الفصل التاسع

تصنيع فولر لليوريا وبداية عصر الكيمياء العضوية

ربما يكون فيتامين ب١٢ هو أعقد المواد الطبيعية التي صُنِّعت في المعمل (انظر شكل ٩-١). ففي عام ١٩٧٢، أعلن كلٌّ من روبرت بي وودورد وألبرت أشِنموسر عن تصنيعه، وكان هذا نتاج عمل مشترك في هارفرد وزيورخ شارك فيه ١٠٠ كيميائي من ١٩ دولة لمدة ١١ عامًا. ومع أن تجربة التصنيع هذه لن تكون أبدًا مصدرًا فعليًّا للحصول على الفيتامين، فهي علامة بارزة في مجال التصنيع العضوي؛ لأن تفاعلات وتقنيات ونظريات جديدة قد تمَّ تطويرها أثناء هذا العمل.
fig12
شكل ٩-١: الصيغة الجزيئية لفيتامين ب١٢.
كانت اليوريا، وهي أولُ مادة طبيعية تُصنَّع في المعمل، أبسطَ بكثير من هذا الفيتامين (انظر شكل ٩-٢)، وقد صنَّعها فريدريك فولر في معمله في برلين بصورة غير متعمَّدة في عام ١٨٢٨.
fig13
شكل ٩-٢: الصيغة الجزيئية لليوريا.

اكتُشِفت اليوريا في عام ١٨٢٨ كمركب عضوي أساسي. عرَّف الكيميائي السويدي المعروف يونز ياكوب برسيليوس مصطلحَ «حيوي» في عام ١٨٠٧ تقريبًا، وهو يُطلِقه على أية مادة ينتجها كائن حي، سواء أكان نباتًا أم حيوانًا، في مقابل المواد التي من مصادر معدنية غير حية والتي تُوصَف بأنها غير عضوية. وُضِعت كل المركبات الكيميائية المعروفة ضمن هاتين الفئتين في أوائل القرن التاسع عشر. وكانت المواد غير الفلزية، مثل العناصر المعدنية (الفلزات) الشائعة ومركباتها الموجودة في المعادن، أبسطَ بكثير من المواد العضوية مثل السكر والنشا والدهن الحيواني، وكان يُعتقَد أن المواد العضوية ذاتُ «قوة حيوية» يمكن أن تنتقل من نباتٍ أو حيوانٍ إلى آخَر. وتضمَّنت نظرية الحَيويَّة افتراض أنه في حين يمكن تصنيع المواد غير العضوية في المعمل، فإن هذا لا يمكن أن ينطبق على المواد العضوية؛ فعلى الأقل لا يمكن تصنيعها من مواد غير عضوية.

كانت اليوريا معروفة كمادة عضوية أساسية في عام ١٨٢٨. وفي واقع الأمر، كان فولر نفسه مهتمًّا بوجودها في البول، وأجرى تجارب على إنتاجها من قِبَل الكلاب وحتى نفسه، بينما كان يدرس الطب في جامعة هايدلبِرج.

وُلِد فريدريش فولر في عام ١٨٠٠ في قرية إشرسهايم بالقرب من فرانكفورت بألمانيا. والْتحق بالمدرسة الثانوية في فرانكفورت، لكنه لم يكن مميَّزًا كطالب؛ إذ كان يقضي كثيرًا من وقته في إجراء التجارب الكيميائية ولم يكن يخصص وقتًا كافيًا لاستذكار دروسه حسبما اعترف لاحقًا. ومن الواضح أنه كان مصدر إزعاج لأمه، حيث إنه حوَّل غرفته في المنزل إلى معمل، واستخدم الفرن الموجود في المطبخ، الذي كان يعمل بالفحم، لتسخين المعادن والمواد الكيميائية الأخرى التي كان يستخدمها.

