الفصل السابع

الانفتاح التجاري

استعرضنا فيما سبق الأسباب التي تجعل العملات المشفرة بديلًا مفيدًا للعملات القومية والدولارات المستوردة. وتطرَّقنا إلى الفرص التي تحملها سلسلةُ الكتل لتحسين الثقة، والشفافية، والمؤسسات العامة في مجالات تمتد من العقارات إلى الصحة والسجلات القانونية، وتحصيل الضرائب، والانتخابات، والإعانات الأجنبية، والشمول المالي. الآن، سنتناول التطبيقات المرتبطة ارتباطًا مباشرًا بتحسين ممارسات الأعمال التجارية في البلدان النامية.

الغش

تشتهر الأسواق الشعبية في آسيا ببيع حقائب يد وساعات مُقلَّدة، لكن هناك مشكلة غش تجاري أخطر بكثير في الدول النامية؛ وهي تلك الخاصة بالدواء. يقدَّر أن الأدوية المغشوشة تمثل ١٥٪ من الإمداد الدوائي العالمي، وترتفع هذه النسبة إلى ٥٠٪ في بعض البلدان النامية.1 هذا قد يتسبَّب في حدوث وفيات بسبب الأمراض غير المعالَجة وآثارٍ جانبية بسبب مكوِّنات ضارة في الأقراص المغشوشة. إنَّ فقدان الثقة في الأدوية العامة يعيق قدرةَ البلدان النامية على إنشاء صناعاتها الدوائية المحلية. وتُقلِّل الأموالُ المهدرة في عمليات الغش من حجم الاستثمارات المتوفرة لتطوير الأدوية.
تعتمد الدول على مزيج من الحلول يشمل إنفاذ القوانين، والتوعية ووضع صورٍ مجسَّمة على عبوات الأدوية، واستخدام أختام بارزة ومانعة للعبث والتلاعب. لكن هذا لا يكفي. فهذا يفترض أن المستهلك على دراية بشكل عبوة الدواء الصحيح. في المثال أدناه، تبدو درجةُ لون العبوة غيرَ صحيحة، لكن رغم ذلك جرى توزيع هذا الدواء المغشوش بنجاح (انظر شكل ٧-١).
fig16
شكل ٧-١: مثال على غش الدواء. المصدر: الإنتربول.

تُعَد سوق الأدوية المغشوشة كبيرةً ومدمِّرة بوجه خاص في أفريقيا، وهي ما قدَّرتها منظمة الصحة العالمية بأنها تمثل ٤٢٪ من جميع الأدوية المغشوشة أو المتدنية النوعية الموجودة على مستوى العالم. تتسبَّب الأقراص المغشوشة لمعالجة الملاريا وحدَها في وفاة ١٢٠ ألف طفل كلَّ عام عبر القارة، وذلك طبقًا لمؤسسة برازافيل.

ليس المستهلكون وحدَهم مَن لا يستطيعون تمييزَ الفَرق. فنظرًا لحالات نقص الأدوية في النظام، تضطر المستشفيات إلى شراء أدوية من تجارٍ غير شرعيين على أمل بائس بأنها ربما تكون فعَّالة. يدير أدهم يحيى وتشيبوزو أوبرا مستشفيات في نيجيريا ورِثاها عن أبويهما. يروي كلاهما كيف تجرَّعا مرارة فقد أشخاص قريبين منهم بسبب عجزهما عن الحصول على أدوية أساسية لأفراد أسرتيهما، فضلًا عن المرضى في مستشفياتهما. أنشآ شركةً أطلقا عليها اسم «درَج ستوك» للمساعدة في بناء شبكة من الموردين الموثوق فيهم وينويان الاعتمادَ على تقنية سلسلة الكتل للتحقُّق من مصدر الدواء.

لن يحتاج مثل هذا النظام إلى إثبات قانونية التصنيع فحسب، وإنما أيضًا إثبات اتباع إجراءات تخزين ونقل ملائمة. تقول منظمة الصحة العالمية إن الإخفاق في تبريد دواء أوكسيتوسين، وهو دواء مهمٌّ في حالات وقف النزيف أثناء الولادة، هو أحد أسباب أن خُمس وفيات السيدات أثناء الولادة على مستوى العالم تحدث في نيجيريا، حيث يمكن أن يتكلَّف سعر الدواء ٦٤ ضعفَ سعره في الدول المتقدمة. (تستند المعلومات إلى بيانات منظمة الصحة العالمية ومقابلاتٍ مع أدهم يحيى وتشيبوزو أوبرا أجراها المؤلفون والصحفية إيمي فالون.)2

إنَّ وضعَ رمزِ استجابةٍ سريعة فريد على العبوة متصل بسجل سيتيح للمشترين التحقُّق من مصدر الدواء. عند مسحِ رمز الاستجابة السريعة، يمكن التحقُّق من المصدر وطريقة التصنيع وكذلك تتبُّع نقله، وتخزينه وبيعه. وأي رمز استجابة سريعة مغشوش أو مقلَّد يمسحه أحد المستهلكين يمكن أن يُطلِق تنبيهًا إلى وكالات إنفاذ القانون التي تواجه ما أصبح مصدرَ دخل مربحًا لتمويل الإرهاب، طبقًا لمؤسسة برازافيل.

