الفصل الأول

مقدِّمة إلى سلسلة الكتل:
شبكة السكك الحديدية المرتقبة

لماذا تنجح بعض الابتكارات بينما تبوء ابتكاراتٌ أخرى بالفشل؟ كيف يمكننا التنبؤ بالابتكارات التي سيحالفها النجاح ومتى يمكننا ذلك؟ لِمَ يبدو أن بعض الابتكارات تفرض نفسها بسرعة على الساحة، بينما تتطور ابتكاراتٌ أخرى بوتيرة بطيئة؟ لمَ يُعزى الفضل لبعض الابتكارات أنها تجعل من العالم مكانًا أفضل، بينما يبدو أن ابتكارات أخرى تخلُق مشكلات جديدة أسرعَ مما تُوجِد حلولًا للمشكلات القديمة؟ تلك أسئلة ليس من السهل الإجابة عنها؛ لهذا السبب يوسِّع الرأسماليون المغامرون نطاقَ مخاطراتهم لتشمل مجموعة واسعة من الابتكارات بدلًا من الاعتماد على حدْس عدد صغير من رواد الأعمال.

في حين أننا قد لا نتمكن من التنبؤ بالابتكارات التي سيحالفها النجاح؛ فهناك بعض المبادئ التي تساعدنا في فهمِ ماهية النجاح. لنبدأ من المرحلة التي يكون فيها قد تطور بالفعل أحدُ الابتكارات، ووجد بعض المتبنين الأوائل له وقد خطا خطواته الأولى نحو التسويق التجاري. في هذه المرحلة تحديدًا يتجه الكثير من الابتكارات إلى التعثُّر، بينما تنتشر ابتكارات أخرى انتشارًا سريعًا وتُحدِث اضطرابًا في صناعات حالية.

لتخطي هذه المرحلة الأولية، لا بد أن يكون الابتكار «جيدًا بما يكفي» ليلبي احتياجات سوقٍ بعينها. تميل الابتكارات إلى جذب متبنين لها على نطاقٍ أوسعَ عندما يكون المنتج الجديد جيدًا بما يكفي ليحل محلَّ المنتج الحالي. ولا يحتاج المنتج الجديد إلى استنساخِ كل مزايا المنتج الحالي. في الحقيقة، يميل المنتج الجديد إلى أن يكون أفضلَ كثيرًا في بعض الخصائص الجديدة، في حين تقل فاعليته قليلًا في خصائصَ أخرى.1 ويتمثل أحد العناصر المحفِّزة الرئيسية التي تدفع أحد الابتكارات إلى اكتساحِ منتَجٍ حاليًّا في بيئة السوق. فيمكن للنُّظم البديلة ترسيخ جذورها بسرعةٍ أكبر، وبتكلفة أقل، كلما كانت النُّظم الموجودة أقل تطورًا.
يُظهر الكثير من الأمثلة كيف تعثَّرت الابتكارات في الاقتصادات المتقدمة، فقط لتزدهر في بلدان العالم النامي، وربما المثال الأشهر هو إجراء المعاملات المالية بالهاتف المحمول. تُعد خدمة إم-بيسا، التي أُطلقت لأول مرة في كينيا عام ٢٠٠٧، واحدةً من أوائل المحافظ الإلكترونية عبر الهواتف المحمولة وأكثرها شهرة. لقد بدأت في البداية كوسيلة دفع باستخدام هواتف نوكيا، ثم أصبحت مصدر إلهام للعديد من العمليات المماثلة في بلدان العالم النامي، لا سيَّما بين المستخدمين الأقل دخلًا الذين يقل معدل امتلاكهم للحسابات البنكية.2

تعليق بول: في المحاضراتِ الخاصة بماجستير إدارة الأعمال التي كنت ألقيها منذ خمس سنواتٍ أو ستٍّ، كنت أطلب من الطلاب رفعَ أيديهم لو كان قد سبق لهم استخدام خدمات الدفع عبر الهاتف المحمول خلال الشهر السابق. حينئذٍ، لم يكن أيٌّ من الحاضرين في أي قاعة محاضرات بالولايات المتحدة أو المملكة المتحدة قد استخدم خدمات الدفع عبر الهاتف المحمول. في الحقيقة، المرة الأولى التي استخدمتُ فيها أنا محفظةَ الهاتف المحمول في حياتي اليومية في لندن كانت لأني كنت قد تركت محفظتي الحقيقيةَ في المنزل. لو طُرح السؤال نفسُه في أفريقيا أو مناطقَ من آسيا، لرُفعت كل الأيادي تقريبًا ردًّا على السؤال.

