الفصل الثاني

الثقة هي الأهم

الثقة هي الشيء الذي يسهِّل من حركة الاقتصاد العالمي. عندما ندفع من أجل شراء شيءٍ ما، فالتاجر يعطيه لنا لأنه يثق في قيمة الآلية التي دفعنا بها — سواء تمثَّلت في نقود ورقية أو بطاقة ائتمانية. وعندما نشتري منزلًا، فنحن على استعداد أن نبذل الأموال التي جنيناها بشِق الأنفس لأننا نثق في مستنداتِ تسجيل المنزل التي قدَّمها البائع دليلًا على امتلاكه للمنزل وحقه في بيعه إلينا. وعندما يشتري أحد المستثمرين سنداتِ شركةٍ ما، فإنه يستند إلى نطاقٍ أوسع من المدخلات الموثوق فيها؛ تصنيف تحدِّده وكالة تصنيف ائتماني معروفة لتساعده في تقييم المخاطر المالية المحتملة التي تمثلها تلك السندات، وتقارير من مدققي الحسابات بالشركة للتأكد من سلامة الوضع المالي للشركة.

تأمَّلِ المؤسسات الموثوق فيها في تلك الأمثلة. يقبل التاجر النقودَ الورقية فقط لأنها مدعومة من البنك المركزي؛ في واقع الأمر، هو مجبَر قانونيًّا على قبول قيمتها. ويقبل البطاقة الائتمانية ليس لأنه مجبَر قانونيًّا على ذلك، وإنما لأن البطاقة أصدرتها شبكةٌ موضعُ ثقة، مثل فيزا أو ماستر كارد، تتمتَّع بتاريخٍ طويل من المعاملات المستقرة. ملكية المنزل يثبتها السجل العقاري وتقصِّياتٌ قانونية مختلفة. وعند التقدم للحصول على قرض، يتحقق البنك من الدخل الخاص بنا من خلال البيانات المالية أو سجلات الضرائب ويلجأ إلى مكتب سجلاتٍ ائتمانية مستقل ليتأكد أننا غير مثقلين فعلًا بالديون. وعند التعاقد مع أحد المورِّدين، تستند الشركة إلى اعتمادٍ قائم على معايير دولية (مثل الأيزو)، والذي يعتمد بدوره على هيئات اعتماد جديرة بالثقة، وعلى فاعلية ونزاهة المنظومة القانونية لتنفيذ العقود.

في كل معاملة، يضع الأطراف ثقتَهم في سلسلة من الوسطاء، حتى يقللوا من احتياجهم إلى الثقة في بعضهم البعض على نحوٍ مباشر. وحتى رغم حالات الإخفاق المهمة التي تتسبَّب فيها تلك المؤسسات من آنٍ لآخر، فإنه يُنظر إليها على أنها تقدِّم تقييمات جديرة بالاعتماد عليها بوجهٍ عام. هؤلاء الوسطاء لم يَظهروا بين عشية وضحاها. ففي الاقتصادات المتقدمة، تطوَّرت شبكة المؤسسات واللوائح التنظيمية التي تُعد أساسيةً لأي معاملة على مدى عقود أو قرون. أما في الدول النامية، فإن تلك الفترة الزمنية غالبًا تكون أقصر.

تلك الشبكات الجديرة بالثقة هي كائنات حية، تتغير وتبدأ عملها من جديد كلما حدثت إخفاقات، وتنشأ احتياجات جديدة وتحدُث تطوراتٍ في التقنيات. وحيثما توجد بالفعل نُظمٌ تتسم بالفاعلية والكفاءة، يرتفع المستوى المقبول لإنشاء نُظم جديدة، وربما يكون تأثيرها أكثر محدودية. في الاقتصادات النامية، يوفِّر وجود شبكات موثوق فيها أكثر حداثة الفرصةَ لظهور نماذج بديلة. لا يتمتع كثيرٌ من الأفراد بإمكانية الوصول إلى الخدمات البنكية. وفي بعض الأحيان تكون هيئات الاعتماد فاسدة أو غير فعَّالة. وربما تصبح قيمة العقود أعلى قليلًا من الورق المطبوعة عليه. وفي بعض الأماكن، تبقى مصداقية العملة القومية مهدَّدة دومًا من قبل التضخم، أو عدم استقرار سعر الصرف، أو القيود المفروضة على تحويلها إلى الدولار.