دراسة حالة: منغوليا — الإمدادات الطبية — شركة فارماترست

  • التجربة موضوع الدراسة: سعت شركة فارماترست إلى إثبات مصدرِ الأدوية المرخَّصة عن طريقِ تتبُّع كل مرحلة لها وتعقُّبها عبر سلسلة الكتل، وذلك من أجل وضعِ حدٍّ للأدوية المغشوشة في السوق التي يُقدَّر بأنها سببٌ في قتل مليون شخصٍ سنويًّا على مستوى العالم، أغلبهم في الدول النامية.
  • آلية العمل: في حال وقوع أي نشاط غير قانوني في أي نقطة من سلسلة التوريد، من الممكن أن يتتبَّع الصيدلي بدقةٍ مكانَ وقوع هذا النشاط ووقت حدوثه. ويمكن للمرضى مسحُ الرمز التعريفي الرقمي بهواتفهم الذكية وتلقي رد في الحال على مصدر الدواء وإذا ما كان أصليًّا أم لا.
  • سير العملية: تقف وزارة الأوزان والمقاييس في أولان باتر حاليًّا حائلًا بين شركة فارماترست ومشروعها التجريبي في منغوليا بوصفه اختبارًا تجريبيًّا على الأسواق الناشئة. على غرار المشروعات المعتمِدة على الدولة، فإنها تظل في انتظار موافقة الحكومة. في تلك الأثناء، تتوسَّع فارماترست في مجالات الرعاية الصحية ذات الصلة، وتحتاج إلى دورةِ استثمارٍ أخرى.
  • التقييم: تضمن فارماترست أن السجلات الموجودة على سلسلة الكتل الخاصة بها «غير قابلة للتغيير والإتلاف». هاتان الكلمتان لهما طبيعة مطلقة. ولكن وجود شيءٍ على سلسلةِ كتل لا يجعله غير قابل للتغيير أو الإتلاف. إنه يغيِّر الآليات، وربما يزيد من صعوبةِ الطعن في السجل، لكن هذا لا يُعَد مطلقًا بأي حالٍ من الأحوال. رغم ذلك، هناك ضرورة مطلَقة لوجود استجابة منسَّقة من الدول النامية من أجل زيادة كفاءة سوق الأدوية. وهي مشكلة ستتفاقم مع الحاجة إلى لقاحات فيروس كورونا وأدوات اختبار مرخَّصة.

تعليق براندون: مع أن سلاسل الكتل ليست بطبيعتها غير قابلة للتغيير، فهناك البعض منها غير قابل للتغيير أكثر من غيره بناءً على تكوينه وإدارته. إن الإيثريوم، الذي يُعد ثاني أكبر نظام للعملات المشفرة من حيث قيمته السوقية بعد البتكوين، والذي يمكن الزعم بأنه يدعمه أحد مجتمعات المطورين الأكثر نشاطًا، قرَّر تعديل سلسلة الكتل الخاصة به عام ٢٠١٦. نُفِّذ من داخل مجتمع الإيثريوم مشروعٌ لإنشاء مؤسسةٍ مستقلة لا مركزية، تدمج بموجبها إدارة النظام والمجتمع في سلسلة الكتل نفسها. ومع ذلك، في أثناء تنفيذ العملية، أُدخِل خطأٌ تقني في سلسلة الكتل سمحَ لأحد المخترقين باختلاس ٥٠ مليون دولار. وبدلًا من إعطاء الفرصة للمخترِق بمواصلة فِعلته (ونظرًا إلى حقيقة أن الكثير من المستثمرين في هذه المؤسسة كانوا أيضًا جزءًا من هيكل إدارة النظام)، قرَّر مجتمع الإيثريوم إصلاح الخطأ و«إعادة» سلسلة الكتل إلى الحالة التي كانت عليها قبل الاختراق — وهي حالة مُحيت فيها معاملات المخترِق وأُعيدَت الأموال المختلسة فعليًّا إلى أصحابها الأصليين. باختصار، حتى سلسلة كتل الإيثريوم لم تَعُد في الواقع غير قابلة للتغيير.

بوجه عام، يتمثل التحدي الأكبر أمامَ التحقُّق من سلاسل التوريد على سلسلة الكتل في أن النظام بحاجةٍ إلى جهةٍ موضع ثقةٍ تتولى إنشاءَ رموز الاستجابة السريعة. في حالة الأدوية، ربما تكون تلك الجهة هي الشركة الأصلية المصنِّعة للدواء، أو قد تكون اتحاد صناعاتٍ، أو وزارة حكومية. ففي ظل غياب جهةٍ موثوق فيها تتحقق بدقةٍ من المنتجات الأصلية من مصدرها، فإن نظام سلسلة الكتل يخاطر بدعم الأنماط الحالية من التجارة في المنتجات المحظورة.

إن الحلول الفردية الخاصة بالدول، التي تدير فيها جهة حكومية سجلًّا وتنشئ مدخلاتٍ بالمستحضرات الدوائية المُصنَّعة محليًّا والمستوردة بطريقةٍ قانونية، مستبعدٌ أن تكون على قدر الفاعلية الذي يتميز به حلٌّ شامل يأخذ في الاعتبار العدد الكبير من الأدوية المغشوشة المتداولة حاليًّا من خلال قنواتٍ غير قانونية.

لقد بدأت الحكومات الأفريقية تتضافر من أجل مواجهة الأدوية المغشوشة تحت مبادرة لوميه ٢٠٢٠. ولكن لم يرِد ذكْر سلسلة الكتل في المناقشات التي تناقلتها الأخبار بشأن المبادرة. مع أن ذلك كان واجبًا.

التحقُّق من سلاسل التوريد

يجري تداول جواهرَ تزيد قيمتها عن ١٣ مليار دولار سنويًّا في إطار عملية كيمبرلي، التي قامت عام ٢٠٠٣ بهدف الحد من تجارة الألماس المُموِّل للنزاعات.3 تُعَد العملية مثالًا رائعًا على التنسيق بين الحكومات، والصناعة والمجتمع المدني لمواجهة خسارة الأرواح بسبب الصراع على الثروات المتكوِّنة من الألماس، أو ما يُطلق عليه الألماس الملطَّخ بالدماء. ومِن ثَمَّ، يجري التصديق على شحنات الألماس في الدول الأعضاء المعتمدة وفقًا لضوابطَ قانونية ومعايير شفافية مُلزِمة. لقد أصبحت عملية كيمبرلي أفضلَ نظامٍ معروف للتحقق من سلاسل التوريد في الدول النامية. ونظرًا لأن عملية كيمبرلي ليست معنية إلا بالألماس الخام، تعمل عدة شركات ناشئة على نُظمٍ قائمة على سلسلة الكتل لتتبُّع مصدر الألماس المقطوع وأحجار كريمة أخرى.

يمثل التحقُّق من سلاسل التوريد شكلًا مختلفًا من حالة استخدام الأدوية المغشوشة، باستثناء أن ما يعنينا هنا ليس إنْ كان المنتج أصليًّا أم لا، وإنما مكان الإنتاج وكيفيته. يحمل الألماس الملطَّخ بالدماء الخصائص نفسها تمامًا التي يحملها الألماس المُموِّل للنزاع. ينطبق الأمر نفسه على المنتجات المعدنية الأخرى المموِّلة للنزاعات: النفط المتداول بطرقٍ غير قانونية، أو لحوم الأبقار التي ترعى في المناطق المُحرَّجة، أو البَيض المنتج من بطاريات الدجاج.