ما السبب إذن في أنَّ إجراء المعاملات المالية بالهاتف المحمول كان «جيدًا بما يكفي» بالنسبة إلى كينيا، دون المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة؟ أُطلقت خدمة إم-بيسا في يونيو ٢٠٠٧؛ أي قبل إطلاق هواتف الآيفون بشهر. وفي الوقت الذي لاقت فيه إم-بيسا انتشارًا واسعًا عام ٢٠١١، كان إجراء المعاملات المالية بالهاتف المحمول لا يزال تجربةً مريعة تمامًا. إذ لم تكن قد شهدت محافظنا بعد التجارب المتطورة لتطبيقات الهواتف المحمولة التي كانت هواتف آيفون ستصمِّمها في النهاية. كانت محافظ الهاتف المحمول في ذلك الوقت قائمة على مبادلة الأرصدة الائتمانية التي تمتلكها شبكة الهاتف المحمول، وليس أحد البنوك. فلم تجلب فائدةً أو منفعة بأي نحو فيما يتعلق بحماية الودائع. ولم يكن باستطاعة المستخدمين الحصول على ائتمان، على عكس البطاقات الائتمانية. وكانت المعاملات متعِبة ومزعجة، وتُجرَى عن طريق إرسال رسائل نصية بشفرات معاملات معقَّدة لتوجيه حركة الأموال. فما الذي يحمل شخصًا يمكنه استخدام بطاقة ائتمانية أو لديه حساب بنكي على استخدام نظامٍ يتمتع بمزايا أقلَّ من البنك، واستخدامه أصعب من استخدام البطاقة الائتمانية؟

تكمُن الإجابة في مفهوم أنه «جيد بما يكفي». ففي حين أن إجراء المعاملات المالية بالهاتف المحمول كان أضعفَ كثيرًا من نظام البطاقات الائتمانية، فإنه يتمتع بمزايا جعلته أكثرَ جاذبية بكثير في البلدان النامية. فلا توجد حاجة إلى امتلاك حساب بنكي أو تاريخ ائتماني — وهما من الخدمات التي من الصعب توفيرها في المناطق الريفية في كينيا، لا سيما للعمالة غير الرسمية الذين تنقصهم الوثائق القانونية المناسبة. أما بالنسبة إلى التجَّار، فإن الأجهزة المخصَّصة لاستخدام البطاقات الائتمانية في مراكز البيع حينها كانت تستلزم خط هاتف أرضي، وهو خدمة مكلِّفة خاصة بالبنية التحتية التي كان من الممكن أن تستغرق أسابيعَ أو حتى شهورًا لتركيبها؛ ولهذا كانت خدمات إم-بيسا متاحة باستخدام هاتف نوكيا أو أي هاتف بدائي مشابه والذي كان يمتلكه أي تاجر بالفعل. وتصديًا للخطر المستمر بالسرقة، قدَّمت إم-بيسا بديلًا مغريًا لحمل المبالغ النقدية وتخزينها. لاقت هذه المزايا — عدم الحاجة إلى حساب بنكي، أو تاريخ ائتماني، أو خط هاتف أرضي، وقلة الحاجة إلى حمل مبالغ نقدية — تقديرًا أكبرَ بكثير في بلدان العالم النامي، مما أفسح المجال أمام نظام إجراء المعاملات المالية بالهاتف المحمول، رغم عدم فاعليته الكبيرة، أن ينمو وينتعش.3