تعليق بول: حتى أولئك الذين يستخدمون الدولار لا يثقون فيه تمامًا. غالبًا لا تُقبل الدولارات المجعَّدة إلا في الأماكن التي يكون الوصول فيها إلى الخدمات البنكية محدودًا. هذه الفكرة دفعت أحدَ الأصدقاء إلى إقامة مشروع في المناطق الريفية بأمريكا الجنوبية لاستبدال دولارات جديدة بالدولارات الممسوحة والتالفة. كان يشتري الدولارات التالفة بسعرٍ أقل من سعرها ثم يستبدل غيرها بها. والمثال الأكثر إبهارًا في هذا الشأن كان ورقة نقدية من فئة ١٠٠ دولار كانت قد أكلتها الفئران؛ وقد استُعيدَت القطع المقطوعة من الورقة من فضلات الفأر ثم جُمِّعت الورقة مرة أخرى. لقد اشترى صديقي هذه العملة المُرقَّعة مقابل ٦٠ دولارًا، وهي الآن معروضة ضمن مجموعة بنك الاحتياطي الفيدرالي في دالاس.

في الدول التي يتراجع فيها معدل الثقة في العملة وسجلات الملكية أو الدخل، تتراجع كذلك سرعة، وكفاءة، وفرص إجراء المعاملات. يشتمل الكثير من الاقتصادات النامية على سجلاتٍ عقارية يصعُب التعامل معها أو منعدمة الوجود من الأساس، مما يُحجِّم من المعاملات العقارية. وبالنسبة إلى أولئك الذين لا يكسبون دخلهم نظير عملهم في مؤسساتٍ رسمية، فإن مجرد التحقق حتى من دخولهم يُعَدُّ تحديًا. تنتشر مشكلة الثقة هذه عبر منظوماتٍ كثيرة في البلدان النامية، بدءًا من فقدان الثقة في توزيع الإعانات إلى فقدان الثقة في نتائج الانتخابات.

اقتباسٌ من كتاب جافين، «الأسواق الواعدة»:

في كينيا، يحتدم الصراع بشدةٍ في جميع الانتخابات؛ فتذهب نسبة ٤٥٪ من الأصوات إلى مجموعةٍ قبَلية معينة، و٤٥٪ أخرى إلى مجموعةٍ قبَلية أخرى. ويكون النصر حليفًا للمجموعة التي تتمكن من «سلب» نسبة ١٠٪ المتبقية، وذلك كما يقول مواليمو ماتي، وهو محامٍ يدير منظمةً رقابية لمكافحة الفساد في نيروبي.

تُمارس تلك اللعبة في اللجنة الانتخابية المعنية بالإشراف على النزاهة في مراكز الاقتراع وإعلان النتائج. تفشل المنظومة في أداء عملها لأن اللجنة نفسها مؤلَّفة من أعضاء سياسيين مُعيَّنين. يقول ماتي: «يبدو الأمر وكأن اللاعبين يختارون الحكَّام. فالناس لا تثق في أي لجنة انتخابية أقمناها في أي وقت.»

في نظر الكينيين، إنها مجرد مؤسسة من ضمن مؤسساتٍ فاسدة أخرى — مثل الشرطة، والتعليم، والنقل. إذ تصنَّف كينيا من بين أسوأ ٢٠ دولة في حوادث الطرق المميتة التي يُعزى جزء من أسبابها إلى اختبار القيادة الذي يمكن اجتيازه بدفع رشوة — وهذا هو الحال على مدى عقود.

ربما سيندهش أي زائر يأتي لأول مرة إلى نيجيريا من كمِّ العقارات الذي ليس مطروحًا للبيع. ما الجدير بالملاحظة في ذلك؟ في جميع أنحاء العالم، لا يُطرح سوى نسبة صغيرة من العقارات في أي وقت للبيع في السوق. وما يجعل الوضع في نيجيريا جديرًا بالملاحظة أن الكثير من العقارات غير المطروحة للبيع تُميَّز بلافتةٍ تحمل هذا المضمون والتي توضع على أراضٍ شاغرة أو يُكتب تحذير بالطلاء على أسوار العقارات مفاده أن: «هذا العقار غير مخصَّص للبيع».

في بعض الأحيان، يُكتَب على اللافتات «احذرْ من عمليات الاحتيال ٤١٩». هذا الرقم يشير إلى القسم ٤١٩ من قانون العقوبات النيجيري الذي يُجرِّم عمليات النصب والاحتيال. في حين أن المحتالين، المعروفين في نيجيريا باسم محتالي ٤١٩، قد ذاع صيتُهم دوليًّا بعمليات الاحتيال الاحترافية التي يروِّجون لها عبر البريد الإلكتروني — حيث تحتوي الرسائل على عددٍ كافٍ من الأخطاء الإملائية لتوقع بالأشخاص الأكثر سذاجة — تتمثل إحدى عمليات الاحتيال المشهورة فيما يخص المنازل في أن تبيع عقارًا لا تمتلكه، ثم تحصل على المال ويصير في حوزتك وتختفي قبل أن يقابل المشتري الجديد المالكَ الحقيقي.

