الفصل الثاني

الدولة والحكومة في عالم الواقع

١

لقد دللت على أن دعوى الدولة في الطاعة تقوم على إرادتها وقدرتها على ضمان إشباع ما يحتاجه المواطنون إشباعًا تامًّا. ولكي أتمكن من عرض هذه الدعوى عرضًا يثبت صحتها، ينبغي أن ينعدم وجود التحيز في أدائها لهذه الوظيفة وهذا الاختصاص، فحينما انحرف المجهود الذي تبذله الدولة نحو خدمة مصلحة تخص جماعة تدخل في نطاق المجتمع، نجد أنه يكون من المحتمل قيام ثورة إن آجلًا أو عاجلًا. ويمكننا تعريف كلمة الثورة على أنها محاولة، عن طريق استخدام القوة ضد الحكومة التي بيدها مقاليد الحكم قانونًا؛ لفرض تغيير على ما ينظر إليه هؤلاء الذين يقومون باستخدام هذه القوة، على أن هذا التغيير هو الأهداف الحقيقية للدولة.

هذا، وإن الفرد الذي يقوم بدارسة الشواهد التاريخية لن ينكر وجود أي تحيز فيما تقوم به الدولة من أعمال، فلقد تحيزت دولة المدينة الإغريقية ضد العبيد وتحيزت الإمبراطورية الرومانية ضد العبيد والفقراء، كما أن الدول في العصور الوسطى كانت تتحيز لأصحاب الأراضي. ونجد أنه منذ الانقلاب الصناعي تحيزت الدولة لملاك أدوات الإنتاج ضد أولئك الذين لا يملكون شيئًا يبيعونه غير قواهم.

وطبيعي أن هذا يعتبر تبسيطًا مُغالًى فيه لعملية معقدة في تفصيلاتها حتى يكاد مؤرخان يجتمعان على روايتها في عبارة واحدة، بيد أن هذه المعاني واحدة. ففروض الولاء التي تُقدَّم للدولة دائمًا ما تنتقض قيمتها جماعة معينة تذهب إلى أن الدولة تتحيز ضد مصالحها. ولا داعي الآن إلى أن نثير موضوع هذه الجماعة التي تؤمن بهذه الفكرة، إلا أن ما يعنينا في هذا المجال هو وجود الصراع الدائم — سواء أكان كامنًا أم علنيًّا — في الدولة حيث اتخذ مظهرًا جديدًا ليخول لها الحق في استخدام السلطة ذات السيادة.

وأهداف هذا الصراع مختلفة في مظهرها، ومتنوعة في معالمها، مثلها في ذلك مثل الجماعات التي نواجهها في المجتمع. ويشن هذا الصراع في بعض الأحيان على أسس دينية، فقد أعلنت فرنسا الكفاح في الحروب الأهلية التي قامت في القرن السادس عشر لضمان التسامح الديني من أجل الهيجونوت، كما أن الثوار في الحرب الأهلية الإنجليزية في القرن السابع عشر قد أعلنوا هدفهم، وكان يرمي إلى وضع نظام دستوري؛ ليحل محل الاستبداد الملكي الذي قاوموه. أما الثورة البلشفية التي قامت عام ١٩١٧م فكانت ترمي إلى إقامة مجتمع اشتراكي، وقد سعى هتلر عام ١٩٣٣م إلى إنعاش الدولة الألمانية بأن يجرد من السلطة في المجتمع الذي تهيمن عليه الدولة جميع الرجال والنساء الذين من أصل يهودي، ويضيق الخناق على الأفكار الماركسية.

ومهما يكن من أمر التصريحات التي تنطوي على نوايا ثورية — ومن النادر تمشِّي هذه التصريحات مع ما يحققه الثوار — ينبغي على الفلسفة السياسية أن تستمد من التاريخ نتائج النواحي الحقيقية التي عرفت هناك. وليس ما يعنينا في هذا الصدد هو ما يراه الأفراد، على أن الأعمال التي يقومون بها، ولكن ما يقومون بعمله فعلًا؛ إذ إن سبل حياة الدولة يطرأ عليها التغيير باستمرار. ويوجد النمط الجديد للسلوك، وهو فترة من الطرب في المجتمع لا تلبث أن تزول، كما أننا نجد اتحادًا جديدًا قد قام على أساس هذا النمط الجديد الذي يبقى حتى يسترعي انتباهنا ظهور دلائل التأفف التي تعني في الواقع حلول مزاج ثوري جديد، ولكن هل نستطيع إدراك أية مبادئ عامة تفسر هذه الظاهرة؟

فمنذ قرنين استرعى انتباه مونتسكيو وروسو اتجاه الحكومات نحو التدهور والانحلال، كما اعتقد توماس جيفرسن (الذي لاحظ بنفسه ثورتين من الطراز الأول) أننا في حاجة إلى مثل ذلك في كل جيل، حتى تجعل الحكومات تتذكر الأهداف التي من أجلها تكونت وشُكلت. وأصبحت ممارسة السلطة وهي ذات أثر فتاك بالنسبة لممارسيها، أصبحت موضوعًا عامًّا يتناوله الفلاسفة السياسيون. كما أنها دفعت مل الكبير إلى ملاحظة أن كل الأسباب التي تبرر فرض السلطة هي الأسباب التي تدعو إلى إيجاد الضمانات وخلقها ضد إساءة استخدام السلطة. ومثل هذه الضمانات كثيرة، فالدساتير المكتوبة وقوانين الحقوق وفصل السلطات والقوانين الأساسية لم تؤدِّ أية منها عملها خير الأداء لتقنع الأفراد بأن أهدافهم في الإمكان تحقيقها دون استخدام العنف. وجذور مشكلاتنا أعمق بكثير مما تظهره النواحي الدستورية. فإذا كان مونتسكيو وروسو على صواب؛ فما زلنا نريد معرفة تلك النواحي التي تدفع بالحكومات إلى طريق التدهور والانحلال، وإذا اتسم حرص مل بالحكمة، فما زلنا نحتاج إلى معرفة الأسباب التي تجعل الحكومات تسيء استخدام سلطتها.

أما الأساس الصحيح للفلسفة السياسية فهو فلسفة التاريخ، فعندما نستطيع تفسير أسباب الأحداث التاريخية تتكون لدينا المواد التي نستطيع أن نضع عليها فروضًا قانونية لنظرية عن الدولة تبعث على الرضا. ولا شك في عدم وجود مثل هذه الفلسفات، فالتاريخ سِجل يكشف الستار عن إرادة الله، أو كما قال هيجل: إنه بداية السير نحو النواحي المطلقة، أو إنه في الإمكان تفسير التغيير الاجتماعي بأنه تغيير في الجو، فيجب علينا أن نتوقع ظهور النواحي الديمقراطية في المناطق المعتدلة، أما ظهور الطغيان والاستبداد فيكون في المناطق الجافة، أو إنه ينبغي أن ننظر إلى التاريخ على أنه سيرة لحياة مشاهير الرجال، وأن نجد في إرادة البطل مثل (قيصر ولوثر ونابليون ولينين) ذلك التتابع السببي للأحداث.

هذا وبيان ما تثيره هذه النظريات من متاعب ومضايقات بسيطة للغاية؛ فهي لا تمكننا من التنبؤ بمستقبل الأحداث المحتملة الوقوع، وهي تتركنا معصوبي الأعين أمام ضربات القدر، فإذا قمنا بتفسير التاريخ على أنه إظهار لإرادة الله فمعناه أننا نُترَك دون معرفة المرحلة التالية لهذه الإرادة. وإذا تمشينا مع القول بأنه بداية السير نحو النواحي المطلقة فسنُترَك ولسنا على يقين من اتجاه هذا المطلق الذي يسير فيه هذا الإطلاق. وإذا جارينا قول هيجل بأنه اتجاه نحو تحقيق أفضل للحرية، فعندئذ يجب علينا أن نفسر كيف أن هذه الفكرة تتمشى مع الإخلال بالأمن (وهو ضرورة من ضروريات الحرية) أي الذي يجعل الفترة التي نعيش فيها عهدًا أو مرتعًا للدكتاتوريات التي لا تجلب لنا نوازع الخير. أما نظرية الجو واعتباره سبب ذلك التغير، فإنها لا تنطوي على أية حقيقة، ولكن ليست هناك تغيرات أساسية في الأحوال الجوية الأوربية في الفترات التاريخية المعروفة، بينما تتغير أشكال الحكومة والحضارة تغيرًا كبيرًا في نفس الفترة، وما من شك في أن مشاهير الرجال قد خلصوا آثارهم مطبوعة على صفحات التاريخ، إلا أن الأسباب التي أدت إلى إمكان انطباع ذلك الأثر لا نجد لها تفسيرًا إذا نظرنا إليها على أنها بداية التغييرات الاجتماعية. ولم يكن واشنطن السبب في قيام الثورة الأمريكية بالرغم من أنه كان عاملًا رئيسيًّا هامًّا في نجاحها، كما أن تسخير القوى الكهربائية لاستخدامها في النواحي الصناعية — هذه القوى التي غيرت من معالم حضارتنا — لا يرجع الفضل فيها إلى فرد أو جماعة من مشاهير الرجال؛ ولهذا ينبغي علينا أن نبحث عن اتجاهات أخرى تختلف عن هذه الاتجاهات.

إن العامل الأساسي في أي مجتمع هو السبيل الوحيد الذي يرجع إليه وجوده، وإن العلاقات الاجتماعية قد قامت على تزويد تلك النواحي المادية الأولى التي لا تستمر الحياة بدون إشباعها، وإن أي تحليل لأي مجتمع سيُميط لنا اللثام دائمًا عن اتصال هيئاتها المقررة وثقافتها وطريقة إشباع هذه النواحي المادية. وطالما طرأ التغيير على هذه الطرق وتلك السبل، طرأ أيضًا على مقومات المجتمع وثقافته، وإن المجتمع الذي نجد فيه أن العمل الرئيسي لتحقيق ذلك الإشباع هو العمل الذي يقوم به العبيد، سيكون ثمرة لأفكار مختلفة عن تلك الأفكار التي تكون لدى مجتمع آخر يقوم فيه بذلك العمل أناس أحرار، وستحدد موقفه بالنسبة للنساء والقانون والتعليم والدين طبيعة تقسيمه إلى طبقة العبيد وطبقة الأحرار. ومما هو جدير بالملاحظة أن قوانينه من الضروري أن توجه لإبقاء إلزام العبيد بأن يقوموا بالعمل، وسيكفل الدين للسلطة أن تقوم بتنفيذ هذا الإلزام.

ويبدو أن التغيرات في سبل هذا الإنتاج الاقتصادي تعتبر بمثابة عامل حيوي في تكوين هذا التغير في جميع الأنماط الاجتماعية الأخرى التي نعرفها؛ إذ إن التغيرات في تلك السبل ستحدد تغيرات العلاقات الاجتماعية، وهذه بدورها قد تُدمج في العادات الثقافية للأفراد. وإننا لا نستطيع كتابة تاريخ القانون دون النظر إلى جذوره المتأصلة في سبل الإنتاج الاقتصادي، كما أننا لا نستطيع تفسير تاريخ المذاهب الدينية دون أن نقرنها بالإطار الاجتماعي. والسبيل إلى تعيين الإطار الاجتماعي يكمن دائمًا في العلاقات التي تتوقف على وسائل هذا الإنتاج، وتسعى نظمنا التعليمية والتربوية إلى إعداد الطفل للحياة، بيد أن نوع هذه الحياة يعتبر من نتائج العلاقات المادية للنظام الإنتاجي الذي له جدواه في أي مجتمع بالذات، وإن الأسلوب الذي نتبعه في الهندسة المعمارية ونواحي الأدب والشكل العام للعلوم والإطار الأساسي لكل شيء هو ما نطلق عليه اسم «الحضارة» وتحدده هذه العلاقات الإنتاجية.

وإننا نحيل على القول بأن البنيان الاجتماعي الأعظم يتأصل في الأسس الاقتصادية، ومن ثم فإن تغيير العلاقات الاقتصادية هو تغيير علاقات ذلك البنيان الاجتماعي الأعظم، وبالتالي يحق لنا القول بأن أي نظام يدور حول العلاقات الاقتصادية سيتطلب نواحي سياسية ونواحي اجتماعية لتطور ما ينطوي عليها. ونحن نرى مثلًا أن القانون سيقوم بتعريف علاقات الملكية التي ستطابق تضميناته، وستنظم النواحي التعليمية تنظيمًا يكفل للأفراد التدريب لتحقيق الوظائف التي يتضمنها النظام في تلك النواحي. وسيعبر القانون في عهد إقطاعي عن خصائص المجتمع حيث يحدد الاتصال بملكية الأرض علاقات الأفراد الاقتصادية. والتعليم في مثل هذا المجتمع هو الذي يكيف وسائلهم حتى تتمشى مع الاحتياجات التي تضمنها العلاقات التي يريد المجتمع أن يحتفظ بها. فمن الواضح أنه إذا عجز المجتمع عن التأثير بسلطته على هذا التكيف الذي يوجده، فإن مقدرته على إشباع الاحتياجات ذات الأثر الفعال ستواجه بل ستعاني من الضرر الذي ربما يتغلغل حتى يعرض وجوده للخطر.

وينبغي على أي مجتمع أن يوقف من حدة بعض علاقات الإنتاج التي تتصف بالاستقرار لكي يُنظر إليه دائمًا على أنه مجتمع. ويجب عليه أن يضع وراء هذه العلاقات، فوق القانون، وهي في حاجة إلى أداة إلزامية لضمان استمرار هذه العلاقات؛ لأنه بدونها لن يستمر لها العيش والبقاء. وينظر إليها في الواقع على أنها علاقات مستقلة عن إرادات من يشتركون في ذلك، ونحن نلاحظ في المجتمعات التي نعرفها أن التغيرات لا تطرأ غالبًا على تلك العلاقات؛ إذ إنها علاقات فردية أكثر من كونها نواحي عامة في شكلها. ولقد أوضحت دراسات حركة المجتمع أن العبيد يبقون عبيدًا والمأجورين يظلون مأجورين عندما يُنظر إلى كل منها كمجموعة واحدة، وليس في الإمكان إدخال تغيرات شاملة في أي مجتمع وفي أية فترة دون حدوث أي تفكك في نواحي الحياة. وطالما أن هذا التفكك سيعرض أسس النظام القائم للخطر، فإن المجتمع في حاجة إلى أداة للحيلولة دون ظهور مثل هذا الخطر، ولو عن طريق القوة إذا دعت الضرورة؛ حتى تخفف من خطورة هذا التفكك. والدولة من الناحية التاريخية ما هي إلا أداة، أما وظيفتها الأولى فهي ضمان الإنتاج في المجتمع بالطرق السلمية، وهي بهذا تقوم بحماية العلاقات الإنتاجية التي تحتاجها هذه العملية، وهي تقوم كذلك بإقرار العلاقات القانونية في ظل النواحي الإلزامية التي تتمسك الدولة بوجودها.

ولقد رأينا أن الدولة لا تعمل إلا عن طريق الأشخاص الذين يشكلون الهيئة التي تضم أفرادًا، ونطلق عليها اسم الحكومة، ومن ثم فإن التحكم في العلاقات القانونية في أي مجتمع في أيدي هؤلاء الأفراد الذين لهم الحق الرسمي في ممارسة هذه السلطة ذات السيادة. وإن قيامنا بتحديد الوسيلة التي ستخضع لها معناه تحديد كيفية توزيع الفوائد التي ستجنى من وراء العملية الإنتاجية، ومن المستحيل أن نقوم بهذا التحديد إلا عن طريق تخويلنا الحق في ممارسة السيادة؛ ولذلك فإن هؤلاء الذين يسعون إلى تغيير وجه العملية الإنتاجية، أي هؤلاء الذين يهدفون إلى تغيير العلاقات الإنتاجية للنظام الذي يعيشون في ظله، يجب عليهم القيام بذلك عن طريق تغيير الأسس القانونية للمجتمع. ويمكن تحقيق ذلك بامتلاكهم سلطة الدولة سواء أكان ذلك عن طريق سلمي أم باستخدام العنف؛ إذ إن الاستيلاء على الحكم هو الأداة التي يمكن عن طريقها وحدها تغيير هذه العلاقات القانونية.

وقد أصبحت النواحي التي أمكن استخلاصها من هذا كله أمرًا هامًّا بالنسبة لأية نظرية سياسية. وأية جماعة بيدها السلطة ذات السيادة في المجتمع ستسترشد بالطريقة التي تضمن بها أعلى مراتب الإشباع لتلك الاحتياجات، وذلك عن طريق ممارستها. إلا أن فكرتها عن هذه الطريقة من الضروري دفعها بطابع العلاقة الخاصة بالنسبة لعملية الإنتاج. ففي المجتمع الذي تنتشر فيه طبقة العبيد نجد أن ملاك العبيد سيعتقدون أن العبودية هي لخير المجتمع، كما أنهم سيسخرون نظم الدولة كي تحقق العلاقات التي تعتبر من مستلزمات نظام العبيد، غير أنه من الواضح أن فكرتهم عن الخير لن تطابق فكرة العبيد في الخير أيضًا، وأن مواقف الأفراد بالنسبة للخير تصدر عن الخبرة الطويلة التي يمرون بها، وعندما تختلف المصلحة في الدولة نجد أن الخبرة المختلفة تؤدي إلى إيجاد أفكار مختلفة، وأن استخدامها هو الذي يحدد وضع سلطة الدولة، ولا بد أن تتصارع هذه الأفكار كل منها مع الأخرى من أجل البقاء، ومعنى هذا البقاء (في هذا الإطار) هو الحق في تحديد الفوائد التي ستكرس الدولة نفسها لتحقيقها، ومن ثم نجد أنه في أي مجتمع توجد فيه جماعات عديدة تختلف عن علاقتها مع العملية الإنتاجية، نجد أن الصراع يكمن في الأسس التي يقوم عليها المجتمع.

