المقدمة

حتى عهدٍ قريب لا يتجاوز مئاتٍ قليلة من السنوات، كان مصطلح «فلسفة الفيزياء» سيُعَد تحصيلَ حاصل. حينئذٍ، كانت الفيزياء هي فلسفة الطبيعة، وتمثَّلت مهمةُ فيلسوف الطبيعة في فَهْم العالَم الطبيعي. فنحن نجد أنَّ كتابات أرسطو على سبيل المثال، تتضمَّن من الرياضيات والعلوم بقَدْر ما تتضمن من علم الأخلاق وعلم الجمال، وقد وصف نيوتن عمله بأنه فلسفة، وقارنه بفلسفاتِ منافسيه. إنَّ الفيزياء لم تبدأ في إرساء قواعدها باعتبارها علمًا قائمًا بذاته والانفصال عن الفلسفة انفصالًا جليًّا إلا في وقتٍ حديث نسبيًّا.

ليست الفيزياء بأولِ العلوم التي تنفصل عن الفلسفة ولا آخرها. كثيرًا ما يقال إن الفلسفة لا تحرِز تقدمًا، لكن نشأة العلوم المستقلة هي، إلى حدٍّ كبير، ما يمثِّل تقدُّم الفلسفة. نشأة الرياضيات في العصور القديمة، والفيزياء في عصر النهضة، والأحياء بعد داروين، والمنطق في أوائل القرن العشرين، وعلوم الكمبيوتر في أواسط القرن العشرين، والعلوم الإدراكية مؤخرًا؛ أدَّى كلٌّ من هذه الحالات إلى إحراز تقدُّمٍ كبير، وحل العديد من المسائل الجدلية، واتضاح العديد من الأمور الغامضة؛ مما أدَّى إلى تشكيل علمٍ قائم بذاته وقادر على إحراز تقدُّم أكبر. يعرِّف الفيلسوف دانييل دينيت الفلسفةَ بأنها ما نفعله عندما لا نعرف الأسئلة التي ينبغي طَرْحها؛ وعندما نفهم ما يكفي لأن نتمكَّن من طرح الأسئلة، والبدء في الإجابة عنها، يتمخَّض علمٌ جديد من رحم الفلسفة.

في المجالات التي شهِدت حدوثَ هذا مؤخرًا — العلوم الإدراكية أو المنطق على سبيل المثال — لم تزل العلوم والفلسفة تخصُّصات متشابكة. غير أنَّ الفيزياء كان لديها قرونٌ ثلاثة لتكتسب استقلالها، والآن قد تحقَّق استقلالها عن الفلسفة بشكلٍ كلي تقريبًا؛ فقليل من علماء الفيزياء الذين يحظَون بالتدريب المهني هم مَن يتعلمون قدرًا كبيرًا من الفلسفة، وقليلٌ من الفلاسفة هم مَن يعرفون ما هو أكثر من أساسيات الفيزياء. فكيف يتبقى إذن فلسفةٌ للفيزياء؟

السبب الأوضح والأبسط هو أنه على الرغم من أنَّ الأسس المفاهيمية للفيزياء صارت أكثرَ وضوحًا بكثير مما كانت عليه قبل عصر نيوتن، فلا يزال هناك الكثير مما لا نفهمه. فليست الفيزياء حساباتٍ غير مبرَّرة، بل إن عالِم الفيزياء الحصيف يكون على درايةٍ بالمفارقات والأسئلة المفاهيمية التي تظهر في عمله. الحق أنَّ الحسابات الجيدة نادرًا ما تكون غير مبرَّرة؛ إذ لا يوجد حدٌّ فاصل بين الجوانب الواقعية والتنبُّئِية في الفيزياء وبين أسسِها المفاهيمية. تلك هي المهمة الأولى لفيلسوف الفيزياء؛ فقَدْر كبير من فلسفة الفيزياء لا ينفصل عن هذا الجانب من الفيزياء نفسها، وربما يساعد الوضوحُ الفلسفي على إحراز تقدُّمٍ في الفيزياء.

