الفصل الرابع

السقوط في ثقبٍ أسود …

ما الحد الأقصى للقُرب؟

قبل أن يتسنَّى لنا التفكير بالتفصيل فيما سيحدُث إذا قادك حظك العثِر، أنت أو أحد مُتعلقاتك، إلى الوقوع داخل ثقبٍ أسود، من المهم أن نفهم تأثير الموضع الذي ينظر منه الراصِد، أو الإطار المرجعي. هذا يعني أنَّ الراصدَين المختلفَين يَرَيان أشياء مختلفةً تمامًا. فالماهية الدقيقة للموضِع الذي تنظر منه إلى جسمٍ يسقط في ثقبٍ أسود تعتمد على مقدار بُعدك عن هذا الجسم (وما إذا كنتَ أنت ذلك الجسم أصلًا). تخيَّل جُسيمًا من الضوء، أي فوتونًا، يقع خارج أفق الحدث المحيط بالثقب الأسود؛ نظرًا إلى أنه يقع خارج الأفق، فإنه يستطيع الهروب نظريًّا. أمَّا داخل أفق الحدث، فيكون الوضع مختلفًا، إذ لا يستطيع الفوتون الهروب من مجال جاذبية الثقب الأسود. ولكن حتى خارج أُفق الحدث، فالفوتون الذي يتحرَّك بعيدًا عن الثقب الأسود لن يهرُب منه سالِمًا تمامًا. إذ يتعرض الفوتون لفُقدان جزءٍ من طاقته بسبب الشغل الذي يتعيَّن عليه أن يبذُله لمقاومةِ الجاذبية. وهذا مثالٌ لبئر طاقة الوضع الناجمة عن قوى الجاذبية؛ فمِثلما أنَّك تحتاج إلى طاقةٍ لتسحب نفسك إلى الأعلى خارج بئرٍ عميقة، يحتاج الفوتون إلى بذل طاقةٍ ليسحب نفسه بعيدًا عن المنطقة القريبة من جسمٍ ضخم. وقد قِيس مقدار هذا التأثير حتى لدى فوتونات تتحرك في مجال جاذبية الأرض. إذ تتناسَب طاقة الفوتون عكسيًّا مع طوله الموجي؛ أي إنَّ الفوتون العالي الطاقة له طول موجي قصير في حين أنَّ الفوتون المنخفِض الطاقة له طول موجي طويل. ويفقد الفوتون طاقةً بينما يُحاول التراجُع مُبتعدًا عن الثقب الأسود، لذا يزيد طوله الموجي. وهذا يُغيِّر لون الضوء، إذ يبتعِد عن اللون الأزرق (ذي الطول الموجي القصير) متجهًا نحو اللون الأحمر (ذي الطول الموجي الطويل) الذي يُمثِّل نهاية الطيف (يُسمَّى هذا التأثير بالانزياح نحو الأحمر). وهذا النوع من الانزياح نحو الأحمر، المعروف بالانزياح نحو الأحمر بفعلِ الجاذبية، ينشأ حيث يكون نسيج الزمكان نفسُه ممطوطًا، أو مُنحنيًا، بفعلِ تأثير جسمٍ ذي كتلةٍ هائلة كالثُّقب الأسود مثلًا. يُشار إلى أنَّ جون ميشيل، مع أنه كان يحمل أفكارًا مُبتكَرة مُهمة عن النجوم المظلِمة، فقد أخطأ حين ظنَّ أنَّ سرعة الضوء تقلُّ وهو يحاول الخروج من بئر طاقة الوضع. إذ صِرنا نعرف الآن أنَّ طول الضوء الموجي (وتردُّدَه بالتَّبعِية) يتأثر بوجود نجمٍ ضخم.

ماذا يحدث للزمن بالقُرب من ثقبٍ أسود؟

وصفتُ في الفصلَين الأول والثاني كيف يتشوَّه نسيجُ الزمكان بوجود كتلةٍ ما (أي جسم يُنتِج مجالَ جاذبيةٍ خاصًّا به) وهذا يعني أنَّ التأثير لا يقتصِر على فضاء المكان القريب من الثقب الأسود، بل يتأثر الزمان القريب منه أيضًا.