إن عمليات الاحتيال ٤١٩ ممكنة لأن المؤسسات النيجيرية عجزت عن ضمان الثقة في تسجيل الملكية العقارية. ففي أغلب الدول المتقدمة، يمكن لمشترٍ أبدى اهتمامه بعقارٍ ما أن يتفقَّد سريعًا عبر الإنترنت سجلًّا عقاريًّا قوميًّا أو خاصًّا بمنطقةٍ معينة ليتأكَّد من الملكية الراهنة لأي عقار. فالمشتري المحتمل يدرك أن السجل العقاري يشمل جميعَ العقارات القائمة في المنطقة، وأن الجهة المعنية بتسجيل العقارات تُحدِّث السجل حينما يحدُث تغيير في الملكية. وفي حالِ أن المشتري أجرى معاملة، يمكنه الاطمئنان أيضًا إلى أن أي نزاعٍ قانوني على أحقية الملكية يمكن حسمُه بسرعة معقولة، على الأقل في محكمة الدرجة الأولى. وفي الحالات التي تخفق فيها هذه المنظومة، فإن عواقب مثل هذا الإخفاق لا يتحمله المشاركون في المعاملة، وإنما يتحمله وسيطٌ متمثل في جهة التأمين على صحة الملكية.

الوضع معكوس تمامًا في نيجيريا. ذلك حيث يغيب أي وجودٍ لقاعدة بيانات متكاملة للتسجيل العقاري. وتحتفظ بعض الولايات بمزيجٍ من السجلات الإلكترونية والورقية؛ في حين لا يوجد لدى ولايات أخرى سوى سجلات ورقية. وإذا أراد مشترٍ محتمل الإصرار على البحث في سجلٍ ورقي، فسيحتاج أولًا إلى إيجاد طريقةٍ للوصول إلى قاعدة البيانات. وهذا أمرٌ صعب. الأهم من ذلك أن السجل ليس شاملًا حتى في أكبر المدن، فضلًا عن المناطق الريفية. وفي حالِ أن المشتري قرَّر المضي قُدمًا في الشراء ثم وجد نفسه بعد ذلك في نزاعٍ على الملكية، فمن المفترض أن يتوقَّع الانتظار لثلاث سنوات على الأقل حتى يحصل على حكمِ محكمة أول درجة وسنوات أخرى لأي طلبات استئناف لاحقة. والتأمين على صحة الملكية مستحيل عمليًّا هناك بسبب عدم وجود بنية تحتية أو بياناتٍ كافية لإنشاء جدول أكتواري فعَّال، حتى لأكثر المشترين جديةً.

fig2
شكل ٢-١: مؤشر يقيس جودة مؤسسات التسجيل العقاري على مستوى العالم.

المصدر: مشروع ممارسة أنشطة الأعمال التابع للبنك الدولي.

أنشأ مشروع ممارسة أنشطة الأعمال التابع للبنك الدولي مؤشرًا لقياس جودة مؤسسات التسجيل العقاري على مستوى العالم. ومن إجمالي ٣٠ نقطة، تراوحت نيجيريا بين ٩ نقاط في ولاية لاجوس و٥ ,٤ نقاط في ولاية كانو، مع اعتماد التفاوت على درجةِ رقمنة عملية التسجيل. أما الاقتصادات الكبرى في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى — إذ حصدت كينيا ١٥ نقطة، وجنوب أفريقيا ٥ ,١٥ — فإنها تأتي خلف الاقتصادات المتوسطة الدخل، مثل ماليزيا (٥ ,٢٦) والصين (٢٤)، والاقتصادات المتقدمة مثل المملكة المتحدة (٢٦)، أو اليابان (٥ ,٢٥). (من الجدير بالذكر أن رواندا، التي ركَّزت لسنواتٍ كثيرة على تحسين بيئة أعمالها، حصدت ٥ ,٢٨، لتلحق بالدول الأفضل في العالم في هذا المجال وهي هولندا، وتايوان، وسنغافورة، وليتوانيا.)1 ومع ذلك، فإن الدول الأفريقية ليست هي الوحيدة التي حصلت على تقييم سيئ. فيندرج ضمن المتقاعسين البارزين في أماكنَ أخرى من العالم، اليونان (٥ ,٤)، وفنزويلا (٥,٥)، ومقارنةً بنظرائها من الدول المتقدمة، الولايات المتحدة (٦ ,١٧)، (انظر شكل ٢-١).2

