الفصل الخامس عشر

خصلات وفراغات

«علاوةً على ذلك، لا بد أن تكون السماء كروية؛ فذلك هو الشكل الوحيد الجدير بجوهرها لمَّا كانت تحتل المكانة الأولى في الطبيعة.»

أرسطو، «عن السماء»

كيف يبدو الكون؟ وما مدى ضخامته؟ وما شكله؟

إننا نعرف شيئًا عن السؤال الأول، وهو ليس ما توقَّعه معظم علماء الفلك والفيزيائيين في بادئ الأمر. على أكبر النطاقات التي يمكننا رصدها، يبدو الكون كالرغوة في إناء الغسيل. تمثِّل فقاعات الرغوة فراغات ضخمة ليس بها شيء من المادة تقريبًا. أما أغشية الصابون المحيطة بالفقاعات، فهي أماكن تجمع النجوم والمجرات.

مما يبعث على الإحراج أنَّ نموذجنا الرياضي المفضَّل للتركيب المكاني للكون يفترض أنَّ المادة موزعة بالتساوي. يعزِّي علماء الكون أنفسهم بأنه على النطاقات الأكبر حتى مما نرصده، لا يعود تمييز الفقاعات الفردية ممكنًا، وتبدو الرغوة ملساء للغاية، لكننا لا نعرف أنَّ المادة في الكون تتصرف على هذا النحو. ففي كل المرات التي رصدنا فيها الكون على نطاق أكبر حتى الآن، كنا نجد تكتلات أكبر وفراغات. ربما لا يكون الكون متساويًا على الإطلاق. ربما يتخذ الكون شكلًا كسيريًّا، وهو شكل يتسم ببُنًى تفصيلية على جميع النطاقات.

لدينا بعض الأفكار أيضًا عن السؤال الثاني المتعلق بالحجم. فليست النجوم به نصف كروية منصوبة فوق الأرض، مثلما اعتقدت بعض الحضارات القديمة، ومثلما يبدو أنَّ «سفر التكوين» يفترض أيضًا. إنها بوابة إلى عالم شديد الاتساع حتى إنه يبدو لا نهائيًّا. وربما «يكون» لا نهائيًّا بالفعل. فهذا ما يعتقده معظم علماء الكون، لكن من الصعب أن نتخيل الكيفية التي يمكننا أن نختبر بها هذا الزعم على نحوٍ علمي. إننا نعرف إلى حدٍّ ما، مدى ضخامة الكون المرصود، لكن كيف يمكننا أن نبدأ حتى بمعرفة ذلك؟

أما السؤال الثالث المتعلق بالشكل، فهو أكثر صعوبة من سابقيه. وما من اتفاق تام على الإجابة حتى الآن، وإن كان الإجماع على المنافس الأكثر اعتيادية؛ كرة. لطالما وُجِدَت تلك النزعة للاعتقاد بأنَّ الكون كروي، وأنه الجزء الداخلي من كرة ضخمة من الفضاء والمادة. بالرغم من ذلك، فقد اعتقد البشر في أوقات حديثة متعددة بأنه حلزوني الشكل، أو على شكل كعكة حلقية (دونَت)، أو كرة قدم، أو على شكل لا ينتمي إلى الهندسة الإقليدية يُدعى بوق بيكارد. قد يكون مسطحًا، أو منحنيًا. وإذا كان منحنيًا، فقد يكون انحناؤه موجبًا أو سالبًا أو يختلف من مكان إلى مكان. قد يكون نهائيًّا أو لا نهائيًّا، وقد يكون متصلًا أو مليئًا بالثقوب، أو حتى غير متصل يتوزع على قطع منفصلة لا يمكنها أبدًا أن تتفاعل بعضها مع بعض.

•••

إنَّ الجزء الأكبر من الكون فضاء فارغ، لكنه يحتوي على الكثير من المادة أيضًا؛ إذ توجد به ٢٠٠ مليار مجرة تقريبًا، وكلٌّ منها يحتوي على ما يتراوح بين ٢٠٠ و٤٠٠ مليار نجم. ثمَّة أهمية للطريقة التي تتوزع بها المادة أيضًا؛ لأنَّ معادلات أينشتاين للمجال تربط بين هندسة الزمكان وتوزيع المادة.

لا شك أنَّ المادة الموجودة في الكون «لا» تتوزع بالتساوي على النطاقات التي رصدناها، لكنَّ تاريخ هذا الاكتشاف لا يعود إلا لبضعة قرون فقط. أما قبل ذلك، فقد كان الرأي السائد أنَّه فيما فوق نطاق المجرات، يبدو التوزيع الإجمالي للمادة متساويًا، مثلما يبدو العشب متساويًا إلا أن ترى قِطَعه المنفصلة. غير أنَّ كوننا يبدو كعشب يحتوي على قطع كبيرة من البرسيم والطين، مما يشكِّل هيكلًا غير متساوٍ على النطاقات الأكبر. وحين تحاول الحصول على منظر متساوٍ من هذا الهيكل عن طريق النظر له على نطاق أكبر، يختفي العشب وترى موقف سيارات المتجر. بصياغة أكثر اعتيادية، ثمَّة نزعة مميِّزة للتوزيع الكوني للمادة بأن تكون متكتلة على مجموعة ضخمة من النطاقات.

في المجاورة التي نقطن بها، تكتل القدْر الأكبر من مادة النظام الشمسي معًا ليكوِّن نجمًا؛ الشمس. ثمَّة أجزاء أصغر أيضًا هي الكواكب، ويوجد ما هو أصغر منها أيضًا متمثلًا في الكواكب، وما هو أصغر من الكواكب متمثلًا في الأقمار والكويكبات وأجسام حزام كايبر، إضافةً إلى صخور صغيرة مختلفة، والحصى والغبار والجزيئات والذرات والفوتونات. وإذا انتقلنا في الاتجاه المعاكس إلى النطاقات الأكبر، فسنجد أنواعًا أخرى من التكتل. فقد نجد العديد من النجوم المقيَّدة بالجاذبية لتشكل أنظمة نجمية ثنائية أو ثلاثية. توجد العناقيد المفتوحة أيضًا، وهي مجموعات تتكوَّن من ألف نجم تقريبًا تشكَّلت جميعها في الوقت نفسه تقريبًا ومن الغيمة الجزيئية المنهارة نفسها. توجد هذه العناقيد داخل المجرات، ونحن نعرف بوجود ما يقرب من ١١٠٠ منها في مجرتنا. توجد العناقيد الكروية أيضًا التي تتألف من مئات آلاف النجوم القديمة في شكل كروي مغبَّش ضخم، وعادةً ما توجد في صورة توابع تدور حول المجرات. تحتوي مجرتنا على ١٥٢ من العناقيد الكروية المعروفة، وربما يكون عددها الإجمالي في المجرة هو ١٨٠.