تخيل أنك تُريد البقاء على بُعد مسافةٍ آمنة من أحد ثقوب شفارتزشيلد السوداء لكنك تريد معرفة المزيد عن سلوك الزمان بالقُرب منه. ولذا اتخذتَ الترتيبات اللازمة لتركيز ٢٦ راصدًا ثابتًا بالقُرب من أفق الحدث المحيط بالثقب الأسود، على أن يكونوا خارجه بما يضمن سلامتهم بالتأكيد. يُسمَّى هؤلاء الراصدون بالحروف من الألف إلى الياء، ويُرتَّبون ضِمن طابور، على أن يكون الراصد «أ» هو الأقرب إلى أفق الحدث ويكون الراصد «ي» هو الأقرب إليك، وأنت تقِف بعيدًا على بُعد مسافةٍ آمنة. يحمل كل راصدٍ من الألف إلى الياء ساعةً دقيقة لقياس توقيته المحلي، في مَوقعه المحدد. وتخيَّل أنك، في إطار الاتفاق لإقناع هؤلاء الراصِدين المُسمَّين بالحروف من الألف إلى الياء بالمشاركة في هذه التجربة، كنتَ قد عرضتَ على كلٍّ منهم حافزًا وأهديتَه ساعة إضافية غير عادية ذات ضبط مُعدَّل، بحيث يكون الوقت الذي تقيسه مساويًا للوقت الظاهر على ساعتك وأنت موجود على بُعد مسافتك الآمنة. سيجد المشارك «ي»، الأقرب إليك، أنَّ الساعتَين اللتَين بحوزته تقرآن وقتَين مختلفَين قليلًا لأنَّ ساعته الخاصة، التي تقيس التوقيت المحلي (أي ما نُسمِّيه «الزمن الخاص» بالمصطلحات المتخصِّصة)، ستمضي بوتيرةٍ أبطأ قليلًا من الساعة الهدية التي يُطابق وقتُها الوقتَ الذي تقيسه وأنت على بُعد مسافتك الأكثر أمنًا والأبعد بعض الشيء. وعند تجميع نتائج المشاركين من المشارك «أ» إلى المشارك «ي» والمقارنة بينها، تُظهِر تأثيرًا لافتًا؛ فكلَّما كان الراصد أقرب إلى ثقبٍ أسود، فإنَّ الساعة التي تقيس الوقت «تمضي بوتيرةٍ أبطأ» مُقارنةً بالزمن البعيد حسبما يظهر على ساعات المشاركين المُهداة المضبوطة خصِّيصى. ويُعرف هذا التأثير، الذي وُصِف في نظرية النسبية العامة لأينشتاين، باسم تمدُّد الزمن. سيكون التأثير أكبر وأكبر لدى الراصدين الأقرب إلى بداية الترتيب الأبجدي، أي الأقرب إلى الثقب الأسود. وكلما زاد القُرب من الثقب الأسود، فإنَّ الساعة المحلية (أيًّا كان نوعها؛ سواء ذرية أو بيوكيميائية) ستمضي بوتيرةٍ أبطأ مقارنة بالساعة التي يستخدمها راصدٌ بعيد.

لنفترض أنك كنتَ تُسخِّر تجاربك لأداء مهامَّ متعدِّدة، وذلك باستخدام مجموعة مختلفة من ٢٦ راصدًا على بُعد المسافات نفسها من ثقبٍ أسود مختلف. يُرتَّب الراصدون بنفس طريقة ترتيب الراصدين الذين يحملون الأسماء نفسها بالقُرب من الثقب الأسود الأول. ولكن في الحالة الثانية، تبلغ كتلة الثقب الأسود ضعف كتلة الثقب الأسود في تجربتك الأولى. ويجب تغيير ضبط الساعات غير العادية التي أعددتَها سلفًا لتكون هدايا لهذه المجموعة الثانية من الراصِدِين تغييرًا جذريًّا كما غُيِّر في تجربتك الأصلية، لكنَّ المعدل الذي يجب أن يُعدَّل وفقًا له ضَبطُ كل ساعةٍ غير عادية يُساوي بالضبط ضعف معدل التعديل المطلوب للساعة المقابِلة في المجموعة الأولى من الساعات المُهداة عند المسافة نفسها بالضبط من مركز الثقب الأسود الأول الذي تبلغ كتلته نصف كتلة الثاني. وهكذا تكون تأثيرات تمدُّد الزمن هذه أكبر كلما كانت كتلة الثقب الأسود أكبر، بل وتُصبح أشدَّ كلما اقتربت من أفق الحدث.

