الفصل الخامس

ألغاز الكم

يمكن أن تكون «النظرية» في الفيزياء أشياءَ كثيرة، بدايةً من المحدَّد للغاية إلى العام للغاية. فمن ناحيةٍ ما، توجد النظريات التي تصِف أنظمةً خاصة ومحدَّدة، حيث إنها تحدِّد — على مستوًى ما من الوصف على الأقل — خصائصَ النظام وسلوكه تحديدًا كاملًا، وتسمَّى هذه النظريات ﺑ «النماذج» في بعض الأحيان. تُعَد ميكانيكا الكواكب في المجموعة الشمسية من أمثلة هذه النظريات؛ فهي تقول بوجود ثمانية كواكب إضافةً إلى الشمس، وأن كتل الكواكب كذا وكذا، وأنها تتحرَّك على هذا النحو أو ذاك. وعند مستوًى أعمَّ قليلًا، يوجد «الإطار» المجرَّد لميكانيكا نيوتن الكلاسيكية الذي لا يضم المجموعة الشمسية فحسب، بل أي نظام مكوَّن من أجسامٍ تتحرَّك بفعل الجاذبية في نظامٍ لا تهم فيه النسبية.

والآن، سنتناول المسألةَ بنظرةٍ أعمَّ بعضَ الشيء. إنَّ النسبية الخاصة لا تصف أيَّ نظام محدَّد أو مجموعة من التفاعلات، بل هي إطار يضم أيَّ نظرية نشتق بنيتها القصورية من مبدأ النسبية والافتراض الخاص بالضوء (أو يمكننا القول — إن أردت — إنها إطار يضم أيَّ نظرية تكون بيئةُ زمكانها الطبيعية هي الزمكانَ في تصوُّر منكوفسكي)، سواء أكانت تلك النظرية تتعلَّق بجسيمات في مسرِّع أم تتعلَّق بمادة على نطاق كبير بعيد. إنها لا تتعارض مع النظريات المحدَّدة مثل ميكانيكا نيوتن الفلكية، بل تتعارض مع الأطر البديلة لكتابة هذه النظريات، مثل الإطار الذي تصفه نظريةُ الزمكان في تصوُّر جاليليو. وبالمثل، فإن الفكرةَ الناتجة عن مبدأ التكافؤ — بأن الجاذبية هي تمركُز البنية القصورية — هي إطارٌ للنظريات المتعلِّقة بالجاذبية (أو عبارة عن أطرٍ متعدِّدة بناءً على ما إذا كانت البنية القصورية المطلوب تحديدُ موضعها هي بنية نيوتن وجاليليو أم بنية أينشتاين ومنكوفسكي). وبذلك، توصف النظرياتُ المحددة كالنسبية العامة وجاذبية نيوتن ضمن هذه الأطر.

(بعض الأطر العامة الأخرى، تصنِّف هذه الأطرَ الخاصة بالزمكان والقصور الذاتي تصنيفًا متقاطعًا. فمن هذه التصنيفات، «ميكانيكا الجسيمات» وهي الإطار الذي تندرج تحته جميع النظريات التي تصف أنظمةَ الجسيمات النقطية التي يتفاعل بعضها مع بعض، سواء أكانت تلك «الجسيمات النقطية» جسيماتٍ صغيرةً للغاية بالفعل أم تمثيلات للنجوم والكواكب، ويمكن المقابلة بينه وبين «نظرية المجال»، وهي الإطار العام الذي تندرج تحته نظرية الكهرباء والمغناطيسية، وهما أشهر نظرياته.)

ومع ذلك، فحتى الأطر التي تكون على هذه الدرجة من العمومية ليست هي النهاية. فعندما نفهم «الميكانيكا الكلاسيكية» بمعناها الأوسع، نجد أنها تتضمَّن في جوهرها جميع النظريات التي تناولناها حتى الآن، وهي لا تطرح أيَّ افتراضات بشأن البنية القصورية أو طبيعة المادة. إنَّ كلَّ ما يستلزمه الإطار جوهريًّا من النظريات هو: (١) أن يكون لكل نظام تصِفه حالةٌ مادية — وصف مكوِّنات النظام وخصائصه — على أن تذكر النظرية تطوُّر هذه الحالة بمرور الوقت؛ (٢) إذا كان من الممكن تقسيمُ النظام إلى أجزاء، فينبغي أن يكون لكل جزء حالته الخاصة بحيث يمكن استنتاجُ حالة النظام بأكمله من خلال حالات الأجزاء.

ربما تتساءل، هل يُعَد ذلك إطارًا بالفعل أم أنه تحصيل حاصل فحسب؟ أيُعقَل أصلًا أن توجد نظرية فيزيائية لا تندرج ضمن إطار الميكانيكا الكلاسيكية؟ من اللافت للنظر أنَّ هذا هو الواقع بالفعل؛ فجزءٌ كبير من الفيزياء، بما في ذلك معظم النظريات الناجحة العظيمة في القرن العشرين، تندرج بدلًا من ذلك ضمن إطار «ميكانيكا الكم». طُوِّر هذا الإطار في الأصل لتفسير فيزياء المواد دون الذرية، لكنه أصبح يشكِّل الأساسَ لعلم الفيزياء على كل المستويات، بدايةً من بوزون هيجز وحتى التقلبات الكمية التي وزعت المجرات عَبْر سماء الليل، ونذكر فيما بين هذا وذاك على سبيل المثال لا الحصر، نظرية التوصيل الفائق، وكيفية عمل الترانزستور داخل أجهزة الكمبيوتر المحمول والهواتف المحمولة، وأسرار الأسلحة النووية. إنَّ أقلَّ ما يمكن قوله عن هذا الإطار أنه ناجحٌ للغاية.

وعلى الرغم من ذلك، فنحن لا نفهمه.