السبب الثاني هو أن مناهج العلوم والتوجُّهات التي ينبغي أن يتَّخذها العلماء والفلاسفة والناس بوجهٍ عامٍّ بشأن هذه المناهج، من الأمور المهمة، ولا يمكن فَهْم هذه ولا تلك في حالة الجهل بالتفاصيل. ففي أفضلِ الحالات، تتكوَّن لدينا نظرةٌ قاصرةٌ عن المنهج العلمي، وعن التوجُّه الذي ينبغي أن نتخذَه تجاه النظريات العلمية إذا اكتفينا بدراستها دراسةً مجردَّة؛ ومن ثَم تتمثَّل إحدى المسئوليات المهمَّة لفيلسوف الفيزياء في فحص النتائج والعمليات الفيزيائية، ومعرفة الدروس التي تُعلِّمنا إياها هذه العمليات بشأن العلوم بوجهٍ عام. نؤكِّد مجددًا أنَّ هذه المهمة ليسَت لغير المتمرِّسين في الفيزياء وغير المتحمِّسين لها؛ ذلك أنَّ فَهْم المنهج العلمي مهمٌّ لإنتاج علومٍ تتسم بمستوًى عالٍ من الجودة، وتزيد درجة هذه الأهمية أكثرَ وأكثرَ في علوم الفيزياء الحديثة.

المهمة الثالثة لفيلسوف الفيزياء هي أيضًا متصلة بعلم الفيزياء لكن بمعنًى مختلف؛ وهي التوصُّل إلى الفَهْم الأمثل لطبيعة العالَم، بناءً على النظريات الفيزيائية التي نستخدمها لوصفه. في العصور القديمة، كان فَهْم الطبيعة العميقة للعالَم منوطًا بالميتافيزيقا، أما في العصور الحديثة، فقد صار هذا الفَهْم يعتمد بشكلٍ أساسيٍّ على أفضل النظريات الفيزيائية، غير أنَّ هذه النظريات لا تُفصح من تلقاء نفسها عمَّا تنطوي عليه من دلالاتٍ ومعانٍ. ومن هذا المنطلق، فإنَّ فلسفة الفيزياء هي الجسرُ بين الميتافيزيقي والفيزيائي، أو يمكن القول إن فلسفة الفيزياء تعلِّمنا كيفيةَ التوصُّل إلى إنتاجٍ ميتافيزيقي يستند إلى المعرفة العلمية.

ومن الأفكار التي ستُكرَّر بكثرة في هذا الكتاب أنَّ فلسفة الفيزياء علمٌ متداخل التخصصات؛ فهي تقف بين الفيزياء البحتة والفلسفةِ السائدة والفلسفة العامة للعلوم، وهي تصل الأفكارَ والرؤى بين هذه التخصصات. يعمل بعضُ فلاسفة الفيزياء في أقسام الفلسفة ويحملون المسمَّى الوظيفي «فيلسوف فيزياء» أو «فيلسوف علوم»، ولكن الغالبية منهم فيزيائيون في الحقيقة. (يُعَد أينشتاين — دون شكٍّ — هو فيلسوف الفيزياء الرائد في القرن العشرين). وهذا الكتاب يتناول فلسفةَ الفيزياء باعتبارها تخصصًا علميًّا، لا باعتبارها مؤسسةً داخل الأوساط الأكاديمية في القرن الحادي والعشرين.

ومن الأفكار الأساسية الأخرى أنَّ التفاصيل مهمةٌ للغاية. فنادرًا ما تهتم فلسفة الفيزياء بعلم الفيزياء ككل، بل تهتم بموضوعاتٍ محدَّدة في علم الفيزياء. ففي كل مجال معيَّن في الفيزياء، يمكننا أن ننظر إلى الأسئلة المفاهيمية — أو الفلسفية — التي يطرحها ذلك المجال والمعضِلات التي تظهر في كلٍّ من المجالات الفرعية، باعتبارها موضوعاتٍ متمايزة، حتى وإن لم يوجد حدٌّ فاصل بينها كما قد يبدو في الظاهر. يوجد العديد من الأمثلة على ذلك، وقد أصبح بعضها مهمًّا في أعمالٍ حديثة للغاية، وهي تتعامل مع حدود الفيزياء الحالية. على سبيل المثال:
  • تتناول فلسفة «نظرية المجال الكمي» الأسئلةَ المفاهيمية التي تنشأ عن نظرياتنا الحالية الأكثرِ جوهريةً التي تدعم النتائجَ الرائعة، التي حقَّقتها تجربة مصادم الهدرونات الكبير في جينيف. من تلك الأسئلة مثلًا: أحقيقيٌّ أنَّ ثوابت الطبيعة خضعت للضبط الدقيق بطريقةٍ ما، كي تؤديَ إلى إنشاء الكون الكبير المعقَّد الذي نراه من حولنا؟ أم أنَّ طَرْح هذا السؤال عديمُ الجدوى أصلًا؟ وما المنهج العلمي المنطقي لوضع نظرياتٍ تفوق تلك النظريات، التي اختُبرت في تجربة مصادم الهدرونات الكبير، في عالَم تكثُر فيه النظريات وتندُر فيه البراهين؟