تعليق جافين: أثناء زيارةٍ قمتُ بها عام ٢٠١٧ لمنطقة جوانجشي في الصين، المشهورة بجبالٍ لها شكل مخروطي والتي تقع أمام نهرِ لي، اكتشفتُ في أحد المطاعم أني أحمل القليل من المال، وليس معي سوى بطاقتين ائتمانيتين. قدمت البطاقتين الواحدة بعد الأخرى ونادلة المطعم تهز رأسها رافضةً يَمنةً ويسرى. أخذت تكرِّر: «نقود ورقية أو وي تشات». وحتى تعفيني من قضاء ليلة طويلة في غسل الصحون، أخذتني إلى جميع المتاجر والمطاعم في الشارع حتى ترى إن كان بإمكانهم استقبال المبلغ ببطاقة فيزا أو ماستر كارد الخاصة بي، ثم تحويل المبلغ إلى المطعم عن طريق منصة وي تشات. قضينا بعدها نصف ساعة تفقَّدنا خلالها ٢٥ بائعًا، ثم عُدنا إلى المطعم. ووعدتها بالعودة في اليوم التالي بالمبلغ. ولم يقبل ولا بائع واحد الدفع بالبطاقة الائتمانية، لا شيء سوى وي تشات.

قطعت الصين في مجال إجراء المعاملات المالية بالهاتف المحمول عدةَ خطوات إلى الأمام. بفضل حداثة الكثير من المؤسسات الصينية والتوسُّع الاقتصادي، دمجَ مطورو المِنصات الإلكترونية المعاملات المالية بالهاتف المحمول مع نُظمِ الدردشة، والتجارة الإلكترونية، وتوجهات رقمية أخرى، وكان المثال الأكثر وضوحًا هو وي تشات. تأتي هذه المنصة الشاملة لتمثِّل الانفجار الكامبري لعدة ابتكارات اجتمعت معًا في نظامٍ واحد (والتي تطوَّر أغلبها في اقتصاداتٍ أكثر تقدُّمًا). لم تقترب منصة إلكترونية في أسواق الولايات المتحدة، أو المملكة المتحدة أو غيرهما من الدول المتقدمة من مضاهاة شمولية المزايا التي قدَّمتها منصة وي تشات، ولا معدل الانتشار الذي تتمتع به داخل الاقتصاد الصيني.4 كما أنها صارت الآن تتمتع هي ومنصة أليباي بإصداراتٍ تقبل الدفع ببطاقة فيزا أو ماستر كارد من أجل الزائرين الأجانب.

في كينيا، لم تحل إم-بيسا محلَّ البطاقات الائتمانية أو الحسابات البنكية، لكنها تطورت بالتوازي معها. ففكرة الابتكارات التي تسير بالتوازي مع النُّظم الحالية أمرٌ شائع.

تعليق براندون: البيع بالتجزئة هو مثال واضح آخرُ على منظومةٍ مستحدَثة تسير بالتوازي مع المنظومات الحالية. تكتسح بسرعةٍ شركةُ أمازون ومجال التجارة الإلكترونية الأوسع المتاجرَ التقليدية للبيع بالتجزئة في الولايات المتحدة واقتصادات غربية أخرى، لا سيما منذ إغلاق الأنشطة التجارية على إثر جائحة فيروس كورونا. لكن لن تختفي متاجر البيع بالتجزئة المادية كليًّا. حتى أمازون صارت تفتح متاجر مادية لها. لماذا؟ لأن القصة لم تَعُد متمثلة في ثنائية المتاجر التقليدية والمتاجر الافتراضية عبر الإنترنت. فقد صار هناك تفاعلٌ بين المنظومة المستحدَثة والمنظومة التقليدية. ما يجري هو إعادة ترتيب للمزايا التي يُقدرها المستهلكون. أصبحت التجارب الخاصة بالعلامات التجارية أكثرَ أهمية من المبيعات المباشرة داخل المتاجر. على سبيل المثال، بإمكانك شراء هاتف آيفون من متجرٍ محلي لشركة آبل، لكن ذلك ليس وظيفته الرئيسية؛ إنما المتجر هو مكان يتيح لأي شخص أن يخوض تجربةَ استخدام منتجات آبل. فهو مصمَّم لجذب غير العملاء مثلما هو مصمَّم لجذب العملاء.