تُعد المجرات مثالًا واضحًا على التكتل في الكون؛ فهي بقع أو أقراص أو أشكال حلزونية تحتوي على نجوم يتراوح عددها بين ألف و١٠٠ تريليون نجم، وتتراوح أقطارها بين ٣٠٠٠ و٣٠٠٠٠٠ من السنين الضوئية. غير أنَّ المجرات لا تتوزع بالتساوي هي أيضًا. فهي توجد غالبًا في مجموعات قريبة بعضها من بعض تتألف من خمسين عنقودًا مجرِّيًّا تقريبًا، وقد توجد أيضًا في أعداد كبيرة (تصل إلى الألف). تتجمع هذه العناقيد بدورها لتكوِّن عناقيد فائقة تتكتل معًا لتشكِّل رقائق وشعيرات شديدة الاتساع على نحوٍ لا يوصف، مع وجود فراغات ضخمة فيما بينها.

figure
قطعتان من المجرات باستخدام «مسح سلون الرقمي للسماء» توضحان الشعيرات والفراغات. تقع الأرض في المركز. تمثل كل نقطة مجرة من المجرات، ويبلغ نصف قطر الدائرة ملياري سنة ضوئية.

نقطن نحن، على سبيل المثال، في مجرة هي جزء من المجموعة المحلية للمجرات، والتي تضم مجرة «أندروميدا (إم ٣١)»، و٥٢ غيرها من المجرات التي ينتمي العديد منها إلى فئة المجرات القزمة مثل سحابتي ماجلان اللتين هما بمثابة تابعتين للمجرتين الحلزونيتين الأساسيتين: مجرة «أندروميدا» ومجرتنا. يوجد ما يقرب من ١٠ مجرات قزمة غير مقيدة بالجاذبية مع المجرات الأخرى. أما المجرة الأساسية الكبيرة الأخرى في المجموعة المحلية، فهي مجرة «المثلث» التي قد تكون تابعة لمجرة «أندروميدا». يبلغ قطر المجموعة المحلية ١٠٠٠٠ سنة ضوئية تقريبًا. وهي جزء من العنقود الفائق «لانياكيا»، الذي حُدِّد عام ٢٠١٤ في إجراء لتعريف العناقيد الفائقة رياضيًّا من خلال تحليل السرعة التي تتحرك بها المجرات إحداها بالنسبة إلى الأخرى. يبلغ قطر العنقود الفائق «لانياكيا» ٥٢٠ مليون سنة ضوئية ويضم ١٠٠٠٠٠ مجرة.

ونظرًا لاكتشاف المزيد من التكتلات الجديدة والكبيرة، يواصل علماء الكونيات مراجعة النطاق الذي يعتقدون أنَّ الكون يصبح متساويًا عنده. تتمثَّل وجهة النظر الحالية في أنَّ التكتلات والفراغات لا ينبغي أن تكون أكبر من مليار سنة ضوئية، وينبغي أن يكون معظمها أصغر من ذلك. ولهذا فإنَّ بعض الملاحظات الحديثة مربكة بعض الشيء. فقد اكتشف فريق بقيادة أندرياس كوفاتش فراغًا يمتد قطره إلى ملياري سنة ضوئية، ووجد روجر كلويس وزملاء له تركيبًا كونيًّا متجانسًا يبلغ ضعف ذلك الحجم، وهي «مجموعة الكويزارات الكبيرة الضخمة»، التي تضم ٧٣ من الكويزارات (أشباه النجوم). يبلغ حجم التركيب الأول ضعف أكبر حجم متوقَّع لتركيب موحَّد، بينما يبلغ حجم التركيب الثاني أربعة أضعاف أكبر حجم متوقع لتركيب موحد. وقد رصدت مجموعة لايوش بالاج حلقة من مفجِّرات أشعة جاما يبلغ قطرها ٥٫٦ مليارات سنة ضوئية، وهو تركيب أكبر حتى من سابقيه.1

إنَّ هذه الاكتشافات مثيرة للجدل، وكذلك هي تفسيراتها وبدرجة أكبر. يشكك البعض في معنى هذه الملاحظات. ويحاجج البعض بأنَّ وجود بضعة من التراكيب الكبيرة على نحوٍ استثنائي لا يمنع أن يكون الكون متجانسًا «في المتوسط». وبالرغم من أنَّ ذلك صحيح، فهو غير مقنع تمامًا؛ لأنَّ هذه التراكيب لا تتلاءم مع النموذج الرياضي القياسي: كون متعدد الجوانب ليس متجانسًا في المتوسط فحسب؛ بل في كل مكان إلا من انحرافات تقل عن مليار سنة ضوئية. لقد تهاوت جميع التأكيدات السابقة على وجود التجانس على نطاقات أصغر حينما أُجريت مسوحات أحدث وأوسع نطاقًا. ويبدو أنَّ الأمر يحدث مجددًا.