الأحرى أنه لا يوجد «اتفاق» بشأنِ كيفية فَهْمه، سوى الاتفاق على أنه لا يمكن فَهْمه بأي حالٍ من الأحوال، بالطريقة التي تُفهم بها الميكانيكا الكلاسيكية. يرى بعض علماء الفيزياء والفلاسفة في ميكانيكا الكم سببًا يدعو إلى إعادة التفكير في مفهوم العلوم ككل. يعتقد آخرون أن مفارقات هذا المجال حادةٌ لدرجةٍ تستدعي تبديل النظرية نفسها. وثمة فريقٌ آخر يرى أنها تبرهن على أن الكون الذي نعيش فيه هو مجرد جزءٍ واحدٍ من واقعٍ أفسح.

في هذا الفصل، ومن خلال وصف ثلاث تجارب بسيطة، سأحاول أن أوضح الماهية الحقيقية لهذه القضايا العميقة التي تنطوي عليها ميكانيكا الكم، وأوضح السبب في اختلاف إطار ميكانيكا الكم عن إطار الميكانيكا الكلاسيكية. وفي الفصل السادس، سأتناول الدروس التي نستطيع تعلُّمها من هذا الإطار للاستفادة منها في الفيزياء والفلسفة، وكذلك لفَهْم مكاننا في الكون.

التداخل والقياس

سلِّط شعاع ليزر على مستشعر ضوء، وقِس قوةَ الإشارة مع خفض قوة الشعاع. فستجد أنَّ النتيجة بسيطةٌ لبعض الوقت: انخفاض بسيط في كمية ضوء الليزر المكتشفة. على الرغم من ذلك، يوجد حدٌّ للطاقة حيث لا يُكتشف الضوء على الإطلاق إذا لم يُكتشف عنده. إنَّ خفض طاقة الليزر إلى درجة أدنى من هذا الحد لا يعني استشعار الضوء بدرجة أضعف: بل يعني أن وتيرةَ استشعار الضوء تقل أكثر فأكثر، ولكن في كل مرة يتم فيها استشعار الضوء، تستشعر نفس الكمية الثابتة من الطاقة. بمعنى أنه يبدو أن الضوء يأتي في كميات من الطاقة الثابتة؛ كموم الضوء (ومن هنا أتى اسم ميكانيكا الكم). وتعتمد الطاقة الخاصة بكل كم من كموم الضوء على شيء واحد هو لون الليزر؛ ففي حالة كل لون من الألوان، تتطابق كميةُ الطاقة مع كمية الكموم المنبعثة سواء بالزيادة أو بالنقصان. بعبارة أخرى، فإن شعاع الضوء عبارة عن تدفُّق «جسيمات» الضوء؛ أو «الفوتونات» كما يسمِّيها علماء الفيزياء.

يبدو كلُّ شيء على ما يرام حتى الآن؛ فما من شيء جنوني جوهريًّا بشأن تكوُّن الضوء من جسيمات (وهذا ما كان نيوتن يعتقده في الحقيقة). الآن، سنزيد تعقيدَ الأمور قليلًا. تُوضع مرآة «نصف عاكسة» — مرآة تعكس نصف الضوء الساقط عليها — بزاوية من شعاع الليزر، بحيث تقسم الشعاعَ إلى شعاعَين لكلٍّ منهما نصف القوة (الشكل ٥-١(أ)).
fig6
شكل ٥-١: تجارب التداخل في حالة الضوء: (أ) تقسيم شعاع الضوء بمرآة نصف عاكسة؛ (ب) التداخل — تقسيم شعاع الضوء وإعادة تجميعه.

هل تقسم المرآة نصف العاكسة كل فوتون إلى فوتونَين بنصف القوة؟ أم إنَّ نصف الفوتونات يذهب في طريقٍ ويذهب نصفها في الطريق الآخر؟ للوهلة الأولى، يبدو أنَّ أيًّا من الاحتمالَين ممكنٌ، لكننا حين ننظر ونضع المستشعرات في كل شعاع، نجد أنه في كل مرة يُكتشف فيها فوتون ما، يكون له مقدارُ الطاقة نفسه الذي اكتشفناه سابقًا، ولا يعتمد ذلك إلا على لون الشعاع. «يبدو» أنه إذا ارتطم الفوتون بالمرآة نصف العاكسة، فإنه إما ينحرف وإما يمرُّ، ويبلغ احتمال حدوث كلٍّ من الحالتَين ٥٠ بالمائة. مرة أخرى، لا بأس بهذا حتى الآن.

سنضيف الآن تعقيدًا آخر. سنستخدم مرايا عادية لحني الشعاعَين بحيث يتقاطعان، وفي نقطة التقاطع نُدخل مرآة نصف عاكسة (الشكل ٥-١(ب)). ما يؤدي إليه هذا هو أنه يقسم الأشعةَ ثم يعيد تجميعها ثم يقسمها مرةً أخرى. والآن يبدو وكأن الفوتون أمامه أربعة طرق يمكنه أن يسلكَها. إذا ارتدَّ الفوتون عن المرآتَين نصف العاكستَين، أو لم يرتدَّ منهما، فسينتهي به الأمر إلى مكان واحد (المكان أ في الشكل ٥-١(ب)). وإذا ارتد عن المرآة نصف العاكسة الأولى دون الثانية، أو من الثانية دون الأولى، فسينتهي به الأمر إلى مكانٍ آخر (المكان ب في الشكل ٥-١(ب)).

نعرف أن احتماليةَ ارتداد كل فوتون في كل مرة يرتطم فيها بالمرآة تبلغ ٥٠ بالمائة. وبناءً على هذا، يبدو أنَّ نسبة حدوث كلٍّ من هذه الاحتمالات الأربعة تساوي ٢٥ بالمائة. حتى من دون إجراء التجربة، «يبدو» أننا نعرف ما سنجده بالتأكيد: في نصف المرات (٢٥٪ + ٢٥٪) يصل الفوتون إلى النقطة «أ»، في حين يصل في النصف الآخر إلى النقطة «ب»؛ ومن ثمَّ يعطي المستشعران إشاراتٍ متساويةً في القوة.