القفزات النوعية عبر التاريخ

قبل ظهور إم-بيسا أو وي تشات، لجأت الهواتف المحمولة نفسها إلى زيادة الإنتاجية الإضافية في البلدان النامية بمقدار الضِّعف على الأقل على غِرار الاقتصادات المتقدمة، رغم حقيقة انتشارها على نحوٍ متأخر كثيرًا في بلدان العالم النامي. لفهم السبب، تأمَّل النظام الذي حلَّت محلَّه الهواتف المحمولة في الولايات المتحدة مقارنةً بالهند، على سبيل المثال. قبل الهواتف المحمولة، كان الأمريكان عندما يرغبون في إجراء مكالمة يتحسَّسون جيوبهم بحثًا عن نقودٍ فكَّة للتحدُّث في كابينة هاتف عمومي أو ينتظرون حتى يعودوا إلى منازلهم أو مكاتبهم. أما في المناطق الريفية في الهند، فربما كان على الشخص الذي لا يتوفَّر له وصول إلى هاتف أرضي ثابت، السفرُ لساعات من أجل إجراء اتصال.

إن كفاءة الاتصال التي أحدثتها الهواتف المحمولة أتاحت فرصًا متكافئة للاقتصادات المتقدِّمة والنامية على حدٍّ سواء. فالصيادون في ساحل خليج المكسيك الأمريكي لهم تاريخ طويل في استخدام الإشارات اللاسلكية حتى يتوصلوا إلى الميناء الذي سترسو سفنهم فيه من أجل بيع صيدهم بأفضل سعر، ومكَّنت الهواتف المحمولة الصيادين في خليج البنغال من أن يفعلوا الشيء نفسه.5
تُعد الهواتف المحمولة المثال النموذجيَّ على «القفزات النوعية التِّقْنية» حيث يمكن لاقتصاداتٍ أن تتخطى تقنيةً وسيطة (الهاتف الأرضي) وتنتقل مباشرةً إلى تقنية متطورة. وإجراء المعاملات المالية بالهواتف المحمولة يثبت أنه حالةٌ مماثلة فيما يتعلق بالشمول المالي في الدول التي عجزت البنوك عن تقديمِ خدماتٍ كافية فيها. ففي الوقت الذي تغلق فيه البنوك في الدول المتقدِّمة فروعَها لتتكيف مع مفهوم الخدمات البنكية الإلكترونية، هناك بلدانٌ نامية قادرة على تعزيز نُظمها المالية، متخطيةً تمامًا فكرة إنشاء فروع بنكية في كل أنحاء أراضيها. وبهذا، يتحرَّر الاقتصاد القائم على تلك القفزة النوعية من التكاليف التشغيلية والرأسمالية الخاصة بتحسين النظام القديم.6

حدثت قفزاتٌ نوعية عبر تاريخ الحقبة ما بعد الصناعية وما قبله. وبالعودة إلى القرن التاسع عشر، نجد أن السكك الحديدية أُنشئت في الدول الأكثر ثراءً قبل الدول الأفقر بفترة طويلة، لكنها قدَّمت تحسينات تدريجية أكبر في الدول النامية التي كان ينقصها شبكةٌ مؤسَّسة مسبقًا من الطرق والقنوات التي تمتد لمسافات طويلة. وحيث توفَّرت مثل هذه الشبكات، وفَّرت السكك الحديدية كفاءةً أكبرَ وسرعةً أعلى. وفي الدول التي لم تكن قد أسَّست شبكة من نظم القنوات والطرق الرئيسية، أتاحت القطارات لأول مرة إمكانيةَ وجود وسيلة نقل برية تمتد لمسافات طويلة.

إن البنية التحتية للمعاملات المالية — أي، الشبكات التي تتمتع بالثقة والقابلية للمساءلة التي تربط جوانب النشاط الاقتصادي معًا — هي النظير المعاصِر للبنية التحتية للهواتف وشبكات النقل التي كانت أضعف في البلدان النامية قبل ظهور الهواتف المحمولة والسكك الحديدية. فتميل المؤسسات الموثوق فيها — أي، تلك المسئولة عن الحفاظ على السجلات العامة مثل السجلات العقارية وهيئات الترخيص — إلى أن تكون أضعف في البلدان النامية. فهي تكون في الغالب أقلَّ موثوقية، أو صعبة في التعامل معها أو، في الواقع، غير موجودة.

