق القوية

إذن يكون صميم نموذج البحث الاستدلالي هو الأساليب الاستدلالية المتضمَّنة في فضاء المعرفة. قد تتراوح هذه الأساليب ما بين العامة جدًّا — بمعنى قابليتها لأن تنطبق على مجموعة كبيرة من مجالات المسائل — إلى الخاصة جدًّا — بمعنى أنها ذات صلة بمجالات مسائل معينة. يطلق على النوع الأول «الطرق الضعيفة»، ويطلق على النوع الثاني «الطرق القوية». وبوجه عام، عندما يكون مجال المسألة مفهومًا فهمًا رديئًا، تكون الطرق الضعيفة واعدة أكثر؛ وعندما يكون مجال المسألة معروفًا أو مفهومًا بمزيد من التفصيل، تكون الطرق القوية مناسبة أكثر.

من الطرق الضعيفة الفعالة (والتي قد أتينا على ذكرها عدة مرات) هي «فرِّق تسُد». وثمة طريقة أخرى تسمَّى «تحليل الوسائل والغايات»:

بفرض وجود مسألة لها حالة حالية وحالة هدف، حدِّد الفرق بينهما. بعد ذلك اختزل الفرق عن طريق تطبيق «عامل» ذي صلة. لكن إذا لم يُستوفَ الشرط المسبق الضروري لتطبيق العامل، اختزل الفرق بين الحالة الحالية والشرط المسبق عن طريق تطبيق تحليل الوسائل والغايات على الحالة الحالية والشرط المسبق على نحو ذاتي الاستدعاء.

من الأمثلة التي يمكن أن تنطبق فيها استراتيجية فرِّق تسُد واستراتيجية تحليل الوسائل والغايات معًا هو مسألة تخطيط الطالب لبرنامج لنيل درجة علميةٍ ما. تقسم قاعدة فرِّق تسُد المسألةَ إلى مسائل فرعية بما يعادل كل سنة من سنوات برنامج الدرجة العلمية. وتنقسم الحالة الهدف الأساسية (ولنقُل نيل الدرجة العلمية في تخصص معيَّن في عدد من السنوات) إلى حالات «هدف فرعية» لكل سنة من السنوات التي عددها . ولكل سنة، سيحدِّد الطالب الحالة الأولية لتلك السنة (المواد الدراسية التي دُرست قبل تلك السنة)، ويحاول أن يحدِّد المواد الدراسية المراد دراستها، التي تزيل الفرق بين الحالة الأولية والحالة الهدف لتلك السنة. ويتقلص البحث عن المواد الدراسية بتحديد المواد الإلزامية. لكن قد يتطلَّب بعض هذه المواد متطلباتٍ مسبقة أساسية. ومن ثَم تُطبق استراتيجية تحليل الوسائل والغايات لتقليل الفجوة بين الحالة الأولية والمتطلبات المسبقة الأساسية. وهكذا دواليك.

يرجى العلم أن استراتيجية تحليل الوسائل والغايات استراتيجيةٌ ذاتية الاستدعاء (ارجع إلى الفصل الثالث). إذن، ما وجه «الاستدلال» فيها؟ النقطة هنا هي أنه لا يوجد ما يضمن أن تنتهيَ استراتيجيةُ تحليل الوسائل والغايات بنجاح في مجال مسائل معين. على سبيل المثال، في ضوء حالة حالية وحالة هدف معينين، يمكن تطبيق عدة إجراءات لتقليص الفرق. وربما يحدد الإجراء الذي يقع عليه الاختيار الفرق بين النجاح والفشل.

وعادةً ما تمثِّل الطرق القوية «المعرفة الخبيرة» التي يحوزها المتخصصون في مجال المسألة عبْر التعليم الرسمي والتدريبات العملية والخبرة. ومن الأمثلة النموذجية على ذلك الأنظمة الحوسبية التي تحدِّد البنية الجزيئية للمواد الكيميائية أو تساعد المهندسين في مشاريع تصميماتهم. وغالبًا ما يعبَّر عن أساليب الاستدلال هذه في فضاء المعرفة باعتبارها قواعد (والتي تسمَّى «نواتج») باستخدام الصيغة التالية:
والمعنى أنه إذا تطابقت الحالة الحالية في فضاء المسألة مع جزء «الشرط» في القاعدة، فيمكن حينذاك تنفيذ «الإجراء» المقابل. ولنضرب مثالًا من مجال تصميم الدوائر الإلكترونية الرقمية (والذي ينفَّذ في إطار نظام استدلالي لأتمتة التصميمات) – والذي يشير هنا إلى أنه إذا كان الهدف من وحدة الدائرة هو تحويل الإشارة التسلسلية إلى إشارة متوازية، يجب استخدام أحد سجلات الإزاحة:
من الممكن أن الحالة الحالية في فضاء المسألة تتطابق مع أجزاء الشرط لعدة قواعد:

في هذا الموقف، ربما يجب توجيه اختيار الإجراء المراد بأسلوب استدلالي ذي مستوًى أعلى (مثل اختيار أول قاعدة مطابقة). قد يتبيَّن أن هذا الاختيار كان خاطئًا كما سندرك لاحقًا في العملية الحوسبية، وفي هذه الحالة يجب أن «يرجع» النظام إلى حالة سابقة ويستكشف قاعدة أخرى.

ترجمة قواعد الاستدلال

لاحظ «المترجِم» في الشكل ٦-١. مهمة المترجِم تنفيذ خوارزمية دورية مناظرة لدورة التعليمات في الكمبيوتر المادي (ارجع إلى الفصل الخامس):

بعيدًا عن عدم اليقين المصاحب لنموذج البحث الاستدلالي، فإن الفارق الكبير الآخر بين الخوارزميات (الدقيقة أو الاستدلالية) هو (كما ذكرنا من قبل) أن كل المعرفة اللازمة لتنفيذ الخوارزميات مدمجة في الخوارزمية نفسها. لكن في المقابل في نموذج البحث الاستدلالي، تقع المعرفة كلها تقريبًا في فضاء المعرفة (أو الذاكرة الطويلة الأجل). ويكمُن معظم تعقيد نموذج البحث الاستدلالي فيما يتمتع به فضاء المعرفة من ثراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