يجدر بنا القول إنَّ تحديد العناقيد ليس بالمهمة التافهة. فما الذي يمثل على وجه التحديد عنقودًا وما يمثل عنقودًا فائقًا؟ إنَّ العين البشرية بطبيعتها ترى التكتلات، غير أنه لا يلزم أن تكون هذه التكتلات مترابطة على نحوٍ ذي مغزًى في سياق الجاذبية. ويستخدم الحل أسلوبًا يُعرَف باسم مرشحات وينر، وهو نوع معقَّد من ملاءمة بيانات المربعات الدنيا التي يمكن أن تفصل الإشارات عن الضوضاء. ويُعدَّل هذا الأسلوب في هذه الحالة لفصل حركات المجرات إلى جزء يمثِّل تمدُّد الكون، وهو مشترك بين جميع المجرات، وجزء آخر يوضح «حركاتها الفعلية» الفردية بالنسبة إلى ذلك التمدد. تنتمي المجرات التي تقع في المنطقة العامة نفسها، والتي تتسم بحركات فعلية متشابهة، إلى العنقود الفائق نفسه. إنَّ الكون يشبه مائعًا تمثل النجوم ذراته، والمجرات دواماته، والعناقيد الفائقة هي تراكيبه الواسعة النطاق. وباستخدام مرشحات وينر، يمكن تحديد أنماط دفق هذا المائع.

لقد صمَّم علماء الكونيات نماذج محاكاة لكيفية تكتل المادة معًا في هذا الكون بفعل الجاذبية. ويبدو أنَّ الصورة العامة التي تتمثَّل في وجود خصل رقيقة وصفائح من المادة تفصل بينها فراغات ضخمة، هي تركيب منطقي لنظام كبير من الأجسام التي تتفاعل من خلال الجاذبية. بالرغم من ذلك، فإنَّ محاولة مطابقة إحصائيات الخصل والصفائح مع الملاحظات الرصدية، أو حتى الحصول على توزيع واقعي للمادة على مدار النطاق الزمني التقليدي الذي يبلغ ١٣٫٨ مليار عام، أصعب كثيرًا.

figure
محاكاة حاسوبية لمنطقةٍ يبلغ قطرها ٥٠ مليون سنة ضوئية لأحد نماذج توزيع المادة المرئية في الكون.

تتمثَّل الطريقة المعتادة للتغلب على هذه العقبة في استدعاء وجود جسيمات غامضة تُدعى بالمادة المظلمة. يعزز هذا الافتراض فعليًّا من قوة الجاذبية؛ مما يسمح بتطور التراكيب الكبيرة بسرعة أكبر، لكنه ليس مُرضيًا تمامًا، انظر الفصل الثامن عشر. ثمَّة بديل آخر غالبًا ما يُغفَل، وهو احتمالية أن يكون الكون أقدمَ كثيرًا مما نظن. أما البديل الثالث، فهو أننا لم نتوصل إلى النموذج الصحيح بعد.

•••

بعد ذلك نأتي إلى الحجم.

حين اخترق علماء الفلك الكون بتلسكوبات قوية للغاية، لم يكونوا يرون ما هو أبعد فحسب؛ بل كانوا يرون الماضي أيضًا. لمَّا كان للضوء سرعة محدودة، فإنه يستغرق مقدارًا محددًا من الوقت لينتقل من مكان إلى آخر. وتُعرَّف السنة الضوئية بالفعل بأنها المسافة التي يقطعها الضوء في عام.

ينتقل الضوء بسرعة كبيرة للغاية؛ لذا فالسنة الضوئية تمثِّل مسافة طويلة للغاية تساوي ٩٫٤٦ تريليونات كيلومتر. يقع أقرب نجم إلينا على بُعد ٤٫٢٤ سنوات ضوئية؛ ومن ثمَّ فحين يراه أي شخص من خلال التلسكوب فإنه يراه كما كان قبل أربع سنوات وربع. وبحسب ما نعرفه، ربما يكون قد انفجر بالأمس، (لكنَّ ذلك غير مرجح في حقيقة الأمر، فهو لم يبلغ تلك المرحة من تطوره بعد)، غير أننا لن نعرف إذا حدث ذلك إلا بعد أربعة أعوام وربع أخرى.2

يبلغ الرقم الحالي لنصف قطر الكون القابل للرصد ٤٥٫٧ مليار سنة ضوئية تقريبًا. وقد نتخيل بسذاجة أننا نستطيع إذن أن نرى ٤٥٫٧ مليار عام في الماضي. غير أننا لا نستطيع ذلك لسببَين. أولهما أنَّ مصطلح «الكون القابل للرصد» يشير إلى ما سيكون من الممكن رصده بصورة مبدئية، لا ما نراه فعليًّا. وثانيهما أنَّ العلماء يعتقدون الآن أنَّ عمر الكون ١٣٫٨ مليار عام فحسب. وتُفسَّر الفترة المفقودة والتي تبلغ ٣١٫٩ مليار عام بتمدد الكون، لكنني سأناقش ذلك في الفصل التالي.

تلك مساحة كبيرة للغاية من الكون. وذلك هو الجزء القابل للرصد فحسب. ربما توجد أجزاء أخرى. وعلى أية حال، يمكننا تقديم إجابة مستنيرة لسؤال: «ما مدى ضخامة الكون؟» إذا فسرناه بطريقة منطقية.

•••

على العكس من ذلك، فإنَّ إجابة السؤال: «ما شكل الكون؟» أصعب كثيرًا، وهي مصدر للكثير من الجدل.

قبل أن يتوصل أينشتاين إلى كيفية دمج الجاذبية في نظريته النسبية للزمكان، كان الجميع تقريبًا يفترضون أنَّ شكل الكون لا بد أن ينتمي إلى الهندسة الإقليدية. من أسباب ذلك أنه على مدار فترة طويلة من الوقت فيما بين تأليف إقليدس لكتاب «العناصر» وبين مراجعة أينشتاين الجذرية للفيزياء، كان الاعتقاد السائد أنه لا يوجد سوى الهندسة الإقليدية.

تحطَّم هذا الاعتقاد في القرن التاسع عشر حين اكتشف الرياضيون أشكالًا هندسية متسقة ذاتيًّا لا تنتمي إلى الهندسة الإقليدية، وبالرغم من أنَّ لهذه الأشكال تطبيقاتها الرائعة في الرياضيات، فلم يكن أحد تقريبًا يتوقَّع أنها ستنطبق في الحياة الواقعية. كان جاوس هو الاستثناء الذي اكتشف الهندسة غير الإقليدية لكنه احتفظ بالأمر سرًّا؛ لأنه رأى أنَّ أحدًا لن يتقبلها؛ ففضل أن يتجنب النقد غير المدروس. لا شك أنَّ الهندسة الكروية كانت معروفة؛ فعادةً ما كان البحارون وعلماء الفلك يستخدمون نظرية معقدة لحساب المثلثات الكروي. غير أنَّ ذلك كله كان مقبولًا لأنَّ الكرة ليست سوى سطح مكاني في الفضاء الإقليدي المعتاد. فهي ليست الفضاء نفسه.