إنَّه لمن المضلِّل تعميم الوضع فيما يتعلق بالاقتصادات المتقدمة، وكذلك الحال بالطبع فيما يتعلق بالاقتصادات النامية التي هي أبعدُ ما تكون عن التماثُل في هذا الشأن. تكشف الدراسات الاستقصائية الخاصة بالشركات التي يجريها البنك الدولي أن ١١٪ من الشركات في إيطاليا لها تجاربُ مع طلبات بالرشوة، وهي نسبة أكبرُ بكثير من النِّسب المرصودة في الكثير من البلدان النامية، مثل تركيا، أو تشيلي، أو جورجيا. وفي المجر التي تُعد إحدى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، تتوقع الشركات أن تدفع رِشًى تقدِّر بنسبة ١ ,١٤٪ من قيمة عقْدها مع الحكومة حتى تؤمِّن عملها معها، وهي نسبة أكبر من جميع النِّسب الخاصة بالدول التي أجرى البنك الدولي فيها دراساته الاستقصائية فيما عدا تيمور الشرقية وسيراليون. إجمالًا، ورغم ذلك، فإن حوالي ربع الشركات التي تعمل في الأسواق الناشئة والواعدة أفادت بتعرُّضها لطلباتٍ بالرشوة، مقارنة بأقل من ١٪ في الاقتصادات المتقدمة.7

إدخال سلاسل الكتل

بما أنَّ المؤسسات الموثوق فيها الحالية ضعيفة، فإنه يصبح من الأسهل للنُّظم المعتمِدة على سلسلة الكتل أن تكون «جيدة بما يكفي» — أي، أن توفِّر بديلًا مغريًا للنُّظم الحالية. ويبدو من المنطقي توقُّع أن يكون لذلك الابتكار — كما هو الحال مع الهواتف المحمولة، وإجراء المعاملات المالية بالهاتف المحمول والسكك الحديدية — التأثيرُ الأكبر في البلدان النامية.

يتمثل أحد الأسباب الأخرى في اتجاه الابتكارات نحو الانتشار بوتيرةٍ أسرعَ وإحداث تأثير أكبرَ في الأماكن التي تُنجز فيها الأشياء بطريقةٍ أقل ثباتًا. تكشف الدراسات الاستقصائية الخاصة بالشركات التي يجريها البنك الدولي أن حوالي ثُلت الشركات في أمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ونصفها في دول جنوب آسيا حسَّنت من عملياتها مقارنةً بالعام السابق. وفي الدول المرتفعة الدخل، أقل من ٧٪ كانت قد حسَّنت من عملياتها. وبالمثل، في الوقت الذي طرحت فيه ٤٠٪ من الشركات في الدول المرتفعة الدخل منتجًا جديدًا في السوق منذ العام السابق، كانت ٧٤٪ من شركات دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى قد فعلت الشيء نفسه. تظهر ليبيريا، ومنغوليا، وتايلاند بوصفها نماذجَ على الدول البارزة على نحوٍ خاص في تقديم منتجات جديدة، في حين أن رواندا، وأوغندا، وبابوا غينيا الجديدة تمثِّل الدول البارزة في إدخال عمليات جديدة (انظر شكل ١-١).8
fig1
شكل ١-١: الابتكار في المنتجات والعمليات على مستوى العالم: النسبة المئوية للشركات التي طرحت منتجاتٍ جديدة وعملياتٍ جديدة مصنَّفة حسب المنطقة. المصدر: الدراسات الاستقصائية الخاصة بالشركات التابعة للبنك الدولي.
لا يعني أيٌّ من هذا أن سلسلة الكتل منوطٌ بها إحداث تحوُّل في الدول النامية. أقلُّ ما يقال عن الصخب والضجيج المنتشرَيْن حول هذا الابتكار أنهما مُبالَغ فيهما. يرى المناصرون لها بأنها ستحدث ثورة في عالم المال، وسلاسل التوريد، والرعاية الصحية وغير ذلك، وأن عملة البتكوين سوف تحل محلَّ الأموال والذهب بوصفها مخزنًا للقيمة: «كلما زاد استخدام عملة البتكوين، قلَّ عدد موظفي البنوك!»9 وكما هو الحال مع أغلب الابتكارات التي تُثار حولها ضجةٌ كبيرة كهذه، لا يكون ما يحدث على أرض الواقع على المستوى المطلوب. فحتى الآن، لا يزال لدينا مصرفيون على الأقل.