يُشار إلى أن هذا التمدُّد الزمني ليس ناتجًا عن وجود مسافةٍ إضافية يقطعها الضوء (أي إشارة قياس الوقت) من ساعةٍ أقرب إلى الثقب الأسود، وبالتبعية أبعد عنك، باعتبار أنَّك الراصد الذي تقِف على بُعد مسافةٍ آمنة؛ إذ لا يقتصِر الأمر على مجرد وجود إزاحةٍ زمنية بالنسبة إلى راصدٍ موجود على مسافةٍ أبعد من الثقب الأسود. فكلما اقتربت ساعة من ثقب أسود، كان المعدل الذي يُقاس به تدفق الزمن على تلك الساعة أبطأ، بغضِّ النظر عن ماهية الوسائل الموثوقة التي تَستخدِمها لقياس هذا التدفُّق الزمني. إذ إنَّ الزمن نفسه يُمَط (أو يتمدَّد، في الواقع).

فما النتيجة المنطقية لتمدُّد الزمن بالقُرب من الثقب الأسود؟ هذا يجعل التأثيرات التي تحدُث في الإطار المرجعي الخاص براصدٍ قريب جدًّا من الثقب الأسود والتي يمكن قياسها مختلفةً تمامًا عن التأثيرات التي تحدُث في الإطار الرجعي لراصدٍ بعيدٍ جدًّا، فهُما عالمان مُنفصِلان في الحقيقة.

لتُفكر الآن فيما سيحدُث إذا كان الراصد «أ»، في تجربتك الأولى، مهملًا بعض الشيء وأسقَط ساعته الأولى (الساعة التي يستطيع أن يقيس بها الزمن الخاص في موقعه) بحيث تسقط نحو الثقب الأسود. وبالرغم من هذه الكارثة، بقِيَت الساعة الهدية، التي أغريتَه بها ليشارك في التجربة، آمنة لأنه ظلَّ ممسكًا بها بإحكام. ولتفترِض أنك أنت والراصد «أ» ترَيان ساعته الأولى تتحرك نحو الثقب. والساعة تجد نفسها تتحرك إلى داخل الثقب الأسود بسرعةٍ متزايِدة. ستُلاحظ أنت والراصد «أ» تدريجيًّا أنَّ الوقت الذي تقرآنه على الساعة الساقطة يُصبح أشدَّ اختلافًا من ذي قبل عن الوقت الظاهر على ساعة الراصد «أ» الأخرى (أي الساعة التي ضُبِطَت لتمضي بوتيرةٍ أسرع من الساعة المحلية ليتسنَّى لها قراءة نفس الوقت الذي يُكافئ وقتك). وبعد مرور بعض الوقت، ستبدأ أنت والراصد «أ» في ملاحظة أنَّ الزمن على الساعة الساقطة يتوقف. فالفوتونات المنبعِثة عند أُفق الحدث نحو راصدٍ بعيد يبدو أنها تبقى هناك إلى أجل غير مُحدَّد. ومن ثَمَّ، فأيُّ راصدٍ خارجي لن يعرف ما يحدُث لأي شيءٍ يسقط داخل الثقب الأسود بعدما يتجاوز حدًّا مُعينًا ويُصبح ضِمن نطاق نصف القطر الحرج لأفق الحدث. ولذا يمكن اعتبار أفق الحدث فجوةً في نسيج الزمكان. لن يخرج أي ضوء من أفق الحدث، كما رأينا في الفصل الأول. ولهذا السبب فهو أسود. ولكن في الإطار المرجعي للساعة الساقطة التي تهوي إلى الأسفل خلال أفق الحدث، لا تكون الحياة ثابتةً على حالها إطلاقًا. فمِن مَوضِع النظر الذي تُوجَد عنده الساعة، ستنتقِل إلى نقطة التفرُّد في جزءٍ من ١٠ آلاف من الثانية فقط، بافتراض أنَّ كتلة الثقب الأسود كانت تساوي كتلة شمسنا ١٠ مرات. وإذا كان حظُّ الساعة سيئًا وقادها إلى السقوط داخل ثقبٍ أسود فائق الضخامة ذي كتلة تساوي كتلة شمسنا مليار مرة (كالذي سنُصادِفه عندما ندرس أشباه النجوم في الفصل الثامن)، فإن زمن رحلتها التي تخوضها داخليًّا بين أفق الحدث الأكبر بكثير ونقطة التفرُّد سيكون بضعَ ساعاتٍ بتمهُّل أكبر.