غير أننا لا نجد هذه النتيجة. فبالاعتماد الدقيق على طول كل شعاع بالضبط، يمكن للقائم بالتجربة الترتيبُ بحيث يُستشعر «كل» الضوء عند النقطة «أ»، أو عند النقطة «ب»، أو في أي نقطة بينهما.

يطلِق علماء الفيزياء على هذا التأثير اسم «التداخل»، وهم يقصدون معناه الحرفي؛ إذ إن أحد الشعاعَين يتداخل بطريقةٍ ما مع الشعاع الآخر؛ لذا فإن ما يحدث للضوء يعتمد على الشعاعَين كلَيهما. وإذا حجبنا أحدَ الشعاعَين كليًّا بالفعل، فسيختفي التداخل؛ وسيظهر نصف أشعة الضوء (المتبقية) عند النقطة «أ» ويظهر النصف الآخر عند النقطة «ب». يبدو إذن أنَّ ما يجري حقًّا هو حدوث تفاعل بين فوتونات الضوء، يجعل فوتونات الشعاع جهةَ اليسار ترتد مبتعدة عن فوتونات الشعاع جهة اليمين.

يمكننا اختبار هذا التأثير أيضًا. يمكننا خفضُ قوة الليزر (أو نضع مرشحًا شبه معتم أمام الليزر، وهو الحل الأكثر واقعية) إلى أن يتبقى فوتون واحد فقط يمر في المرة. وإذا حدث التداخل بسببِ ارتداد بعض الفوتونات عن بعضها الآخر، فإن هذا يعني اختفاءَ تأثيرِ التداخل حين لا يوجد سوى فوتون واحد في المرة. ولكن هذا لا يحدث؛ وإنما يبقى تأثيرُ التداخل من دون تغييرٍ مهما ضعُف الشعاع. إذا رتَّبنا أن تُكتشف كل الفوتونات عند النقطة «أ»، فستكون هذه النقطة هي التي تُكتشف عندها الفوتونات، سواء أكان فوتون واحد هو الذي يمر في المرة، أو تريليون فوتون.

ما الذي يجري إذن؟ يبدو وكأن «شيئًا ما» يوجد في الشعاعَين متى مرَّ فوتون عبر النظام. يسلك هذا «الشيء» سلوك الفوتون نفسه تمامًا؛ أي إنَّ فِعل أيِّ شيء للشعاع يحجُب الفوتونات سيوقف التداخل؛ وإذا فُعل أيُّ شيء للشعاع دون أن يؤثِّر في الفوتونات، فلن يتأثر التداخل. على الرغم من ذلك، فمتى ما نظرنا إلى كِلا الشعاعَين، لا نرصد سوى فوتون واحد في المرة، ونحن لا نرصده إلا في شعاع واحد من الاثنين، وليس في كلَيهما. بعبارة أخرى، يبدو وكأن الفوتون في «الشعاعَين كلَيهما في آنٍ واحد» حتى ننظر إليه، وحينها يقرِّر أن يكون في أحد الشعاعَين دون الآخر.

لكنَّ هذا غير منطقي على الإطلاق. فليس «النظر» في نهاية المطاف سوى عملية فيزيائية أخرى. والأجهزة التي نستخدمها لقياس وجود الفوتونات هي نفسها تتكوَّن من جسيماتٍ مجهرية تحكمها ميكانيكا الكم. وليس فِعل النظر نفسه سوى تفاعل آخر بين الأنظمةِ الفيزيائيةِ المحكومةِ هي أيضًا بميكانيكا الكم. إضافةً إلى ذلك، ينبغي ألَّا توجد قواعدُ منفصلة لكيفية تصرُّف الذرات، وفقًا لما إذا كنا نحن البشر قد خصَّصنا مجموعةً من الذرات في صورة «كاشف فوتونات» أم لم نفعل.

لمعرفةِ ما تخبِرنا به ميكانيكا الكم نفسها بشأن السلوك الذي ينبغي أن تسلُكه الكاشفات، يمكننا اللجوء إلى تجربةٍ فكريةٍ قديمة (وغير أخلاقية تمامًا) أجراها إرفين شرودنجر. لنفترض أننا نرصد لنرى بأي الشعاعَين يوجد الفوتون، وذلك عن طريقِ وَضْع كاشفٍ في كل شعاع. ولنفترض أننا نوصِّل الكاشف الموجود على اليسار — دون الكاشف الموجود على اليمين — بأداةٍ تقتل القطط، ونضع بعض الهررةِ التعيسة الحظ في نطاق تأثير الأداة.

إذا كان الفوتون في الشعاع الموجود على اليسار، فستموت القطة. وإذا كان الفوتون في الشعاع الموجود على اليمين، فستعيش القطة. أما إذا كان الفوتون في الشعاعَين في آنٍ واحد — فما يبدو أنَّ ميكانيكا الكم تخبرنا به هو أنَّ القطة ستكون في حالتَي الحياة والموت كلتَيهما، وهذا يعني أنها ستصبح حيةً وميتةً «في الوقت نفسه».

لا شك أنَّ القائمين بهذه التجربة لا يخبرون عن نتائجَ تتمثل في «رصد قطة شبه حية وشبه ميتة!» بل يقولون إن القطة إما حية وإما ميتة؛ تمامًا مثلما أنَّ الفوتونات لا تُرى في جهازَي الكشف في آنٍ واحد، بل تُرى في أحد الجهازَين في جزءٍ من الوقت، ثم تُرى في الكاشف الآخر في باقي الوقت. (وأنا أسارع بالقول إنَّ أحدًا لم ينفِّذ التجربة بقططٍ حقيقيةٍ على حدِّ علمي!)