وهذا الصراع صراع من نوعين، فهو صراع بين الجماعات نفسها، وهو صراع بين الأفكار التي تضعها كل جماعة نُصبَ أعينها كتعبير عن فكرتها في الخير الذي يصدر عن الخبرة التي تستخلص من وضعها. وقصارى القول أن الجماعات تضع نظمًا عن القيمة، وأن هذه النظم تعتبر وظيفة من وظائف العلاقات الاجتماعية، كما أن هذه النظم تطالب دائمًا بأن تكون شاملة. وستكون هذه النظم صحيحة عندما ينظر إليها الأفراد خارج نطاق الجماعة، كما نجد مثلًا أن ملاك العبيد في الولايات المتحدة ينادون بأن العبودية هي لخير العبيد أنفسهم، ولكننا في الحقيقة نجد أن القيم سيحددها اتساع نطاق الخبرة التي تصدر عنها هذه القيم، كما أن القيم التي تدخل في حيز التنفيذ ستكون دائمًا القيم التي تتخذها الجماعة التي يُوكل إليها في وقت ما جهاز الدولة.

ويجب أن نلاحظ أن هذا الموقف لا يُتخذ بالنسبة للجماعة الحاكمة أية مطابقة للمصلحة الخاصة، سواء أكان ذلك عن وعي (عن قصد) مع سلامة المجتمع، ولا يثبت ذلك أن أعمالهم لا تتسم بالإخلاص في سعيهم وراء وضع فكرتهم عما يجب أن تسعى إليه الدولة في صيغة شاملة، وأن عمليات المجتمع الأيديولوجية (المذهبية) لأكثر تعقيدًا وتشابكًا مما تكشف عنه أية نظرية تدور حول الحوافز والدوافع. ومن الطبيعي أن يصطبغ الفرد بصبغة بيئته، فهذه هي الخبرة التي يعرفها، وإن هذه القيم التي تثيرها تلونها مشاعره وآماله ومخاوفه التي تحثه دون أن يدري — على النظر إليها باعتبارها عناصر ضرورية للخير الاجتماعي. فالطفل الذي ولد وتربى في ظل التقاليد الكاثوليكية يتقبل قيم كنيسة روما على أنها جزء من النظام الكائن، ونجد أن أي مسلم يؤمن بقيم القرآن، كما أن الطفل في روسيا السوفيتية يعتبر النظرة الشيوعية موجودة في طبيعة العلاقات الاجتماعية الحقة، ولنلاحظ أن الذين يسيطرون على إحدى البيئات يرسمون، على وجهٍ ما، الصفات المذهبية لحياة تلك البيئة بطريقة معينة وبدرجة معينة، لا تكاد أن تؤثر على أولئك الذين تحت حكمهم بأقل مما تؤثر فيهم أنفسهم، كما أن أندر شيء يوجد في المجتمع هو الإنسان الذي يستطيع أن يتخطى هذه العادات المألوفة.

ولكن هناك من تخطى هذه العادات، وسبب هذا التخطي هو جوهر هذه النظرية التي أقوم بتوضيح معالمها، فنحن نعلم أن العبودية يُنظر إليها في فترة من الفترات على أنها أمر طبيعي، بينما نجد في فترة أخرى أنه لا يمكن تبريرها، ولم يظهر دفاع أفلاطون عن منح المرأة حق المساواة، لم يظهر في مستهل القرن التاسع عشر أكثر من مجرد شذوذ طريف من فيلسوف عظيم، كما تبدو لنا الآن من الأمور الأولية. ولقد كان في استطاعة وليم وندهام أن يحذر مجلس العموم من الأخطار التي تكمن في النظام القومي للتعليم، ولكن بعد مرور نصف قرن نادى روبرت لو بوجوب تعليم أصحاب السلطة، ثم صار تدخل الدولة في الشئون الإنتاجية يبدو في القرن السابع عشر أمرًا طبيعيًّا، ولكن لم يأخذ بهذه الفكرة جماعة قليلة من المفكرين، غير أنه في نهاية القرن الثامن عشر كانت الفكرة السائدة هي أن الحكومة أحسن ما تكون عندما تحكم قليلًا، فالسعر المعقول بالنسبة لأي مفكر في العصور الوسطى هو فكرة شبه دينية مستمدة من بعض فروض القانون الطبيعي، بينما ينظر رجل الاقتصاد الحديث إلى السعر المعقول باعتباره وظيفة لمطلب دنيوي في سوق تتأثر تأثرًا تامًّا بأفكار دينية متحيزة. ولا يوجد إلا عدد قليل من المنشورات في كل ما ظهر من كتب سياسية في القرن الثامن عشر في إنجلترا، يتشكك في حق مجلس اللوردات في أن يحتل مكانه في نظام الحكم. أما في القرن العشرين فلا يوجد إلا عدد قليل يدافع عن مجلس اللوردات، أما الغالبية فتطالب بإلغاء هذا المجلس، أو إجراء تغييرات جوهرية في أسس تكوينه. أما منذ خمسين عامًا فلم تكن لتستطيع غير أقلية من الإنجليز الذين لهم مكان في الحياة السياسية أن يتجرءوا على إعلان عدم إيمانهم بالمسائل الدينية. أما اليوم فمن المشكوك فيه — على الأقل — إذا كان مثل هذا الإعلان يمكن أن يكون له أي أثر خارج عن عدد قليل من المدن التي تحتوي على كاتدرائيات، فكيف نستطيع أن نشرح التطورات التي من هذا النوع؟

وأريد أن أدلل هنا على أن هذه التطورات إنما ترجع إلى تغييرات في العلاقات الاجتماعية التي ترجع بدورها إلى تغييرات في القوى المادية في الإنتاج، فالناس أصبحوا لا ينظرون إلى العبودية باعتبارها «أمرًا طبيعيًّا»؛ لأنه أصبح من العسير استغلال هذه القوى عن طريق العبودية، وتحولت حقوق النساء، فبعد أن كانت تعتبر من شذوذ الفلاسفة أصبحت مطالب يعترف بها المجتمع قانونًا عندما قضت علاقات الإنتاج بهذا الاعتراف، وأصبح التعليم من اختصاص الدولة بعد أن كان أمرًا أهليًّا خاصًّا، وذلك عندما تطلبت الصناعة عمالًا يستطيعون القراءة والكتابة، ويتوقف مدى تدخل الدولة في الصناعة على مدى ما يحدثه هذا التدخل من زيادة الإنتاج الذي يعتمد عليه المجتمع، كما يتحدد موقفنا بالنسبة لمجلس العموم على وجهة النظر التي نراها عن علاقته بالتشريع الذي نعتقد أنه مرغوب فيه؛ وهذا بدوره يتضمنه مفهومنا عن الخير الاجتماعي الذي ينشأ عن مكاننا في نظام العلاقات الاجتماعية. ولكن نظام العلاقات الاجتماعية هو الآخر يقوم على استغلال القوى المادية للإنتاج إلى أقصى حد ممكن.

نستخلص مما سبق أن الفترات التي تتسم بالتغيير السريع هي الفترات التي تتغير فيها وسائل الإنتاج. أما فترات الاستقرار النسبي فهي الفترات التي تتميز باتباع وسائل الإنتاج القديمة دون النظر إلى أية اختلافات. وعندئذ نتوقع حلول فترة تسود فيها الاكتشافات الجغرافية كعصر النهضة، أو عصر يتميز بالتغيرات العلمية. أما القرن التاسع عشر والقرن العشرون فقد اتسما بالإبداع الفكري والاجتماعي، إلا أنهما ولَّدا لنا زعزعة في أركان الدولة؛ إذ أصبح من الضروري انطباع تغييرات النظام الإنتاجي على البناء الأعظم الذي أقيمت دعائمه على العلاقات الضرورية التي أوجدها هذا النظام.

هذا بينما تنقص وسائل الإنتاج التي تغيرت في مثل هذه الفترات من قيمة نظام علاقات الملكية الراهنة، فإن المبادئ القانونية التي تتمسك بها الدولة لا تتيح للمجتمع الحصول على نتائج مرضية من جراء وسائل الإنتاج هذه. وتذهب إحدى الجماعات في المجتمع إلى أن العلاقات التي كانت تعتبرها طبيعية تعمل الآن لتحول دون إرضاء مطالبها إرضاءً تامًّا، فهي تسعى إلى تغيير هذه العلاقات، ولكن ما لم تتأهب هذه الجماعة التي تهيمن على سلطة السيادة لكي ترضى بتلك العلاقات الهادفة، فإن تلك الجماعة التي تطلب علاقات جديدة لا بد أن تستخدم السلطة الإلزامية للمجتمع لإعادة تحديدها، وإن أية جماعة تعتقد في أنها ستجني الثمار من جراء التغيرات التي تطرأ على العلاقات الاجتماعية، ستصبح جماعة ثورية بإجراء هذه التغيرات — إذا استطاعت — عندما يعارضها النظام القائم.

والتاريخ سجل حافل يفصل بين الجماعة التي ترى أنها كفيلة بالدفاع عن المطالب التي نعتبرها ضرورية لتحسين النواحي الإنتاجية، وسيؤدي حرمانها من مثل هذا الحق إلى القيام بحركة ثورية، ويخلع الأفراد على مثل هذه المطالب ثوبًا من السحر الذي يجتذب إليها الجميع. ولقد أعلنت الثورة الإنجليزية أنها قامت للدفاع عن المبدأ الدستوري والدين البرستانتي، وقامت لكي تدافع عن هذه النواحي، غير أنه كان يخفى وراءها حقيقة جوهرية هي أن الدولة شبه الإقطاعية التي أقامت أسسها — مثلها في ذلك مثل أسرة ستيوارت — على الحق الإلهي للملوك لم تصبح متمشية مع مطالب الطبقات التجارية، وكانت هذه هي الحال بالنسبة للثورة التي قامت عام ١٧٨٩م. وكان القتال فيها باسم مبادئ الحق، إلا أن ما تمخض عنها هو تحرير أصحاب الأملاك من إخضاع الدولة لسلطة حفنة مميزة من أرستقراطية أصحاب الأراضي. وليس من الضروري أن نذهب إلى أن الجماعة الثورية لا تخلص فيما تنادي به من أهداف، فما زلنا نستشف من معارضة كرومويل واريتن للمذاهب التي يعتنقها الكولونيل رينسبورو شعورًا أصيلًا يشبه ذلك الشعور الذي أدمجهم في ميدان آخر ضد شارلس الأول. وتكمن أهمية أية أيديولوجية في تعديل العلاقات الاجتماعية لا فيما تنادي به في حد ذاته.

وإن هذه الجماعات التي تصارع الامتلاك سلطة الدولة تعبر دائمًا عن المتناقضات الموجودة في كل مجتمع بين علاقات الملكية وإمكانيات نظام الإنتاج فيه. وإن الكفاح الأساسي هو الكفاح الموجود بين الطبقات الاقتصادية لضمان السيطرة على سلطة السيادة. ويمكن تحديد معالم الطبقة الاقتصادية بأنها جماعة من الناس تتميز عن غيرها من الجماعات في النواحي الإنتاجية، ويحدد هذا الوضع نظام العلاقات الاقتصادية التي تتمسك به الدولة؛ إذ إنها تضع تلك السلطة الإلزامية العظمى تحت تصرف أية طبقة تتحكم في المجتمع، فإذا لم يتوافر هذا نجد أنه ليس في إمكان أية طبقة أن تغير من وضعها تغييرًا جوهريًّا؛ ولذلك يتحتم على الدولة التي تسعى إلى إجراء مثل هذا التغيير أن تقوم بالقبض على زمام السلطة.

ونستخلص من هذا أن الدولة لا تتخذ مطلقًا موقفًا حياديًّا في مثل هذا النضال السياسي؛ إذ إنها لا تستطيع السيطرة على مثل هذه الجماعات المتصارعة، وأن تقوم بإصدار الحكم بينها على أساس موضوعي، غير أننا إذا نظرنا إلى طبيعتها نجد أنها عبارة عن سلطة إلزامية تستخدم للدفاع عن نظام الحقوق والواجبات التي تتطلبه العلاقات الاقتصادية مخافة أن تمسها طبقة أخرى تحاول جاهدة أن تغير هذه العلاقات من أجل نظام آخر. فإذا قمنا بتحليل الدولة نجد أنها عبارة عن هيئة من الأفراد يقومون بإصدار الأوامر لتحقيق الأهداف التي يعتبرونها أهدافًا أخيرة. أما فكرتهم عن الخير فهي نتيجة وضعهم في هذا النظام الذي ربما يتعرض للمقاومة، ولكن إذا غُيِّر هذا النظام فمعنى ذلك تخليهم عن وضعهم، وفي الإمكان حدوث هذا، إلا أنه ظاهرة نادرة في التاريخ.

وسأتناول في غير هذا المكان ما تتضمنه الناحية التاريخية، كما أني سأوضح الأسس التي قامت عليها، أما الآن فيجدر بي أن أوضح النواحي التي لم أدخلها في نطاق بحثي، ومعنى أن التطور التكنولوجي هو الطريق المؤدي إلى التغير الاجتماعي لا يقدم أو يؤخر شيئًا، فطبيعي أن التطور التكنولوجي له أهميته، وهو بالأحرى يصدر عن المطالب الاجتماعية، ولا يقوم بتحديدها، ويشاهد في النظام الذي نعيش فيه أن المخترعات التي وقع عليها الاختيار للاستغلال تدر مكاسب أكثر. ويعتبر ذلك الباعث الذي أظهرت أهميته العلاقات الاقتصادية التي يتميز بها المجتمع الذي نعيش فيه، ولكن إذا سادت الاعتبارات التكنولوجية وحدها، لوجدنا أن «مل» لم يكن في حاجة إلى أن يكتب مرئيته المشهورة عن الفشل الذريع الذي منيت به الأنظمة التي وضعت لتحسين مصير الإنسان الاجتماعي.

وإني لا أجادل أيضًا في أن الدولة تخضع دائمًا للمصلحة الخاصة لطبقة ما تسيطر عليها، كما أني لا أدلل على أن الرغبة في الحصول على مكاسب ذاتية هي سر سياستها، ولكني أدرك تمامًا أنه في بعض الأوقات يخلص رجال الحكم بالقدر الذي يخلص فيه النقاد معتقدين أنهم يكرسون جهاز الدولة لتحقيق الأهداف التي يرونها فاضلة. أما النقطة التي أتناولها، فهي مختلفة للغاية، إذ إن العلاقات الاقتصادية هي التي تحدد ما يستطيعون قوله، وتوجد الدولة لكي تساند هذه العلاقات التي تولد في كل فترة من الفترات التاريخية مجموعة من المثل العليا التي يرون فيها القدرة على رفع الإمكانيات الإنتاجية، وليس للتاريخ أي معنى عندما ننظر إليه على أنه صراع بين المصالح الذاتية، ومعنى ذلك هو النزول بالطبيعة البشرية إلى الحضيض، أو أن هذه المثل العليا تتصارع من أجل البقاء، وأن قوى الإمكانيات الإنتاجية هي التي تحدد معالم هذه المثل العليا، ويرجع هذا الصراع إلى أن علاقة الطبقات بالإمكانيات الإنتاجية كانت تخلق مطالب كثيرة لتقوم بتحقيقها، وتضمنت العلاقة بين الطبقات هذه الدعاوى والمطالب، فعندما تتعرض هذه المطالب لأي حرمان نجد أن الأفراد يهبُّون لنجدتها، ويتسنى لهم ذلك عن طريق التغلب على الدولة والاستيلاء على سلطتها الإلزامية حتى تتمكن من تعديل العلاقات بين الطبقات، فإن قيام علاقات جديدة بين الطبقات في أي مجتمع من المجتمعات يعني انتصار مُثل جديدة، وتختلف أيديولوجية فرنسا في القرن التاسع عشر عنها في القرن الثامن عشر؛ لقيام الثورة الفرنسية التي غيرت من معالم العلاقات الطبقية في المجتمع، كما أن طريق هذا التغيير قد اجتاز أول ما اجتاز طريق استيلاء الطبقة المتوسطة على الحكم، وذلك من الطبقة الأرستقراطية التي كانت تمتلكها من ذي قبل.

وليس هذا هو مجال التدليل على أن العامل الاقتصادي هو الذي يحدد التغير التاريخي، ولكن ما ينبغي أن أدلل عليه هو أن العامل الاقتصادي هو العنصر الأساسي في هذا التجديد، وإني أدرك تمامًا مدى تأثير الشخصية والتقاليد والمنطق كعوامل في تكوين هذا التغيير، ونجد مثلًا أن العادات التي يؤمن بها الإنجليز عن الحرية تجعلهم يقاومون النظم الديكتاتورية، وتختلف هذه الحالة عنها في روسيا حيث يعدم وجود مثل هذه العادات، وما من شك في أن الحياة التي نحياها كانت ستختلف حتمًا إذا لم يوجد رجال أمثال لوثر أو نابليون أو لينين، ويمكن القول أنه لولا لينين لأخذت الثورة الروسية التي قامت عام ١٩١٧م طابعًا آخر، كما أنه من الواضح أن المجهود الذي تبذله هيئة القضاة المحترمة عندما تقوم بتنفيذ القانون قد يوجه نحو الثبات الصوري من أجل هذا الثبات نفسه الذي يحرره من الاعتماد على العامل الاقتصادي، ويحق لنا أن نقول: إن التقاليد والشخصية والمنطق بينما يحددها العامل الاقتصادي نجد أنها تشكلها بدورها. وهناك تأثير متبادل بين العوامل التي تطرأ على التغيير الاجتماعي الذي لا ينكره أي مراقب عاقل.