تكمُن المشكلة المشتركة هنا في أن سلسلة التوريد معقَّدة بالقدر الكافي الذي يجعل من المستحيل على المستهلك النهائي أن يربط ما يشتريه بجهة التصنيع الأصلية والروابط التي تتخللهما. حتى لو كان من السهل أن يكون لبقرةٍ رمزُ استجابة سريعة ويُسجَّل ذلك الرمز في سجل، فإن هناك فرصًا كثيرة، ابتداءً من المجزر مرورًا بالجزارة الصناعية والمحلية ووصولًا إلى المطعم الذي يقدِّم شرائح اللحم، بأن يُخلَّط اللحم البقري المأخوذ من بقرةٍ لم ترعَ في منطقةٍ محرَّجة بلحم بقري مأخوذ من بقرةٍ رعت في منطقة محرَّجة، أو يستبدل به.

ما يفوق اللحم البقري وحتى الأدوية والألماس ربحيةً هو التجارة العالمية في النفط. لقد كان للتنقيب غير القانوني عن النفط وسرقته اليدُ العليا في تأجيج عقودٍ من الصراعات وتحقيق كمٍّ هائل من المكاسب الإجرامية عبر بلدان العالم النامي. وقد اتضحَ أن عملية التحقق من سلاسل توريد النفط أكثر صعوبة بكثير من تلك الخاصة بالألماس. ففي أثناء رحلة بحرية واحدة، قد تُحمَّل ناقلةٌ بنفط من عدة منتجين مختلفين، وربما من بلدان عديدة مختلفة، وغالبًا ما يجري بيع هذه الحمولة والناقلة لا تزال في البحر، وأحيانًا يتم ذلك عدة مرات. يمكن إضافة نفط متداول بطريقةٍ غير قانونية إلى حمولات ناقلاتٍ قانونية وموظفو الجمارك لا يكونون على علم بها عند إنزال الحمولات المختلطة. ومع أن وجود نظام عالمي لتتبُّع سلاسل توريد النفط، أو الصادرات من الدول التي يرتفع فيها خطر التجارة غير الشرعية، قد يؤتي نتائج محمودة، فإنَّ تعقُّد المشكلة يجعله أمرًا مستحيلًا.

ثمة سوقٌ أخرى متعطِّشة لعملية تحقق أكثر تطورًا فيما يخص سلاسل التوريد، ألا وهي: سوق الفانيليا. رغم أن كلمة vanilla في اللغة الإنجليزية قد تعني «شيئًا تافهًا»، فلا تُعَد فانيليا مدغشقر شيئًا تافهًا على الإطلاق، خاصة أن سعر القرن الواحد منها يساوي ١٥٠ دولارًا. إن سعر الكيلوجرام الواحد منها أعلى من كيلوجرام الفضة. ولأسبابٍ مفهومة، يبذل المزارعون جهدًا مهولًا لحماية محصولهم من السرقة؛ إذ يجوبون حقولهم لحراستها ممسكين بالمناجل. وفي صورة بدائية لطرق التعبئة المانعة للتزوير، وعلى غرار أصحاب المزارع في غرب الولايات المتحدة الذين كانوا يوسمون الماشية لمنع اللصوص من بيع قطعان المواشي المسروقة على أنها مِلكٌ لهم، يميِّز مزارعو الفانيليا قرون الفانيليا الخاصة بهم بنمطٍ فريد من الثقوب الصغيرة. ومع ذلك، عمليات السرقة مستمرة، مع حدوث عواقب وخيمة في بعض الأحيان.4

إن تجزئة قرون الفانيليا على نظام قائم على سلسلة الكتل لهي أمرٌ قابل للتحقيق. يمكن استخدام الهواتف الذكية لتسجيل قرون الفانيليا قبل بيعها إلى وسطاء في مدغشقر، وتجفيفها وتصديرها على هيئة حبوب. سيستلزم الأمر شحن المعدات اللازمة للتمييز الفريد لكل قرنٍ من قرون الفانيليا إلى مناطقَ لا يمكن بلوغها إلا بزورق. لكن تلك ليست هي العقبة الكبرى. فبينما يمكن لتجار محليين وربما كذلك مستوردين وموزعين عالميين ذوي ضمير يقظ استخدام النظام للتحقق من مصدر قرون الفانيليا التي يشترونها، فلن يوجد شيء يمنع التجار العديمي الضمير من الاستمرار في الشراء من اللصوص.

على الجانب المقابل من المحيط الهندي، نجد أوغندا التي حُبيت على نحوٍ مماثل بتربة خصبة. في الحقيقة، تمتاز التربة بأنها غنيةٌ بالعناصر الغذائية لدرجة أن المزارعين استطاعوا على مرِّ التاريخ الاستغناء عن استخدام الأسمدة. مع ذلك، وفي ظل استمرار تطور الزراعة، تحتاج أوغندا حاليًّا إلى تطبيق نظام لتوزيع الأسمدة، سيرًا على خُطى أغلب الدول النامية. ونظرًا إلى افتقار صغار المزارعين الأفارقة عادةً إلى الموارد اللازمة لشراء الأسمدة، تُخصَّص لهم حصة منها مقابل نسبةٍ من محاصيلهم التي زادت غلتها بفِعل الأسمدة. لكن، ومثلما هو الحال مع أي وضعٍ تقدِّم فيه الحكومات شيئًا بسعرٍ أدنى من أسعار السوق، هناك مجال للفساد. يمكن أن يتلاعب المسئولون في السجلات لبيع الأسمدة المدعَّمة بسعر السوق ويضعون الفرق في جيوبهم. على الجانب الآخر، بإمكانهم التلاعب في تحديد حجم المحصول الذي يجب على المزارعين تقديمه بعد موسم الزراعة لدفع مقابل أسمدتهم؛ فهم إما يأخذون كمياتٍ كبيرة للغاية ويحتفظون بجزء منها لأنفسهم، أو يسمحون للمزارعين بتقديم كميات قليلة للغاية وأخذ رِشًى منهم. وفي كلتا الحالتين، تبدو عملية حفظ السجلات العادية غير مناسبة لمهمة الإبقاء على نزاهة هذا النظام.