قوى المد والجزر بالقُرب من ثقبٍ أسود

لتفترِض أنَّ الراصد «أ» يتساءل بينَه وبين نفسه في لحظة ضعفٍ عن إمكانية القفز دون تردُّد بقدمَيه نحو الثقب الأسود على أمل استعادة الساعة التي أسقطها. ماذا سيحدُث؟ سيتبيَّن أنَّ مثل هذه القفزة ستكون خطأ جسيمًا، لأنَّ نجاته ستكون مُستحيلة. فالفارق بين قوة الجاذبية التي تؤثر في قدمَيه والقوة التي تؤثر في رأسه سيُصبح هائلًا. وهذه سمة من سمات أي مجال قُوًى يخضع لقانون التربيع العكسي، مثل مجال الجاذبية المتولِّدة من جسمٍ ضخم. وصحيح أنَّ كوكب الأرض بعيد بعض الشيء عن القمر، ولكن حتى الفروق البسيطة في قوة الجاذبية التي تتعرَّض لها الأرض عند جانبَين متقابلَين بسبب القمر، والمعروفة باسم المد والجزر، تُعَدُّ من الأسباب الرئيسية في حدوث المد والجزر نحو مرتَين في اليوم. وبوجهٍ عام، تُسمَّى هذه القوى الناتجة من وجود اختلافاتٍ في الجاذبية في أماكن مختلفة قوى المد والجزر. وصحيح أنَّ تفاصيل حدوث المد والجزر غنية بعوامل إضافية مثل قوة الجاذبية الناتجة من زاوية القمر النسبية والأشكال التفصيلية للكُتَل القارية. ولكن حتى لو كان سطح الأرض كلُّه مُغطًّى بالمحيطات دون اليابِسة، لَظلَّ المد والجذر موجودًا، ولتغيَّرت سعة نطاق تفاوت مستوى سطح البحر بنحو ٢٠سم مرتَين يوميًّا، وذلك ببساطةٍ نتيجة اختلاف قوة الجاذبية التي تتعرَّض لها نقاط مختلفة على الكوكب على بُعد مسافاتٍ مختلفة من الشمس.

دعنا الآن نفكر في المسافة الأقصر بيني وبين مركز الأرض. فبينما أكتب هذا الفصل قاعدًا، يقع رأسي في مستوًى أعلى بأكثر من مترٍ كامل من مستوى قدميَّ المرتكزتَين على أرضية غرفة مكتبي. وبذلك فإنَّ قدميَّ أقرب إلى مركز الأرض من رأسي. ولأن قوة الجاذبية تتبع سلوكًا خاضعًا لقانون التربيع العكسي ويكأنَّ كتلة الأرض كلها موجودة في مركز الأرض، ولأنَّ قدميَّ تقع على بُعد مسافةٍ أقصر من هذا المركز، فإنهما تشعران بأنهما مشدودتان نحو مركز الأرض بقوةٍ، أو جذب، أشدَّ من القوة التي يشعر بها رأسي. لكنَّ الفارق الفعلي ضئيل بعض الشيء؛ فلأنَّ فرق الارتفاع يبلُغ مترًا واحدًا، يكون الفرق في قوة الجاذبية ثلاثة أجزاء في ١٠ ملايين. وهذا فرق طفيف جدًّا لأنني بعيد عن مركز الأرض بنحو ٦٤٠٠ كيلومتر. أمَّا عندما يكون الجسم الجاذب أقرب إلى أن يكون كتلة نقطية، كالثقب الأسود، فإنَّ الاختلاف في قوة الجاذبية عند نقطتَين مفصولتَين بمترٍ واحد فقط في الاتجاه نحو الثقب الأسود سيكون أشدَّ بكثيرٍ جدًّا. شديد جدًّا لدرجة أنَّ قدمَي الراصد «أ»، عندما يكون قريبًا من نقطة التفرُّد، ستتعرَّضان لشدٍّ يمطهما بعيدًا عن ركبتَيه وبقية جسده إلى حدٍّ يتجاوز قدرة أوتاره وعضلاته على أن تبقى مُلتحِمة، وسيتعرَّض لإطالةٍ تجعله أشبَهَ بإحدى شعيرات المعكرونة. من الأفضل ألَّا تقفِز.