غير أن الاعتراف بالجماعية في الأسباب التاريخية لا يعني أننا ننكر وضع العامل الاقتصادي في المرتبة الأولى، وإن ما أوليه اهتمامي الآن هو الإصرار على القول بأي عامل يقوم بدوره سيعتمد على البيئة التي يحدد نظام العلاقات الاقتصادية معالم طبيعتها، وأن هذه العلاقات التي تطبع المجتمع، ستندمج في جميع المظاهر الثقافية وتشكلها حتى إذا كان ذلك عن طريق غير مباشر، وتتكيف التقاليد وتعدل من نفسها حتى تتمشى مع مقتضيات الحال، وستثبت شخصيات عديدة وجودها في نطاق الفرص التي تتيحها تلك العلاقات، وإن مطالب أي نظام قانوني تحدد الأسس التي يقوم عليها هذا النظام، وعندما توضع مثل هذه النواحي عندئذ يشرع المحامي في البحث عن هذا الثبات الصوري، ويمكن لأي فرد أن يدرك كيف أن مطالب العلاقات الاقتصادية الجديدة في روسيا قد شلت من تقاليد الرجل السلافي الذي يميل إلى التصوف والتشاؤم، وهو يعتبر الطراز المعهود «الذي ساد القرن السابق»، كما أننا نلاحظ أيضًا أن الفن والأدب والفلسفة كانت تتعدل تعديلًا بطيئًا حتى تتمشى مع ما يتضمنه الرابط الاقتصادي، وإننا نوافق على أن لينين قد غير وجه التاريخ، غير أن انهيار العلاقات الموجودة بين الطبقات، والتي أقيمت عليها روسيا القيصرية هي التي أتاحت له هذه الفرصة، ونجد أن القواعد التي تفسر بمقتضاها اللوائح، وقد تم تطويرها بواسطة تشريعات القانون العام التي سنتها المحاكم تصدر عن الموضوع الرئيسي وهو القانون العام، كما أننا نجد أن حماية المصالح المتعلقة بالملكية الخاصة في الافتراض الأساسي يقوم عليه، فإذا أصبحت بريطانيا والولايات المتحدة كومنولث ذا نظام اشتراكي فإن المحاكم ستتطلب تشريعات مختلفة عن التشريعات الموجودة لكي تؤكد هذا الثبات الذي يعتبر مثلًا أعلى قانونيًّا له أهميته، أما الفروض القانونية فهي التي تحدد طبيعة هذا الثبات، ومرة أخرى نقول: إن العلاقات الاقتصادية هي التي تحدد هذه الفروض، إذ إن الغرض من وجودها هو حمايتها.

٢

وإن العامل الاقتصادي هو الصخرة التي يقوم عليها البناء الاجتماعي الأعظم، أما السبيل التي يؤدي إليها عقله فتكمن في الصراع الذي يدور رحاه بين الطبقات لامتلاك سلطة الدولة. ولقد دللت على أن المكان المختلف الذي تشغله الطبقات المختلفة في عملية الإنتاج تدفع الاحتياجات والمصالح بالخروج إلى حيز الوجود، وعندئذ تتعارض كل منها مع الأخرى. وإن التناقض بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج هو الذي يحدد معالم النقطة التي أثرناها، وتصبح لهذا التناقض أهميته عندما تحول هذه العلاقات دون التوسع في القوى الإنتاجية، إذ ستشعر كل طبقة من جراء هذا بالمرارة والفشل، ومن ثم سيداخلها الشك في صحة النظام القائم. وسيتطلب هذا تغييرًا في المبادئ القانونية التي تتمسك بها الدولة، وعندئذ تنشأ ضد المبادئ التي تسند النظام القائم مبادئ أخرى جديدة تنحي عليها باللائمة، وتضمر لها العداء. وعندما يكمل هذا التناقض يسود المذهب الجديد، وتتاح الفرصة عندما يتعرض النظام القديم للمقاومة، وعندئذ يكون الاختيار بين الاستسلام له والإطاحة له.

ونحن نرى مثل هذا التطور بوضوحٍ في انهيار نظام الحكم القديم في فرنسا انهيارًا يتسم بالبطء، كما أن التشابه الموجود في مثل هذه الظاهرة يسترعي الانتباه، وأن الموقف الذي تتخذه بالنسبة للقيم الراهنة والمقررات الحالية يعتبر موقفًا عصيبًا يسيطر على المجتمع بأسره، وتحاول الدولة إخماد مثل هذا الموقف بالقوة، بيد أن هذا المجهود لا يكلل بالنجاح دائمًا. وعندئذ تضطر الدولة إلى تقديم بعض الحلول، ولكن بعد فوات الوقت، وعندئذ يقلق بال السلطة التي بيدها الحكم، وتحاول جاهدة أن تبقي على النظام القديم بإبطالها هذه الحلول إبطالًا نهائيًّا، وتعود النواحي الحاسمة للنظام القديم من جديد، ولكنها لا تدوم طويلًا، ولا يدوم أوج السلطة طويلًا، ولكننا نستطيع أن ندرك في الأزمة التالية أن أسس الدولة قد قصم ظهرها.

وتجدر بنا مناقشة طبيعة الصراع الطبقي وخصائصه في المجتمع على ضوء هذه الاتجاهات؛ إذ إننا نجد هذا الصراع في كل مجتمع وهو يتميز بناحيتين هما تقسيم العمل والملكية الشخصية لوسائل الإنتاج. وقد ذهب ماركس إلى أن تطور الصناعة التي تقوم على الرأسمالية سيقسم المجتمع إلى طبقتين كبيرتين كل منهما تصارع الأخرى، فالطبقة الأولى هي الطبقة البرجوازية التي تملك أدوات الإنتاج التي تستخدم سلطة الدولة في حماية المصالح التي تتمتع بها. أما الطبقة الثانية فهي طبقة البروليتاريا التي تبيع قواها لتقتات منها وتعيش، إلا أن ذلك الوضع يزيد مركز هذه القوى سوءًا، ويرجع هذا إلى أن الرأسمالية قد حيل دون استمرار توسعها، فأخذت تتجه نحو الاستيلاء على سلطة الدولة حتى تدخل بعض التغييرات على العلاقات بين الطبقات، ولم ينكر ماركس وجود طبقات أخرى في المجتمع، أو أن هناك بعض الجماعات الهامة التي تضم أصحاب الأراضي وأصحاب الحِرف أو رجال الأعمال والبيروقراطية الرسمية. ولقد دلل على أن الدور الذي يقوم به كل منها في العملية الإنتاجية كان له أكبر الأثر في الرأسمالية؛ إذ إنها تجعل منها عملًا تاريخيًّا يقوم بتحديد العلاقات بين الطبقات، وهذه هي المهمة الملقاة على عاتق الطبقة البروليتارية، كما أن العمل التاريخي الملقى على كاهل الطبقة البرجوازية هو إتمام للثورة السابقة التي قضَت على دولة الإقطاع. أما في الأزمة الأخيرة فنجد أن هذه الطبقات (وهي عديمة القيمة نسبيًّا) يجب عليها أن تختار بين المصالح الأقوى في هذا الصراع.

وإن أول سؤال يجب أن نوجهه إلى أنفسنا هو ما إذا كان هذا العداء الطبقي أمرًا حقيقيًّا. ولقد قيل لنا كثيرًا: إنه نتيجة للخطأ الذي ترتكبه سياسة الحكومة، أو أنه يرجع إلى الفشل في إدراك وحدة الهدف التي تتغلغل في أعماق المجتمع تاركة وراءها مظهر العداء. ويتوالى حدوث الإضرابات غير أن فن التحكيم الذي يتسم بالحكمة ييسر السبل لإيجاد حل عادل لها، وأن أصحاب الأعمال والعمال يتوقون إلى تحقيق هدف مشترك، وذلك بالنهوض بمستوى إنتاج الشركة؛ لأن ذلك يرفع مستوى الأجور، كما أن الإدارة الحكيمة تستطيع معرفة الإمكانيات الموجودة في المجتمع.

ويعتبر هذا تفسيرًا يتسم بالمثالية للنمط الاجتماعي الذي يستبعد كل ما هو أولي، وأود أن أتناول في هذا المجال موضوع المجتمع الصناعي الذي نعرفه، واضعين نصب أعيننا إجراء التغييرات الضرورية وهي صورة مشابهة له، ومن الممكن تحديدها ووقفها على أنواع منظمات اقتصادية سابقة، ونجد في بعض الأحيان أن هناك بعض المجتمعات التي تهيمن فيها طبقة صغيرة على أدوات الإنتاج، وأن مصلحتها في الإنتاج الاجتماعي الإجمالي تختلف من حيث التوزيع عن مصلحة الجماهير؛ إذ طالما كان الإنتاج الاجتماعي الإجمالي محدودًا نجد أنه كلما زادت الأجور قلت مكاسب هؤلاء الذين يسيطرون على أدوات الإنتاج وأرباحهم، وطالما كان الباعث على الإنتاج هو القدرة على الكسب كما تشير فروض المجتمع القانونية، نجد أن مستوى الأجور ستحدوه علاقة هذا المستوى بالنسبة لمستوى المكسب الذي سيدفع أصحاب رءوس الأموال إلى استخدامها لتحقيق الهدف الذي يرمي إليه الإنتاج. وعندما تكون لدينا أركان النواحي الرأسمالية نجد أن الفشل في الحصول على بعض المكاسب والأرباح يعني إما البطالة أو تخفيض الأجور، ومن الواضح وجود عداء أساسي تتضمنه ملكية وسائل الإنتاج بين مصالح الرأسمالية من جانب، ومصالح العمل من جانب آخر.

ويمكن القول بأن هناك عداوات اجتماعية أخرى، ولكن ليس من الضروري أن تؤدي إلى النتائج السياسية التي ذكرتها من قبل، فهناك صراع بين مصالح أصحاب الفحم وأصحاب الزيت وبين المحال الخاصة والجمعيات التعاونية، وكلنا يعرف وجود التعارض التاريخي بين الريف والمدينة، وبين الكنائس والنقابات، وإننا لا نتوقع مطلقًا أن تقوم مشاحنات بين أصحاب الفحم والزيت لامتلاك الدولة؛ إذ نحن على يقين من أننا سنصل إلى إيجاد التعاون والتكييف بين المصلحتين، فلماذا إذن ندلل على أن الوضع يختلف اختلافًا تامًّا عندما يحمى وطيس العداء بين رأس المال والعمل؟

والإجابة على ذلك من صميم الموضوع الذي أناقشه في هذا المجال؛ لأنه يكمن في فلسفة الدولة، ففي أي مجتمع من المجتمعات حيث يمتلك بعض الأفراد أدوات الإنتاج يترتب على استخدامها، وبالتالي على توزيع الإنتاج، سوء حالة الطبقة العاملة، ويرجع ذلك إلى عدم اشتراك هذه الطبقة في أدوات الإنتاج. وعلى العموم يمكن الوصول إلى أي اتفاق بشأن تلك العداوات الاجتماعية الأخرى، فربما يتحد التنافس الذي تدور رحاه بين الرأسماليين أو اتحاد النقابات، أو يختفي هذا التنافس. كما أن المنازعات التي تقوم بين الكنائس لا تعني استغلال طبقة لطبقة أخرى. أما الاختلاف بين الريف والمدنية فيعتبر أمرًا هامًّا، وجدير بالملاحظة أنه عندما يقوى هذا الاختلاف ويشتد — كما نجد في أوروبا الشرقية اليوم — يأخذ هذا الاختلاف طابع الصراع من أجل سلطة الدولة. ويمكن الحد من اضطراب النواحي الزراعية، كما يشير التاريخ الإنجليزي الحديث دون إجراء أي تغيير على الفروض القانونية التي يقوم عليها المجتمع الرأسمالي. وهناك فارق بين كل العداوات الاجتماعية الأخرى، إلا أن الفارق بين رأس المال والعمل يمكن إدراكه عن طريق إدخال بعض التغييرات على هذه الفروض القانونية.

ويمكن القول إن هناك بعض العداوات الأخرى، ونجد مثلًا العداء المستحكم بين الزنجي والرجل الأبيض في الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا، أو العداء الموجود فعلًا بين العمال الكاثوليك، والعمال البروتستنت في دبلن. وليس هناك ما يدعو إلى أن ننكر أنها ستقوم بالحيلولة دون التماسك الطبقي، فلقد تعود أصحاب الأعمال على تقسيم عمالهم إلى فئات تميزهم في النواحي العنصرية والقومية.

غير أن وجود مثل هذه العداوات لا يعني القضاء على العداء الموجود بين رأس المال والعمل في المجتمع الحديث؛ إذ إن وجوده يحد من تعبيره الكامل. ولقد أوضحت الثورة الروسية أن الوعي الطبقي يثير بعض الاختلافات العنصرية أو المذهبية أو القومية التي تحاول دائمًا الحيلولة دون ظهورها، وإننا لا نستطيع أن نحدد الملابسات تحديدًا دقيقًا، ولكن ما نستطيع قوله هو أنه مهما حاول نظام الإنتاج أن يحول بين الطبقة العاملة، وما تتلقاه نتيجة المجهود الذي تبذله، والذي ننظر إليه على أنه أمر معقول، نجد أنه يبحث عن الوسائل والسبل الكافية لإجراء أي تغير على بنيان المجتمع الأساسي.

وطبيعي أن أي حق يخول للقيام بهذا المجهود سيعتمد على نواحي عدة متشابكة ومعقدة، فما من شك في أن النضوج السياسي لأي شعب ونوع الحكومة التي يعيش هذا الشعب في ظلها، وكذلك سلطة الهيئات الدينية والتأثير السيكلوجي نتيجة للنواحي العنصرية — كل ذلك مدعاة للاختلاف، وإن المجتمع الذي يأخذ في التوسع من الناحية الاقتصادية كالولايات المتحدة مثلًا قبل الكساد الأعظم سيحس بشدة الصراع الطبقي، ولكن ليس بالنسبة التي تحس بها بريطانيا منذ الحرب، فطالما يدفع نظام الملكية الخاصة في وسائل الإنتاج إلى التقدم في أحوال الطبقة العاملة، هذا التقدم الذي يحقق أماني العمال المعترف بها سيجعل هؤلاء العمال يتقبلون وضع الدولة كما هو، ولكن عندما يقف هذا التقدم، نجد أن العمال سيُثار فيهم وعي ثوري، وسيحاولون دائمًا تحقيق موجبات رضاهم، فإذا لم يتيسر لهم ذلك في ظل نظام علاقات الملكية نجدهم يحاولون استبداله بنظام آخر، ونحن نعرف أن بديل الإصلاح هو الثورة.

وإني لا أدلل على أن هذه الثورة دائمًا تكلل بالنجاح، فهي مشكلة تنطوي عليها الاستراتيجية التاريخية. ومما هو جدير بالذكر أن ما أتناوله الآن هو ما يتضمنه التطور الاقتصادي طالما اتضحت لنا طبيعة الدولة، ويجب على الناقد هنا أن يكون قادرًا على برهنة أمرين: أن يوضح أن النظام الرأسمالي الحديث — وهو يختلف اختلافًا تامًّا عن سابقه — يمكن أن يتسع نطاقه بغض النظر عن علاقات الملكية التي قام عليها. ويجب على الناقد أيضًا أن يبين أن هذا التوسع له من الخطورة ما يمكنه من تحقيق أماني العمال المعترف بها، كما يجب أن يوضح ذلك، لا من أجل الوصول إلى رأسمالية مجردة لعالم مثالي حيث ينعدم وجود تلك المشاحنات التي نعرفها، ولكن من أجل عالم تتصارع فيه قوى الاستعمار الاقتصادية. وهو عالم يسوده التضخم والكساد، يسوده الصراع لفتح سوق جديدة، وتسيطر عليه الضرائب والجزية، وهو عالم تتحكم فيه الإعانات للتحكم في هذه السوق. ويجب عليه أيضًا أن يبين أن نظام علاقات الملكية الراهنة يمكن أن يمحق الثغرة القائمة بين قوى الإنتاج وقوى الاستهلاك، كما ينبغي أن يوضح أيضًا أن الدولة ليس في إمكانها الاحتفاظ بعاطليها في ظل ظروف رغدة فحسب، ولكنها تستطيع في ظل إمكانيات الحصول على مكاسب وأرباح أن تُبقي على الخدمات الاجتماعية، بل وتطورها، هذه الخدمات التي يعتبرها العمال أمرًا جوهريًّا فيما تؤديه الدولة من أعمال.

ومما هو جدير بالملاحظة أن هذه الإمكانيات هي التي في ظلها يخرج هذا البرهان إلى حيز الوجود في الديمقراطية الرأسمالية، ولقد أقيمت دعائم مثل هذا المجتمع على حق الانتخاب العام، فهو يحاول التوفيق بين تركز السلطة الاقتصادية في أيدي حفنة من الأشخاص، وانتشار السلطة السياسية على نطاق واسع. ومما لا بد منه هو أن الجماهير التي تعيش في مثل هذا المجتمع يجب أن تستخدم ما لها من سلطة سياسية لضمان اطراد النواحي المادية وسلامتها، فإذا سلمنا بهذه الافتراضات التي تقوم عليها الديمقراطية الرأسمالية فإننا نجد أن ذلك معناه وجود حكومة تقوم لتحقيق هذه الأهداف، ومن اليسير أن ترى أن تحقيق ذلك لا يتيح المجال للصعوبات في عصر تسوده الرأسمالية التوسعية، وعندئذ لا تمس النواحي التي تقدمها الحكومة أماني هؤلاء الذين يسيطرون على وسائل الإنتاج، فهم على استعداد لدفع الثمن الذي تنطوي عليه افتراضات هذا النظام، غير أن الموقف يختلف اختلافًا تامًّا عندما تكون الرأسمالية في اضمحلال؛ إذ يبدو أن الثمن الذي تتوقعه الديمقراطية من مثل هذه الامتيازات سيكون غاليًا جدًّا، وعندئذ تتعارض الافتراضات التي قامت عليها الرأسمالية مع ما تتضمنه الديمقراطية، وإذا طالت مدة التدهور ينبغي أن تتوقف العملية الديمقراطية أو تعدل من الافتراضات الاقتصادية التي يقوم عليها المجتمع.