بما أن أوغندا في نقطة البداية التي يغيب فيها أي نظامٍ لدعم الأسمدة، فإنها تتوفر لديها فرصة لإحداث قفزة نوعية باستخدام نظام قائم على سلسلة الكتل للحد من فرص الغش والاحتيال. لكن، كما هو الحال مع نُظم سلاسل الكتل الأخرى التي نوقشت سابقًا، تأتي نقطة الضعف عندما يُصدِّق العنصر البشري على معاملات تحدث على أرض الواقع ثم يُحمِّلها على السجل الرقمي؛ إذ ربما يُقلل من كمِّ السماد المورَّد أو المحاصيل المقدَّمة كمقابل له.

دراسة حالة: زامبيا — زراعة الحيازات الصغيرة — شركة توبل

  • التجربة موضوع الدراسة: بدافع إتاحة التدفُّق الائتماني إلى صغار المزارعين المحرومين من ذلك بدرجة كبيرة، يستخدم شريك شركة توبل، كاتينا، وهي مُصنِّع شركاتٍ ناشئة في مجال سلاسل الكتل، سلسلة كتل توبل لتسجيل تواريخ إنتاج المزارعين خلال مواسم الحصاد مع تقديم دليل يثبت اتباعهم لممارسات زراعية جيدة، مثل استخدام الأسمدة، وتناوب المحاصيل، والحصول على تصديقات على البذور — وهي معلومات يمكن أن تستخدمها الجهات المقرضة لتقييم المخاطر الائتمانية.
  • آلية العمل: تتفقَّد كاتينا الممارسات الزراعية وتتحقَّق منها ثم تسجِّل البيانات على سلسلة كتل توبل، التي تُستخدَم فيما بعدُ لإنشاء معرَّف هوية رقمي وبيومتري للمزارعين. بإمكان المؤسسات المالية بعد ذلك استخدام المعلومات المسجَّلة في معرِّفات الهوية الرقمية لإنشاء درجات ائتمانية بديلة لصغار المزارعين المشاركين، التي يمكن استخدامها فيما بعدُ للتقديم على قرض. تُخزَّن دفعات تسديد القرض على بطاقة مزدوجة خاصة بالمزارع لتعريف الهوية وسداد القرض، يمكن استخدامها على أجهزة الدفع الخاصة بالتجَّار التي توفرها شركة باي كود الجنوب أفريقية. يمكن استقبال المدفوعات دون اتصالٍ بالإنترنت وتخزينها محليًّا على الجهاز والبطاقة كبديل إلى أن يتصل التاجر بالإنترنت.
  • سير العمل: في وقت نشْر هذا الكتاب، كان من المقرَّر إطلاق المشروع مع ٣ آلاف من صغار المزارعين في المناطق الريفية بزامبيا، مع تمويل كاتينا لعملية الإطلاق. وقد جاءت المخاوف بشأن الأمن الغذائي في أعقاب جائحة كوفيد-١٩ لتزيد الاهتمام بالمشروع.
  • التقييم: توفِّر توبل البنية التحتية اللازمة لشبكةٍ يستطيع من خلالها المزارعون تقديمَ مطالبات ائتمانية يمكن تقديم إثباتات لأحقيتهم فيها إلى مؤسسات التمويل وتسجيلها ومشاركتها، مما يُعَد تقدُّمًا مبشِّرًا نحو الشمول المالي للسكان المحرومين من الخدمات البنكية. وقد يساعد المشروع المزارعين في النهاية على الارتقاء في سلسلة القيمة والوصول إلى فرصٍ جديدة.

دراسة حالة: أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية — الفواتير — شركة تريد فاينانس ماركت

  • التجربة موضوع الدراسة: رأت شركة تريد فاينانس ماركت، أو «تي إف إم»، أن خطر وقوع عمليات احتيال هو العائق الأكبر أمام إقراض الشركات الأصغر حجمًا والمزارعين الأقل حيازةً للأراضي في الدول النامية؛ ولذا طوَّرت نظامَين أحدهما للتحقُّق من الفواتير والآخر للتحقُّق من الضمانات باعتبارهما وسيلةً للشركات لرهن أو ترميز المبالغ المستحقة التحصيل والضمانات مع الجهات الدائنة المطمئنة إلى أن نفس الفواتير أو الضمانات لم يسبق رهنها عدة مرات.
  • آلية العمل: إن الفواتير الورقية عُرضة لاستخدامها في عمليات احتيال كبيرة — إذ إن المموِّل ليست لديه طريقة ليعرف بها إذا ما كان قد سبق بالفعل رهن فاتورةٍ أو ضمان من أجل الحصول على تمويل. قد تُقدَّم الفواتير إلى عدة ممولين ومنصات تقنية مالية؛ وحينها يمكن التمويل باستخدام الفاتورة نفسها أكثرَ من مرة. هذا من شأنه أن يؤدي إلى حالاتِ عجزٍ وتكاليف ائتمانية أعلى. يساعد نظام التحقُّق من الفواتير في القضاء على مخاطر معاملات التمويل من خلال الفواتير، وذلك عن طريق تحديدِ إذا ما كان قد سبق الحصول على تمويلٍ اعتمادًا على الفاتورة مِن قبلُ أم لا، باستخدام سلسلة ملكية وسجل تتبُّع لجميع المعاملات المشفرة على سلسلة الكتل.
  • سير العمل: سجَّل عددٌ من الشركات عبر أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية لاستخدام نظام التحقق من الفواتير، من بينها شركة إنكمليند (سنغافورة)، وأومنيبنك (المكسيك، وكولومبيا، وتشيلي)، وبورصة السلع إيه إف إي إكس (نيجيريا)، وكرودز (الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة)، وآيكونيك، واتحاد التجارة العالمي على سلسلة الكتل، وشبكة الابتكار المالي التابعة لرابطة بلدان جنوب شرق آسيا.
  • التقييم: ينتج عن ترميز إحدى الفواتير إنشاءُ بصمة رقمية فريدة. إذا أراد شخصٌ ما ارتكاب عملية احتيال، فبوسعه أن يغيِّر في المدخلات تغييرًا طفيفًا، مما يؤدي إلى تركيب رمزي مختلف، وذلك طبقًا لما قاله راج أوتمتشانداني، المدير التنفيذي لشركة «تي إف إم». تسعى شركة «تي إف إم» إلى تطوير حلول تهدف إلى تحديد وقت حدوث ذلك. وفي تلك الأثناء، تتوسع في نشاطها. على سبيل المثال، عقدَ أحدُ عملاء نظام التحقق من الفواتير، وهو إنكمليند، شراكة مع «سي إم إيه سي جي إم»، وهي ثالث أكبر شركة شحن على مستوى العالم، وعميل آخر له، وهو بورصة السلع «إيه إف إي إكس»، يوظِّف التقنية في توفير سيولة نقدية لصغار المزارعين في أفريقيا. كذلك تعمل شركة «تي إف إم» مع أحد أكبر مقدمي خدمات التأمين ضد مخاطر الائتمان في العالم.