والآن سأطرح عليكم طريقةً أخرى لتوضيح المفارقة. لقد بدأنا بفكرةِ أن الضوء يأتي في صورة جسيمات موضعية؛ ومن ثمَّ فإن حالة شعاع الليزر تتحدَّد بذِكر عدد الفوتونات الموجودة وتحديد موضعها. وبناءً على هذه الفكرة، فعندما يمر فوتون بمرآةٍ نصف عاكسة، سينتهي به الأمر إما في الشعاع المنقول أو الشعاع المنعكس؛ نحن لا نعلم في أي الشعاعَين سينتهي على وجه التحديد، ولكنه سيكون في أحدهما بالتأكيد؛ ومن ثَمَّ يمكننا استخدامُ لغة الاحتمالية لتحديد مقدار جهلنا. (أو إذا كنت تفضِّل ذلك، لتحديد نسبة المرات التي يوجد فيها الفوتون في هذا الشعاع أو ذاك؛ فأحجيات فَهْم الاحتمالية التي قابلناها في الفصل الرابع تحدُث هنا أيضًا!) وقد رأينا أن هذا التفسير يتحطَّم على صخرة التداخل، الذي يجعلنا نرى الفوتون موجودًا في الشعاعَين كلَيهما في آنٍ واحد. ولكن هذه الرؤية غير الموضعية الممتدة للفوتون نفسه تواجه عقبةً حين نقيس موضعه بالفعل؛ وفي هذه الحالة، فإن تفسيرَ الفوتون بأن له حالةً غير معروفةٍ ومؤكَّدة الموضع، يسود مرةً أخرى؛ ومن ثَم ينبغي إسقاط تفسير أن الفوتون له حالةٌ معروفةٌ وغير مؤكَّدة الموضع. يبدو أننا مضطرون إلى التنقُّل فيما بين التفسيرات بشكلٍ غير متَّسقٍ بناءً على سِمات التجربة التي نرغب في وصفها.

من المنظور الشكلي، فإن رياضيات التداخل مكافئةٌ لرياضيات الموجات؛ ولهذا سُميت هذه الحالة من عدم التناسق في التفسيرات «ازدواجية الموجة والجسيم» (ولا يزال الاسم مستخدمًا بالفعل في الكتب القديمة، وفي كثيرٍ من كتب العلوم المبسَّطة). لكن من الأفضل أن نفهمه على أنه حالةٌ من عدم الاتساق في تفسير النظام الذي تقدِّمه ميكانيكا الكم: فنحن أمام خيارَين وهما (١) قصة الخصائص غير المحدَّدة وغير الموضعية ولكنها معروفةٌ («الوصف غير المحدَّد»)؛ (٢) قصة الخصائص المحدَّدة والموضعية ولكنها مجهولةٌ («وصف الاحتمالية»). يبدو أن التداخل يحتاج إلى الوصف غير المحدَّد، وأن القياس يحتاج إلى وصف الاحتمالية. وتُسمَّى المسألة المتعلقة بكيفية فَهْم النظرية — بالنظر إلى الحاجة الواضحة لكلٍّ من الخيارَين (١) و(٢) والتعارض الواضح بينهما — ﺑ «مشكلة القياس».

الحالات الكمية والتراكب الكمي

للفيزياء لغةٌ لوَصْف حالة عدم التحديد التي تكون عليها الفوتونات (أو أي شيء آخر). إذا كان بإمكان الجسيم أن يكون في حالتَين، يمكنه أيضًا أن يكون في حالة «تراكب» بين الحالتَين. وباستخدام الترميز الذي طوَّره عالِم الفيزياء بول ديراك، يمكننا كتابة حالة التراكب بالصيغة التالية:

يُطلَق على اسم «الحالة الكمية» للجسيم، وتدور نظرية الكم وفلسفتها في الأساس حول كيفية تطوُّر هذه الحالة وكيفية تفسيرها. الحدان ‘a’ و‘b’ يمثِّلان «السعة»، وهما كِيانان رياضيان (أعداد مركَّبة على وجه التحديد) يتضمن كلٌّ منهما «مقدارًا» (عددًا حقيقيًّا موجبًا مكتوبًا بالصيغة ) و«طورًا» (ويمكن اعتباره زاوية). يُعَد العدد المركَّب سهمًا صغيرًا يعبِّر طوله عن مقداره، وتعبِّر زاويته إلى المحور س عن طوره. تصف هاتان السَّعتان نمطَي التداخل والاحتمالية لميكانيكا الكم. وبالنسبة إلى الاحتمالات؛ إذا قسنا موضعَ هذا الجسيم، فإن احتمالية وجوده في الحالة ‘here’ تساوي تربيع مقدار السعة للاحتمالية ‘here’: . وينطبق الأمر نفسُه على الاحتمالية ‘there’. يُطلَق على هذه القاعدة الاحتمالية اسم «قاعدة بورن» نسبةً إلى العالم ماكس بورن الذي اقترحها في الأساس؛ والحق أنَّ الغالبية العظمى من البراهين في ميكانيكا الكم تعتمد عليها اعتمادًا كبيرًا.
إنَّ قاعدة بورن تجعل الحالةَ الكمومية شبيهةً بتوزيع الاحتمالية إلى حدٍّ ما؛ فالقول إن الجسيم ينطوي على الحالة باعتبارها حالته الكمية شبيهٌ إلى حدٍّ ما بالقول إنَّ
‘here’ (Probability )‘there’ (Probability )
لكن الأمر المهم أنه يمكن لحالتَين كميتَين أن تخصِّصا لناتجٍ ما سَعةً ناتجةً لها مقدار واحد وأطوار مختلفة، وتؤثِّر الأطوار في كيفية تطوُّر النظام بمرور الوقت، بما في ذلك إمكانيةُ تداخل المسارات المختلفة التي قد يتخذها النظام بعضها مع بعض. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ إحلال الحد محلَّ الحد في الحالة الكمومية لا يُحدِث فرقًا في الاحتمالات، ولكنه يحدِث فرقًا في كيفية تطوُّر الحالة الكمومية بمرور الوقت، مما قد يشكِّل بدوره فرقًا كبيرًا فيما ستكون عليه الاحتمالات الخاصة بالقياسات المستقبلية.
نرى في الحالة تجسيدًا مباشرًا للوصفَين المتناقضَين للأنظمة الكمية التي ناقشناها في القسم الأخير. فحين نرغب في فَهْم تأثير قياس نظامٍ ما، فإنَّ تفسير الاحتمالية للحالة الكمومية أمرٌ طبيعي: إذا كان الحد هو محضَ طريقة رياضية لقولِ إن النظام يمكن أن يكون هنا أو يمكن أن يكون هناك؛ فحينها تصبح الاحتمالات؛ ومن ثمَّ حالات التراكب، غيرَ غامضة. لكننا لا نستطيع فَهْم بهذه الطريقة إذا كنَّا معنيِّين بديناميكا النظام، لن نفهمها على الأقل إذا كانت هذه الديناميكا تنطوي على خاصية التداخل؛ إذ إنَّ تفسير الحالة الكمومية بصفتها توزيعًا للاحتمالية يؤدي إلى فقدان القدرة على تتبُّع المعلومات المتعلِّقة بالطور، وهي معلومات يترتَّب عليها عواقبُ مهمة من الناحية التجريبية.
على الرغم من ذلك، إذا كان تفسير الاحتمالية للحالة الكمومية يبدو إشكاليًّا، فلن يكون تفسيرُ التداخل أفضلَ بكثير. مرة أخرى، تخيَّل قطة شرودنجر البائسة التي يمكن كتابة حالتها بالصيغة التالية:
هذه حالة تراكُب تتساوى فيها النتيجة: «القطة حية» والنتيجة: «القطة ميتة» ، وكذلك يخبرنا تطبيقُ قاعدة بورن للاحتمالية بأن القياس أيضًا تتساوى فيه احتمالاتُ العثور على القطة حية والعثور عليها ميتة. (كلُّ ما يفعله الحد ( ) هو ضمان أنَّ مجموع مربَّعي السَّعة يساوي ١). وفي تفسير الاحتمالية للحد ، لا شيء من هذا غامض على وجه الخصوص؛ فهو لا يعبِّر إلا عن قطةٍ تتساوى احتمالية أن تكون حيةً مع احتمالية أن تكون ميتة، ويخبرنا القياسُ أيهما هي الحالة الصحيحة.
لكن إذا كان الحد يعبِّر عن الحالة الفعلية المادية للقطة، فسيبدو أن ثمَّة خطأ فادحًا؛ فتلك الحالة — قطة نصف ميتة ونصف حية — غريبةٌ للغاية ومن نوعٍ لم يسمع به أحدٌ من قبل، ولا وجود لقاعدة بورن التي تتنبأ بأن النتيجة الفعلية حين القياس هي احتمالية وجود القطة حية بنسبة ٥٠ بالمائة، واحتمالية وجودها ميتة بنسبة ٥٠ بالمائة. (الحق أنه لا وجود للاحتمالات بوجهٍ عام إذا فهمنا بهذه الطريقة.)