ويشهد تطور الحركة الفاشستية بدقة هذا التحليل؛ إذ إن ناحية الرأسمالية الحرة عندما تندمج في الديمقراطية — وتصبح مثلًا أعلى — قد تتمشى مع ناحية التوسع، وطالما اتضحت سلطة الرأسمالية وهي تستمد الإمكانيات من عمليات الإنتاج، فإنه من المستطاع التنازل عن المطالب الديمقراطية. أما التناقض الموجود بين الافتراضات الاقتصادية والسياسية فيخلع عليه ثوب الرضا للنجاح الذي أحرزه بما يؤديه من أعمال. ولكن عندما تسير الرأسمالية في مياه ضحلة، نجد أن سياسة تلك الامتيازات توحي بالتشكك والريبة، أما الدافع إلى الحصول على بعض المكاسب فيتطلب تخفيض الأجور، وتنقيص التكاليف التي تفرض على رأس المال عن طريق الضرائب، ورداءة النواحي الصناعية، وبالتالي تتدهور نواحي الخدمات الاجتماعية. إلا أن الديمقراطية قد دفعت الجماهير إلى أن تتوقع عكس هذا كله، إذ اعتقدوا في أن لهم الحق في استخدام سلطتهم السياسية حتى يتمكنوا من الحصول على المكاسب المادية، وتحقيق نواحي صناعية أفضل، والتوسع المستمر في الخدمات الاجتماعية. ولقد تعادلت هذه النواحي من الديمقراطية في الدولة، غير أنه في الأحوال العسيرة نجد أن الرأسمالية تقوم بعرقلة المطالب التي يعدون تحقيقها فترة من الزمن، ولكن إذا طال ذلك نجد أن النتيجة المنطقية هي أن الرأسمالية تتخذ طريقًا آخر طالما كان هناك استمرار في اندماج الرأسمالية والديمقراطية.

ولقد أخذت الفاشستية على عاتقها نجدة الرأسمالية من الورطة التي وقعت فيها؛ إذ عهدت بسلطة سياسية تكلفة هؤلاء الذين يمتلكون وسائل الإنتاج ويتحكمون فيها، وذلك للقضاء على الديمقراطية. أما الطرق التي اتبعتها فهي على نمط واحد، فأخمدت الأحزاب السياسية التي أنكرت وجود تلك الأهداف، وولى العهد الذي كان يسود فيه الحق في الإضراب، ومضى عهد النقابات الحرة، وقلت الأجور إما من جانب أصحاب الأعمال وإما بموافقة الدولة، وأنكر الحق في توجيه النقد سحب الحق الذي خول للمنتخبين تغيير الحكومة. ومما هو جدير بالملاحظة أن الدول الفاشستية الرئيسية قد أقامت سلطتها على الاتفاق الذي أبرمته مع القوات المسلحة، إذ إنها — كما أوضحت في الفصل السابق — مركز السلطة الإلزامية العليا، كما أنها أقامت سلطتها أيضًا على تسليح القوات الموالية لها؛ إذ إن عمل الحرية الآن هو نشر الحقائق الصادقة؛ ولذلك أخذت الحكومة تباشر الصحافة والإذاعة والسينما والمسرح بطريق مباشر، وكانت هناك جهود تبذل في ألمانيا الهتلرية لإخضاع الكنائس لأغراضها. أما هؤلاء الذين أخذوا يشنون الهجوم على تلك الامتيازات الجديدة فقد وجدوا طريقهم إما إلى السجون والمعتقلات وإما إلى المقصلة، إذ إنهم تخلوا عن حياد الخدمات المدنية التي تعتبر فكرة أساسية للديمقراطية الرأسمالية. أما في الأوقات العصيبة فهي تفسر لنا ناحية من النواحي الفكرية للنظام الجديد. ولقد استوعب النظام البيروقراطي مكافحين محنكين جديرين بالثقة من مكافحي الجبهة القومية، ونجد أيضًا أن الهيئة القضائية تخضع لخدمات المثل العليا الفاشستية، لا للمبادئ القانونية؛ ولذلك يمكن لأي محامٍ ضليع أن يدافع عن مذبحة ٣٠ يونيو عام ١٩٣٤م على أنه تجسيم للعدالة المطلقة.

وتستطيع الفاشستية إذن، وفي مثل هذه الملابسات، أن تقوم على صيانة الرأسمالية، والإبقاء عليها، طالما وأنها تستطيع الاعتماد على القوات المسلحة، ومن ثم فهي تستطيع أن تسحق جميع الاضطرابات الداخلية التي تواجهها، وهي تتيح للرأسمالية الفرصة لكي تدرك أن إشباع دافع الكسب يشغل المحل الأول لسياسة الدولة. أما مشاكل الديمقراطية الرأسمالية فيمكن حلها عن طريق التخلص من العنصر الديمقراطي. ولقد ذكر هتلر في كتابه «كفاحي»: «أن الدعاية يجب أن تستفيد بكل مذهب مهما كان خداعًا إذا كان ذلك المذهب يعزز الأهداف الفاشستية.» وأوضح موسوليني أن في تحقيق أهداف الفرد تتحقق أهداف الدولة، وعندما نقوم بدراسة مظهر الهدف الحقيقي في المجتمعات الفاشستية يتضح لنا أنه يتضمن تضحيات العامل البسيط لتقديمها قربانًا على مذبح المطالب الرأسمالية؛ لكي تستطيع الحصول على المكاسب.

ومن الأهمية بمكان أن ندرك أن إخماد النواحي الديمقراطية في إيطاليا وألمانيا قد تمت دون أي تغيير في العلاقات الاقتصادية للطبقات. ففي ألمانيا وإيطاليا نجد أن التناقض الموجود بين مظهر السلطة وحقيقتها لا يمكن الوصول إلى حل له عن طريق إدخال بعض التغييرات على المبادئ القانونية التي تحدد العلاقات بين الطبقات، ولكن عن طريق إخماد النواحي الاجتماعية والسياسية، فلقد سعى العمال في الحكم السابق عن طريق تلك الامتيازات إلى ضمان تلك المطالب التي وجدوا أن لهم الحق في ضمانها، وتغيرت العلاقات القانونية بين الطبقات في روسيا من أساسها؛ وذلك لإقامة الدولة بدلًا من قيام حفنة من الأفراد بامتلاك وسائل الإنتاج، وإن ما تركته الحكومات الجديدة في إيطاليا وألمانيا من أثر حقيقي هو سلب العمال حقهم القانوني في إنكار أن أهداف الدولة تعتبر أمرًا كافيًا لهم. أما توزيع الإنتاج الاجتماعي فهو يقوم على نفس المبادئ التي كانت موجودة من قبل هذا التغيير.

فإذا قيل لنا: إن الدولة — وهي تتخذ موقف الحياد — قامت بتحديد هذه المبادئ، فإن الرد القاطع إذن هو إنكار حيدة الدولة، إذ إن الدولة الفاشستية ترضخ لفروضها القانونية الأساسية، وهي تتضمن إخضاع العادات التي تتبعها لدافع المكسب الشخصي، كما أن الخطر الذي تعرض له المكسب الشخصي في السنة الأولى من حكم هتلر قد أجبره على السير في الطريق السوي، والتخلي عن تلك السياسات التي تتضمن تأكيدًا اشتراكيًّا، كما أن مثل هذا الخطر هو الذي حمل الحكومة الفاشستية في إيطاليا على أن توافق باستمرار على تخفيض الأجور، فعندما تتخذ الفروض القانونية للرأسمالية، نجد أن وقع ما تقوم به الدولة من أعمال يكون في صالح أصحاب رءوس الأموال، فإذا التجأ الفرد إلى مبادئ أخرى فمعنى ذلك التعارض مع الطبيعة الكامنة للفاشستية.

هذا هو الدرس الذي تلقته الفاشستية، ولكن لم تلق أية خبرة تاريخية في الأزمنة الحديثة الضوء على طبيعة الدولة. أما سلطتها الإلزامية فيجب استخدامها لحماية استقرار نظام العلاقات بين الطبقات، ولكن لا يمكن استخدامها لتغيير هذا النظام. وهذا يعني أنه إذا عرضت المؤسسات الاجتماعية سلامة هذا الاستقرار للخطر، فإن الدولة ستشن عليها هجومًا باسم القانون والنظام. وفي قيامها بذلك تجدها وقد هبت للدفاع عن تلك المصالح وحمايتها، إذ إن قانون وجودها لا يحتم عليها اتخاذ موقف محايد، وهي تضطر إلى الاختيار لا لشيء إلا لكونها دولة، أما حكومتها فهي تؤدي عملها على أنها اللجنة التنفيذية لهذه الطبقة التي تسيطر من الناحية الاقتصادية على نظام الإنتاج الذي في ظله يعيش المجتمع.

والمثال الأمريكي خير مثال يوضح لنا هذا الموقف، فالمبادئ التي قامت عليها النقابات في الولايات المتحدة، والسلطة القديمة التي يمارسها أصحاب الأعمال في الصناعات حيث تتميز بالتنظيم السيء، أدى كل هذا إلى تنفيذ بند من بنود قانون الانتعاش الاقتصادي القومي الذي صدر عام ١٩٣٣م. ومن المعروف أن معارضة أصحاب الأعمال أدت إلى قيام صعوبات كثيرة في تطبيق هذا البند.

فعلى شواطئ المحيط الهادي نجد أن رفض شركات الملاحة وبناء السفن بالاعتراف باتحاد عمال النقل أدى إلى قيام عمال سان فرنسيسكو بالإضراب في يوليو عام ١٩٣٤م.

ولقد فض هذا الإضراب بعد أربعة أيام؛ لأن قوى الحكومة تكاتفت للتغلب على أهدافه باسم القانون والنظام، ومن جهة أخرى نجد أن أصحاب الأعمال في سان فرنسيسكو أخذوا عن وعي يراوغون في تنفيذ الالتزام الذي فرضه القانون عليهم، ولم يكن بالشيء الهام أن روح القانون الأمريكي هي أنه يطبق بالمساواة وبغير تمييز على جميع الأشخاص سواء أكانوا من أصحاب الأعمال أم العمال؛ وذلك لأن محاكم الدولة كانت طبقًا لأهداف الدولة المحددة تلتزم الحياد بين الجانبين.

وعندما يقف دولاب العمل في مجتمع سان فرنسيسكو، نجد أن ذلك يعرض استمرار هذا المجتمع للخطر، ويعتبر هذا بمثابة جوهر للإضراب العام، فهو محاولة عن طريق الضغط على أصحاب الأعمال حتى يرضخوا، وهو محاولة أيضًا عن طريق حمل الحكومة على استخدام نفوذها لتحقيق الهدف الذي قام الإضراب من أجله، والإضراب العام بطبيعته معناه تعريض النظام العام للخطر، إذ يترتب عليه حرمان المجتمع من الخدمات الهامة، والحكومة تقوم بحماية هذا النظام، ويتسنى لها ذلك عن طريق تأدية هذه الخدمات. ولقد ذكر مستر هيو جونسن وهو المتعهد بتطبيق قانون الانتعاش الاقتصادي القومي «أن الإضراب العام يعرض سلامة المجتمع للخطر، ويهدد الحكومة، كما أنه يعتبر حربًا أهلية ربما أدت إلى ثورة دموية»، وحث العناصر المسئولة في الحركة التي قامت في سان فرنسيسكو على أن تطهر نفسها من القوى الهدامة التي تهدف إلى القيام بإضراب عام.

ولكن ماذا ترتب على مثل هذا الموقف؟ فأصحاب الأعمال استمروا في رفضهم الاعتراف باتحاد عمال النقل حتى لا يقعوا تحت طائل الالتزام القانوني، وهم في نفس الوقت يؤكدون بأن الحكومة ستتدخل لكي تحد من هذا الإضراب، وعلى العمال إذن الاختيار بين الاستسلام للحكومة أو الصراع معها. وطبيعي أن الصراع يعني القيام بعمل ثوري لم يهدف إليه العمل في أي وقت من الأوقات، ولكن عندما يتعرض النظام للخطر، نجد أن الحكومة ستقوم بالتدخل بما لها من سلطة إلزامية حتى يستتب الأمن، غير أنها ربما تعرضت هي نتيجةَ تدخلها للثورة. وطبيعي أن تدخل الدولة يقصد منه القيام بذلك باسم المجتمع، غير أن الأثر الذي تتركه هو وضع سلطتها تحت تصرف الملكية الشخصية، إذ هي تتمسك بنظام العلاقات الطبقية؛ إذ إنه يبطل ذلك الحق الذي قامت بمنحه للعمال قانونًا. وإن صحته التي قامت على الحياد تعتبر أمرًا يتوقعه كل فرد، وجدير بالذكر أنه في حالة إضراب سان فرانسيسكو لم تتخذ الحكومة أية خطوة كانت نحو صحة هذا الحق، ولكن إذا تغاضينا عن النواحي البلاغية، نجد أنه بمجرد ما يتعرض أصحاب الأعمال للخطر، نجدها تقوم بالعمل كعميلة لهم.

٣

إن الموقف الذي أوضحناه بشأن الإضراب الذي قام في سان فرنسيسكو هو مثال لموضوع عام، فحيث نجد الصراع الطبقي في مجتمع من المجتمعات، فإن سلطة الدولة ستظهر واضحة جلية في جانب هؤلاء الذين يمتلكون أدوات الإنتاج في المجتمع الذي تتحكم فيه، ففي بعض الأحيان تتضح معالم هذا الصراع كما في إضراب سان فرنسيسكو، إذ تظهر سلطة الدولة في شكل البنادق والأسلحة الأوتوماتيكية، ولكن سواء أكان هذا الصراع واضحًا أم خفيًّا، فإن الهدف الذي يرمي إليه الصراع الطبقي يمكن تحقيقه عن طريق التغلب على الدولة، إذ ليس هناك من سبيل آخر حيث تستخدم سلطتها لكي تدخل تغييرًا حاسمًا في علاقات الملكية. فإذا امتلكت حفنة من الأفراد أدوات الإنتاج نجد أن سلطة الدولة ستستخدم للمحافظة عليها، وهذا هو جوهر القانون، والقانون هو إرادة الدولة.

٤

ونستخلص من هذا حقيقة خطيرة تذهب إلى أنه في أي مجتمع حيث تمتلك حفنة من الأفراد أدوات الإنتاج، نجد أن الحقيقة الرئيسية تتمثل في النضال من أجل امتلاك سلطة الدولة بين الطبقة التي تمتلك هذه الأدوات، وتلك الطبقة المحرومة من فوائد هذه الملكية، ومعنى ذلك أن الدولة تتحيز دائمًا لمصلحة الطبقة الأولى، وتمارس الدولة سلطتها من أجل مصالحهم؛ ولذلك فهم لن يتنازلوا عن الفوائد التي يجنونها ما لم تضطرهم ظروف إلى ذلك، وهم لا يتخذون مثل هذا الموقف بدافع ذاتي؛ إذ إن وضعهم في البنيان الطبقي يدفعهم إلى أن تتمشى امتيازاتهم الخاصة مع سلامة المجتمع.

وتضايق هذه الفكرة أصحاب العقول الخيرة؛ إذ إن الثورة كوسيط للتغيير الاجتماعي تعتبر أمرًا لا بد منه، وهي تحتم وجود نواحي عدة في التطور البشري، إذ يكف الأفراد عن تسوية اختلافاتهم بتحكيم العقل ويلجئُون إلى القوة لتحدد هذا المصير، وهم يتذكرون المخاوف التي تصحب الصراع المدني، والمآسي التي تمخضت عن تمرد المتطهرين (البيوريتان) وما عانته الشعوب الفرنسية والروسية أثناء الثورات التي قامت، ولقد أوجد استخدام العنف الحقد والكراهية؛ إذ منذ الانقلاب الصناعي نجد أنهم يحاولون تأكيد النواحي التي أحرزوا بها شيئًا من التقدم، وعن طريق الإحسان بذل بعض الأفراد المحظوظين جهودهم ليخففوا مما يعانيه الآخرون، وهم يشيرون بذلك إلى نمو ضمير اجتماعي أعمق غورًا مما كان عليه ضمير الزمن الغابر. كما يشاهد ذلك في مسلكنا الجديد إزاء اختصاصات الدولة، وفي الضرائب العالية المستوى التي يقبل الأغنياء فرضها على أنفسهم، وفي الفرص المتاحة لهذا العصر الذي أخذ نطاقه في الاتساع. فإذا أمكن تحقيق هذا بالطرق السلمية، فلماذا نقول إذن إن العنف يعتبر أداة جوهرية في الحضارة المعاصرة كما كان في عصور أقل تنويرًا؟ ولماذا لا ندلل على أن الأفراد قد تعرضوا للعنف حتى إنهم يتقبلون تحكيم العقل على أنه الحكم الأخير؟

والإجابة على ذلك واضحة للغاية، فمن الناحية التاريخية نستطيع أن نقول: إن التغييرات الهامة التي أمكن الوصول إليها بالطرق السلمية ترجع إلى توسيع النظام الاقتصادي، فعند وجود هذا التوسع يوجد الأمن والاستقرار، وعند وجود الأمن والاستقرار نجد أن الفرصة قد أُتيحت والوقت قد حان للأفراد لأن يحكموا العقل. وعندما يوجد مثل هذا التوسع نجد أن الأماني المعترف بها لهذه الامتيازات لن ينخر السوس فيها، وذلك عندما تذعن لمطالب الجماهير، ويمكن تحقيق وسائل الراحة في أي مجتمع عندما يمنح فوائد مادية جديدة. ومن الخطورة في مثل هذه الفترات أن يبلغ التدهور الاقتصادي مرتبة يصبح من العسير معها تحقيق هذه المطالب دون القيام بثورة في العلاقات الطبقية في هذا المجتمع؛ إذ إن هذه العلاقات المتغيرة تعني نظمًا متغيرة من الأفكار، فهي تنكر وجود أفكار خيرة تمثل معنى الحياة لهؤلاء الذين يطلب منهم التنازل عنها، وتتنازل بعض الأفراد عن مراكز لا يعدونها مراكز أساسية، ويشهد التاريخ على أنهم لم يتنازلوا عن المراكز التي تعتبر في نظرهم مراكز حيوية بالطرق السلمية.

ويمكن إدراك ذلك من دراسة الحقائق الأولية، فالفرد المتمدين لا يدافع عن المؤسسة الاقتصادية للعبودية، إلا أن الحرب التي قامت كانت كفيلة بإقناع الولايات الجنوبية في أمريكا بأن هذه المؤسسة لا يمكن الدفاع عنها. ولقد قام الكومنولث البريطاني على مبدأ المساواة بين أعضائه، إلا أن الحروب قد قامت لتدعيم هذا المبدأ، وهناك مبادئ هامة قامت عليها العدالة الاجتماعية، غير أنه يمكن تحويل الحق في المساواة والانتخاب أمام القانون، وتحرير النساء، وتحديد ساعات العمل، ووضع نظم معتدلة في المصانع، ولكن على حساب النواحي البشرية، ولكننا ما زلنا نحارب من أجل حق التجمع الحر في الميدان الصناعي، وما زلنا نكافح ليخول الحق للزنوج أن يتساووا مع الآخرين أمام القانون، ولكن عندما نقوم بتحكيم العقل فسنعترف بفشل الحرب. وستتضمن أية معارضة كتلك المعارضات التي تكمن في قبول ميثاق عصبة الأمم وحلف باريس، ستتضمن اعتقادًا جازمًا في ممارسة القوة حيث يعترف الموقعون بأن هذا أمر يتعلق «بالشرف» والمصلحة الحيوية.