بعد تخرُّجِ فولر في المدرسة الثانوية دخل جامعة ماربورج، وكان يسبِّب إزعاجًا لمالِك العقار هناك، تمامًا حسبما كان يفعل في منزله ولنفس السبب؛ إذ كان يُجري تجارب كثيرة في الحي السكني الذي كان يقطن فيه. وبعد قضاء عام واحد في جامعة ماربورج، انتقل إلى جامعة هايدلبِرج حيث تأثَّرَ بأحد الكيميائيين الألمان البارزين في تلك الفترة، ويُدعَى ليوبولد جِميلين. ومع أنه تخرج في هايدلبِرج طبيبًا، فقد نصحه جِميلين — الذي كان أيضًا طبيبًا ذات يومٍ — بأن يتخلَّى عن ممارسة الطب ويهب نفسه للكيمياء.

fig14
شكل ٩-٣: فريدريش فولر (١٨٠٠–١٨٨٢). تمثال نصفي من الجصِّ لفولر وهو في سن الثامنة والستين من عمره، وهو من عمل النحَّاتة الألمانية إليزابيت ناي، ويوجد التمثال في متحف إليزابيت ناي في أوستن بولاية تكساس. التمثال الأصلي المصنوع من الرخام، بالإضافة إلى تمثالٍ آخَر ليوستوس فون ليبيج من عمل النحَّاتة نفسها، كانا موضوعَيْن على جانبَيْ مدخل قسم الكيمياء بجامعة التكنولوجيا في ميونخ بألمانيا. وقد دُمِّر التمثالان والجامعة بقذيفة أثناء الحرب العالمية الثانية.

بمباركة جِميلين، ذهب فولر إلى ستوكهولم للدراسة والعمل مع برسيليوس، فقضى هناك عامًا واحدًا فقط، لكنه كوَّنَ هو وبرسيليوس صداقةً استمرت مدى الحياة. وعاد مرةً أخرى إلى هايدلبِرج لفترة قصيرة، ثم قَبِلَ منصبًا تدريسيًّا بأحد المعاهد الفنية في برلين. ومع أن هذه الوظيفة لم تكن وظيفة جامعية كبيرة، بل كانت تشبه في حقيقة الأمر وظيفةَ تدريسٍ بإحدى المدارس الليلية في تلك المدينة الكبيرة، فقد كان لديه معمل خاص به واستفاد منه جيدًا. وكان فولر هو أول مَن أنتج الألومنيوم في حالته الفلزية الحرَّة في عام ١٨٢٧، لكن لم تكن الطريقة التي استخدمها عملية، ولم يكن في الإمكان إنتاج الألومنيوم صناعيًّا إلا عندما اكتشف طالب أمريكي في كلية أوبرلين بأوهايو طريقةً تعتمد على التحليل الكهربائي بعدها بستين عامًا تقريبًا (انظر التعقيب الوارد في نهاية هذا الفصل).

في هذا المعمل بمدينة برلين، في عام ١٨٢٨، أجرى فولر التجربة التي كانَتْ سببَ شهرته في تاريخ الكيمياء العضوية. فقد سعى إلى تحضير سيانات الأمونيوم، الذي كان يُعتقَد أنَّ له الصيغة الجزيئية الموضَّحة في شكل ٩-٤، من سيانات البوتاسيوم وسلفات الأمونيوم، وهما من الأملاح غير العضوية الأساسية. وبعد تسخين الملحين معًا، بخَّر المحلول الذي يحتوي على ما توقَّع أنه سيانات الأمونيوم، لكنه حصل على بلورات بيضاء بَدَتْ مثل اليوريا التي طالما كان يحصل عليها من البول المأخوذ من الكلاب والإنسان. وسرعان ما أثبت أنها يوريا، ووصف النتيجة غير المتوقَّعَة بأنها «حقيقة مدهشة؛ لأنها تقدم مثالًا على الإنتاج الصناعي لمادة عضوية، أو حيوانية كما زعم، من مواد غير عضوية.»

يوجد جانب آخَر لتلك النتيجة المدهشة كان مهمًّا بالنسبة إلى فولر، وأيضًا بالنسبة إلى برسيليوس الذي سرعان ما عَلِمَ باكتشاف فولر. كانت سيانات الأمونيوم واليوريا المنتَجَة منها من «الأيزومِرات» (التي يعني الأصل اللاتيني لها «أجزاء متساوية»)؛ وهو مصطلح ابتكره برسيليوس لوصف المركبات المكوَّنة من نفس العناصر وبنفس النِّسَب. تحتوي كلٌّ من سيانات الأمونيوم واليوريا على ذرة كربون وذرة أكسجين وذرتَيْ نيتروجين وأربع ذرات هيدروجين. يبدو أن فولر وبرسيليوس ركَّزَا على هذا الجانب من عملية التصنيع أكثر من تركيزهما على التأثير الذي من الممكن أن يحدثه ذلك على نظرية الحَيويَّة.

fig15
شكل ٩-٤: الصيغة الجزيئية لسيانات الأمونيوم.