فكَّر جاوس أنه إذا لم يكن يلزم أن تكون الهندسة إقليدية، فلا يلزم أن يكون الفضاء الفعلي إقليديًّا أيضًا. ومن الطرق التي يمكن استخدامها للتمييز بين أنواع الهندسات المختلفة، جمع زوايا المثلث. ففي الهندسة الإقليدية نحصل على مجموع يساوي ١٨٠ درجة على الدوام. وفي أحد أنواع الهندسات غير الإقليدية (الهندسة الإهليلجية)، نحصل على مجموع أكبر من ١٨٠ درجة على الدوام، وفي نوع آخر هو هندسة القطع الزائد، نحصل على مجموع أقل من ١٨٠ درجة على الدوام. ويتوقف العدد الدقيق على مساحة المثلث. حاول جاوس أن يتوصل إلى الشكل الفعلي للفضاء من خلال قياس مثلث تشكِّله ثلاثة من قمم الجبال، لكنه لم يحصل على إجابة مقنعة. المفارقة أنه وفقًا لما فعله أينشتاين بالرياضيات التي انبثقت عن هذه الاكتشافات، فإنَّ الجذب الثقالي للجبال تداخل مع حساباته.

بدأ جاوس يتساءل عن الكيفية التي يمكن من خلالها حساب كمية انحناء سطح ما؛ أي مدى حدة انحنائه. حتى ذلك الوقت، كان السطح يُرى عادةً على أنه حد جسم صلب في الفضاء الإقليدي. لكنَّ جاوس لم يوافق على ذلك. فقد رأى أنَّ وجود جسم صلب ليس ضروريًّا؛ بل إنَّ السطح وحده كافٍ. ورأى أنَّ وجود فضاء إقليدي محيط ليس ضروريًّا أيضًا. فكل ما يلزم هو وجود شيء يحدِّد السطح، وكان يرى أنَّ هذا الشيء هو مفهوم للمسافة: «مترية». وتُعد المترية من الناحية الرياضية صيغة للمسافة بين أي نقطتين قريبتين للغاية من إحداهما الأخرى. ومن هذا، يمكنك حساب المسافة بين أي نقطتين من خلال نظم سلسلة من النقاط المتجاورة للغاية معًا، مع استخدام الصيغة لإيجاد المسافة بين تلك النقاط، ثم جمع كل تلك المسافات القصيرة، واختيار سلسلة النقاط المتجاورة بعد ذلك للتوصل إلى أصغر نتيجة ممكنة. تتلاءم سلسلة النقاط المتجاورة معًا لتشكيل منحنًى يُسمى بالجيوديسي، وهو الطريق الأقصر بين هاتين النقطتين. قادت هذه الفكرة جاوس إلى صيغة أنيقة للانحناء، وإن كانت صيغة معقدة. ومن المثير للاهتمام أنَّ هذه الصيغة لا تذكر أي فضاء محيط. ذلك أنه جوهري في السطح. فانحناء الفضاء الإقليدي صفري؛ أي أنه مسطح.

أدى ذلك إلى فكرة جذرية، وهي أنَّ الفضاء يمكن أن يكون منحنيًا دون أن ينحني «حول» أي شيء. فالكرة على سبيل المثال، تنحني بوضوح على الشكل الكروي الصلب الذي تتضمنه. لكي تصنع أسطوانة، تأخذ ورقة و«تثنيها» إلى دائرة؛ إذن فالسطح الأسطواني ينحني حول الأسطوانة الصلبة الذي يحدها. غير أنَّ جاوس تجاوز ذلك النمط القديم من التفكير. فقد أدرك أنه يمكن رصد انحناء السطح دون تضمينه في الفضاء الإقليدي.

كان يحب أن يشرح ذلك من خلال تشبيهه بنملة تعيش على سطحٍ لا تستطيع تركه، ولا دخوله، ولا إطلاق نفسها في الفضاء. فالسطح هو كل ما تعرفه النملة. وحتى الضوء مقتصر على السطح، ويتحرك على المنحنيات الجيوديسية؛ فلا تستطيع النملة أن تعرف أنَّ مُناظِرها للفضاء منحنٍ. بالرغم من ذلك، يمكنها استنتاج الانحناء بإجراء مسح. فالمثلثات الضئيلة تخبرها بمترية عالمها، ويمكنها تطبيق صيغة جاوس بعد ذلك. ومن خلال الزحف في الأرجاء لقياس المسافة، يمكنها «استنتاج» أنَّ كونها منحنٍ.

إنَّ هذا المفهوم للانحناء يختلف في بعض النواحي عن الاستخدام العادي. فالجريدة الملفوفة على سبيل المثال «ليست» منحنية، بالرغم من أنها تشبه الأسطوانة. لكي تفهم السبب في هذا، انظر إلى الحروف في أحد العناوين. إننا نراها منحنية، لكنَّ أشكالها تظل ثابتة بالنسبة إلى علاقتها بالورق. فلم يتمدد شيء أو يتحرك. لن تلاحظ النملة أي تغيير في مناطق صغيرة من الجريدة. فوفقًا لمتريتها، لا تزال الجريدة «مسطحة». وفي المناطق الصغيرة، تتسم الجريدة بالهندسة الجوهرية للمستوى المسطح. فمجموع زوايا المثلث الصغير على سبيل المثال يساوي ١٨٠ درجة، إذا قستها داخل الورقة. وسيكون استخدام منقلة صلبة لكنها مرنة في الوقت نفسه مثاليًّا لذلك.

تصبح المترية المسطحة منطقية فور أن تعتاد عليها؛ لأنَّ هذا هو «السبب» في أنك تستطيع لف جريدة لتصنع منها أسطوانة. تبقى جميع الأطوال والزوايا عند قياسها داخل الجريدة مثلما هي. على النطاق المحلي، لا تستطيع النملة التي تقطن الجريدة أن تميِّز الورقة الأسطوانية عن المسطحة.