من الواضح إذن أنه لا يمكن فَهْم الحالة الكمية على أنها تصف الخصائصَ المادية الفعلية للنظام (كما في الميكانيكا الكلاسيكية) أو على أنها تصف احتمالاتِ امتلاك النظام خصائصَ متنوعةً (كما في الميكانيكا الإحصائية). تحتد المعضلة بدرجةٍ أكبرَ حين ندرُس الحالة الكمية لعدة أنظمة، والخاصية اللافتة للنظر المسمَّاة «التشابك».

الترابط والتشابك

تتسم الجسيمات الكمية — كالإلكترونات على سبيل المثال — بخاصيةٍ تسمَّى «الدوران». وتقريبًا، يمكن القول إنَّ خاصية الدوران تشفِّر دوران الإلكترون حول محوره، لكنها أغرب من ذلك؛ الحق أنَّ أوجهَ غرابتها يمكن أن تستغرق فصلًا بأكمله من هذا الكتاب، لكنني سأنصرف عن مناقشتها إلى حدٍّ كبير. وسأكتفي بالقول إنه يمكن قياس دوران الإلكترون في الفضاء في اتجاهه، أيًّا كان، ولن يؤدي القياسُ إلا إلى نتيجتَين يمكن أن نطلق عليهما «الدوران لأعلى» و«الدوران لأسفل». (وبصرف النظر عن السمات التي تنبئ عن مكان الإلكترون في الفضاء والتركيز على الدوران فقط)، يمكن كتابةُ الحالة الكمية العامة للإلكترون بالصيغة التالية:

حيث تصبح قيمة وقيمة نسبيَّتَين إلى اتجاهٍ ثابت نختار أن نقيسَ الدوران فيه.

لِندرُس الآن اثنين من مثلِ هذه الإلكترونات. إذا قسنا دورانَ كلٍّ منهما على حدة، فستكون لدينا أربع نتائج محتملة: «الدوران لأعلى» لكلَيهما — «الدوران لأسفل» لكلَيهما — «الدوران لأعلى/الدوران لأسفل» — «الدوران لأسفل/الدوران لأعلى». ومن ثَمَّ يمكن كتابةُ الحالة الكمية العامة للإلكترونَين بالصيغة التالية:

من الطبيعي أن نسأل: ما حالةُ كل إلكترون من الإلكترونَين على حدةٍ بناءً على حالة الإلكترونَين معًا؟ من اللافت للنظر أنَّ هذه الحالات قد لا توجد أصلًا. فَلْتتخيَّل ما يلي: إذا كان لكل إلكترون حالته الخاصة، فستُحدِّد تلك الحالة (بناءً على قاعدة بورن للاحتمالية) احتمالاتِ الحصول على نتيجة «الدوران لأعلى» أو نتيجة «الدوران لأسفل» عند قياس الدوران. ولما كانت تلك الاحتمالات لا تتحدَّد إلا بالحالة وحدَها، فليس ثمة إمكانيةٌ لوجود ارتباطٍ بين القياسات؛ أي لا توجد إمكانيةٌ بأن يؤديَ قياس دوران أحد الإلكترونات إلى معرفة معلوماتٍ عن نتيجة قياس إلكترون آخر.