وعندما نقول: إنه ينبغي علينا أن نثق في العقل، فسيتبادر إلى الذهن السؤال التالي: ماذا نعني؟ وأي عقل نحتكم إليه لتسوية الخلافات الموجودة؟ هل يقصد به الحكومة التي تتحيز دائمًا لفئة ما، وتقوم بارتكاب بعض الأخطاء في أغلب الأحيان؟ أو هو العقل الذي يتصف به الجانب الأكبر وذو المقام الأعلى «لهذه الجماعة التي قدم له المفكرون في العصور الوسطى فروض الولاء؟» وهل نجاري الفكرة التي يعارضها بعض الأفراد التي تذهب إلى أنه يجب على الأقلية أن تخضع دون قيد أو شرط؟

ولقد قيل: إن هناك اختلافًا بين التزامات الأفراد الذين يحتكمون إلى العقل في ظل النظام الدكتاتوري عنها في النظام الديمقراطي الذي نجد فيه أن الأفراد في إمكانهم تعديل المبادئ التي قامت عليها الحكومة عن طريق الأغلبية لكي تحقق الأهداف التي كرست نفسها لها. أما هؤلاء الذين يشايعون فكرة التغيير فهم في الواقع يحبذون الفكرة التي تقول: إن الأغلبية هي مصدر هذا التغيير، ولم يخول لهم الحق في استخدام القوة؛ لأنه لا داعي لها.

وهذا واضح كل الوضوح؛ إذ إني لا أصر على القول بأن الحلول التي أمكن التوصل إليها بالطرق المنطقية قد فضلناها على تلك الحلول التي لا يمكن الوصول إليها إلا بعنف. كما أني لا أدلل على أن الأفراد في أي مجتمع ديمقراطي يجب عليهم أن يتحملوا ما يرونه شرًّا من الشرور؛ لأن لهم الحق القانوني في تغيير القانون الذي يعارضونه بشرط وجود أغلبية.

ويجب تسوية المشكلة القائمة على أساس آخر، وتختلف النقطة التي أود إثارتها؛ إذ إنها تشير إلى أن المؤسسات الديمقراطية قد ثبتت صحتها في المجتمع الرأسمالي طالما كانت هذه المؤسسات تقوم بدورها للقضاء على خصائص الرأسمالية، أي العلاقات الطبقية التي يدخل في نطاقها الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. وعندما تسعى الديمقراطية السياسية إلى تحويل الملكية الخاصة إلى المجتمع، فإن الطبقة الرأسمالية ستستخدم سلطة الدولة — إذا استطاعت — لكبح جماح المؤسسات الديمقراطية. وعلى ذلك نجد التفاوت بين الطبقات يمكن تسويته بالقوة، ولا سيما في مراحل التطور الاقتصادي، ولقد دللت على أن التشبث بالديمقراطية السياسية كما توضح الخبرة التي مرت بها إيطاليا وألمانيا والنمسا، لم تكن هدفًا كافيًا للدولة. ويمكن أن توطد الحكومة أركانها طالما كانت لا تتعارض مع مطالب العلاقات الطبقية التي تضمنتها، والتي يتطلبها النظام الرأسمالي. ويمكن أن نقرنها بهذا النظام عندما يكون له من القدرة التي تمكنه من سد مطالب العمال المتزايدة لخدمة الفوائد المادية، ولكن عندما لا تستطيع الرأسمالية أن توضح نوع التوسع الذي تراه، نجد أنها تقع في مأزق؛ إذ عليها أن تختار أحد أمرين: إما القضاء على العلاقات الطبقية التي تتضمنها، أو إخماد المؤسسات الديمقراطية.

ولا يعبر الرأي القائل بأن الأفراد يجب عليهم أن يتقبلوا الفروض القانونية التي قامت عليها الحكومة الديمقراطية، لا يعتبر ردًّا شافيًا، إذ إن النواحي التي نحتكم فيها إلى العقل بدلًا من استخدام القوة تعد حلولًا لها قيمتها. غير أن الحقيقة تكمن فيما إذا كانوا سيستقبلونها. وليس من العسير أن نرى أن الدولة الديمقراطية قد أتيحت لها فرصة أفضل لكي تحقق العدالة الاجتماعية، ولا يعتبر موضوع الدولة في هذا الصدد موضوعًا يتعلق بالدولة الديمقراطية البحتة؛ وعلى ذلك فإنها دولة تعبر مضامينها السياسية عن المساواة بين المواطنين، وذلك فيما تجنيه من الفوائد المادية، وهي في نفس الوقت تعتبر خصائص اقتصادية؛ وذلك بسبب الأسس التي تقوم عليها الرأسمالية. ولا تكمن المشكلة فيما إذا كانت تتسم بالحكمة، أو أنها مجرد تخلٍّ عن الديمقراطية السياسية، ولكنها تكمن في تدهور النواحي الرأسمالية في فترة ما، وعندئذ يمكن الإبقاء على الديمقراطية.

وأبلغ رد لوجهة النظر هذه هو أن نبرهن على وجود هذا الثبات. ويجب ألا يغيب عن البال إمكان تحقيق ذلك، وستقف العقبات في الطريق، إلا أنه يجب التغلب عليها، ويجب شرح الأسباب التي دعت إلى زعزعة هذا الاعتقاد في ظل ثبات الديمقراطية بين الأفراد المخلصين الذين تغلبوا على الفاشستية في إيطاليا وألمانيا والنمسا، كما يجب تفسير تدهور هذا المبدأ في نفس الوقت الذي قامت فيه الأزمة الاقتصادية في النظام الرأسمالي. وينبغي أيضًا أن تفسر لنا قدرة الدول الفاشستية المحافظة على نفسها بالطرق الإرهابية، كما يجب تفسير سبب قيام الفاشستية التي أوقفت تقدم الخدمات الاجتماعية، وأنزلت من مستوى النواحي الصناعية، وأخمدت حرية توجيه النقد. ولكن حتى نلوح مثل هذه التفسيرات في الأفق، فمن العسير إذن أن يداخلنا الشك في صحة هذا التحليل.

ولقد قيل لنا في بعض الأحيان: إن الهجوم يتركز على الديمقراطية السياسية في البلاد التي لم تمر فيها هيئاتها بتجارب عديدة. أما الدول التي تأصلت فيها عاداتها مثل بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا ودول إسكندناوة؛ فإننا نجد أن الهجوم على الهيئات الديمقراطية لم تسفر عنه أية نتيجة، ولكن يجب أن نعرف ما تنطوي عليه الحقيقة وندرسها دراسة وافية، ومن الأهمية أن ندرك أن الجميع يرون القلق الخطير الذي يهز كيان المؤسسات الديمقراطية. ومن الأهمية أيضًا أن نعرف أن العقبة التي تحول دون تحقيق الحرية تتميز بها إدارتها. ويجدر بنا أن نشير إلى أنه لم تقم أية منها عندما أمسكت بناحية الأمور بإعادة تحديد العلاقات الطبقية، وهذا هو الرد الحقيقي الذي تتضمنه دراستي، فإذا قامت بريطانيا أو الولايات المتحدة أو فرنسا بتحويل الأساس الذي قام عليه نظام الملكية، من أيدي الخاصة إلى أيدي العامة، بالطرق السلمية فستدعم هذه الدراسة التي تقوم فيها الوسائل الديمقراطية بالتغييرات الأساسية.

ولكن ليس هناك من دليل على ذلك، وإذا سلمنا بوجوده فسيثير الشك والريبة. ولقد تعرضت الجمهورية الفرنسية لتهديد الفاشستية، وكان لذلك أثره العميق. كما أن للأحداث التي وقعت في فبراير عام ١٩٣٤م أثرها إذا تغاضينا عن أحزاب اليمين وأحزاب اليسار. ففي الولايات المتحدة نجد أن الحركة العالمية لم تكن منظمة تنظيمًا دقيقًا من الناحية السياسية، وبذلك لم يتعرض نظام العلاقات الطبقية القائم حينذاك لأي تهديد، ولكن ما يلفت الأنظار في التجربة التي قام بها روزفلت، وكانت تهدف إلى استعادة الرأسمالية لا إخمادها: هو عجز الرئيس عن الحيلولة دون قيام أصحاب الأعمال بعرقلة الإجراءات التي ترمي إلى منح الطبقات العاملة الفوائد المالية. ونجد في بريطانيا أن الأقلية في حكومة حزب العمال التي لم تحاول وضع تشريع اشتراكي قد نُظر إليها على أنها تعرض أسس الاستقرار الاقتصادي للخطر، وخلفتها حكومة قومية لم تقم على اندماج الأحزاب السياسية التي وافقت على صحة النظام الرأسمالي فحسب، ولكنها قامت على الافتراض القائل بأن الأزمة التي أدت إلى تسلمها مقاليد السلطة قد بررت وقف منح الفوائد المادية المتزايدة التي تسعى الديمقراطية السياسية إلى ضمانها.

وليس هذا هو كل شيء؛ إذ إن الديمقراطية الرأسمالية في بريطانيا ظلت كما هي؛ لأن صحة الاندماج التي تقوم عليها لم تعرض بعد على المحاكم، ويجب علينا أن نلاحظ أن الأحداث التي وقعت منذ عام ١٩٣١م قد دفعت حزب العمال إلى الاشتراكية، ولكن كان بجانب هذا تطور آخر؛ إذ أظهر أعضاء حزب المحافظين اتجاهًا نحو الافتراضات التي قامت عليها دعائم الدستور الإنجليزي ردحًا من الزمن. أما إعادة تنظيم مجلس اللوردات فيقضي بأن يكون له من السلطة ما يجعله قادرًا على أن يؤخر صدور التشريع الاشتراكي، وذلك عن طريق البرلمان، حيث نجد أن حزب العمال يحرز أغلبية في مجلس العموم. ولقد بقي حق الاعتراض لمدة تقرب على مائتي عام، أما فيما يتعلق بالحق في حله والحق في إيجاد طبقة من النبلاء، فسنجد أن الملك سيكون في حل من العمل بنصيحة وزرائه إذا استطاع أن يحصل على موافقة لتأخير أي قرار، ولو كان ذلك بانضمامه إلى صفوف المعارضة، ولمثل هذه الاقتراحات أهميتها القصوى؛ إذ نجد أنهم يقدمون اقتراحًا يقضي بالبحث عن وسيلة تناوئ حزب العمال وحده، ولا توجه ضد أي منافس، كما أنهم يعتقدون أن الحواجز الدستورية ربما تكون متضمنة في صميم التشريعات الاشتراكية التي تقف حجر عثرة في طريق الأهداف التي تسعى أية حكومة مناهضة للاشتراكية إلى تحقيقها.

ويجدر بنا أن نضرب مثالين حول موقف بريطانيا؛ إذ نستخلص منها مبدأ عامًّا له أهميته. فلقد قيل لنا: إنه من المرغوب فيه التضامن بين أحزاب العمال وأحزاب الأحرار طالما وأنه قد طلب منها الإبقاء على الديمقراطية والتمسك بها، إذ ربما يؤدي هذا التضامن إلى نيل سلطة انتخابية؛ ولذلك نجد أنها تحاول وضع الديمقراطية بمعزل عن الهجوم الذي يشنه المتطرفون اليمنيون. ولقد قال زعماء حزب الأحرار إنهم يعارضون الاشتراكية بينما يحبذون الفكرة التي تذهب إلى أن وظيفة الدولة يجب أن تكون على نطاق واسع، فهم لا يستخدمون سلطة الدولة لكي يدخلوا تغييرات أساسية على العلاقات الطبقية؛ ولذلك فللقيام بتنظيم التحالف المقترح يجب على حزب العمال أن يتغاضى عن عقيدته الاشتراكية ويركز جهوده على برنامج الإصلاح الاجتماعي الذي وضعه حزب الأحرار، وهذا بدوره لا يعتبر الخطوة التي ربما يوافق عليها حزب العمال طالما كان عبء الخبرة يكمن في عدم كفاية أية سياسة لم تمس النواحي الأساسية في العلاقات الطبقية.

ولكن دعونا نفترض أن حزب العمال مستعد — ولو مؤقتًا — على أن يتغاضى عن العقيدة الاشتراكية لكي يحرز نصرًا انتخابيًّا، وذلك بتحالفه مع قوى الأحرار، ولكن كيف يحقق هذا النصر الأهداف التي قام من أجلها في ظل الظروف التي تقع تحت طائلها؟ إذ عندما يتسلم مقاليد الحكم لن يستطيع أن يركز جهوده لكي يحقق بعض مشروعات الإصلاح الاجتماعي ما لم يحدث انتعاشًا اقتصاديًّا سريعًا. فما من شك في أن ثمن ذلك سيؤدي به حتمًا إلى مثل ذلك الوضع الذي أدى إلى هزيمته عام ١٩٣١م، فإذا كان على حزب العمال أن يسير على نهج النظام الرأسمالي فيجب عليه أن يعرب بصراحة عن موافقته على الافتراضات التي قامت على الرأسمالية، إذ فيها نجد أن الدولة لا يمكنها القيام بالإصلاحات الاجتماعية في فترة يخيم عليها الكساد التجاري. ومن العسير أن نرى مدى وثوق هذه الحكومة بمؤيديها طالما كانت هذه الظروف ستحول دون تحقيق الأهداف التي من أجلها نالت سلطتها.

ولكن إذا قامت هذه الحكومة بعد مباشرتها مهام سلطتها في الحكم بإنعاش النواحي التجارية فليس من اليسير أن نرى أننا نستطيع أن نقطع شوطًا بعيد المدى في هذا المجال. فبتضامنها مع الأحرار لا تستطيع أن تسير على سياسة اشتراكية؛ إذ يجب عليها حينذاك أن تبذل ما في وسعها؛ لكي تستخرج من النظام الرأسمالي أكبر فائدة لطبقة العمال. ولا داعي للحط من قيمة هذه السياسة التي إذا سرنا على نهجها فإننا سنجني إسكانًا أفضل، وإمكانيات أفضل للعمل، ونظامًا تعليميًّا ونشاطًا تقوم به النقابات. فإذا لم يدم هذا الانتعاش الاقتصادي، فالنتيجة الوحيدة لاستئناف سياسة الامتيازات ستعنى بإيجاد مستوى جديد للأماني المعترف بها بين العمال الذين سيشعرون بالمرارة وخيبة الأمل عندما يخيم الكساد بشبحه في المرة التالية. وسواءً استمر الانتعاش أو استمرت الأزمة، فإن قبول حزب العمال لافتراضات النظام القائم يعني قبوله للتناقض الموجود بين الرأسمالية والديمقراطية والذي سيطيح إن عاجلًا أو آجلًا بأي منهما. ولقد مرت هيئة المنتخبين بتجارب عدة جعلتها تذهب إلى أن إدارة الدولة الرأسمالية يجب أن تكون في أيدي الأفراد الذين يؤمنون بمبادئها، ومن الحماقة أن تطلب من حزب العمال أن يدير دفة المجتمع الرأسمالي.

ولا يتمشى هذا الاقتراع مع المشكلة الرئيسية التي أثيرت في هذا الصدد؛ إذ إنه من الممكن تحقيق الانتقال من النظام الرأسمالي إلى النظام الاشتراكي بكل ما يتضمنه هذا الانتقال من تغيير في العلاقات الطيبة بالطرق السلمية في أي مجتمع ديمقراطي. وإني لا أدلل على أنه لا يمكن إنجاز هذا إذا أراد أصحاب أدوات الإنتاج أن يحققوا مضامين الديمقراطية، ومعناه هو أنه إذا أدت الديمقراطية عملها بنجاح، فإنها تسير بنجاح، وهذه كما نرى ملاحظة لا تستحق الذكر، وإني أبادر بطلب معرفة ما إذا كان على ضوء الخبرة التي مررنا بها يحق لي القول بأنه من المعقول أن نفترض أنها ستحقق هذه الأهداف. وعلى المتفائل المتحمس أن يتخذ موقفًا ثابتًا، فهو لا يقوم بتفسير الخبرة الأمريكية أو الخبرة التي مرت بها أوروبا أثناء الحرب أو أنه يقوم باستبعادها فحسب، ولكن يجب عليه أيضًا أن يوضح أن اتحاد الدول يكمن تحقيقه عندما يختلف الأفراد حول الأسس التي يقوم عليها.

ولقد قام بعض المراقبين المرموقين بمحاولات عدة في هذا الصدد، ويجدر دراستها بشيء من الدقة، ولقد ذكر البروفسور جريجوري أنه: «إذا اختار المثقفون في الغرب اقتران الفاشستية بالرأسمالية ووصمهما بالانحلال لأغراضه الدعائية، فيجب الاعتراف بعدم وجود أي ضمان أو تأكيد لعملهم هذا.» ولقد اتخذ هذا الموقف على أسس ثلاثة: فجوهر الفاشستية يتسم بالسلطة، وأما جوهر النظام الرأسمالي فيتسم بالحرية في العمل وحق الفرد في التعبير عن نفسه من الناحية الاقتصادية، أما الأساس الثاني فهو: وجود وجه الشبه بين خمس وعشرين نقطة في البرنامج الاشتراكي القومي، ومذهب الشيوعية الروسية أكثر من وجوده بين أحدهما وفلسفة الدولة الرأسمالية. أما الأساس الثالث فهو: إذا تدهورت الرأسمالية فسيحاول أي فرد البحث عن أسباب هذا التدهور في بريطانيا والولايات المتحدة، لا في البلقان أو أمريكا الجنوبية أو إيطاليا لعدم وجود النظام الرأسمالي في هذه المناطق. ويمكن تطبيق نفس الشيء على الحالة في روسيا. ولقد فسر البروفسور جريجوري مشكلة الفاشستية الألمانية بقوله: «إن النظام الاقتصادي والاجتماعي قد تعرض للشدائد، ولكن هذه الشدائد لا تمت بأية صلة إلى العيوب الكامنة في النظام الرأسمالي.» ويوافق البروفسور جريجوري على أن أغلبية كبيرة يحصل عليها العمال فجأة تشرع في قلب الأنظمة الاقتصادية المقررة في البلاد رأسًا على عقب. عندئذ يجوز أن تصادف هذه الأغلبية مقاومة لعملها هذا، غير أنه لا يثبت تدهور الرأسمالية، ولكنه يثبت أن عددًا كبيرًا من الأفراد ما زالوا يؤمنون بها. واختتم البروفسور جريجوري هذا بقوله: «إن قيام الفاشستية لا يعني انهيار النظام الرأسمالي، ولكنه برهان على أن الموقف فيما بعد الحرب لا يبعث على الرضا.»