التجارة الدولية

إن تزايد «التجارة بين البلدان النامية» هي الفرصة الذهبية التي تحمل عادةً بُشرى للدول النامية؛ إذ تعزِّز من الصادرات والواردات فيما بينها بدلًا من تعزيزها مع الدول المتقدمة.5 هذا يبدو بديهيًّا بالنظر إلى تزايد أعداد المستهلكين الشباب، أو ارتفاع النمو الاقتصادي، أو التقارب الجغرافي.
في الوقت نفسه، تميل العوائق المفروضة أمام التجارة إلى أن تكون أعلى في الدول النامية عن الدول المتقدمة، ممَّا يعيق التدفُّق التجاري. وضع البنك الدولي مقياسًا من ٠ إلى ١٠٠ لتقييم سهولة حركة التجارة عبر الحدود. ففي حين أن بعض البلدان النامية، مثل مولدوفا وليسوتو، تحقِّق درجاتٍ عالية للغاية، فإنهما تُعتبران استثناءً للقاعدة (انظر شكل ٧-٢).
fig17
شكل ٧-٢: درجات قياس سهولة التجارة عبر الحدود. المصدر: مشروع ممارسة أنشطة الأعمال التابع للبنك الدولي.

إلى جانب تلك العقبات، تزداد أيضًا صعوبة تيسير التجارة بين البلدان النامية من خلال القنوات الطبيعية للائتمان التجاري، مثل القروض بغرض الدفع المقدَّم للمبلغ المستحَق الذي صدرت به الفاتورة حتى لا تظل شركة ما في انتظار السداد لأسابيع أو شهور، وهو عادة ما لا يحين موعد استحقاقه من العميل إلا بعد وصول شحنة أو عند انقضاء أَجَل السداد المتفق عليه.

هناك طريقتان على الأقل يمكن أن تساعد بهما النُّظم القائمة على سلسلة الكتل في هذا الشأن. الطريقة الأكثر وضوحًا هي سرعة الشحنات ومستوى الشفافية فيها. في الوقت الذي تكمل فيه حاوية رحلتها، يرتبط بها عادة ٢٠٠ مستند. وقد يصبح هذا العدد أكبر بكثير في الدول النامية. في شرق آسيا، يصل متوسط الوقت المستغرق لتجميع كل هذه المستندات من أجل تصدير حاوية بضائع واحدة إلى ٥٨ ساعة. بينما يستغرق في المتوسط تجميع المستندات نفسها ساعتين ونصف فقط في الدول المتقدمة.6

تمثِّل هذه العملية تحديًا على الأخص في الدول النامية نظرًا إلى زيادة عدد الأطراف المشاركة في الإدارات البيروقراطية بشدة، وزيادة تعقيد حقوق الوصول وارتفاع خطر التعرض لعمليات احتيال.

قد تسهم النُّظم الرقمية بدرجة ملموسة في تبسيط مسألة المستندات التجارية وتصعيب وقوع عمليات احتيال، وذلك عن طريق إنشاء سجل تاريخي موثَّق بختمٍ زمني لكل مستند وإتاحة حقوق وصول تفاضلية — على سبيل المثال، السماح لموظفي الجمارك، دون المنافسين، بالوصول إلى مستنداتٍ بعينها لها علاقة بحاوية. وقد تساعد أيضًا في التوصل إلى قرارات بشأن الائتمان التجاري، وذلك عن طريق السماح لشركات التأمين على الائتمان التجاري بالوصول بسهولة أكبر إلى المستندات.

إن المزج بين العملة الرقمية، والموانئ الرقمية، والعقود الذكية يوفِّر فرصةً لإنشاء نظام ضمان قد يجعل التأمين على الائتمان التجاري أمرًا لا داعي له. فالمستورد، الذي سيدفع ثمن البضائع بالعملة الرقمية، يحجز المبلغ المطلوب من العملات الرقمية نظيرَ عقدٍ ذكي. ثم تُصدَّر البضائع، وفي كل خطوة تمر بها في رحلتها، يجري تتبُّعها بتتبُّع موقع الحاوية، الذي تقدِّمه أجهزة المسح الضوئي في أحد الموانئ الرقمية أو وحدة تعتمد على نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس) موجودة في الحاوية نفسها. وبمجرد الإفراج عن الحاوية من الميناء، يلتزم المستورِد بعدد أيام محدَّد للإبلاغ عن أي تلفيات أو مشكلات في البضائع. وفي حال تسجيل البضائع على أنها خالية من أي تلف، أو انقضاء الفترة الزمنية المخصَّصة للإبلاغ عن التلفيات، يُدفَع إلى المصدر تلقائيًّا مقابلَ بضائعه بالعملة الرقمية. وسيظل من الضروري وجود عملية يدوية لحسم المنازعات إذا ظهرت مشكلة في البضائع، لكن يمكن التعامل مع أغلب الحالات من خلال العقد الذكي من دون الحاجة إلى وجود تأمين على الائتمان التجاري. وهذا قد يتيح نمو التجارة بين البلدان النامية حتى لو ظلَّ توفر الائتمان التجاري محدودًا.