على الرغم من ذلك، فمن السهل كتابةُ الحالتَين الكموميتَين لإلكترونَين لا تنطبق عليهما هذه الحالة، على سبيل المثال:

إذا قِسنا دورانَ الإلكترونَين حين يكونان في الحالة: أي الأحادية، فسيكون لدينا — طبقًا لقاعدة بورن كما هو الحال دومًا — احتماليةٌ بنسبة ٥٠ بالمائة للحصول على النتيجة «الدوران لأعلى/الدوران لأسفل»، واحتمالية بنسبة ٥٠ بالمائة للحصول على النتيجة «الدوران لأسفل/الدوران لأعلى»، ولن توجد أيُّ احتمالية على الإطلاق لأن تكون نتيجة الدوران واحدةً للإلكترونَين عند قياسها لكلَيهما. وبناءً على هذا، يوجد انتفاءٌ تامٌّ للارتباط بين نتائج قياس الدوران للإلكترونَين؛ ومن ثمَّ انتفاء احتمالية تعيين حالتَين كموميتَين منفصلتَين للإلكترونَين. يُطلق على هذه الحالات اسم «الحالات غير المنفصِلة» أو — بلغة شاعرية — «الحالات المتشابكة»؛ وهي حالات لا يمكن وصفُها إلا مجتمعة وليس من حيث السِّمات المنفصِلة لمكوِّنات النظام.
إذا كانت حالةُ زوج من الإلكترونات هي ، وقِيسَ دوران أحدِ الإلكترونَين، فيمكن التنبؤ بنتيجة دوران الإلكترون الآخر بنسبة نجاح تبلغ ١٠٠ بالمائة، بغض النظر عن مدى التباعد بينهما. وعما إذا كان هذا يبدو غريبًا أم عاديًّا؛ فذلك يعتمد اعتمادًا كبيرًا على طريقةِ تفكيرنا بشأن الحالات الكمية. إذا كنا نرى هذه الحالاتِ الكميةَ بصفتها احتمالات، فلن يكون هذا الارتباط الوثيق غامضًا في حد ذاته: إذا كنت تعرف مثلًا أنَّ ثمَّة بطاقةً بيضاء وبطاقة سوداء وُضِعتا في ظرفين ثم خُلط الظرفان، وعند فتح الظرف الأول وجدت البطاقةَ البيضاء، فأنت تعلم يقينًا أن الظرف الآخر يحتوي على البطاقة السوداء حتى إذا كانت بينهما مسافةُ أميال؛ وليس هذا بسبب سِمة اللامحلية الغامضة. وعلى الجانب الآخر، إذا كانت حالةٌ أحادية تصف (الدوران لأعلى هنا، الدوران لأسفل هناك) و(الدوران لأسفل هنا، الدوران لأعلى هناك) بالتزامن معًا — أيًّا ما كان يعنيه ذلك — فقبل القياس تكون حالتا الإلكترونَين غيرَ محدَّدتَين ثم تصبحان محدَّدتَين بعد القياس، ويبدو أن التحوُّل من الحالة غير المحدَّدة إلى المحدَّدة تحدُث على الفور مهما كانت المسافة بين الإلكترونَين.

ربما يبدو في هذا دعمًا لتفسير الاحتمالية للحالة، ودعمًا لفكرةِ أن «التشابك» ليس إلا مرادفًا لكلمة «الارتباط». لكن التشابك الكمي لا يمكن فَهْمه بهذه البساطة الشديدة، حتى إذا نحَّينا جانبًا الصعوباتِ العميقةَ التي يفرضها التداخل على تفسير الاحتمالية للحالات الكمية، وهذا ما سنراه عَبْر دراسة لعبة بسيطة وتأثيراتها البارزة.

مبرهنة بيل وضرورة اللامحلية

تحظى الألعاب التعاونية — التي يتعاون فيها اللاعبون لتحقيقِ هدفٍ مشترَك — برواج كبير في هذه الأيام. وصحيح أنَّ «لعبة بيل»، وهي لعبة تعاونية يمارسها لاعبان، لا تستطيع أن تنافس الألعابَ الأكثر إمتاعًا، لكن أهميتها الفلسفية تعوِّض ما تفتقر إليه في عنصر التسلية. لممارسة هذه اللعبة، نحتاج إلى عملتَين معدنيتَين وبطاقتَين وغرفتَين؛ إذ يحصل كلُّ لاعب على واحدةٍ من كل زوج. قد تستقر العملتان على «الصورة» أو «الكتابة» عند رميهما؛ وللبطاقتَين وجهٌ أبيض وآخرُ أسود؛ ويجب أن تكون كلٌّ من الغرفتَين بعيدةً عن الأخرى ومقفلة.

سأوضح الآن كيف يمكننا أن نلعب أنا وأنت جولةً من اللعبة. ندخل الغرفتَين ويقلب كلٌّ منَّا عملته المعدنية. بعد ذلك نضع البطاقتَين بحيث إما أن يكون الوجه الأبيض إلى الأعلى أو الأسود. والحق أنَّ شروط الفوز غريبةٌ بعض الشيء: فنحن نفوز إذا وضع كلانا البطاقتَين على الوجه نفسه (كلتا البطاقتَين على الوجه الأبيض أو كلتاهما على الوجه الأسود)؛ «إلا» إذا استقرَّت العملتان على «الكتابة» حين نقلبهما، فحينها نفوز إذا اختلف الوجه العلوي للبطاقتَين (أسود/أبيض أو أبيض/أسود). نلعب عدةَ جولات، وفي النهاية نحسب النقاط: النقاط هي المرَّات التي فزنا فيها. وفيما يلي ملخَّص القواعد:

عملتِي المعدنية عملتك المعدنية شروط الفوز
صورة صورة تطابُق وجهَي البطاقتَين العلويين
صورة كتابة تطابُق وجهَي البطاقتَين العلويين
كتابة صورة تطابُق وجهَي البطاقتَين العلويين
كتابة كتابة اختلاف وجهَي البطاقتَين العلويين

قبل بدءِ اللعب، يمكننا مقارنةُ الملاحظات كي يمكننا التوصُّل إلى أفضل استراتيجية ممكنة. فمن الاستراتيجيات الوجيهة على سبيل المثال، أن نتَّفق على وضع البطاقتَين دومًا بحيث يكون الوجه الأبيض إلى أعلى مهما كانت الظروف. ووفقًا لتلك الاستراتيجية، سنفوز في ثلاثة أرباع المرات، ولن نخسر إلا إذا استقرت العملتان على وجه الكتابة.