مع ذلك، كان اكتشاف فولر العَرَضي بدايةَ النهاية بالنسبة إلى نظرية الحَيويَّة التي كانت تعرقل تطوُّرَ كيمياء مركبات الكربون. في البداية، أشار كيميائيو هذه الفترة إلى أنه على الرغم من أن سيانات البوتاسيوم وسلفات الأمونيوم عادةً ما كانا يُنظَر إليهما باعتبارهما مادتين غير عضويتين، فإن هاتين المادتين اللتين استخدمهما فولر كان يتم إعدادهما من مواد عضوية مثل القرون والدم وليس من العناصر المكوِّنة لهما؛ وبالتالي لم يكن ممكنًا الخلوص إلى أن عملية التصنيع المعملي التي أجراها فولر يمكن أن تلغي نظرية الحَيويَّة. ولم يُسلِّم هؤلاء بسقوط تلك النظرية نهائيًّا إلا في عام ١٨٤٥، عندما حضَّرَ هيرمان كولبا حمضَ الخليك من العناصر المكوِّنة له (وهي الكربون والهيدروجين والأكسجين). وأصبح تعريف الكيمياء العضوية «كيمياء مركبات الكربون» (وهو التعريف المُستعمَل حاليًّا)، سواءٌ أكانت تلك المركبات قد تم الحصول عليها من مصادر طبيعية أم من عمليات تصنيع معملية.

كان من المفترض أن يَهَبَ فولر نفسَه للكيمياء العضوية بقية حياته العملية، لكنه لم يفعل؛ فاهتمامه المبكر بالمعادن استمرَّ، وكان أغلب عمله اللاحق يختص بمجال الكيمياء غير العضوية. وبعد أن ترك برلين في عام ١٨٣١، عمل لفترة قصيرة في كاسيل في معهد فني آخر، ثم حقَّق هدفه أخيرًا في عام ١٨٣٦ بالعمل أستاذًا في جامعةٍ ألمانية كبرى وهي جوتينجن. وفيها قدَّم بعضًا من أفضل أبحاثه التي نفَّذَها بالتعاون مع صديقه يوستوس فون ليبيخ، والذي كان وقتها أستاذًا في نفس الجامعة.

بسبب ارتقائه بقسم الكيمياء في جامعة جوتينجن، جذب فولر إلى الجامعة الكيميائيين من جميع أنحاء العالم، وبقي في الجامعة يدرِّس للكيميائيين ويدرِّبهم على إجراء الأبحاث ويؤلِّف مراجع علمية ويحرِّر مجلات البحث الكيميائي، حتى وافته المنية في عام ١٨٨٢.

درَّبَ فولر حوالي ٨ آلاف طالب في جامعة جوتينجن، من بينهم رودولف فيتي، الذي أصبح فيما بعد أستاذًا في جامعة تيوبنجن، وكان من بين من تتلمذوا على يديه إيرا ريمسن من الولايات المتحدة الأمريكية. وعندما عاد ريمسن إلى الولايات المتحدة بعد دراسته في تيوبنجن طوَّر قسم الكيمياء بجامعة جونز هوبكينز حتى وصل به إلى المستوى المتميز لأقسام الكيمياء بالجامعات الأوروبية، وأصبح أحد المنابر المهمة لتدريب الأجيال المستقبلية من الكيميائيين في الولايات المتحدة الأمريكية. (في معمل ريمسن بجامعة جونز هوبكينز، اكتُشِف مصادفةً بديل السكر المعروف بالسكارين، وذلك كما سنوضِّح في الفصل الثاني والعشرين.)

على الرغم من الاكتشافات العديدة التي تُنسَب إلى فولر، فإن التصنيع المعملي غير المتوقَّع لمركب اليوريا البسيط الذي أجراه فولر من خلال تسخين سيانات الأمونيوم عندما كان في السابعة والعشرين من عمره يعد أهم إنجازاته على الإطلاق. وكل المراجع العلمية تقريبًا في مجال الكيمياء العضوية تذكر هذا الاكتشاف؛ فقد كتب هذا التصنيع المعملي لمركب عضوي من آخَر غير عضوي نهاية نظرية الحَيويَّة، وسجَّل بداية الكيمياء العضوية على أساسٍ عقليٍّ.