قد يقلل من تكلفة إنشاء النظام قلةُ الحاجة إلى تأمين على الائتمان التجاري. تدفع الشركات على الأقل ١٠ مليارات من الدولارات سنويًّا كمقابل لأقساط التأمين، وذلك طبقًا لتقديراتٍ واردة من شركة إعادة التأمين «سويس ري» وشركة التأمين «إكس إل كاتلين».7

تعليق جون: رغم أن العقود الذكية لها العديد من حالات الاستخدام، يبدو أن تطبيقها في الدول النامية أكثر محدودية. في الأسواق المالية المتطورة، على سبيل المثال، تُعَد العقود الذكية فعَّالة مع المشتقات المالية نظرًا لإمكانية وصف المعاملة بأكملها باستخدام إحدى الخوارزميات. وتكون الحاجة إلى تدخُّل بشري محدودة للغاية. والأصول الفعلية المتضمَّنة تكون هي نفسها رقمية. قلَّما يوجد مثل هذا الوضع في النُّظم الاقتصادية الفعلية لدى الدول النامية. تُعَد التجارة باستخدام الأموال الرقمية والحاويات المتتبعة رقميًّا واحدةً من حالات الاستخدام العملية القليلة للعقود الذكية. أما بعض حالات الاستخدام الأخرى، فتبدو مستبعدَة. لنتأمل مثال تأجير أحد العقارات. يمكن لعقدٍ ذكي أن يوفِّر حقَّ التصرف في العقار باستخدام قُفل رقمي عند تسجيل قيمة الإيجار بعملة رقمية، لكنه لن يساعد في إدارة عملية دفع مقابل إحداث تلفيات بالعقار أو منع عمليات احتيال ٤١٩ التي نوقشت في الفصل الثاني.

يُعد التحقق من سلسلة التوريد أحدَ مجالات الاستثمار الأكبر حجمًا من قِبل مجتمع سلسلة الكتل. إذ إن المزايا المتوقَّعة من التتبُّع والشفافية فيما يتعلق برحلة أحد المنتجات من ميناء إلى ميناء قد أسهمت في تحفيز قيام عدة مشروعاتٍ لشركات كبرى، بدءًا من «تريد لينس» الخاص ﺑ «آي بي إم» إلى «شيب تشين» و«إف آر ٨ نتوورك».

لكن كل تلك النُّظم بها أوجه قصور تعوق مساعدتها في إفساح المجال أمام التجارة الدولية. سلاسل الكتل، ولا سيَّما النُّظم الخاصة التي أنشأتها شركاتٌ كبرى، لا تتمتع بطبيعتها بالشفافية. ومع أن قواعد البيانات التقليدية يمكن أن تصبح نُظمًا شفافة بسهولة نسبية، إلا أن الشفافية في نظام سلسلة الكتل تعتمد على فرض التقنية لقواعدَ واضحة ومرئية وإنشاء حوافز مستلهَمة من نظرية الألعاب تضمن السلوك الحسن، أو تجعل التكلفة المفروضة على المشاركين ذوي السلوك السيئ عاليةً على نحوٍ رادع. تنفرد البتكوين بأنها سلسلة الكتل الوحيدة التي نفَّذت مثل تلك الحوافز بالقدر الملائم. في سلسلة كتل خاصة لا تُعد تلك الحوافز جزءًا من تصميمها، ربما يستمر وقوع حالات فساد عليها. ومع ذلك، فإن أي حالة فساد تحدث ستوثَّق بحزمٍ، ممَّا يوجِد رادعًا للمشاركين المحتملين ذوي السلوك السيئ. وبصرف النظر عن فسادهم من عدمه، يخضع جميع المشاركين إلى نفس القواعد؛ إذ إنهم مجبَرون على ذلك بحُكم قوانين اللُّعبة.

ما يعنيه كلُّ هذا هو أن المشروعات التي تحاول إدخال الشفافية من دون مواجهة الاعتبارات الاقتصادية للنظام الذي تسعى إلى استبداله هي مشروعاتٌ مستبعَد أن تكون «جيدة بما يكفي». إذا كانت الشفافية هي الهدف الأساسي حقًّا؛ فهناك تقنياتٌ أكثر واقعية، مختبَرة ومُجرَّبة، متوفرة لتواجه هذا الاحتياج على نحوٍ ملائم. إن استخدام سلسلة الكتل يضيف إلى هذا المسعى تعقيدًا، وتحدياتٍ فنية، ومخاطرة. ومن وجهة نظرنا، تنحصر أغلب تقنيات سلاسل الكتل الخاصة بسلسلة التوريد في هذا النطاق؛ فهي لا تعدو كونها أكثر من قاعدة بيانات معقَّدة.

ومع ذلك، تكمُن الفرصة الحقيقية في اكتشافِ إذا ما كان — أو كيف — يمكن لنظام سلاسل توريد لا يحتاج إلى إذن أن يتطور. ماذا لو لم يكن هناك كيان يتحكم فيمَنْ بإمكانه اختيار المشاركة، سواءٌ بصفته هو المورِّد أو جهة النقل أو أي دور آخر؟ يتولى النظام نفسه تطبيق القواعد ويضمن تنفيذها كما هو متوقَّع من حيث الوقت والمواصفات. ولتعزيز الفاعلية، لا بد أن يكون هذا هو الهدف النهائي.

رؤية خبير: سلامة البيانات

بول سنو هو المدير التنفيذي لشركة فاكتوم، وهي مقدِّم حلول خاصة بسلاسل الكتل يعمل على إيجاد طرق لحماية البيانات الشخصية ومشاركتها.

(١) ما الفكرة الرئيسية وراء سلامة البيانات؟

إن إنشاء مجموعة بياناتٍ تستطيع أطرافٌ عديدة معنية بها أن تضع ثقتَها فيها لَهُو بمنزلة تحدٍّ. لقد طُورت آلياتٌ على مرِّ الزمان لبناء الثقة في مثل تلك البيانات المُشارَكة. وقد أسهمت التقنيات في إحداث تقدم في بعض الجوانب، لكنها تسبَّبت أيضًا في مخاطرَ جديدة ومختلفة. ولزرع الثقة، غالبًا ما تُمنَح مهمة ضمان سلامة البيانات إلى سلطة مركزية، مثل حكومة أو مؤسسة.

توفر سلاسل الكتل آلية لتوثيق توقعات الأطراف المعنية المتعددة وتقديم وسيلة أكثر نزاهة وأمانًا لإنشاء مجموعة بياناتٍ يمكن من خلالها حلُّ كثير من المشكلات المستعصية اليوم. فتوفر بذلك آلية يمكن من خلالها لنطاق أوسعَ من الأطراف المعنية أن تشهد تطور البيانات وتفهمه. ويكون إدخال تغييرات على البيانات مستحيلًا تقنيًّا إلا إذا كانت تلك التغييرات مسجَّلة على سلسلة الكتل. ويضمن هذا المستوى من التتبُّع سلامة البيانات.