ودعونا نمعن النظر في هذه الدراسة، فمن الطبيعي أن الفاشستية تتسم بالسلطة في جوهرها، وأن الرأسمالية قد أقيمت دعائمها على حرية العمل وحق الفرد في التعبير عن نفسه من الناحية الاقتصادية، ولكن ما ينبغي لنا دراسته هو الهدف الذي سُخرت من أجله الفاشستية. فللحصول على المكاسب المادية نجد أنها تحاول القضاء على النقابات وتسعى إلى حماية الملكية الخاصة لرأس المال وتهدف إلى تخفيض الأجور، كما أننا نجد أن الفاشستية تبذل ما في وسعها لتخول الأفراد «الحق في التعبير عن النفس من الناحية الاقتصادية»، غير أن هؤلاء الأفراد لا ينتمون إلى الطبقة العاملة. وتدافع السلطة الفاشستية عن نظام العلاقات الطبقية التي تتطلبها الرأسمالية، كما أن المثقفين في الغرب ينظرون إليه على أنه تعبير عن الرأسمالية، وهي في مرحلة تدهورها. وبدون مساندة هذه السلطة لهذا النظام، لا تمكن المحافظة على هذه العلاقات الطبقية.

ونجد أن وجه الشبه القائم بين البرنامج الفاشستي والبرنامج الشيوعي يلفت الأنظار من الناحية النظرية، فإذا ناهض البرنامج الفاشستي الاشتراكية والنقابات، فلن يستطيع أن يطلب مساندة الطبقة العاملة. وينبغي لنا ألا نصدر أي حكم على الفاشستية لمجرد أننا نعرف نواياها، إذ إن ما يعنينا هو تنفيذها، ولا أعتقد أن البروفشور جريجوري كان في مخيلته القواد الإيطاليون الذين ساندوا موسوليني ورجال الصناعة في ألمانيا الذين ساندوا هتلر، ولا أعتقد أيضًا أنه قد تخيل أنهم قاموا بذلك على أساس أمل يراودهم: هو قيامهم بتنفيذ النواحي الشيوعية. ولقد تدخلت الفاشستية باصطلاح «حرية العمل»، وإن طابع هذا التدخل كان تدخلًا من جانب الرأسماليين في إيطاليا وألمانيا لاستعادة المصالح الرأسمالية. ومن حق البروفسور جريجوري أن يذهب إلى أن هذا التدخل قد أقيم على دعائم خاطئة، ولكن عندما يدرس وقع هذا التدخل على الهيئات الاقتصادية ووضع الطبقات العاملة لا يحق له أن يستخلص أن هذا يعتبر محاولة حادة في سبيل تحقيق برنامج الفاشستية الرسمي.

غير أن هذا لن يمكننا من إصدار الحكم على الرأسمالية وهي في عنفوانها، كما في إنجلترا والولايات المتحدة، لا في الدول الرأسمالية المتخلفة كما في البلقان أو أمريكا الجنوبية، فمحك أي نظام اقتصادي لا يتغير في أي مكان. إنه اختبار لقدرته على استغلال إمكانيات القوة الإنتاجية، ويجب ذكر «تدهور» الرأسمالية في إنجلترا والولايات المتحدة، ففي إنجلترا نجد مليونين من المتعطلين. وساءت أحوال الصادرات كالقطن والحديد والصلب، وأصبحت على شفا التدهور والانهيار. أما الصناعات الأخرى فقد اتجهت إلى الحكومة في مسكنة ومذلة للحصول على إعانات تيسر لها سبل العيش. ويمكن وصف هذا الموقف بالتدهور والانهيار.

ويعترف البروفسور جريجوري بأن الأغلبية التي ينالها حزب العمال فجأة ربما تقاوم إذا استمرت في قلب الهيئات الاقتصادية، إلا أنه ينظر إلى مثل هذه المقاومة على أنها اعتقاد في الرأسمالية، لا كدليل على تدهورها.

ومن العسير معرفة ما يعنيه البروفسور جريجوري عندما يذكر «الأغلبية التي يحصل عليها العمال فجأة»، فالانتصارات الانتخابية دائمًا ما تئُول إلى مثل هذه الانتصارات في نظر الأحزاب المهزومة. ففي فترة ما بعد الحرب اعتبر هذا بمثابة وجهة نظر معارضي مستر لويد جورج في الانتخابات التي أجريت عام ١٩١٨م، وكان هذا وجهة نظر حزب العمال عندما فاز حزب المحافظين في انتخابات عام ١٩٢٤م وعام ١٩٣١م. وعندما ينال الحزب الأغلبية، إذ إنه قد وضع برنامجًا أثار مناقشات عدة لمدة طويلة، هل هذا النصر يعد نصرًا؟ وهل هذه الأغلبية هي التي تحدد طابع هذا النصر؟ فإذا كان الأمر كذلك في نظر البروفسور جريجوري فلن يوجد أي حزب يحق له قلب الهيئات الاقتصادية رأسًا على عقب ما لم يؤيده الرأي العام.

ويعتقد البروفسور جريجوري أن الأفراد يفضلون الكفاح لا المحافظة على الهيئات الديمقراطية. ولكن جانبه الصواب في أن ذلك يشير إلى أن الرأسمالية في حالة تدهور واضمحلال، فهو استنتاج خاطئ؛ إذ لا يمكن الجزم بأن هذا المبدأ أو تلك النظم أو هذه الفكرة على صواب لمجرد أن جماعة من الناس قد اقتنعوا بصحته حتى أصبحوا مستعدين للنضال في سبيله. وجدير بالذكر أن عددًا كبيرًا من الناس قد أبدوا استعدادهم للنضال في سبيل الفكرة الملكية في روسيا بعد عام ١٩١٧م، ولكن ليس معنى هذا أن الفكرة لا تندثر، فطالما ينظر بعض الأفراد مثل البروفسور جريجوري إلى طريقة عرض أية سياسة اشتراكية على أنها «قلب للهيئات الاقتصادية رأسًا على عقب»، فمن المشكوك فيه أن يقوم بعض مؤيدي هذا النظام — وهم أقل استمساكًا بعدم التحيز — بإجراء بعض التجارب الاشتراكية، واضعين نصب أعينهم أنه لا يمكن تتبع جذور الفاشستية حتى تدرك مدى التدهور الرأسمالي؛ لأن هذه الجذور تعبر تعبيرًا واضحًا عن موقف ما بعد الحرب في بعض البلاد، إذ نجد أن للعوامل غير الاقتصادية أهميتها، مثلها في ذلك مثل العوامل الاقتصادية. ولا نعني «تلك الشدائد» في قليل أو كثير بالعيوب الكامنة في الرأسمالية، كما حدث في ألمانيا مثلًا، وينبغي أن نعرف ما يقوم به البروفسور جريجوري من عمل، إذ إنه يضع أفكارًا عن الرأسمالية، وتعتمد صورتها في كل مجتمع على تفاعل مبدأين هما «حرية العمل، وحق الفرد في التعبير عن نفسه من الوجهة الاقتصادية». وتختلف هذه الرأسمالية عن المجتمعات الرأسمالية القائمة عندما نكبح جماح حرية العمل أو التعبير عن النفس. وترجع تلك العيوب إلى التخلص من الرأسمالية لا إلى الرأسمالية العاملة، ولا يعنينا وجود فكرة بحتة عن الرأسمالية، إذ ليست هناك ظروف سياسية يمكن إدراكها حتى تصبح واقعًا ملموسًا. أما عن قيام الدولة الحقيقية بأداة عملها، فيعتبره الرجل المثالي أساسًا واهيًا يقوم عليه نقد الدولة، وينظر البروفسور جريجوري وينظر المفكرون معه إلى قيام الدول الرأسمالية بأداء عملها على أنه أمر غير مقبول بالنسبة لنقد النظرية البحتة عن الدولة الرأسمالية. ولقد حددوا هذه الفكرة بقواعد لن يجرءوا على اختبارها بالحقائق؛ ولذلك نجد أن تدخل الدولة، سواء أكان هذا التدخل في صالح الرأسمالية أم ضدها، يعتبر خروجًا على القاعدة. أما تأثيرها فلا يمكن إرجاعه إلى ما تؤديه هذه القاعدة من عمل.

ولكن إذا اعتقدنا أن الرأسمالية هي ما يقوم به الرأسماليون من عمل، عندئذ يجب علينا أن ننظر إلى تقاليد هذه الدول التي تهيمن عليها المصالح الرأسمالية على أنها من خصائص الرأسمالية التي تتميز بها؛ ولذلك ينبغي لنا أن نعتقد أن قيام الرأسماليين باستخدام سلطة الدولة لحماية مصالحهم هو جوهر الرأسمالية في إطارها الجديد؛ لأن أية فكرة ما هي إلا ما تئُول إليه في خير العمل لا ما قصد منها الأصل عند التفكير فيها. ولا يمكن إخضاع تطور الأفكار للتقاليد التي سادت في المراحل الأولى، ولكن إذا اتخذ الرأسماليون سلطة الدولة على أنها مظهر من مظاهر الفاشستية عندما يدور النقاش حول أمنهم، فإني لا أستنتج إلا أن هذا الاقتران يُعد مظهرًا من مظاهر السبب والمسبب. وتستخدم الرأسمالية وهي تتعثر في طريقها مركز الرأسماليين المرموق في أي مجتمع؛ حتى يكرسوا سلطة الدولة لإخضاع معارضيها، وهي تتعهد للقيام بإجراء التجارب وتخفيض الأجور والقضاء على النقابات والحيلولة دون قيام الإضرابات؛ وذلك لضمان بعض الأحوال التي في ظلها تستعيد المكاسب المادية.

لقد أشرت إلى أن المجتمع ما هو إلا مسرح تشتد فيه حدة الصراع القائم بين الطبقات الاقتصادية من أجل الحصول على مكاسب مادية، أي الحصول على أكبر قسط تجنيه من العملية الإنتاجية. وطالما كانت القدرة على الإنتاج تعتمد على استتباب الأمن؛ فيجدر بالدولة أن تتمسك بالقانون وتحافظ على النظام؛ لكي تحقق هذا الهدف، ولكن عندما تفعل ذلك تجدها وقد أخذت بالضرورة تحافظ على النظام، وتتمسك بالقانون، إذ إن نظام العلاقات بين الطبقات يتضمنها، وما الدولة إلا تعبير عن هذا النظام. أما القانون والنظام في المجتمع الإقطاعي وهما اللذان تتمسك بهما الدولة؛ فهما أمران ضروريان للإبقاء على المبادئ الإقطاعية. أما في المجتمع الرأسمالي، فإن الدولة تتمسك بالقانون والنظام اللذين يكفلان لها المحافظة على المبادئ الرأسمالية. أما في مجتمع روسيا السوفيتية مثلًا حيث يشترك الجميع في امتلاك أدوات الإنتاج، فنجد أن الدولة السوفيتية تستخدم القانون والنظام اللذين ييسران لها السبل لكي توزع ثمار هذه الملكية العامة، وتخضع الدولة دائمًا لتلك الطبقة التي يخول لها الحق في امتلاك تلك الأدوات. والدولة هي التي تسن القوانين، ولكنها تسنها بحيث تتمشى مع مصالح هذه الطبقة، فإذا قل عدد الملاك في الدولة، فسيتحيز القانون لهذه الحفنة. أما إذا شمل عددهم المجتمع بأسره، فسيسخر القانون لخدمة هذا المجتمع، وسيتحيز له ضد أية مصلحة خاصة.

٥

وقد ذكرت أيضًا الطريقة التي أصبح معها نظام العلاقات بين الطبقات العامل الرئيسي في تكوين الأيديولوجية (المذهب) العامة للمجتمع؛ فنحن نرى مثلًا أن المذاهب الدينية في الدولة الرأسمالية التي قامت على أساس العمل الحر لها طابعها وتفسيرها. وهما يختلفان عن طابع وتفسير المجتمع الرأسمالي الذي أقيمت دعائمه على العبودية. ولقد اعتنق المسيحية في مستهل تاريخها أفراد من طبقة أصحاب العبيد. ومن ذلك نجد أنه إذا كانت المسيحية قد أصرت على وجوب عتق العبيد كشرط للانخراط فيها، كان لها أكبر الأثر في الانقلاب الصناعي الذي يتعارض مع العلاقات التي تدخل في نطاق نظام الإنتاج القائم حينذاك، غير أنه كان مدعاة لأن يجعل المسيحية عدوًّا لهؤلاء الذين يستفيدون من نظام العبيد. كما أنه ليس في مقدورها معاداتهم، إذ إن السلطة الإلزامية في الدولة الرومانية كانت تساندهم، وتلك السلطة تقرر أن واجب العبيد هو تقديم فروض الطاعة لأسيادهم. وتعتبر العبودية دليلًا لا يتناسب مع ذلك الإخلاص الذي تضمنه عضوية الدولة. أما واجب أصحاب العبيد فهو معاملة عبيدهم معاملة حسنة، ولقد دعمت المسيحية من مركزها، وأصبح لها كيانها، وأملاكها التي أصبحت قيمتها تتوقف على مدى استغلال العبيد لها، أما عن مقتها لنظام العبيد فقد أخذ ذلك يتوارى.

ويجدر بنا القول في هذا المجال أن سلطة الدولة ظهرت في وقت ظهور سلطة الملكية الخاصة. ويحدث هذا في أي مجتمع حيث تمتلك حفنة من الأفراد أدوات الإنتاج، ويمارس هؤلاء الأفراد أدوات الإنتاج، ويمارس هؤلاء الأفراد أيضًا سلطة الدولة، إذ يسنون القوانين حسب رغباتهم، ويحددون الأهداف التي تسعى سلطة الدولة إلى تحقيقها. وهم يسعون أيضًا إلى الحصول على أكبر قسط من المكاسب المادية التي يتيحها نظام العلاقات بين الطبقات. ويعتبر ذلك الدعامة التي ترتكز عليها فكرتهم عن الخير، وهم يسنون القوانين لضمان حقهم في الحصول على هذه المكاسب، وعندما تسير بعض الطبقات الاقتصادية الأخرى على هذا المنوال، تنتشر أية فكرة عن الخير طالما ساندتها السلطة الإلزامية العليا في المجتمع (أي الدولة)، ففي ذلك البنيان الطبقي الذي يقوم عليه المجتمع نجد صراعًا محتومًا لامتلاك الدولة؛ إذ إن الذين يمتلكونها يصبح في مقدورهم فرض فكرتهم عن ماهية الخير على الآخرين.

ولقد أشرت أيضًا إلى أن هذه الفكرة ليست فكرة جامدة، إذ كلما اتسعت آفاق المعرفة تغيرت بالتالي وسائل الإنتاج، وزادت القدرة على الإنتاج؛ ولذلك تجب ملاءمة العلاقات بين الطبقات مع ذلك التغيير وتلك الزيادة؛ لأنها (أي العلاقات) تحدد ما يتوقعه الأفراد من نظام الإنتاج، كما أنهم سينظرون إلى آمالهم في أي وقت من الأوقات على أنها مرادفة للعدالة. ومن الطبيعي أن يميل الأفراد إلى تحقيق هذه الآمال. أما وحدة المصلحة فهي تدخل في نطاق العدالة، وتختلف الآراء عن العدالة باختلاف الأوضاع التي يشغلونها في نظام العلاقات بين الطبقات، فطالما تتصارع هذه الآراء كل مع الأخرى من أجل البقاء، فإن التفاوت في هذا الاختلاف هو الذي يحدد المعيار الذي تستطيع الدولة به أن توجد جوًّا من الاتحاد والتماسك بين مواطنيها. أما إذا كان الاختلاف عميق الأثر فإنه يصبح من العسير معه الوصول إلى نقطة التقاء بين الآراء المتعارضة، فنجد أن الدولة تصبح في حالة تدهور واضمحلال. ومعنى ذلك الإخلال بالأمن وعرقلة القانون، أما زعزعة هذا الاتحاد فتعرض حياة المجتمع للخطر، وذلك بالحد من عملية الإنتاج؛ ولذلك تجب إعادة إيجاد هذا الاتحاد فور حدوث ذلك، ويمكن تحقيق ذلك إما بإعادة تأكيد أهداف الدولة، أو بإعادة تحديد هذه الأهداف.

هذا وتزعزع العداوات الموجودة في الصراع الطبقي أركان هذا الاتحاد، أما المعارضات الأخرى سواء أكان منها المعارضات الدينية أم القومية أم العنصرية التي يتمخض عنها صراع علني، فربما غيرت من أفراد الحكومة، ولكنها لن تزعزع من أركان الاتحاد الرئيسية. ويرجع هذا إلى إعادة تحديد العلاقات بين الطبقات، فالولايات الأمريكية في الجنوب تظل كما هي بغض النظر عن التغيرات الثورية في الحكومات، كما أنه بفوز هتلر تغيرت الحكومة في ألمانيا لا الدولة، إذ لا يعتبر هذا ثورة بالمعنى المعروف عن الثورة الفرنسية التي قامت عام ١٧٨٩م، أو الثورة الروسية التي قامت في نوفمبر عام ١٩١٧م؛ إذ إنه بعد انتصار هتلر، واستيلائه على الدولة، استمرت العلاقات بين الطبقات على ما كانت عليه؛ نظرًا لأنه في الواقع لم يدخل أي تغيير فعلي على تحديد أهداف الدولة.