أما الشكل العالمي؛ أي الهيئة الإجمالية، فهي أمر آخر. ذلك أنَّ الخطوط الجيوديسية للسطح المستوي تختلف عن الخطوط الجيوديسية للأسطوانة. فجميع الخطوط الجيوديسية للسطح المستوي خطوط مستقيمة تمتد إلى ما لا نهاية ولا تنغلق أبدًا. أما على الأسطوانة، فيمكن لبعض الخطوط الجيوديسية أن تنغلق؛ إذ تلتف حول الأسطوانة ثم تعود إلى نقطة بدايتها. تخيَّل أنك تستخدم شريطًا مطاطيًّا لتحافظ على الجريدة ملفوفة. ستجد أنَّ الشريط المطاطي يشكِّل خطًّا جيوديسيًّا مغلقًا. يتعلق هذا النوع من الاختلاف الإجمالي في الشكل بالطبولوجية العامة، وهي الكيفية التي تتلاءم بها أجزاء السطح معًا. أما المترية، فهي تخبرنا عن الأجزاء فحسب.

لقد كان وضع الحضارات السابقة شديد الشبه بوضع النملة. فهي لم تكن تستطيع الصعود إلى الأعلى في منطاد أو طائرة لرؤية شكل الأرض. بالرغم من ذلك، كانت تستطيع إجراء القياسات ومحاولة استنتاج الحجم والطوبولوجية. وعلى العكس من النملة، كانت لديها بعض المساعدة الخارجية؛ الشمس والقمر والنجوم. بالرغم من ذلك، فحين يتعلق الأمر بشكل الكون بأكمله، فإننا نصبح في وضع النملة نفسه تمامًا. علينا أن نستخدم ما يناظر الحيل الهندسية التي تستخدمها النملة لاستنتاج الشكل من الداخل.

من منظور النملة، ليس للسطح سوى بُعدين فحسب. ومعنى هذا أنَّ وضع خريطة لأي رقعة محلية لا يستلزم سوى اثنين من الإحداثيات. من خلال تجاهل الاختلافات الصغيرة في الارتفاع، يحتاج البحارون الأرضيون إلى معرفة خطَّي الطول والعرض فحسب، لتحديد موقعهم على سطح الأرض. كان لجاوس تلميذ بارع يُدعى برنارد ريمان، ومع تشجيع لا يخفى من معلِّمه، توصل ريمان إلى فكرة رائعة تتمثَّل في تعميم صيغة جاوس للانحناء على جميع «الأسطح» أيًّا كان عدد أبعادها. ولأنَّ ما يصفه لا ينتمي إلى فئة الأسطح في واقع الأمر، فقد احتاج إلى مصطلح جديد، واختار الكلمة الألمانية «مانيشفالتيشكايت»، وترجمتها «مشعب»، مما يشير إلى وجود عدد كبير من الإحداثيات.

أُصيب بعض الرياضيين الآخرين، ومن الجدير بالملاحظة أنَّ معظمهم من الإيطاليين، بعدوى المشعب؛ مما أدى إلى ابتكار مجال جديد في الرياضيات هو الهندسة التفاضلية. توصل هؤلاء الرياضيون إلى معرفة معظم الأفكار الأساسية عن المشاعب. بالرغم من ذلك، فقد كانوا يعالجون الأفكار من منظور رياضي محض. لم يتخيل أحد قط أنَّ الهندسة التفاضلية قد تنطبق على المكان الفعلي.

•••

بعد ما حقَّقه أينشتاين من نجاح مع النسبية الخاصة، حوَّل انتباهه على الفور إلى العنصر الأساسي الناقص؛ الجاذبية. ظل يواجه صعوبة على مدار سنوات قبل أن يخطر له أنَّ هندسة ريمان هي المفتاح. وواجه صعوبة أكبر ليتقن ذلك المجال الصعب في الرياضيات، وساعده في ذلك مارسيل جروسمان، صديقه الرياضي الذي كان له بمثابة مرشد وموجِّه.

أدرك أينشتاين أنه يحتاج إلى تنويعة غير تقليدية من الهندسة الريمانية. فالنسبية تسمح للمكان والزمان بأن يختلطا إلى حدٍّ ما، وإن كان كل من المفهومين يؤدي دورًا مختلفًا. وفقًا للمشعب الريماني التقليدي، تُعرَّف المترية باستخدام الجذر التربيعي لصيغة تكون موجبة على الدوام. ومثل نظرية فيثاغورس، فإنَّ صيغة المترية مجموع (مُعمَّم ومحلي) من المربعات. أما في النسبية الخاصة، فالكمية المناظِرة تتضمن «طرح» مربع الزمن. كان على أينشتاين أن يسمح بوجود حدود سالبة في المترية؛ مما أدى إلى ما يُعرف الآن باسم المشعب الريماني الزائف. كانت النتيجة النهائية لكفاح أينشتاين البطولي، هي معادلات أينشتاين للمجال، التي ربطت انحناء الزمكان بتوزيع المادة. فالمادة تثني الزمكان، والزمكان المنحني يغيِّر هندسة الخطوط الجيوديسية التي تتحرك المادة فيها.

لا يصف قانون نيوتن للجاذبية حركة الأجسام بصورة مباشرة. وإنما هو معادلة توفر حلولها ذلك الوصف. ينطبق الأمر نفسه على معادلات أينشتاين التي لا تصف شكل الكون بصورة مباشرة. وإنما يجب عليك حلها. وهي معادلات غير خطية في ١٠ متغيرات؛ ومن ثمَّ فهي صعبة.

إننا نتمتع بدرجة من الحدس نفهم بها المشاعب الريمانية، لكنَّ المشاعب الريمانية الزائفة ملغِزة بعض الشيء ما لم تستخدمها بانتظام. ثمَّة تبسيط مفيد يسمح لي بالحديث عن شكل «المكان»؛ أي المشعب الريماني على نحوٍ ذي مغزًى، بخلاف ذلك المفهوم غير الواضح المتمثل في شكل «الزمكان»؛ أي المشعب الريماني الزائف.