(٢) لماذا يُعَد ذلك مهمًّا في سياق الأسواق الناشئة؟

التحدياتُ المحيطة بسلامة البيانات ليست تقنية؛ إنما هي تحديات سياسية، واجتماعية، وثقافية. على مدى السنين، كانت هناك سجلات خاضعة للمراجعة، وقواعد بياناتٍ مشتركة، وحلول تقنية أخرى، لدعم سلامة البيانات. لكن تتضاءل الثقة بين الأطراف المعنية ذات الصلة، لا سيَّما في البيئات ذات المستويات الأقل من الثقة، كما هو الحال أحيانًا في الأسواق الناشئة.

تُوجِد تقنية سلسلة الكتل حلًّا بطريقة مختلفة لمشكلة ضمان سلامة البيانات. كما هو الحال تمامًا مع التقنيات الأخرى، تستلزم النُّظم القائمة على سلسلة الكتل قواعد وعمليات من أجل توفير سلامة البيانات. الفرق هو أن، مع تلك النُّظم، يمكن دمج الكثير من القواعد والعمليات كجزءٍ من التقنية نفسها، بدلًا من إدارتها خارجها. وكسلسلة كتل عامة، تصبح القواعد مرئية للجميع، مما يفسح المجال لعملية التحقق وضمان التوافق عبر النظام. في النُّظم الاقتصادية لكثير من الأسواق النامية ذات المستوى المنخفض من الثقة، قد تثبت هذه الطريقة البديلة لبناء الثقة أنها أكثر فعالية. وتعتبر الشفافية هي الأداة التي تقضي نهائيًّا على الفساد.

في مثل تلك النُّظم، لم يَعُد وجود مؤسساتٍ تؤدي دورَ حامي الثقة أمرًا ضروريًّا؛ لكن أصبح هذا الدور في الحقيقة موزَّعًا بين المشاركين في النظام. بالنسبة إلى أولئك الذين يشتهون السلطة، فقد يصبح هذا تهديدًا لهم؛ لأن زمام التحكُّم لم يَعُد في أيديهم. أما بالنسبة إلى أي فردٍ آخر، فقد يصبح هذا الهيكل فرصةً؛ إذ سيتقلص دور السياسيين كحماة للثقة، وسيزيد دورهم كعناصر مؤثرة أو محفزة للتقدم. هنا يتولى النظام دور حامي الثقة. وتصبح السلطة لا مركزية. وتصبح السلطة «في أيدي» الناس بدلًا من أن تكون «من أجل» الناس.

(٣) كيف تسير العملية بأكملها؟

إن المبدأ الأساسي لسلامة البيانات هو معرفة وقت وتاريخ إدخال تغييراتٍ على البيانات، وكيفية إدخال تلك التغييرات، ومَنْ قام بها. وما يعزز الثقة هو وجود إمكانية لتتبُّع سلسلة التغييرات التي طرأت على البيانات. أحد الإنجازات في هذا المجال هو بروتوكول فاكتوم. تسمح البنية التحتية هذه بأن ينشئ المستخدمون بصمةً وختمًا زمنيًّا لأي ملف رقمي، سواءٌ كان مستندًا، أو صورة، أو أي شيء آخر، من دون وجود أي حدود لحجم الملف أو عدد الملفات. ثم تجري تجزئة هذه البصمة وتضاف إلى سلسلة كتل فاكتوم. ثم ينقل البروتوكول سلاسله إلى سلسلة كتل البتكوين العامة، مستفيدًا من أمان البتكوين وعدم قابلية التغيير فيها. تصبح النتيجة هي بصمة غير قابلة للتغيير وللتعديل لمحتويات الملف ووجوده في نقطة زمنية محددة. وبهذا يمكن لمستخدمي النظام استخدام هذه البصمة لإنشاء سجل تتبُّع دامغ لبياناتهم لأغراض التوافق، والتصدي للاحتيال وغيرها من حالات الاستخدام.

(٤) ما الذي أُنجز إلى الآن في هذا المجال؟

لقد ثبت أن حلول سلاسل الكتل بوجهٍ عام من الصعب للغاية أن تنال دعمَ مَن هم على رأس السلطة. تستلزم المشاركة رضوخَ سلطة سياسية ما، مع تنازلها عن جزءٍ من صناعة القرار.

أوضحت تجربتنا في هندوراس (راجع الفصل السادس) طبيعةَ التحديات في هذا الشأن. كان من المقرر استخدام بروتوكول فاكتوم لرقمنة سجلات الملكية العقارية، لكن المشروع توقَّف بسبب الاضطرابات السياسية. بعد ذلك، تراجعنا عن التعامل مع الحكومات وركَّزنا بدلًا من ذلك على عملية طلب القروض ومنحها. نظرًا إلى الأزمة المالية التي حدثت عام ٢٠٠٨، وُقِّعت غراماتٌ بمليارات الدولارات على كثيرٍ من الجهات المانحة للقروض العقارية نتيجةَ إخفاقهم في توثيق القروض. لذلك ركَّزنا على توثيق العملية بأسلوبٍ آمن من حيث التشفير، وغير قابل للتغيير. ولكن، سرعان ما اكتشفنا أن أيَّ خطأ يمكن أيضًا إثباته بطريقة مشفرة فيما بعد. حاولنا حلَّ المشكلة عن طريق توفير وسائل لتعديل السجل بعد ذلك. وتمكَّنا من الترويج للفكرة القائلة بأن هذا، على المدى الطويل، سيوفر نظامًا أقل تكلفةً، وأكثر كفاءة. لكن، تبيَّن أن مخاوف المؤسسات من المساءلة على الأخطاء تمثل عقبة دائمة أمام تبني النظام. وكان يُنظر إلى تفاصيل توثيق أية عملية على أنها تحمل مخاطر مجهولة.