ولقد قامت الثورة الفرنسية والثورة الروسية بإعادة تحديد أهداف الدولة، فالثورة الفرنسية مثلًا أكدت حق أصحاب الأملاك في أن يأخذوا نصيبهم من نتائج العملية الإنتاجية، ولم تلق بالًا إلى مسألة ما إذا كانوا ينتمون إلى طبقة أرستقراطية أم لا، وقامت الثورة الروسية أيضًا بتأكيد الحق للمواطنين من الطبقة العاملة في أن يأخذوا نصيبهم مما تجنيه من العملية الإنتاجية، بغض النظر عن كونهم أصحاب الأدوات الإنتاجية أم لا. ومما هو جدير بالذكر أن الثورة الفرنسية قد حققت الهدف الذي كانت تنشده إذ استخدمت سلطة الدولة للقضاء على الامتيازات التي كانت تتمتع بها الطبقة الأرستقراطية. أما الثورة الروسية فقد حققت هدفها باستخدام سلطة الدولة للقضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، كما أنها حولت حقوق الملكية من حيازة الأفراد إلى حيازة المواطنين جميعًا. ومن هذا كله نجد أن الثورة الفرنسية استخدمت سلطة الدولة للدفاع عن فكرة الخير التي يستفيد منها أصحاب أدوات الإنتاج. أما الثورة الروسية فقد استخدمت سلطة الدولة للدفاع عن فكرة الخير التي يستفيد منها أصحاب أدوات الإنتاج، أما الثورة الروسية فقد استخدمت سلطة الدولة للدفاع عن فكرة الخير لغرض مشابه، غير أنه سواء اتسمت وسائل الدفاع بالحكمة أم لم تتسم بها، فإن هذه المصلحة كانت تتمشى مع مصلحة جميع أعضاء الدولة.

وما من شك في أن الدولة تحاول دائمًا أن تقوم بدور الحكم المحايد الذي يسعى إلى تحقيق الخير للمجتمع دون تحيز لأحد، وستبذل الجهود للقضاء على الخلافات الكامنة في نظام الإنتاج لتحقيق هذا الهدف. غير أنه إذا كانت هذه الدراسة صحيحة، فلا يمكن إذن الدلالة على صحة تلك المحاولة للوقوف موقفًا محايدًا عندما تمتلك طبقة اقتصادية واحدة أدوات الإنتاج. فطالما تحدد هذه الملكية استخدام السلطة السياسية، فإن تولي حفنة من الأفراد هذه السلطة سيكون من شأنه تسخيرها لهم، وسيفرضون على الدولة فكرتهم عن الخير والعدالة والحق، وستستبعد الدولة إذن الآخرين حتى لا يشاركوا هذه الحفنة في تلك المكاسب. والدولة أداة قانونية تحقق مطالب أصحاب الملكية الخاصة، ومن ثم فلا يمكن للدولة أن تقف موقفًا محايدًا بين المواطنين فيما يتعلق بالرخاء المادي طالما لا يقصد من وسائل الإنتاج تحقيق الرفاهية للمجتمع بأسره.

وثمة نقطة غير هذه أحب أن أذكرها مرة أخرى، ألا وهي العداوات القائمة بين الطبقات، ويقصد منها الاختلافات بين الطبقات الاقتصادية بشأن طريقة توزيع الإنتاج الاجتماعي. وتدخل هذه العداوات في نطاق الصراع الاجتماعي عندما تحول العلاقات بين الطبقات دون استغلال القوى الإنتاجية التي تجد تلك الطبقة المستبعدة من فوائد الملكية إمكان استغلالها. وربما تقوم بعض الثورات داخل الحكومة حول بعض الملابسات التي تحتم قيام الثورة في الدولة؛ وعلى ذلك ينبغي لنا أن لا نتوقع قيام أية ثورة في أية دولة حيث نجد أن تلك الطبقة التي حرمت من فوائد الملكية تتلقى إعانات مستمرة لتحقيق هذا الرخاء المادي، ولكن عندما تحرم هذه الطبقة من المكاسب المادية، وتقرن هذا بنظام العلاقات بين الطبقات الذي تتمسك به الدولة، عندما تدرك هذا نجدها وقد هبت للاستيلاء على الدولة؛ ولهذا السبب تحاول أن تعيد تحديد هذا النظام حتى تحقق الرخاء المادي الذي تسعى إليه، ويحدو هذه الطبقة الأمل عند محاولتها الاستيلاء على الدولة في أن تسود فكرتها عن العدالة.

ولقد ذكر ماركس وإنجلز أن «الهيئة التنفيذية للدولة الحديثة، هي مجرد لجنة لإدارة الشئون العامة للبرجوازية.» ويجدر بنا ملاحظة ما تتضمنه هذه الفقرة، إذ إنه من الممكن أن ننظر إلى الدولة من زاويتين مختلفتين، فهي مجرد هيئة صغيرة من أفراد يقومون بإصدار الأوامر وتساندهم في ذلك السلطة الإلزامية العليا، ومن جهة أخرى نجد أنها — كما يرى المثاليون — هي العامل المؤثر الذي يتغلغل في كل كبيرة وصغيرة في المجتمع، ويحدد هيئاتها، ويجعل الأفراد يقومون بتحقيق أهدافها، وإن هاتين الناحيتين تعبران، في الحقيقة عن جانبين لعملية واحدة. فالدول كهيئة تضم أفرادًا يصدرون الأوامر ويولون اهتمامهم لتنظيم العلاقات التي تتوقف عليها طريقة الإنتاج. أما الدولة على أنها عامل مؤثر نفوذ فهي تحدد أهمية أنماط السلوك بالنسبة لهذه العلاقات. وسنجد ما يقصد من العادات الاجتماعية في سياق العملية التي تقوم بها الدولة، إذ إن هذه العادات تؤثر في العلاقات التي تصدر عن وسيلة الإنتاج، أما الدولة فستولي اهتمامها بالسلوك الذي يتعلق بهذه العلاقات، كما أنها ستسعى إلى السيطرة عليها، والتحكم فيها من أجل الطبقة التي تسود في فترة معينة.

٦

تبدو مثل هذه الدراسة لكثير من طلاب علم السياسة بطلانًا للأمور التي يعتبرونها أمورًا أساسية تتميز بها الدولة الحديثة في عالم الواقع، فإذا نظرنا إلى التاريخ أو حاولنا عرضه على أنه مستودع للنتائج التي تتمخض عن الصراع بين الطبقات، وإذا نظرنا إلى الدولة على أنها مجرد أداة للطبقة التي بيدها مقاليد الأمور، وإذا أصررنا على أن القانون يتلون حسب مصلحة هذه الطبقة، نجد أن ذلك يعني فرض القيود على مبادئ الهيئات الاجتماعية، فالتاريخ كما نعرف سجل للتغييرات التي أدخلها بعض الأفراد الذين كانوا يسعون إلى إيجاد نظام أفضل من النظم التقليدية التي ورثوها. أما أفضل وسيلة للنظر إلى الدولة فهو اعتبارها جهازًا للارتقاء وتحقيق المثل الأعلى. وإننا نعرف أن بعض السياسيين قد كرسوا كل جهودهم لخدمة الجميع خدمة منزهة عن أي غرض، فلماذا نفترض إذن أن نتيجة مسعاهم هي تحقيق الخير لطبقة ما، لا للمجتمع بأسره؟ فالقانون الحديث يذكرنا بأن جميع المواطنين سواء أمام المحاكم، وأن القضاة الإنجليز المعاصرين في نزاهتهم واستقلالهم يثيرون إعجاب العالم، وليست هناك أية دولة حديثة تخضع الحقوق الإنسانية لمصالح الملكية. ويشهد طابع التشريعات الحديثة على هذا القول، ولكن عندما تهتم الدولة بنوع المأكل، ورعاية الطفل، وإتاحة الفرص للتعليم، فمن المبالغة إذن أن ننظر إليها على أنها أداة طبقية.

وليس هذا هو كل ما في الأمر؛ إذ إن القرن الماضي قد تميز بتحسين حالة الطبقات المعدمة. ويجعلنا هذا نتطلع نحو امتيازات أفضل في الأعوام القادمة، كما أننا نستطيع أن نرى الطريق الذي سارت فيه الدولة وقضت بذلك على النفوذ الخاص للهيئات التجارية والسكك الحديدية والبنوك والإذاعة. وكان هذا كله لصالح المجتمع، إذ كانت هذه النواحي تعتبر أول الأمر مناطق قانونية لاستمرار المكاسب الخاصة. وفي صالح المستهلك العام قمنا بالقضاء على الاحتكار، كما أننا نحرم الإرهاق في الصناعة. وتشير التشريعات التي سنت (مثل: قوانين المصانع، وتعويض العمال، وتحديد ساعات العمل) إلى اهتمام الدولة بتحقيق الرخاء العام، فعندما يستنير الرأي العام يجب أن نتوقع الكثير. ومن ثم ستعمل الدولة على تحرير نفسها من التحيز لأية مصلحة خاصة في المجتمع. وكلما أمعنا في تحليل ودراسة وظائف الدولة الحديثة واختصاصاتها، ازددنا اقتناعًا بأنها لا تعدو كونها إعرابًا عن الخصومة بين الطبقات.

وإن وجاهة هذه الفكرة لا تحتمل أي تأكيد من ناحيتي، إلا أن قبولها لا يخفي النقائص والعيوب التي تعاني منها؛ فهي لا تعلل وجوب تغيير آراء بعض الأفراد التي تتكون منها العدالة الاجتماعية من فترة إلى أخرى. ويُنظر إلى العبودية على أنها أمر لا يطاق في فترة ما، كما ينظر إليها في فترة أخرى على أنها أمر مقبول، إلا أن هذه الفكرة لم تعلل لنا السبب في هذا أيضًا؛ فلقد وضعت في إنجلترا بعد مرور ستين عامًا من المجهودات الضخمة الفكرة التي تذهب إلى أن الدولة يجب عليها أن تكفل التعليم الأولي لمواطنيها، وفرضت بعض القيود على ساعات العمل، إلا أن حالة الخدم في المنازل والعمال الزراعيين قد بقيت على ما هي عليه، وهي لا تبعث على الرضا، كما ظلت قوانين المصانع وتعويض العمال مسرحًا لصراع تدور رحاه بين العمال وأصحاب العمل، وكان صراعًا حقيقيًّا إن لم يكن مثيرًا. ويكمن الاختلاف الجوهري في أننا نكافح اليوم لا لتحقيق أي مبدأ، ولكن للوصول إلى طريقة نطبق بها هذا المبدأ؛ إذ إننا نحاول أن نتصدى للصناعة التي ترهق عمالها، ونحاول أن تظهر الأحياء الفقيرة القذرة. وهناك خلاف يذكر في الرأي حول حقيقة ظروف الصناعة المرهقة للعمال وظروف الأحياء الفقيرة والقذرة، ونقوم بالمحافظة على العاطلين بالتأمين ضد البطالة ونبذل المساعدات العامة لهم.

وأما ما نطلق عليه نمو الضمير الاجتماعي فهو في الواقع مجرد فكرة متغيرة عن الآمال المعترف بها، والتي أوجدها الصراع الطبقي، إذ أرغم هذا الصراع أصحاب أدوات الإنتاج على الإذعان لعدة مطالب، إلا أنهم سلموا بمظاهر الأشياء لا بجوهرها، وظل المقياس الذي يعتد به في استحقاق المنفعة المادية في المجتمع كما كان موجودًا في أصل النظام الرأسمالي، وهو امتلاك الثروة. أما عن الآراء التي وُضعت بشأن العدالة فما تزال تعمل داخل النطاق الذي حددته الفروض الأساسية. وعندما يقال لنا: إن استعادة النواحي الاقتصادية التي كسدت عام ١٩٣١م يجب أن تتشمى مع المطالب التي يحتاجها الذين يدفعون قدرًا كبيرًا من الضرائب، فمن الواضح أن صراع هذه القيم لا يقل عمقًا عنه في أي عصرٍ مضى؛ إذ إن ما تغير هو الأهداف التي تلتف الدولة حولها، وما زلنا نحس بوجود هذا الصراع.

ويتوقف قرارها على مقدرة الطبقات الاقتصادية على التأثير فيما تقوم به الدولة من أعمال، فبينما تتحكم تلك الطبقة التي تستغل أدوات الإنتاج في الدولة بدافع المنفعة المادية، فمن الصعب أن نرى أي اعتبار آخر — غير هذا الاعتبار — يحدد الأمور التي يوافق عليها ذلك الضمير الاجتماعي. وما من شك في أن فترة التوسع الاقتصادي كفيلة بأن تنمي من نطاق الضمير الاجتماعي، إلا أن تاريخ ما بعد الحرب يوضح انكماش هذه الحدود بتضاؤل المكاسب، وطالما كانت هذه العلاقات القانونية تهدف إلى حماية ما يتضمنه البيان الطبقي؛ فإن احتياجات هذا البنيان هي التي تحدد معالمه، وبذلك تزداد حدود الضمير الاجتماعي اتساعًا. وما مرت به ألمانيا وإيطاليا يشهد على مرونة تلك الحدود، أما الوسيلة الوحيدة لتغيير هذه المعالم فهي تغير البنيان الطبقي الذي يحددها.

ويساعدنا في هذا المجال دراسة فكرة المساواة أمام القانون باعتبارها مقالًا وافيًا يوضح الطريق الذي تقل فيه حدة المطالبة بمبدأ عام شامل في تطبيق، وذلك عن طريق الحاجة لإخضاع ما تقوم به من عمل للفروض القانونية الأساسية في المجتمع، وهي التي كانت تطبق بصفة عامة فيما قبل. ولا داعي للتدليل على أن القانون قد تولد نتيجة للصراع الطبقي، وتدخل فكرة هذا الصراع في الآراء القانونية الهامة، فقانون الشغب لا يعتبر ذا أهمية إلا في حالة الدفاع عن الوضع الراهن عندما يتعرض للتهديد. فهو في الواقع ضمان للقانون والنظام، وهما يساندان نظامًا معينًا من العلاقات بين الطبقات حتى لا يتعرضا للمقاومة، كما أن موقف المحاكم بالنسبة لقضايا النقابات لا يهم في كثير ولا قليل إلا عندما يكون تعبيرًا عن الجو الفكري الذي لم يحرر نفسه من الاعتقاد السائد بأن هذه النقابات ما هي إلا هيئات تعرض توازن المجتمع للخطر، هذا التوازن الذي قام على المبدأ الذي ينادي بأن وسائل الإنتاج يجب أن تبقى في أيدٍ خاصة. وقد قام موقف المحكمة العليا في الولايات المتحدة بشأن التشريع الاجتماعي على الافتراض المبني على وعي ناقص، وهو الذي يقول: إن التعديل الرابع عشر قد أدمج «الاستاتيكية الاجتماعية (أي دراسة المجتمعات الإنسانية في حالة استقرارها وثباتها)» لهربرت سبنسر في الدستور، كما أن مجلس اللوردات قد وضع في بعض المبادئ التي تفسر تفسيرًا نظاميًّا يوحي بأن السلطة المحلية التي خول لها الحق في دفع «الأجور حسبما ترى» يجب أن تستخدم سلطة تتسم بالحصافة والعقل. وقد فُسرت كلمة «معقولة» أو استُبعدت على أن هذه الأجور لا تزيد عن ١٠٪ من المستوى السائد في الحي للطبقة العاملة التي يعنيها الأمر. وإن من يمعن النظر في قضايا الخيانة في عهد نابليون أو الجو الذي أحاط «حرية الخطابة» في الولايات المتحدة في العشرين سنة الماضية (صدر هذا الكتاب عام ١٩٣٥م وأعيد طبعه عام ١٩٣٦م و١٩٤١م) لا يجد من الصعوبة في أن يصر على القول بأنه لا يمكن للاعتبارات القضائية أن تتخطى البنيان الطبقي للمجتمع؛ إذ إنها تعمل في نطاقه.

ويجب علينا ألا ننسى أن الثروة هي العامل الحاسم في انتهاز الفرص التي يتيحها القانون للمواطنين لضمان حقوقهم، فنجد أن المثول أمام المحاكم يعتبر مشكلة مالية معقدة؛ إذ إن المساواة أمام القانون تقتصر على من يستطيع الدفع حتى تتاح له هذه الفرصة. وليس هناك تعادل في الناحية الإدارية حتى يعمل للوصول إلى ما نرجوه من توازن، فالعلاقات بين الطبقات كما جرت العادة معناها أن تكرس خدمات المحامين الأكفاء لخدمة القادرين على دفع مقابل هذه الخدمات. ويقضي المحامي الناجح حياته في خدمة الطبقة الحاكمة في المجتمع، ومن الطبيعي إذن أن يشاطرهم نظرتهم ويسخر فكره لمصالحهم. وما من شك في أن الذي دفع الطبقات العاملة إلى النظر إلى المهنة القانونية على أنها الأسوار التي يتحصن وراءها الضمير الاجتماعي هو هذه الغريزة الصادقة.

ولكن ليس معنى هذا أني أنكر وجود نوايا طيبة عند المحامي، أو أن النظام القانوني لا يهدف إلى الخير. إن ما أقوله هو أنه عندما تشير الفروض القانونية التي قام عليها المجتمع إلى عدم المساواة، فإن تأثيرها سيكون في التمسك بعدم المساواة، ولكن عندما تمتد جذور معظم القوانين إلى الماضي نجد أنه من الطبيعي أن يحاول المحامي التمسك بها لا الخروج عنها. أما الحركات الكبرى التي قامت لإصلاح النظام القانوني، فقد نادى بها أفراد من خارج نطاق المهنة ذاتها، أو أفراد لهم اتصال بها من الخارج مثل بنتام. وإن وظيفة النظام القانوني هي دفع هذه الفروض القانونية إلى القيام بعملها، وستسترعي الانتباه إذا قامت بأداء عملها لضمان تغييرها الأساسي.