  • تستكشف فلسفة «علم الكونيات» كيفيةَ التعامل مع الكون ككل. بما أننا لم نرصد سوى كون واحد، فكيف لنا أن نفهم النظريات التي تقول بأرجحية ظهور كونٍ ما على ظهور كونٍ آخر، فضلًا عن اختبارها؟ هل يظل افتراضُ أن الكون الذي نعيش فيه هو كونٌ واحد من عدة أكوان فسيحة؛ تفكيرًا علميًّا مقبولًا؟ وكيف لنا أن نختارَ بين نماذجَ كونيَّةٍ مختلفة بناءً على براهينَ معقَّدة وغير مباشرةٍ تتعلَّق بالتساؤل عن أيٍّ منها هو الصحيح؟

  • تهتم فلسفة «الجاذبية الكمومية» بآخر ما انتهت إليه الفيزياء الحديثة: البحث عن وجهٍ للتقارب بين النسبيةِ العامة، وهي النظرية الأفضل للجاذبية، ونظريةِ الكم، وهي الإطار الذي كُتبت فيه كلُّ النظريات الفيزيائية الأخرى. فهل نظرية الأوتار — المنافس الأبرز لهذا التقارب — تعد علمًا جيدًا أم سيئًا، أم إنها لا تندرج ضمن نطاق العلم على الإطلاق؟ ما المخاطرة في المزاعم المذهلة بأن الثقوب السوداء، التي نتوقَّع ببساطة أنَّ شيئًا لا يهرُب منها، تتصرَّف مثل الأجسام الساخنة العادية، وكيف يمكن تقييم هذه المزاعم في ظل استبعاد أيِّ احتمالٍ لإجراء اختباراتٍ تجريبية؟ وكيف يمكن حلُّ المفارقات المفاهيمية بشأن الثقوب السوداء الكمومية أو تبديدها؟

على الرغم من ذلك، فالأمثلة الأهم تتعلَّق بنظرياتٍ أقدمَ وأعم، وإن كان ذلك في معظم الأعمال التأسيسية والفلسفية في الأعوام الخمسين الأخيرة على الأقل. يهتم الجزء الأكبر من الأعمال التي تتناول فلسفةَ الفيزياء بثلاثة مجالات وهي: فلسفة الزمكان (التي توفِّر المفاهيم التي تمكِّننا من فهمِ المكان والزمان والحركة، وهي المفاهيم المركزية في الفيزياء على الأرجح)، وفلسفة الميكانيكا الإحصائية (التي تحدِّد العلاقات بين النظريات الفيزيائية على مستوياتٍ مختلفة، وتقف بين معارفنا الفيزيائية الأكثرِ جوهرية، وبين أي اختبارٍ أو تطبيقٍ لتلك المعارف الفيزيائية)، ولعل المثال الأشهر هو ميكانيكا الكم (التي تحاول أن تفهم — وربما تغيِّر — اللغةَ التي كُتبت بها معظمُ النظريات الفيزيائية في القرن الماضي، كالنظريات المسئولة عن بناء مسرِّعات الجسيمات والترانزستورات، وتلك التي تقدِّم تصورًا للحظات الأولى في عمر الكون).