اليوم، تستخدم وزارةُ الأمن الداخلي الأمريكية نظامَ فاكتوم لتتبُّع سلامة بيانات المراقبة بكاميرات الفيديو. تُعتبر الشركة أيضًا في مراحلها الأولى من اختبار نظام لإدارة الشهادات والتراخيص الخاصة بعمليات استيراد المواد الخام يضمن مصدر أوراق الاعتماد المُصدَرَة، ويتم ذلك لصالح وزارة الأمن الداخلي الأمريكية أيضًا.8

(٥) ما التحدي الأكبر أمام القبول العام للنظام؟

هناك فرصة لتطبيق سلسلة الكتل في جوانب متعددة من حياتنا اليومية. فكِّر في رخصة قيادتك. عند دخول إحدى الحانات، فإنك تقدِّم رخصة القيادة الخاصة بك التي تثبت هويتك، والتي تتضمن الاسم، والعنوان، وحتى إذا ما كنت تحتاج إلى ارتداء نظارة أثناء القيادة. تجري مشاركة كل هذه البيانات إلى جانب عنصر البيانات الرئيسي المتمثل في تاريخ ميلادك. لكن حتى تاريخ ميلادك يحمل بياناتٍ غير مطلوبة؛ إذ إن حارس الحانة لا يعنيه سوى معرفةِ إذا ما كنت فوق سنٍّ معينة، ولا يهمه معرفة تاريخ ميلادك على وجه التحديد. في أي نظام قائم على سلسلة الكتل، توفِّر بيانات الهوية المقدَّمة إثباتًا مشفَّرًا للدقة ويمكن أن يراجعها طرف ثالث إذا لزم الأمر.

التحدي الأكبر هو أن تلك الأفكار لا تتطلب توفر التقنية فحسب، وإنما أيضًا الإرادة السياسية والاجتماعية لتنفيذ الأشياء على نحو مختلف. إذ تتغير ديناميكية السلطة. وتختلف الحوافز.

(٦) ما الخطر الأكبر الذي قد يحدث نتيجةً لوقوع أزمة كبيرة في هذا المجال؟

يقع كثيرٌ من المخاطر المترتبة على انحراف تلك النُّظم عن المسار في إطار إدارة الهوية. التنفيذُ الخطأ للهوية الرقمية أمرٌ ممكن. لنأخذ مثالَ رخصة القيادة. حتى في نظامٍ قائم على سلسلة الكتل، تدير الحكومة القواعد التي تحكم مَن المصرَّح له قيادة المركبة. ولا تمنع التقنية اختيار الحكومة أن تشارك عنوانك — مثلًا — مع الحانة التي أنت ذاهب إليها، مما يسمح لهذه الحانة بتسويق خدماتها لك فيما بعد. في الواقع، ربما لا تكتفي التقنية بالسماح بهذا فحسب؛ إنما ربما أيضًا تنفِّذ هذا من دون معرفتك أو موافقتك المباشرة.

لقد جلبت البيانات المرقمنة معها مجموعةً كاملة من المشكلات الجديدة المتعلقة بالملكية والخصوصية التي شرعنا لتونا في دراستها وفهمها. في الماضي، عندما كان الأفراد يكسبون عملاتٍ من الذهب والفضة، ثم ينفقونها، كانت السجلات الوحيدة للمعاملات هي الدفاتر التي تحتفظ بها الشركات أو الأفراد. قدَّم ذلك النظام الخاص بالمعاملات والسجلات بطبيعته توقعًا بالحفاظ على الخصوصية.

مع أننا محصَّنون في الولايات المتحدة والكثير من الدول الأخرى بموجب الدستور ضد التفتيش والضبط من دون أمرٍ قضائي، إلا أن سجلات المعاملات بين الأطراف ذات الصلة لا توجد في حيازة تلك الأطراف فحسب، وإنما السجلات الكاملة توجد في حيازة البنوك، ونُظم معالجة عمليات الدفع، وعلى نحوٍ متزايد مقدمي خدمات تطبيقات الهواتف المحمولة. في الولايات المتحدة، أقرَّ قانون السرية البنكية بأنَّ توقُّع الخصوصية هو أمرٌ لا وجود له في حال احتفاظ أطرافٌ ثالثة بالسجلات مثل البنوك ونُظم معالجة عملية الدفع، وليس الشركة أو الشخص فقط. وبينما يظل الأفراد والشركات محتفظين بالخصوصية فيما يتعلق بعقودهم واتفاقاتهم، بمجرد أن تحدث معاملة من خلال النظام البنكي والمالي، تنتهي الخصوصية.

لا تكتفي الحكومة بحق الوصول إلى تلك المعاملات، إنما بوسعها أيضًا أن تطلب من النظام البنكي والمالي إبلاغها بتلك المعاملات وقت حدوثها، حتى لو لم يوجد اشتباه مبرَّر قانونًا في وقوع جريمة. السبب في هذا أن ما قد يثير «بلاغًا عن نشاط مشتبه فيه» قد يكون ببساطة مبلغٌ من الدولارات، مقتطعًا من أي سياق. يتزايد سعي الحكومات إلى تقليل الخصوصية الاقتصادية تحت مسمَّى حماية الشعب.

كما يتضح لنا من تقنيات سلسلة الكتل، فإن توقُّع الخصوصية أمرٌ ممكن في مجال التجارة. تتجه الحكومات نحو حظر مثل تلك التقنيات فقط لأنها تقيِّد قدرة الحكومة على غض الطرف عن حقوق الخصوصية. والغاية من ذلك هي إدارة النشاط الاقتصادي بوجه عام، مع تبرير مثل هذه الأعمال تحت مسمَّى حماية الشعب.

لا تحلُّ نُظم سلسلة الكتل تلك المشكلات؛ فهي تقدِّم وسائل مختلفة لمواجهتها.

(٧) أين ترى سلامة البيانات في غضون خمس سنوات؟

إنَّ الدافع وراء استخدام نُظم جديدة لإدارة الأموال والبيانات الذي نتج عن الدورة الاقتصادية لعام ٢٠٠٨ تلاشى عندما توفَّرت الحلول في السنوات الأخيرة. أما الآن، في أعقاب التحديات الاقتصادية التي أثارتها جائحة فيروس كورونا، فالحلول متاحة. الأساسات موجودة في مكانها حتى نبدأ من جديد. وأعتقد أنك سترى خلال السنوات الثلاث القادمة زيادةً هائلة في عدد المشروعات قيد الإنتاج التي تؤثِّر على حياة الأفراد اليومية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