إن المثال الخاص بضعف منظومة التسجيل العقاري في نيجيريا يكشف قصورًا في بنيةٍ تحتيةٍ مهمة أخرى لدعم الثقة؛ ألا وهي المنظومة القانونية. في الاقتصادات المتقدمة، تُعد السابقة القضائية بمنزلة نظامٍ موزَّع من أجل تعزيز الثقة. ورغم مركزية سن القوانين من خلال الهيئات التشريعية، يُجرى تطبيق القانون وآلية ربطه بالواقع عن طريق شبكة موزعة من القضاة وهيئات المحلَّفين. وتوثَّق المداولات المنعقدة على مدى قرون على هيئة فتاوى وأحكامٍ قانونية، مما يوفِّر خطةً مفصَّلة لكيفية تعزيز الثقة.

أحد المجالات الأساسية الأخرى التي يقيسها مشروع ممارسة أنشطة الأعمال التابع للبنك الدولي هو سهولة إنفاذ العقود. وعلى الرغم من وجودِ استثناءاتٍ كثيرة، فإن أداء الاقتصادات النامية بوجهٍ عام في هذا الشأن ضعيف نسبيًّا. وحتى مع تنحية المشكلات المحتملة الخاصة بالنزاهة والفساد جانبًا، فإن أحد أهم الجوانب لإنفاذ عَقد من قِبل شركة هو طول المدة التي ستستغرقها الإجراءات القانونية. فإذا استمرت الإجراءات فترة طويلة، فربما يتعسر مقدِّم الطلب ماليًّا قبل أن يتمتع بمزايا إنفاذ العَقد بفترةٍ طويلة. بالمثل، إذا كانت تكلفة إنفاذ العَقد باهظة للغاية مقارنةً بحجم العَقد، فربما يقرر المدعي بكل بساطة ألا يثقل على نفسه بالأمر.

توضيحًا لذلك، إذا ألقينا نظرةً على الدول المرتفعة الدخل الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، فإن إنفاذ عَقدٍ ما يستغرق في المتوسط ٥٩٠ يومًا (رغم أن تلك المدة في اليونان كإحدى الدول المتقاعسة البارزة تصل إلى ١٧١١ يومًا) وبتكلفة تبلغ ٥ ,٢١٪ من قيمة العَقد. في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، لا تزيد المدة كثيرًا عن المدة السابقة؛ إذ تبلغ ٦٥٥ يومًا، لكن ترتفع التكلفة لتصل إلى ٦ ,٤١٪ من قيمة العَقد. وعلى العكس، في كلٍّ من دول جنوب آسيا وأمريكا اللاتينية، تُعد الزيادة في التكلفة أقل، حيث تصل تقريبًا إلى ٣٠٪، لكن يصبح لزامًا على الشركات أن تتغلب على الإطار الزمني الذي يطول كثيرًا لمدة تصل إلى ١١٠٠ يوم بالنسبة إلى دول أمريكا اللاتينية. يمكن لمثل هذه الأوضاع أن تصبح معيقة بالفعل للتجارة وعمل الشركات (انظر شكل ٢-٢).3
fig3
شكل ٢-٢: إنفاذ العقود: الأيام المستغرَقة في الإنفاذ وتكلفة الإنفاذ كنسبة مئوية من قيمة العَقد.

المصدر: مشروع ممارسة أنشطة الأعمال التابع للبنك الدولي.

هل بإمكان النُّظم المعتمِدة على سلسلة الكتل أن تحسِّن من وضع بعض المؤسسات الجديرة بالثقة الضعيفة أو المنعدمة الوجود في الدول النامية أو تحل محلَّها؟ بالنسبة إلى التسجيل العقاري كما هو الحال مع العقود والهوية الرقمية، فإن التطبيقات المحتملة بدأت في ترسيخ جذورها. مع ذلك، وكما سنستكشف أكثر، بينما يمكن لسلاسل الكتل أن تقدِّم بعص عناصر الحل، فإن المشكلة تكمن في إنشاء مجموعة من الإجراءات الجديرة بالثقة للتأكد من أن البيانات المسجَّلة في النُّظم الجديدة هذه هي بيانات في حدِّ ذاتها جديرة بالاعتماد عليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