نسيج الزمكان الحركي

fig13
شكل ٤-١: يستطيع الغاز أن يدور في مدارٍ أقرب إلى ثقبِ أسود دوَّار من قُربه إلى ثقبٍ أسود غير دوار.
يُحدث دوران الثقب الأسود فرقًا مهمًّا فيما يتعلق بمدى قرب المادة التي تدور حوله، وهذا مرتبط بكمية الطاقة التي يمكن استخلاصُها منه. وبناءً على أبحاث روي كير وحلِّه لمعادلات المجال التي وضعَها أينشتاين، نعلم أن أصغر مدارٍ يمكن أن يدور فيه جُسَيم حول ثقبٍ أسود دون السقوط داخله يعتمِد على مدى سرعة دوران الثقب. فكلَّما كان الثقب الأسود يدور بوتيرةٍ أسرع، تستطيع المادة أن تكون أقرب إليه دون أن يبتلِعها، كما هو مُوضَّح في شكل ٤-١. فإذا أسقطتَ شيئًا إلى الأسفل مباشرة نحو ثقبٍ أسود دوَّار، فإنه سيبدأ الدوران في مدارٍ حول الثقب بالرغم من عدم وجود شيءٍ خارج الثقب سوى منطقةٍ فارغة من نسيج الزمكان. صحيح أنَّ التغلُّب على هذا التباطؤ للإطار المرجعي ممكنٌ خارج منطقة الإرجوسفير باستخدام الصواريخ، لكن ذلك مُستحيل داخلَها. ففي داخل منطقة الإرجوسفير الخاصة بثقبٍ أسود دوَّار، خارج أفق الحدث المحيط به مباشرة، لا شيء يمكن أن يبقى ساكنًا. إذ إنَّ الثقب الدوار يسحَب نسيج الزمكان، ومحتوياته بالتبعية، معه بالفعل أثناء دورانه. ومن السمات الأخرى لتباطؤ الإطار المرجعي بهذه الطريقة أنَّ الضوء نفسه، حتى لو كان ينتقِل عكس الاتجاه الذي يدور فيه الثقب الأسود، سيُحمَل في الاتجاه المعاكس حول الثقب.

الدوران حول ثقبٍ أسود

من المُثير للاهتمام أن نفكر في تسلسُل الأحداث المُحتمل إذا تحوَّلَت شمسنا تلقائيًّا إلى ثقبٍ أسود الآن. أول ما يمكن أن تعرفه أنت أو أنا سيكون بعد ثماني دقائق؛ فضوء الشمس الربيعي الجميل الذي أكتبُ مُستعينًا به سيتوقَّف فجأة. ومع أنَّ شدة إضاءة النجم المفرد الذي نُسمِّيه شمسنا ضئيلة جدًّا مقارنة بشدة إضاءة أشباه النجوم وأشباه النجوم الميكروية التي سنُناقِشها في الفصل الثامن، فإنه قريب من الأرض بما يكفي ليُمِدَّ كوكبنا بنحو كيلووات لكل مترٍ مُربَّع من الطاقة في المتوسط. ومن اللافت أنَّ ذلك كان كافيًا حتى الآن للحفاظ على استدامة كل أشكال الحياة على الكوكب، إذ يُمكِّن النباتات من النمو، ثم تأكُلها الحيوانات التي تأكلها حيوانات أخرى بعدئذٍ. دائمًا ما كانت الشمس هي المُحرِّك الرئيس وراء كل ذلك. ولكن إذا توقَّف الاندماج في الشمس وآل مصيرها (على عكس كل التوقُّعات) إلى الانهيار مكونةً ثقبًا أسود، فعندئذٍ ستُصبِح معتمةً جدًّا وسنموت كلنا في النهاية. (هذه رؤية مُستقبلية كئيبة بعض الشيء، لكني أحثُّ القارئ على أن يصبر عليها حتى الفصل السابع، حيث نتعلم أنَّ الشمس ليست من نوعية النجوم التي يُمكن أن تكوِّن ثقبًا أسود؛ لأن وزنها أخف من اللازم لهذا.) ولكن على المستوى الديناميكي، لا شيء سيتغير إطلاقًا فيما يتعلق بكوكب الأرض والمجموعة الشمسية بكواكبها والكواكب القزمة والكويكبات ككل. فكل الأجسام الضخمة المستقرة في مدارات حول الشمس ستظل في المدارات نفسها بدرجةٍ كبيرة جدًّا. فاستنادًا إلى طبيعة الجاذبية، ستظل قوى الجذب الناشئة عن الجاذبية خارج الشمس كما هي دون تغيير، سواءٌ أبَقِيَت مساحة نطاقها كما هي الآن، أم انهارت إلى نقطة تفرُّد ضِمن أفق حدثٍ يبلغ نطاقه ثلاثة كيلومترات. وكذلك فإن انهيار جسم كروي من كل جوانبه بالمعدل نفسه، بسبب تأثير الجاذبية، إلى ثقب أسود لن يُغير إطلاقًا في الزخم الزاوي للأجسام التي تدور حوله في مدارات، ولذا فالأنماط والتنبُّؤات المستقبلية القائمة على البروج الفلكية وظواهر المد والجزر في المجموعة الشمسية ستبقى على حالها دون أي تغيير إذا غاب ضوء الشمس.