لا يوجد في النسبية مفهوم ذو مغزًى للتزامن. فيمكن لمشاهدين مختلفين مشاهدة الأحداث نفسها وهي تقع في ترتيب مختلف. أرى أنا القطة تقفز من النافذة قبيل أن تسقط المزهرية على الأرض، بينما ترى أنت المزهرية تسقط قبيل أن تقفز القطة. فهل حطَّمت القطة المزهرية، أم أنَّ سقوط المزهرية قد أفزع القطة؟ (جميعنا يعرف أيُّ الأمرين أكثر رجحانًا، لكنَّ القطة لديها محامٍ بارع اسمه ألبرت أينشتاين.)

على أية حال، بالرغم من أنَّ التزامن المطلق غير ممكن، فثمَّة بديل له هو الإطار المساير. ليس ذلك سوى اسم فخم لإطار مرجعي، أو نظام إحداثي يمثِّل الكون كما يراه مُشاهد محدَّد. ابدأ من مكاني الآن، بصفتي نقطة أصل الإحداثيات وسافر بسرعة الضوء لمدة ١٠ سنوات إلى نجم قريب. حدِّد الإطار بحيث يبعد النجم عن نقطة الأصل بمسافة ١٠ سنوات ضوئية، ويبعد في الزمن بمقدار ١٠ سنوات في المستقبل. افعل ذلك لكل الاتجاهات والأزمان: وذلك هو الإطار المساير الخاص بي. كلٌّ منا يمتلك مثل ذلك الإطار، الأمر كله أنَّ إطارك قد يبدو غير متسق مع إطاري إذا بدأ أحدنا بالتحرك.

إذا كانت حركتك تبدو ساكنة في الإطار المساير الخاص بي، فسنكون نحن مشاهدين مسايرين. بالنسبة إلينا، يُحدَّد الشكل المكاني للكون وفقًا لنظام الإحداثيات المكاني الثابت نفسه. قد يتغير الشكل والحجم على مدار الوقت، لكن توجد طريقة متسقة لوصف تلك التغيرات. من الناحية الفيزيائية، يمكن تمييز الإطار المساير عن غيره من الإطارات: ينبغي أن يبدو الكون بالطريقة نفسها في جميع الاتجاهات. أما في إطار غير مساير، فإنَّ بعض أجزاء السماء ستنزاح نحو الأحمر بصورة منهجية، بينما تنزاح أجزاء أخرى نحو الأزرق. وهذا هو السبب في أنني أستطيع التحدُّث على نحو منطقي عن الكون بصفته كرة متمددة مثلًا. حينما أفصل المكان والزمان على هذا النحو، فإنَّ هذا يعني أنني أشير إلى إطار مساير.

•••

تتخذ القصة الآن منعطفًا غريبًا نحو عالم علم الأساطير. لقد اكتشف الفيزيائيون والرياضيون حلولًا لمعادلات المجالات تتماشى مع الهندسات غير الإقليدية الكلاسيكية. تظهر هذه الهندسات في الأماكن ذات الانحناء الثابت الموجب (القطع الناقص)، وذات الانحناء الصفري (سطح مستوٍ إقليدي)، وذات الانحناء الثابت السالب (القطع الزائد). لا بأس بذلك حتى الآن. غير أنَّ هذه العبارة الصحيحة تحولت بسرعة إلى اعتقاد بأنَّ هذه الهندسات الثلاث هي الحلول الثابتة الانحناء «الوحيدة» لمعادلات المجال.

أظن أنَّ هذا الخطأ قد وقع لأنَّ الرياضيين وعلماء الفلك لم يكونوا يتواصلون جيدًا. فالمبرهنة الرياضية تنص على أنَّه في حالة وجود أي قيمة ثابتة للانحناء، تكون «مترية» الزمكان الثابت الانحناء، فريدة من نوعها؛ لذا كان من السهل جدًّا افتراض أنَّ «الهندسة» لا بد أن تكون فريدة أيضًا. أليست المترية تحدد الفضاء في نهاية المطاف؟

كلَّا.

إنَّ نملة جاوس كانت ستقترف الخطأ نفسه لو أنها لم تعرف الفرق بين السطح المستوي والأسطوانة. فهما يتخذان المترية نفسها، لكنَّهما يختلفان في الطوبولوجية. ذلك أنَّ المترية لا تحدد سوى الهندسة «المحلية» لا الشاملة. وينطبق هذا الفرق على النسبية العامة، بالتضمين نفسه.

تُعد الطارة المسطحة من أمثلة التضاد المبهجة على ذلك. تتخذ الطارة شكل كعكة دونَت بها ثقب مركزي، وهي أبعد ما يكون عن الاستواء. بالرغم من ذلك، تنطوي طوبولوجية كعكة الدونَت على مشعب مسطح (انحناء صفري). ابدأ بمربع، وهو سطح مستوٍ، وألصق الحواف المتقابلة معًا «ذهنيًّا». لا تفعل ذلك بثني المربع ماديًّا؛ بل حدِّد النقاط المتناظرة على الحواف المتقابلة فحسب. معنى هذا أنك ستضيف قاعدة هندسية لتقول إنَّ تلك النقاط «متطابقة».

ينتشر هذا النوع من التطابق في ألعاب الكمبيوتر، حين يندفع وحش فضائي نحو أحد حواف الشاشة ويظهر من جديد عند الحافة المقابلة. يطلِق المبرمجون على ذلك مصطلح «اللف الدائري»، وهي استعارة حيوية لكنها غير حكيمة إن طُبِّقَت حرفيًّا. كانت النملة ستفهم الطارة المسطحة تمام الفهم: سيؤدي لف الحواف الرأسية دائريًّا إلى تحويل الشاشة لأسطوانة. بعد ذلك، تكرر هذه العملية لضم طرفي الأسطوانة معًا، فتشكل بذلك سطحًا يتطابق مع طوبولوجية الطارة. أخذت الطارة متريتها من المربع؛ لذا فهي مسطحة. أما المترية الطبيعية لكعكة دونَت حقيقية فهي تختلف عن هذا؛ لأنَّ ذلك السطح مدمج في الفضاء الإقليدي.