على غِرار إجراء المعاملات المالية بالهاتف المحمول، تُعنى سلسلة الكتل في أبسطِ صورِها على نحو أساسي بإنشاء شبكاتٍ يمكن من خلالها تنفيذ معاملات بين أطرافٍ لا يعرف الواحد منهم الآخر. تلك هي نقطة البداية. يكمُن الابتكار الأساسي في سلسلة الكتل في منحِ الأطراف المشاركة في المعاملات سلطةً كاملة بحق: فلا تتطلب الكثير من النُّظم العامة المعتمدة على سلسلة الكتل من أي طرف ثالث تقديمَ خدماتٍ أو إعطاءَ إذن في أي مرحلة.

لبناء مثل هذا النظام (وقد حاول الكثيرون فعْل هذا قبل ذلك)، كانت المشكلة التي وجب حلُّها هي «الثقة». في أكتوبر ٢٠٠٨، نشر شخص يحمل الاسم المستعار ساتوشي ناكاموتو بحثًا بعنوان «البتكوين: نظام نقدي إلكتروني من نظير إلى نظير» قدَّم فيه تركيبة جديدة من التقنيات لمواجهة هذه المشكلة.10 رأى البحث أنه يمكن زرع الثقة بين أشخاص غرباء عن بعضهم تمامًا من خلال الدمج بين عناصر من علوم الكمبيوتر، وعِلم التشفير، ونظرية الألعاب وعلم الاقتصاد. وتمخَّض عنه نموذج يكون المشاركون فيه محفَّزين اقتصاديًّا نحو انتهاجِ سلوكٍ قويم أو نزيه، بينما تخضع الأطراف السيئة للمراقبة والإقصاء.
لأكثر من عَقد منذ ظهور الورقة البيضاء لسلسلة كتل البتكوين، تطوَّر النظام البيئي لسلسلة الكتل تطورًا سريعًا، في ظل مجتمع صناعة يُجري تجارب دءوبة وأحيانًا فوضوية تحت شعار «تحرَّكْ سريعًا وحطِّم الأشياء من حولك.»11 منذ عام ٢٠١٥، شهدنا طرقًا جديدة للبحث عن التمويل أدَّت إلى استثمار مليارات الدولارات — وخسارتها — في تقنية سلسلة الكتل. وأنتجت الصناعةُ العديد من منصات التداول المستقلة التي تخدم عددًا ضخمًا من العملات المشفرة. وتتناول آلاف الأوراق البيضاء كلَّ حالة استخدام يمكن تخيلها فيما يتعلق بسلسلة الكتل.

حتى الآن، أسهم بعضٌ من تلك التطورات في جعلِ العالم مكانًا أفضلَ بدرجةٍ واضحة. والتفَّ مجتمع العملات المشفرة نفسه حول تقنيات ومناهج فلسفية مختلفة متعلِّقة بسلسلة الكتل. فصارت توجهاته تسير في اتجاهٍ مغاير لفكرة اللامركزية المتصوَّرة على مدى عَقدٍ مضى.

لا رغبة لدينا في أن نزيد على الضجة المثارة أو نؤيد منهجًا بعينه. إننا نعرض، في هذا الكتاب، تعريفًا شاملًا لما تشكِّله «سلسلة الكتل». وسوف يشمل استخدامنا كلَّ ما يشير إليه الكثير من الأشخاص على نحوٍ صحيح باعتباره تقنيةَ السجل الموزع، وهي أي نظام متصل بشبكةٍ لديه القدرة على حفظ السجلات على نحوٍ موزع ويسمح لجميع المستخدمين داخل النظام بالتحقق من البيانات. بهذا المعنى، فإن سلسلة الكتل هي بالأساس مجرد قاعدة بيانات مشتركة. هذا من شأنه أن يوسِّع مجال النقاش ليشمل النُّظم والتقنيات التي تصبح فيها المعلومات متاحةً ويمكن البحث عنها في سجل مشترك، حتى لو لم يكن بها بعض العناصر الضرورية للوفاء بالتعريفات التقليدية لسلسلة الكتل.