ماذا إذا كنا نريد أداءً أفضل؛ أي إذا أردنا ألا نكتفيَ بالفوز في ثلاثة أرباع المرات بل في كل المرات؟ لن تجد صعوبةً في إقناع نفسك باستحالة ذلك. لنفترض مثلًا أننا اتفقنا على أنك ستجعل وجهَ الورقة الأبيض هو الأعلى مهما حدث. سأحتاج أنا إلى وضع الوجه الأسود لأعلى إذا استقرَّت العملتان على وجه «الكتابة»، وأن أضع الوجه الأبيض لأعلى إذا كانت إحدى العملتَين فقط هي التي استقرَّت على وجه «الكتابة»؛ لكنني كي أتمكنَ من ذلك، سأحتاج إلى رؤية عملتك مثلما سأحتاج إلى رؤية عملتِي، وكلاهما في غرفة مختلفة. لا سبيل إذن إلى تجنُّب لعب البطاقة الخطأ في بعض الأحيان، وبهذا يؤدي احتمال واحد على الأقل من بين التوفيقات الأربعة المحتملة لقلب العملتَين في الهواء إلى خسارتنا. ونحن نواجه مشكلاتٍ مماثلةً أيًّا كانت الاستراتيجية التي نتَّبعها؛ إذ لا يستطيع كِلانا سوى رؤية عملته؛ ولأن شروط الفوز تعتمد على خاصيةٍ مشتركة بين العملتَين، فثمة نتيجةٌ واحدة على الأقل من النتائج الأربع لقلب العملتَين في الهواء ستؤدي إلى خسارتنا. ولهذا لا يمكننا الحصول على نتيجةٍ أفضل من ٧٥ بالمائة.

ماذا لو سمحْنا بالعشوائية في الاستراتيجيات؟ يمكننا مثلًا أن نقرِّر مقدَّمًا اتباعَ استراتيجية مختلِفة في كل جولة من اللعبة، يمكننا حتى أن نتخذَ هذا القرار وفقًا لقلب العملة في الهواء أو دحرجة النَّرد. وهذا أيضًا لن يفيد. ذلك أنه لا توجد استراتيجيةٌ من الاستراتيجيات «الخالصة» (غير العشوائية) تحقِّق نسبة نجاح أكبرَ من ٧٥ بالمائة؛ ولهذا لا يزيد النجاح الذي يحقِّقه مَزْج هذه الاستراتيجيات عشوائيًّا عن ٧٥ بالمائة هو الآخر.

لكن لنفترض أننا توصَّلنا إلى لاعبَين في هذه اللعبة تمكَّنا بالفعل من تحقيق نجاحٍ يتجاوز ٧٥ بالمائة. فكيف تأتَّى لهما فِعل ذلك؟ الاحتمالية الواضحة هي أنهما يغُشَّان؛ فربما أدخلا هاتفَين محمولَين أو ما شابه خلسةً إلى الغرفتَين، وراحا يقارنان الملاحظات. يبدو إذن أننا أثبتنا أنه من دون الغش بتلك الطريقة، فأفضل درجة يمكن الحصول عليها في لعبة بيل هي ٧٥ بالمائة؛ ومن ثمَّ فإن تحقيقَ درجةٍ تزيد على ٧٥ بالمائة هو دليل على الغش.

لنفترض أننا نهتم «حقًّا» بمنع الغش. إليكم طريقة مؤكَّدة لتحقيق ذلك؛ وهي الحرص على أن تكون المسافة بين الغرفتَين كبيرةً، بحيث لا يتمكن حتى الضوءُ من الانتقال من غرفةٍ إلى أخرى في أثناء ممارسة اللعبة. (ربما تكون الغرفة الأولى على الأرض، والغرفة الثانية في مدارٍ حول كوكب المشتري، ولن نمارس اللعبة إلا لمدة عشر دقائق، أقل من المدة التي يستغرقها الضوء للسفر بين الكوكبَين، وهي من ٣٥ إلى ٥٠ دقيقة). في هذه الحالة، يبدو الغش مستحيلًا من الناحية الفيزيائية؛ إذ إنه سيتطلَّب إشارةً أسرعَ من الضوء.

يُطلَق على النتيجة المتمثِّلة في أن ٧٥ بالمائة هي أقصى درجة ممكنة في لعبة بيل من دون وجود إشارة بين الغرفتَين — اسم «متباينة بيل» نسبة إلى عالِم الفيزياء جون بيل. إذا كُسر حاجزُ هذه النتيجة، فسيعني ذلك، على ما يبدو، أنه توجد إشارةٌ تسافر بين الغرفتَين اللتَين تُمارَس فيهما اللعبة؛ وإذا كانت المسافة بين الغرفتَين كبيرةً ولا يَسَع الضوء أن يسافر بينهما، فلا بد أن تكون هذه الإشارة أسرعَ من الضوء.