يمكنك ممارسة لعبة الطارة المسطحة مع الزمكان النسبوي، باستخدام نسخة مينكوفسكي المختصرة ذات البعدين للنسبية. سيكون مستوى مينكوفسكي المسطح اللانهائي ومربع في ذلك المستوى بحواف محددة متقابلة، كلاهما زمكانين مسطحين. أما من الناحية الطوبولوجية، فأحدهما مستوى مسطح، بينما الآخر طارة. افعل الأمر نفسه مع مكعب وستحصل على طارة مسطحة ثلاثية الأبعاد، تتخذ الأبعاد نفسها التي يتخذها الفضاء.

توجد بنًى مشابهة محتملة في الفضاءات الإهليلجية وفضاءات القطع الزائد. اجتزئ من الفضاء قطعة بالشكل الصحيح، وألصق حوافها معًا في أزواج، وستحصل على مشعب يتسم بالمترية نفسها لكنه يتخذ طوبولوجية مختلفة. يكون العديد من هذه المشاعب مدمجًا؛ أي أنها تتسم بحجم محدَّد ككرة أو طارة. اكتشف الرياضيون عدة فضاءات محددة ذات انحناء ثابت بالقرب من نهاية القرن التاسع عشر. وفي عام ١٩٠٠، وجَّه شفارتزشيلد انتباه علماء الكونيات إلى عملهم حين ذكر الطارة المسطحة الثلاثية الأبعاد بوضوح. وفي عام ١٩٢٤، قال أليكساندر فريدمان الأمر نفسه بشأن الفضاءات ذات الانحناء السالب. على عكس الفضاء الإقليدي وفضاء القطع الزائد، يكون الفضاء الإهليلجي نهائيًّا، بالرغم من ذلك، لا يزال من الممكن تنفيذ الحيلة نفسها فيه للحصول على فضاءات ذات انحناءات موجبة ثابتة وطوبولوجيات مختلفة. بالرغم من ذلك، فقد ظلت نصوص علم الفلك على مدار ٦٠ عامًا بعد ١٩٣٠، تكرر الأسطورة القائلة بأنه لا يوجد سوى ثلاثة فضاءات ذات انحناء ثابت، وهي الهندسات غير الإقليدية الكلاسيكية. ولهذا، ظل علماء الفلك يعملون على هذا النطاق المحدد من أشكال الزمكان، لاعتقادهم الخاطئ بعدم وجود احتمالات أخرى.

وفي مطاردة لصيدٍ أكبر، حوَّل علماء الكونيات انتباههم إلى أصل الكون، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار سوى الهندسات الكلاسيكية الثلاث ذات الانحناء الثابت، واكتشفوا مترية الانفجار العظيم، وتلك قصة سنتناولها في الفصل التالي. كان ذلك اكتشافًا عظيمًا حتى إنَّ شكل الفضاء لم يَعد قضية ملحة لبعض الوقت. «عرف» الجميع أنه على شكل كرة؛ لأنَّ تلك هي المترية الأبسط للانفجار العظيم. بالرغم من ذلك، فلا يوجد سوى القليل من الأدلة الرصدية التي تؤيد ذلك الشكل.

لقد اعتقدت الحضارات القديمة أنَّ الأرض مسطحة، وبالرغم من أنها كانت مخطئة في ذلك؛ فإنها امتلكت بعض الأدلة: ذلك هو الشكل الذي تبدو عليه. وحين يتعلق الأمر بالكون، فإننا نعرف أقل مما كانت تعرفه. غير أنه توجد بعض الأفكار التي قد تقلل من جهلنا.

•••

إذا لم يكن كرة، فماذا يكون؟

في عام ٢٠٠٣، كان «مسبار ويلكينسون لتباين الأشعة الميكروية» (WMAP) التابع لناسا، يقيس إشارة راديوية توجد في كل مكان تُدعى بإشعاع الخلفية الكونية الميكروي، وتَرِد نتائجه لاحقًا. يوضح التحليل الإحصائي للتقلبات في مقدار الإشعاع القادم من اتجاهات مختلفة بعض التلميحات عن الكيفية التي تكتلت بها المادة في الكون الوليد. قبل «مسبار ويلكينسون لتباين الأشعة الميكروية»، كان معظم علماء الكونيات يعتقدون أنَّ الكون لا نهائي؛ ومن ثمَّ يجب أن يؤيد المسبار وجود تقلبات كبيرة على نحو اعتباطي. غير أنَّ بيانات «مسبار ويلكينسون» أوضحت وجود حد لحجم التقلبات، مما يدل على أنَّ الكون نهائي. ومثلما صاغت مجلة «نيتشر» الأمر: «إنك لا ترى موجات في حوض استحمامك.»

حلل الرياضي الأمريكي جيفري ويكس إحصائيات هذه التقلبات لمشاعب تتسم بطوبولوجيات مختلفة. جاء أحد الاحتمالات ملائمًا للبيانات بدقة؛ فأعلنت وسائل الإعلام أنَّ الكون على شكل كرة قدم. كانت تلك استعارة حتمية لشكلٍ يعود تاريخه إلى بوانكاريه: الفضاء الاثنا عشري الوجوه. في بدايات القرن الحادي والعشرين، كانت كرات القدم تُصنع بتثبيت ١٢ من المخمسات و٢٠ من السداسيات معًا لتشكيل ما يسميه الرياضيون عشريني الأوجه المبتور؛ أي شكلًا عشريني الأوجه قُطِعَت زواياه. إنَّ عشريني الأوجه مجسم منتظم له ٢٠ وجهًا مثلثًا، يجتمع كل خمسة منها في ركن. ويدخل اثنا عشري الوجوه إلى الصورة لأنَّ مراكز وجوه المجسم العشريني تكوِّن مجسمًا اثني عشري؛ لذا يتسم كلا المجسمين بالتناظر نفسه. وبالرغم من أنَّ تشبيه «كرة القدم» أنسب لوسائل الإعلام، فهو غير دقيق من الناحية التقنية.