تعقيب

كان من بين جَمْع الكيميائيين الحاشِد الذين ذهبوا إلى جامعة جوتينجن من جميع أنحاء العالم من أجل التتلمذِ على يد فولر، فرانك إف جويت، الذي عاد إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليُدرِّس في كلية أوبرلين بأوهايو. وفي الثمانينيات من القرن التاسع عشر، كان جويت كثيرًا ما يَلفت نظر طلابه إلى الحقيقة المؤسِفة بأنه على الرغم من أن الألومنيوم هو المعدن الأكثر وفرةً على الإطلاق، فلم يستطع أحدٌ استخراجه من خامه المعقَّد باستخدام إجراء عملي. وقال لهم إن أستاذه الألماني فولر كان أول مَن حضَّر هذا المعدن، لكنَّ الإجراء الذي استخدمه في ذلك كان معقَّدًا ومكلِّفًا جدًّا لدرجةٍ جعلت المعدن غير مستغَلٍّ لمدةٍ تزيد عن ٥٠ عامًا.

كان من بين تلاميذ جويت في كلية أوبرلين تشارلز مارتن هول. وكان هول مهتمًّا جدًّا بهذا التحدِّي الذي تمثله مشكلة الألومنيوم حتى إنه قرَّرَ إيجاد طريقة سهلة للحصول على المعدن من خاماته، وكان هذا مشروعه في سنته الأخيرة في الكلية، وأصبح مقتنعًا بأن الطريقة المثلى لتحضير الألومنيوم من خاماته تتمثل في استخدام الكهرباء، فصنع بطارية منزلية وفرنًا في السقيفة الخشبية التي توجد خلف منزل عائلته، وصهر مادة معدنية تُسمَّى الكريوليت في الفرن وأضاف خام الألومنيوم الموجود بوفرة، وهو البوكسيت، الذي وجدَ أنه يذوب في الكريوليت المنصهر، ثم مرَّرَ تيارًا كهربائيًّا عبر الخليط، وقد غمرته السعادة عندما رأى كريَّات فضية من الألومنيوم تتراكم حول القطب السالب لجهازه. وبمجرد أن بردت الكريَّات اللامعة للمعدن إلى حدٍّ كافٍ بحيث يمكنه حملها في يدَيْه، انطلق مسرعًا لإطلاع أستاذه جويت عليها في زهوٍ شديد. حدثت هذه الواقعة في ٢٣ فبراير من عام ١٨٨٦، بعد ٥٩ عامًا من إنتاج فولر للألومنيوم لأول مرة، وكان الشاب الذي وضع الإجراء العملي لإنتاج الألومنيوم تلميذًا لأحد تلامذة فولر!

بعد ذلك ببضعة أَشْهُرٍ، توصَّل شاب فرنسي يُدعَى بي إل تي هيرولت إلى نفس الإجراء، لكن في ذلك الوقت كان هول قد تقدَّمَ بطلبٍ للحصول على براءة اختراع لإجرائه، وقد أُعطيت الأولوية لطلبه. تأسست شركة الألومنيوم الأمريكية اعتمادًا على تجربة هول المبدئية هذه، حيث استخدمت الشركة نفس الإجراء المعتمِد على التحليل الكهربائي الخاص به؛ فأصبح هول غنيًّا، وعند وفاته أوصى بجزء كبير من تركته لمدرسته الأم؛ كلية أوبرلين. وربما يرى أي شخص يزور حرم الكلية الآن قاعة محاضرات رائعة مُهدَاة من هُول إلى أمه، وتمثالًا لهُول في مبنى قسم الكيمياء (والذي وُضِع هناك الآن لحمايته من مزاح الطلاب الذين وضعوه قبل ذلك في أماكن غير ملائمة حول الحرم)، فضلًا عن منزل عائلة هول، الذي يُعَدُّ جزءًا من الحرم. وقد صُنِع التمثال واللوحة التذكارية الموجودة في منزل هول من هذا المعدن على نحو يليق به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