ولكن من المُحتمَل أن تنشأ مدارات جديدة، وستكون أقربَ بكثيرٍ إلى الشمس المتحوِّلة إلى ثقبٍ أسود ممَّا كان ممكنًا في السابق عندما كانت البلازما الشمسية حائلًا يمنع اقترابها. ورغم ذلك، لا يُمكن أن تكون هذه المدارات قريبةً جدًّا من أفق الحدث. فتفاصيلُ تُشوِّه نسيج الزمكان بفعلِ نقطة تفرُّدٍ ذات كتلة تَعني أنه من المستحيل أن يدور شيء في مدارٍ خارج أفق الحدث نفسه مباشرة. إذ إنَّ محاولة إنشاء مدار دائري هناك تستلزِم تدخُّلًا تصحيحيًّا باستخدام الصواريخ من أجل الحفاظ على المدار. وفي الحقيقة، تُظهِر الرياضيات أنَّ أقرب مسافة يُمكن أن نُصبح موجودين عندها، نحن أو أي جُسَيم ذي كتلة، في مدار دائري مستقر بالقرب من ثقب أسود ثابت ستساوي نصف قطر شفارتزشيلد ثلاث مرات. ها قد تلقيتَ تحذيرًا.

وفي الواقع، من الممكن أن تُوجَد مدارات دائرية غير مُستقرة حتى مسافةٍ تصِل إلى نصف هذه المسافة من ثقبٍ أسود (غير دوَّار) من نوعية ثقوب شفارتزشيلد. وتُحدِّد هذه المسافة سطحًا كرويًّا يُسمَّى أحيانًا كرة فوتونية. ولكن حتى إذا كان الجسم الدائر فوتونًا، تكون هذه المدارات غير مُستقرة، وسرعان ما سينزلِق الفوتون الذي يدور فيها نحو الثقب الأسود، ولا يعود أبدًا، أو ينجرف بعيدًا في الفضاء أصلًا.

ولكن إذا كان الثقب الأسود من نوعية ثقوب «كير»، أي له زخَم زاوي، يختلف وضع المدارات القريبة من الثقب الأسود. وعلى وجه التحديد، ستُوجَد عندئذٍ كُرتان فوتونِيَّتان، وليست واحدة كما يُوجَد حول ثقوب شفارتزشيلد الثابتة. الكرة الخارجية للفوتونات التي تدور عكس اتجاه دوران الثقب الأسود (تلك التي نقول إنها في مدارات عكسية). فيما تُوجَد داخلها الكرة الفوتونية الثانية للفوتونات التي تدور حول الثقب الأسود في نفس اتجاه دورانه (في مدارات مباشرة؛ أي مُتجِهة من الشرق إلى الغرب). وفي حالة الثقب الأسود الذي يدور ببطءٍ شديد إلى حدِّ أنه لا يختلف كثيرًا عن ثقب شفارتزشيلد الثابت، تكون هاتان الكرتان الفوتونيتان شبه منطبقتين بعضهما على بعض في المكان نفسه. أمَّا في حالة الثقوب السوداء ذات الزخم الزاوي المتزايد، فيكون هذان السطحان مُتباعِدين بعضهما عن بعض بمسافة متزايدة.