يدور هذا الكتاب حول هذه المجالات. يبدأ الفصل الأول بأسئلةٍ عامة نسبيًّا بشأن المنهج العلمي وطبيعة النظريات العلمية بوجهٍ أعمَّ. ويتناول الفصل الثاني الإجابةَ عن السؤال: «ما الحركة؟» في سياقٍ تاريخي؛ ومن ثَم فهو يتناول نشوءَ علم الميكانيكا على يدِ نيوتن وغيره في القرن السابع عشر. (فمن الأفكار الأساسية الشائعة في فلسفة الفيزياء أننا نحتاج إلى الانتباه إلى تاريخ الأفكار، وإلى كيفيةِ اهتداء علماء الفيزياء العظماء إلى المفاهيم الغريبة التي صاغوها.) وبعد هذا التمهيد، نصل في الفصل الثالث إلى تناولِ نظرية النسبية، و«المفارقات» المفترَضة التي تنطوي عليها هذه النظرية، والفهم الأعمق لمفاهيم المكان والزمان والحركة المذكورة فيها. يوضِّح الفصل الرابع كيف أن الميكانيكا الإحصائية تساعدنا في فهم العلاقات بين النظريات على النطاقَين العياني والمجهري، وكيف أن هذا الفهم يتضمَّن على ما يبدو مفاهيمَ جديدة — مثل عدم القابلية للانعكاس والاحتمالية — وهي مفاهيمُ لا تنطوي عليها نظرياتنا الأكثرُ جوهريةً، وربما كانت غير متسقةٍ معها. ويتناول الفصلان الخامس والسادس ميكانيكا الكم؛ بدءًا بطَرْح المفارقات التي يثيرها هذا العلم، ثم تناول الكيفية التي يمكن أن تُحل بها هذه المفارقات، وانتهاءً بالسؤال عن سببِ أهمية ذلك للفيزياء بوجهٍ عام.

ثمَّة فكرةٌ عامَّة ثالثة في فلسفة الفيزياء وهي أهمية الرياضيات. فنظريات الفيزياء الحديثة تُصاغ برياضياتٍ مجرَّدة نوعًا ما، ولا يمكن فَهْم المسائل الفلسفية في الفيزياء — فضلًا عن المساهمة في حلها — من دون فَهْم هذه النظريات بكامل تفاصيلها، بما في ذلك التفاصيلُ الرياضية. (لا عجب إذن من أنَّ فلاسفة الفيزياء عادةً ما يكونون من الحاصلين على تدريبٍ أكاديميٍّ في الفيزياء في مستوى الخرِّيجين، حتى حينما يعملون لدى أقسام الفلسفة.) وفي كتابٍ كهذا، لا يمكن أن أقدِّم شرحًا وافيًا لأيٍّ من نظرية الزمكان الحديثة أو الميكانيكا الإحصائية أو نظرية الكم — فضلًا عن الثلاثة معًا — ومن ثَم لا يَسعني الادعاءُ بأن القارئ سيفهم المسائل الفلسفية من هذا الكتاب وحده فهمًا تامًّا. على الرغم من ذلك، أرجو أن أطرح من التفاصيل والعمق ما يكفي لأن يساعدَ القارئ المتدرِّب في الفلسفة على فَهْم مدى تأثير مسائل الفيزياء في الأسئلة العميقة التي تمثِّل أهميةً لديه، ويساعد المتدرِّب في الفيزياء على الربط بين القضايا المفاهيمية المطروحة في الكتاب وبين تدريبه الفني، ويساعد جميعَ القراء على التعرُّف على المعضِلات المركزية في المجال وسببِ أهميتها.

حتى في المجالات الأساسية الثلاثة التي أتناولها، وحتى مع تنحيةِ العديد من المواضيع الشديدة التخصص التي لا يستوعبها كتابٌ كهذا، يوجد العديد من الأسئلة المثيرة للاهتمام التي لا يسعني أن أطرحها. ولا شك أنَّ آرائي الخاصة بشأن أهم الأسئلة وبشأن المحاولات الأفضل للإجابة عنها، كان لها دورٌ في اختيار المواضيع التي ينبغي طرحُها وطريقة الطرح، ورغم أنني أشير في كثيرٍ من الأحيان إلى أن بعض الأسئلة «خلافية» أو «جدلية» وأطرح عدة إجابات محتملة على تلك الأسئلة، فأنا متأكد من أن القراء المطلعين على هذه المواضيع سيلاحظون استبعادَ تفنيداتهم المفضَّلة، أو المرور على مواقفهم المفضَّلة مرورَ الكرام، أو حتى تجاهلها تمامًا. وإلى هؤلاء القراء، أتقدَّم بالاعتذار؛ وللقراء غير المطلعين على فلسفة الفيزياء — وهم المستهدفون بهذا الكتاب — أدرجت العديدَ من الكتب الأخرى التي تتناول المزيدَ من التفاصيل ووجهات النظر الأخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