الأمر الواضح هو أن في الاقتصادات النامية، وبالأخص الأسواق الواعدة الأصغر حجمًا، المؤسسات التقليدية الموثوق فيها التي ربما يُعتمد عليها في الاقتصادات الأكثر تقدمًا كثيرًا ما يكون أداؤها ضعيفًا بسبب صعوبة الوصول إليها، وافتقارها إلى التمويل، وانعدام الشفافية فيها، والفساد؛ وهي خصائص تقوِّض من دورها بوصفها حكمًا للتثبت من صحة الأشياء. في ضوء ذلك، فإن النموذج الجديد للشفافية الذي أتاحته سلسلة الكتل يعطي الفرصة لإنشاء نُظم تعيد النظر في مسألة الثقة وتعيد تعريفها. في هذا السياق، بالنسبة إلى كثير من دول العالم النامي، يُعد المستوى المقبول لما يشكِّله مفهوم «جيد بما يكفي» أقل بكثير.

هل النموذج الجديد هذا موجود بالفعل على أرض الواقع؟ هل بإمكاننا أن نرى مجالات تعكس كيف توفر هذه التقنيات الناشئة بدائلَ «جيدة بما يكفي» للنُّظم الحالية؟

الإجابة هي «نعم» على نحوٍ حاسم. في هذا الكتاب، سنستعرض كيف ساعدت سلسلة الكتل في توصيل أول خدمات بنكية إلى مجتمعات ريفية في الفلبين، وحفَّزت التجارة بين الدول الأفريقية عن طريق إلغاء الحاجة إلى إجراء المعاملات بالدولار الأمريكي، وأوجدت الشفافية في الفواتير لمساعدة الشركات الصغيرة والمزارعين في أمريكا اللاتينية في الحصول على قروض.

تظل بعض الاستخدامات الأخرى غير مُختبَرة، أو مخصَّصة لفئات معينة من المستخدمين، أو طموحة على نحوٍ زائد، مثل استخدام الأدلة المخزَّنة في سلسلة الكتل لمحاكمة الرؤساء على جرائم الحرب. بيد أن هذه الاستخدامات تسمح لنا بإجراء تحليلٍ عن مدى احتمالية تنفيذ الابتكار وسرعته، ومِن ثَمَّ، التأثير المحتمل لسلسلة الكتل على بلدان العالم النامي.

يرى هذا الكتاب أن سلسلة الكتل هي أحد العوامل المحفِّزة للحقبة القادمة من القفزات النوعية التقنية. وفي حال استغلالها على نحوٍ صحيح، يمكن للمناطق التي تخلَّفت حتى الآن على إثر التنمية الاقتصادية العالمية أن تستفيد من تلك النُّظم الناشئة لتعزيز الإنتاجية، والنشاط الاقتصادي، والجودة الكلية للحياة. وكما هو الحال مع الهواتف الأرضية، والقنوات، والطرق الرئيسية في الماضي، يمكن للاقتصادات الوليدة الاستغناء عن تطوير البنية التحية الخاصة بالمعاملات المالية والثقة.

سيترتب على ذلك تداعياتٌ عميقة. فالسكان الذين يعيشون في ظل أنظمة حكم فاسدة بوسعهم أن يأملوا في مسارٍ جديد من الشفافية الاقتصادية عن طريق استخدام نظم لا مركزية. وبإمكان القروض الاستهلاكية أن تثمر عن تراجع معدلات الفقر إلى حدٍّ يفوق الوصف، وتحسين الرفاهة ورفع مستويات المعيشة.

مع ذلك، فإن الحصول على نتيجة إيجابية لهو أمرٌ غير مؤكَّد بأي حالٍ من الأحوال. ومثلما سنستكشف، فإن عملية حفظ السجلات المعتمدة على سلسلة الكتل تحمل خطرًا محتملًا بتعميق مشكلات الأسواق الناشئة بدلًا من إيجاد حلولٍ لها. ذلك أن امتلاك سلطة كبيرة يستتبع بدوره ضرورة التحلي بمسئولية أكبر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