وعند مسافةٍ أقرب من الثقوب السوداء الدوَّارة، يُوجَد سطح مُهم آخر يُسمَّى الحد الاستاتيكي (نوقش في الفصل الثالث). هذا هو السطح الذي لا يمكن عنده أن يبقى شيء ساكنًا بالنسبة إلى راصدٍ بعيد؛ فمن المستحيل أن تظلَّ ثابتًا عند هذا القُرب من ثقبٍ أسود دوَّار، بغضِّ النظر عن مدى قوة الصواريخ التي قد تكون مجهزًا بها. فعند هذا السطح، تُسحَب كل أشعة الضوء، حتى التي تدور في مداراتٍ عكسية، في اتجاه الدوَران. صحيح أنَّ إمكانية الهروب من الثقب الأسود الدوار تظلُّ قائمة عند هذا القُرب، إذا توفَّر دفعٌ كافٍ، ولكن لا يمكن لأي شيءٍ أن يظلَّ ثابتًا بلا دوَران هنا. وعند مسافة أشدَّ قُربًا من الثقوب السوداء، يقع السطح المهم التالي، وهو أُفق الحدث الذي صادفناه في الفصل الأول، أي الغشاء الأحادي الجانب الذي صادفناه أصلًا في سياق الحديث عن ثقوب شفارتزشيلد السوداء. وهكذا فالخروج من كل هذا مُستحيل ودخوله له مصير حتمي، تمامًا كما ينطبق على الثقوب السوداء الساكنة.

عادة ما تكون المدارات حول ثقوب كير السوداء غير محصورة ضِمن مستوًى واحد. والمدارات الوحيدة المحصورة ضِمن مستوًى واحدٍ هي تلك الموجودة في المستوى الذي يشمل خط الاستواء (أي مستوى التناظُر المرآتي للثُّقب الأسود الدوار). أمَّا المدارات الموجودة خارج هذا المستوى الاستوائي، فتتحرَّك في ثلاثة أبعاد. وتكون هذه المدارات محصورةً ضِمن حجمٍ مُعيَّن محدود بنصف قُطر أقصى ونصف قطر أدنى وبزاوية قصوى بعيدًا عن المستوى الاستوائي.

وهكذا فإنَّ تفاصيل الزخم الزاوي للثقوب السوداء لها تأثير شديد في مدى القُرب الذي قد تبلُغه الجسيمات من الثقب الأسود، الذي يعتمِد هو نفسه على اتجاه حركتها بالنسبة إلى الزخم الزاوي. فإذا كان الثقب الأسود يدور بأقصى زخمٍ زاويٍّ ممكن، يكون نصف قُطر الكرة الفوتونية الخاصة بأشعة الضوء التي تدور في نفس اتجاه دوران الثقب الأسود (أي الاتجاه المباشر) مُساويًا لنصف القيمة التي كان نصف قُطر شفارتزشيلد سيُساويها لو كان الثقب الأسود ساكنًا. أمَّا أشعة الضوء التي تتحرك في مداراتٍ عكسية، فإنَّ نصف قطر كرتها الفوتونية يُساوي ضعف نصف قُطر شفارتزشيلد. وأمَّا الجسيمات التي لها كتلة وتتحرَّك في مداراتٍ مباشرة الاتجاه، فيكون نصف قُطر أقرب مدار دائري مُستقر إلى المركز يُمكن أن تتحرك فيه مُساويًا لنصف قِيمة نصف قطر شفارتزشيلد أيضًا. وأمَّا تلك التي تدور في مداراتٍ عكسية، فستكون مداراتها غير مُستقرَّة إذا وقعت على بُعد مسافة قريبة كهذه؛ إذ إنَّ نصف قُطر أقرب مدار دائري مُستقر إلى المركز يُمكن أن تدور فيه مساوٍ لقيمة نصف قُطر شفارتزشيلد أربع مرات ونصف. وبذلك فالثقب الأسود الدوار يُمكِّن الجسيمات التي تدور في مدارات مباشرة الاتجاه من الدوران على مسافةٍ أقرب دون أن تصِل إلى نقطة اللاعودة عند أُفق الحدث. وفي الفصل السابع، نُركز على أهمية مدى القُرب الذي يُمكن أن تصِل إليه المادة في دوَرانها حول الثقب الأسود قبل أن تسقُط داخله، ومقدار الطاقة الذي قد يُستفاد منها نتيجةً لذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