إنَّ سطح كرة القدم مشعب ثنائي الأبعاد. وقد كان بوانكاريه من رواد الطوبولوجيا الجبرية، لا سيما في الأبعاد الثلاثة، واكتشف أنه ارتكب خطأً. ولكي يثبت أنه أخطأ (يفعل الرياضيون ذلك الشيء بخلاف السياسيين)، اخترع مشعبًا مناظرًا ثلاثي الأبعاد. وقد بناه بوانكاريه بلصق طارتين معًا، غير أنَّ بناءً أكثر أناقة قد اكتُشِف لاحقًا باستخدام مجسم اثني عشري الوجوه. وهو تنويعة خفية من الطارة المسطحة الثلاثية الأبعاد، يُصنع من خلال لصق الأوجه المتقابلة لمكعبٍ ما معًا على نحو ذهني. افعل ذلك في مجسم اثني عشري، مع لف كل وجه قبل لصقه. ستكون النتيجة مشعبًا ثلاثي الأبعاد، وهو الفضاء الاثنا عشري. وكالطارة المسطحة الثلاثية الأبعاد، ليس لهذا الفضاء حد؛ فأي شيء يسقط عبر أحد الأوجه، يظهر ثانية عبر الوجه المقابل. يتسم هذا الفضاء بانحناء موجب، وهو نهائي.

حلل ويكس إحصائيات تقلبات إشعاع الخلفية الكوني الميكروي في حالة أن يكون الكون فضاءً اثني عشري، ووجد تطابقًا رائعًا مع بيانات «مسبار ويلكينسون». واستنتجت مجموعة بقيادة جون-بيير لومينيه أنَّ كونًا بذلك الشكل لا بد أن يبلغ قطره ٣٠ مليار سنة ضوئية — لا بأس بذلك. غير أنَّ الملاحظات الحديثة تدحض هذه النظرية على ما يبدو، مثبِّطةً بذلك كل أفلاطوني على الكوكب.

من الصعب أن نعرف الكيفية التي يمكن أن نثبت بها أنَّ الكون نهائي، لكننا قد نتمكن من معرفة شكله إذا كان نهائيًّا. لا بد أن يضم الكون النهائي بعض الخطوط الجيوديسية المغلقة، وهي أقصر المسارات التي تكون حلقات، كالشريط المطاطي الملفوف حول جريدة ملفوفة. فشعاع الضوء المتحرك على مثل هذه الخطوط الجيوديسية سيعود في النهاية إلى نقطة منشئه. إذا وجَّهت تلسكوبًا قويًّا في ذلك الاتجاه، فسترى ظهر رأسك. الحق أقول لك إنَّ ذلك سيستغرق بعض الوقت، بمقدارِ ما يستغرقه الضوء ليقطع طريقه كاملًا عبر الكون؛ لذا عليك أن تظل ساكنًا وتتحلى بالصبر. وقد تجد أن الرأس الذي تشاهده قد انقلب من الأعلى للأسفل، وقد تجده نسخة معكوسة من الأصل.

إنَّ التحليل الرياضي الجاد الذي يأخذ سرعة الضوء النهائية بعين الاعتبار، يتنبأ بأنه في مثل تلك الظروف ينبغي أن توجد أنماط متكررة من إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، تظهر فيها التقلبات نفسها على دوائر محددة في السماء. يحدث هذا لأنَّ إشعاع الخلفية الكونية الميكروي الذي يصل إلى الأرض اليوم بدأ رحلاته من مسافات مشابهة؛ ومن ثمَّ فقد نشأ في الأصل على كرة، «سطح التشتت الأخير». إذا كان الكون نهائيًّا، وكانت هذه الكرة أكبر من الكون، فإنها تلتف على نفسها وتتقاطع. فالكرات تلتقي في دوائر، وكل نقطة على مثل هذه الدوائر ترسل أشعة ميكروية إلى الأرض في اتجاهين مختلفين، بفضل اللف الدائري.

يمكننا توضيح هذا التأثير على نظير ثنائي الأبعاد؛ حيث تكون الهندسة أبسط. إذا كان المربع الموضح في الصورة كبيرًا بما يكفي ليحوي الدائرة، فلن يكون هناك وجود لتقاطع الالتفاف والدائري. وإذا كان المربع صغيرًا بما يكفي لالتفاف الدائرة مرتين، فستكون هندسة التقاطعات أكثر تعقيدًا.

في حالة الطارة الثلاثية المسطحة، يُستبدل بالمربع مكعب، وبالدوائر كرات، وتصبح النقاط دوائر على وجوه المكعب، وهي أيضًا تتطابق في أزواج. وتصبح الخطوط المنقطة مخروطات. من الأرض، نرصد زوجًا من الدوائر المميزة في السماء، وهي في حقيقة الأمر الدوائر البعيدة نفسها، وتُرى من هذين الاتجاهين. ينبغي أن تكون تقلبات إشعاع الخلفية الكوني الميكروي حول هاتين الدائرتين متطابقة تقريبًا، ويمكننا الكشف عن هذا باستخدام الارتباطات الإحصائية لتقلبات درجة الحرارة؛ فنحن نتوقَّع أن نرى التسلسل نفسه من البقع الساخنة أو الباردة حول كل دائرة، حيث يشير «ساخن» و«بارد» إلى درجات حرارة أعلى من المتوسط، أو أقل منه.3
figure
التقاطعات الذاتية لسطح التشتت الأخير في حالة طارة مسطحة، يوضَّح في هذا الرسم بالدائرة الكبيرة. تمثل الدوائر الجزئية الأخرى نسخًا ملتفة دائريًّا. تُمثَّل الطارة بالمربع المظلل ذي الحواف المتقابلة المتطابقة، والأرض هي النقطة البيضاء في المنتصف. تلتقي نسخ الدوائر عند النقاط السوداء التي تتطابق في أزواج ملتفة دائريًّا. توضح الأسهم ذات النقاط الإشعاع الميكروي الذي يصل من المنطقة نفسها من الفضاء في اتجاهين مختلفين.

من هندسة هذه الدوائر، يمكننا نظريًّا استنتاج طوبولوجيا الكون، وتحديد علامة الانحناء، أهو موجب أم صفر أم سالب. بالرغم من ذلك، فلم تنجح هذه الطريقة حتى الآن من الناحية العملية، إما لأنَّ الكون ليس على هذه الشاكلة، أو لأنه أكبر كثيرًا مما يسمح بوجود تلك الدوائر المميزة.

ما شكل الكون إذن؟

لا نعرف إطلاقًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