في تجربةٍ بارزةٍ أُجريت في باريس عام ١٩٨٦، أعدَّ آلان أسبكت جهازًا مارسَ لعبةَ بيل فعليًّا وفاز فيها بنسبةٍ تزيد على ٧٥ بالمائة من الوقت، لكنه لم يفُز في كل المرات. (استخدمَ أسبكت أجهزةً للتوزيع العشوائي بدلًا من البشر، ويبدو نموذج المتباينة التفصيلي الذي أخلَّ به مختلفًا عن نموذج نسبة اﻟ ٧٥ بالمائة الذي استخدمناه هنا، لكن الأفكار الأساسية لكلَيهما واحدة). ومنذ ذلك الوقت، تكرَّرت نتيجةُ أسبكت مرةً بعد مرة. فلنتناول الآن تلك الطريقةَ وكيفية تنفيذها: نولِّد أزواجًا من الجسيمات في الحالة الأحادية ، ونرسلها إلى الغرفتَين. وفي كل غرفة، قاسَ اللاعب (أو بالأحرى مجموعة الدوائر المؤتمتة التي تحلُّ محلَّ اللاعب) دوران الجسيم في أحد الاتجاهَين المحتملَين، مع تحديدِ اختيار الاتجاه عشوائيًّا عن طريق القرعة بالعملة المعدنية (عن طريق جهاز ميكانيكي يقوم بالتوزيع العشوائي في حقيقة الأمر). تُفسَّر نتيجةُ الدوران لأعلى على أنها وضْع وجه البطاقة «الأبيض» لأعلى، بينما تُفسَّر نتيجةُ الدوران لأسفل على أنها وضْع وجه البطاقة «الأسود» لأعلى. وعلى خلاف مناقشتنا السابقة للحالة الأحادية ، فليست اتجاهاتُ القياس واحدة في حالة كل جسيم؛ لذلك لن نتنبأ بالارتباط المعاكس المثالي للنتائج: ما تتنبأ به نظريةُ الكم هو أن الارتباط المعاكس يصبح أضعفَ تدريجيًّا مع تباعُد اتجاهات القياس.

صحيحٌ أنَّ الرياضيات ذات الصلة تفوق مستوى هذا الكتاب، لكن سيكون من السهل وصفُ النتيجة النهائية؛ إذا نفَّذنا هذا البروتوكول: إعداد تسلسلات حالات الدوران وقياسها، فستصبح نتيجةُ لعبة بيل حوالي ٨٥ بالمائة؛ أي أعلى من الحد الذي تنص عليه متباينة بيل.

أول ما يمكننا استنتاجُه من هذا هو أنَّ التشابك الكمي أعقدُ من الترابط الاحتمالي. إذا استطعنا بشكلٍ ما أن ننظر إلى الحالة الأحادية على أنها تصِف زوجًا من حالات الدوران المحدَّدة لكنها مرتبطة عكسيًّا، فإن قياسات هذه الدورانات ستضم مزيجًا عشوائيًّا (وبالغ التعقيد) من الاستراتيجيات، وقد رأينا أنه ما من مزيجٍ كهذا يمكن أن يتخطَّى حاجزَ ٧٥ بالمائة. أيًّا يكن التشابك الكمي، فهو أغربُ مما في تصوُّرنا، ويبدو بالفعل أنَّ اللامحلية سِمة أصيلة من سِماته. ذلك أنَّ الارتباطات بين قياسات الدوران عند قياس أقوى كثيرًا من أن تُعزى إلى أي وصفٍ محلي أساسي.

غير أننا نستطيع أن نتعلَّم من التجارب التي تخلُّ بمتباينة بيل ما هو أكثر من هذا بكثير. ذلك أنَّ ما اشتققناه من المتباينة لم يَستخدم ميكانيكا الكم في نهاية المطاف؛ وإنما كان محضَ توضيحٍ لأن أيَّ استراتيجية تكسر حاجز اﻟ ٧٥ بالمائة في درجات لعبة بيل، لا بد أنها تستخدم نوعًا من التفاعلات الأسرع من الضوء. وقد نجحت تجربةُ أسبكت وما تلاها من تجاربَ في تخطِّي حاجز تلك الدرجة. إذن، حتى إن ثبَت بُطلان ميكانيكا الكم غدًا، فإن التجربة تُعَد برهانًا تجريبيًّا مباشرًا على أن العالم ينطوي على عملياتٍ تحدُث بسرعة أكبرَ من سرعة الضوء، بل إنها عملياتٌ تحدُث بسرعة اعتباطية وعلى نحوٍ آنيٍّ.

غير أنَّ هذا الاستنتاج محلُّ خلافٍ حادٍّ. فمعظم علماء الفيزياء لا يقبلون بوجود عملياتٍ في الطبيعة تحدُث بسرعةٍ أكبرَ من سرعة الضوء؛ إذ إنهم يشيرون إلى التعارض بين نظرية النسبية الخاصة ووجود هذه التفاعلات، كما يشيرون إلى «نظرية عدم الاتصال»، وهي نتيجةٌ مباشرة لميكانيكا الكم، توضِّح أنه لا يمكن على أي حال استخدامُ أي عمليةٍ فيزيائيةٍ متَّسقةٍ مع ميكانيكا الكم، لإرسال معلوماتٍ فعليةٍ وقابلةٍ للاستخدام بسرعةٍ أكبر من سرعة الضوء. (لذا، إذا كانت هناك تأثيراتٌ أسرعُ من الضوء تُسهِم بشكلٍ ما في الإخلال بمتباينة بيل، فإنها ستكون مخفيةً بعيدًا وربما بشكلٍ تآمري؛ كي لا نستطيع اكتشافها مباشرةً.) أما كيف يمكن التوفيق بين استحالة إرسال إشاراتٍ بسرعةٍ أكبرَ من الضوء وبين متباينة بيل والإخلال بها، فهذه مسألةٌ خلافيةٌ وغير واضحة.

إنَّ هذه الألغاز — مسألة القياس وتفسير الحالة الكمية، وطبيعة التشابك الكمي، وسِمة اللامحلية التي يشير إليها الإخلال بمتباينة بيل — هي «حقائقُ موجودة بالفعل» لا بد أن تتناولها أيُّ محاولةٍ لفَهْم ميكانيكا الكم. وينبغي أن يكون واضحًا بالفعل أنَّ توفيرَ امتدادٍ بسيطٍ لإطار الميكانيكا الكلاسيكية (أو الميكانيكا الإحصائية في الحقيقة) أمرٌ مُستبعَد؛ فمن الجلي أن فَهْم ميكانيكا الكم يتطلَّب تغييرًا في التوجُّه الفلسفي، أو في الفيزياء نفسِها، أو في كلَيهما. وفي الفصل السادس، سنرى كيفيةَ تحقيق ذلك، ونتعرَّف على سببِ أهميته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