ولقد انساق المفكرون الأحرار إلى الخوض في مثل هذا الوضع لاعتبارين؛ إذ إنهم دللوا على أن الدولة الحديثة عندما تكون دولة ديمقراطية هي دولة شبيهة بحكومة الرايخ الألمانية؛ نظرًا لأنها قامت على القانون، وأن هذا القانون لا يربط المواطن العادي فحسب، ولكن يربط الحكومة التي تدير سلطة الدولة، كما أن هيئتها القضائية مستقلة ومنفصلة عن هيئتها التنفيذية، حتى يمكن تطبيق القانون دون تحيز لفرد أو مذهب.

إلا أن فكرة حكومة الرايخ هذه تعتبر فكرة مجردة، إذ إنها تدخل في عداد النظريات البحتة لا في عداد النظريات الواقعية، فهي تلزم الحكام بالقوانين التي سنوها، إلا أنها أطلقت لهم الحرية، وذلك باستخدامهم الوسائل الملائمة لسن القوانين. ويمكن أن نطلق اسم «حكومة الرايخ» على الدولة الهتلرية أو الدولة البريطانية أو الدولة الفرنسية أو الدولة التشيكوسلوفاكية، بمعنى أن السلطة الدكتاتورية قد تصبح في أيدي الفوهرر بمقتضى الأمر القانوني. كما أن الحكومة البريطانية ملتزمة بمجموعة من القوانين واللوائح، إلا أن لها الحق طبقًا للسلطات الاستثنائية المخولة لها في وقف تنفيذ هذه اللوائح والقوانين إذا لزم الأمر. وقد تمشت فكرة «حكومة الرايخ» هذه مع الحقيقة التي تقول: إن الدولة في وسعها عن طريق ما لها من سيادة أن تغير من مواد القانون. وقد قيل في أول الأمر: إن فكرة الاستبداد القانوني تكمن في طبيعة هذه السيادة وتحدد أية أزمة مطالبًا «لحكومة الرايخ» لا المطالب التي كانت تنشدها. ولم يدُر في خلد أي فرد من هؤلاء الذين وضعوا دستور جمهورية فيمار الألمانية عام ١٩١٩م أن المادة الثامنة والأربعين ستكون الأساس الذي تقوم عليه الدولة الهتلرية.

ولا داعي لأن ننكر قيمة فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية إلا أن أهميتها في هذا المجال محدودة، فالمبادئ التي يجب على القضاة تطبيقها قد خولتها لهم التشريعات التي يقومون بتفسيرها. وهذا يعبر عن الأهداف الرئيسية في المجتمع الرأسمالي، كما أن السلطة التنفيذية هي التي ترشح هؤلاء القضاة؛ ولذلك كلما ازدادت سلطتهم في الدولة، نجد أن السلطة التنفيذية تتوخى العناية في ترشيح الأفراد الذين يشغلون هذه المناصب القضائية ويمكن الاعتماد على موقفهم. ويمكن لأي فرد أن يتحقق من صدق هذا القول إذا قام بدراسة تاريخ الترشيحات لتوالي المناصب في المحكمة العليا في الولايات المتحدة. ودخل في الاعتبار أيضًا الموقف الذي يتخذه هذا المرشح بالنسبة للمسائل السياسية والاقتصادية. وإن الحقيقة التي تنادي بأن المحامي ينتمي دائمًا إلى طبقة أصحاب الملكية تجعل منه رجلًا عطوفًا تجاه النظرة العامة لهذه الطبقة. وإن الصعوبة التي واجهت حزب العمال في هذا المجال ما زالت الألسن ترددها، كما أن لها تأثيرًا يتسم به مذهب المحافظين في التفسيرات، حيث نجد أن حصافة القضاة وهي لا تخضع لرقيب قد وجدت تعبيرًا دستوريًّا.

ويحق لنا في هذا المجال أن نذكر ما تقوم به المحكمة العليا الأمريكية لإدراك أهمية هذه القيمة المحدودة الخاصة بفصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية حيث إن للتطور الاقتصادي أهمية في تحديد القرارات القضائية، وإن كل من يقوم بدراسة تاريخ هذه المحكمة في الخمسين سنة الأولى، يدرك اتجاه مثل تلك القرارات، فإن ما يهدف إليه القضاة هو حماية مصالح الملكية من هجوم المجالس التشريعية؛ إذ إن هذه المصالح قد جرتها الأزمات الاقتصادية إلى التضخم وإلغاء حقوق الملكية وخفض الديون. ولقد كانت هذه الفترة التي عرفت باسم القومية القضائية والتي أوضح مارشال معالمها تعبيرًا واضحًا عن المجهود الاتحادي لضمان النواحي التي تنمو فيها التجارة وتزدهر، دون تدخل هؤلاء الذين عانوا الكثير من الفقر الذي نجم عن حرب الثورة. وهذا يفسر لنا وجهة نظر المحكمة فيما اتخذته بصدد البند الخاص بالتجارة والبند الخاص «بمبدأ الإلزام في العقود» الموجود في الدستور.

وتصور هذه السنين فترة من تاريخ الولايات المتحدة، حيث ابتدأ ظهور مجتمع صناعي حديث، ولقد أتم مارشال هذه المرحلة واتبعها من جاءوا بعده. فمنذ عام ١٨٣٠م حتى الحرب الأهلية لم تكن المحكمة في حاجة إلى أن تطبق أكثر مما تنص عليه المبادئ الدستورية التي وضعتها المحكمة. أما موقفها بالنسبة للتجارب النقدية أو التجارب الخاصة بالأرض في الولايات الغربية، فتقرن مصالح الملكية بفكرة القانون الأساسي. ولقد أوضح قرار فريد سكوت أنه يجب تجديد المسألة القائمة بين الرأسمالية الصناعية والرأسمالية الزراعية. وعندما يتحقق ذلك يتضح لنا أن الباعث هو حماية احتياجات الصناعة الآخذة في الانتشار بالرغم من إثارة هذه القرارات لجيش قوى تعداده ٦٠ مليون من المواطنين. وعندما جاء عام ١٨٨٠م تحمست المحكمة العليا ضد حرية «التصرف في النواحي الاقتصادية».

وظلت هذه الحالة مدة ربع قرن، وفي أثناء هذه الفترة كان الهدف السائد هو الحيلولة بين تعاليم الحكومة والتدخل في العمل. فهي تستلزم بعض الآراء عن حرية التعاقد وسلطة البوليس ونواحي القانون، كل هذا من أجل حماية رجال الأعمال لأجل حصولهم على المكاسب المادية. وقد اتخذت قرارات عدة توضح أن اختيار الفروض القانونية التي يستنتج القاضي عن طريقها مجريات الأمور يتم بالنسبة للنمط الاقتصادي السائد، وإن المحاولات التي يهدف منها أن تكون هذه الفروض قانونية لا سياسية توضح أن القانون الدستوري يجب إخضاعه في المجتمع الرأسمالي لما تحتاجه الرأسمالية.

وجدير بالذكر أن الثلاثين سنة الأخيرة في تاريخ المحكمة لم تغير من النواحي الأساسية التي تتصف بها في قيامها بالعمل، وأن الشكوك التي تساور الشعب الأمريكي بشأن النواحي الرأسمالية ومحاولة التنظيم والحركة التي تقوم بتحديد مقدار الودائع، كل ذلك قد نظرت آثاره في القرارات التي تتخذها المحكمة، إلا أن آثارها تكون ضعيفة في أوقات الطوارئ كما كانت الحالة مثلًا أيام الحرب وأيام الكساد الاقتصادي. هذا، وإن ظهور حركة شيوعية قد تزيدها حدة، فهي توضح عجز الرأسمالي عن إدراك أن دعاة السلام يمكن أن يكونوا وطنيين، وهي تعترف بدستورية تشريعات روزفلت. كما أن أي فرد يقوم بدراسة أعمال المحكمة في الثلاثين سنة الماضية بوجه عام، والخمس عشرة سنة الأخيرة بوجه خاص سيتخلص استنتاجًا واحدًا، مؤداه أن زيادة حدة الاحتجاجات ضد الرأسمالية غير المقيدة في أمريكا في الفترة ما بين سنة ١٨٦٥م وسنة ١٩٠٠م قد تغلغلت في أذهان الجالسين على منصة القضاء، إلا أنها لم تتمكن من إدماج مطالب الرأسمالية واحتياجات التنظيم الاجتماعي في لائحة دستورية واحدة. ولكن استطاع قاضيان في هذه الفترة أن يقوما بوضع فلسفتين لتحقيق ذلك. فقد سار القاضي هولمز على المبدأ القائل بأن ما يحتاجه المجلس التشريعي لا بد من قضائه ما لم ينكر الدستور رغباته علنًا وبصورة واضحة. أما القاضي براندر فذهب إلى أن البنيان الرأسمالي يمكن تحقيقه عندما تنظم وحداته تنظيمًا دقيقًا من أجل المصلحة العامة. ومما لا شك فيه أن كلًّا من الفلسفتين يمكن أن تصل إلى قرار بشأن المتناقضات الخطيرة التي اندمجت فيها الرأسمالية الأمريكية.

وأنا لم أحاول دراسة اتجاه المحكمة العليا لاختلافه عن اتجاه المحاكم الأخرى في بلاد أخرى، ولكني حاولت القيام بذلك؛ لأن الاختصاصات الاستثنائية للمحكمة العليا هي التي تحدد الافتراضات الواضحة المعالم توضح في التشريعات الحقيقية. ومن الواضح أن هذه القوانين ليست بعيدة عن معنى الحياة؛ فكل منها تحدده الظروف والأحوال، كما أن طابع كل منها يحدده الإطار الاقتصادي العام للمجتمع، فالقانون ليس أمرًا موضوعيًّا بمعنى أنه لا يميز النتائج التي قد تتمخَّض عنه. وجدير بالذكر أن المحاكم تعتبر أداة أساسية في هذه المعركة، إذ إنها تشكل مسالك الحياة وضروبها، كما أنها تؤثر فيما يدور بين العداوات الطبقية من صراع، هذه العداوات التي تشكل الجو الذي نعمل في نطاقه.

٧

يجب أن يقوم إنكار هذه الدراسة على القدرة على معرفة أن معالم العلاقات بين الطبقات ليست حجر عثرة في استخدام الدولة للناحية الإنتاجية استخدامًا كاملًا. فإذا اتضح أن الرأسمالية في وسعها إيجاد مخرج من الأزمات التي تحل بها، وأن الكساد الذي حدث وكان له أثره في العالم منذ عام ١٩٢٩م كان مجرد توقف نحو الانتعاش، لا مجرد عرض من أعراض كارثة محيقة. عندئذ يمكن للانتعاش أن يسمو على متناقضات النظام، وذلك عن طريق سيره نحو التوازن في النواحي الإنتاجية الجديدة، حيث يمكن إشباع احتياجات الطبقات العاملة من أجل الحصول على مكاسب مادية على مستوى عالٍ جديد. ولكن عندما يتأثر ذلك، فليس من المحتمل أن تقوم الطبقة العاملة بتحديد العلاقات بين الطبقات، ولا مفر إذن من قيام الثورة عندما تتأكد هذه الطبقة من أي هذا المستوى لا يمكن تحقيقه في ظل العلاقات القائمة بين الطبقات.

وإن محاولة إثبات إمكانية إيجاد هذا الانتعاش تتخذ صورًا مختلفة. فهناك مدرسة تحاول أن توضح أن ذلك الكساد ما هو إلا نتيجة فشلنا في العمل على السير على نهج تتطلبه الفروض القانونية للرأسمالية. وقد قيل لنا: إنه يمكن ضمان إمكانيات هذا الانتعاش عندما نعود إليها، ففي المجتمع الرأسمالي مثلًا نجد أن سياسة حرية التصرف تعتبر شرطًا من شروط تحقيق الرخاء الاقتصادي.

وتكمن نقطة الضعف التي تعتري هذه الدراسة في صبغتها المجردة، إذ إن هذه الرأسمالية لا تعتبر رأسمالية الرأسماليين، ولكنها رأسمالية لعالم مثالي لا يماثل عالم الواقع الذي نعيش فيه. أما الاقتراحات التي تقدمها فهي ليست ثورية في طابعها فحسب؛ لأنه من العسير أن ندرك كيفية التخلي عن المسئوليات الاجتماعية للدولة الحديثة دون القيام بثورة، ولكنها تتجه نحو تحقيق الاستقرار السياسي، إلا أن ذلك لا يمكن تحقيقه دون الناحية الاقتصادية في المجتمع، إذ إن الاستقرار السياسي يعد وظيفة العوامل الاقتصادية التي يقوم المجتمع عليها. وإن ما يقوله الاقتصاديون الذين يؤمنون بحرية التصرف هو أن الرأسمالية المثلى سيتمخض عنها إيجاد توازن جديد تنشده إذا دفع ثمن تحقيقه. ولكن طالما كان (أ) ثمن هذا التحقيق هو التخلي عن أمر من الأمور مثل التشريعات الاجتماعية التي ظلت مدة الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة. وطالما كانت (ب) هذه التشريعات نتيجة — مهما كانت هذه النتيجة — للخبرة التي تمر بها الرأسمالية الحقيقية عند قيامها بالعمل، فسيساورنا الشك فيما إذا كان هؤلاء الأفراد على استعداد لدفع هذا الثمن.

وهناك مدرسة أخرى تتبع المنهج العملي (منهج الفلسفة البرجماتيكية)، ومن أنصارها سير أرثر سولتر ومستر كينز. وتجد هذه المدرسة في التجارب التي تقوم بها الدولة على نطاق واسع إمكانية إخضاع واقع استدرار الكسب المادي لما يحتاج إليه. وهي تشير بوجه خاص إلى أهمية نمو نواحٍ جديدة للعمل كالهيئات العامة. وعندما يتسع نطاق تنظيم الدولة فمن المأمول فيه أننا ندخل في مرحلة جديدة نحو تحقيق الرخاء الاقتصادي.

وتقوم هذه الدراسة على افتراضات تسترعي الانتباه، فهي تقوم أول ما تقوم على أن الدولة يمكن أن تكون حكمًا غير متحيز وسط الصراع الاقتصادي الدائر بين الطبقات؛ إذ يجب أن تهدف إلى تحقيق ذلك الرخاء؛ ولهذا فهي توعز بأن الأركان الاقتصادية التي يضعها أي مجتمع لا تدفع الدولة إلى الاتجاه الذي تتطلبه هذه الأركان، وهي توحي أيضًا أن سلطة القوانين بتخطي اشتهاء الرأسمالية للحصول على الأرباح، وذلك بتقسيمها إلى فئات منها ما هو «خير» ومنها ما هو شر، أو ما هو «باهظ» وما هو «مشروع» تبعًا لمصدرها ومقدارها. والدولة المنصفة وحدها هي التي يقرر حكمها حدود كل فئة من تلك الفئات؛ إذ إنه قد أصبح من المستحيل العودة إلى العادات التي سادت فترة حرية التصرف، إلا أنها أمنت بالقدرة على الوصول إلى طريق وسط بين الرأسمالية والاشتراكية. وتسير الدولة في هذا الاتجاه قاصدة سبيل صالح المجتمع، ولكن دون أي تغيير في الكيان الجوهري للعلاقات بين الطبقات.

ولقد عللت فيما سبق أن سبب تعارض هذه الفكرة مع الحقائق التي يجب علينا مواجهتها؛ إذ إن الافتراض الذي تقوم عليه الدولة المنصفة والتي تستطيع أن تسمو على الخصومات بين الطبقات التي يجب على سلطة الدولة تسويتها لا أساس له من الصحة.

ننتهي من كل هذا إلى أنه إذا أخذنا طابع المجتمع الذي نعيش فيه نجد أن بعض الدول على استعداد لدفع الثمن في سبيل تحقيق الأمن الاجتماعي، وهذا هو كل ما لدينا من دلائل، إذ لا يمكن إدراج نزعات الخير والشر تحت فئات لها أثرها في علم الاقتصاد، ففي داخل الإطار الاقتصادي نجد أن المعنى الذي توحي به هذه النزعات هو إما الحصول على الأرباح، أو عدم الحصول عليها. ولكن من يدرس التاريخ بإمعان يجد أنه من الصعوبة لمكان الاعتقاد بأنه يمكن إشباع ذلك الحافز الكامن للحصول على هذه الأرباح عن طريق فرض قيود أخلاقية لم تكن موجودة في الماضي، إلا أن الضعف الذي يعتري هذا يكمن في النظر إليها على أنها بعيدة عن الناحية الاقتصادية، بدلًا من اعتبارها نتيجة لما تقوم به من عمل. ويتكافأ ما يثبت صحته من الناحية الأخلاقية مع ما يمكن تحقيقه من الناحية الاقتصادية، ويشهد على ذلك تاريخ استغلالنا لإفريقية؛ إذ إننا وضعنا بعض المبادئ الخاصة بالوصاية لكي نضمن مصالح الأجناس الأهلية هناك، ولكن بمجرد الكشف عن حقول الذهب نقوم بوضع آراء جديدة حتى يتسنى لنا إخضاعها، ويمكن أن نقنع أنفسنا بأن أهالي هذه البلاد يجب أن يمتثلوا صاغرين لوجهة نظرنا هذه؛ إذ إننا نعمل في سبيلهم ولمصلحتهم. ولكن هل يستطيع الأفراد الذين كان في مقدورهم تغيير السياسة الخاصة بالأرض في كينيا — فيما بين عامي ١٩٣٠م، ١٩٣٣م — أن يكتسبوا ثقتنا لكي يستخدموا الدولة كأداة إنصاف؟

لا يشك أحد في إخلاص هؤلاء الأفراد، فهم يبذلون ما في وسعهم لتحقيق أفضل الأشياء، كما أنهم يقومون بتحديد نواحي الخير لصالح الجماعة. نعم، إنهم قوم مخلصون، يقومون بذلك حقًّا، وإني أحاول في دراستي هذه التدليل على أن الآراء عن الخير ليست مطلقة، ولكنها نسبية لأية بيئة اقتصادية، كما أوضحت أن وظيفة كل طبقة في هذه البيئة هي تحديد آرائها عن الخير. إن قيام دولة غير منصفة معناه الإصرار على أن الطبقة التي تستحوذ على أدوات الإنتاج سيكون في إمكانها تسخير سلطة الدولة لنشر آرائها. إلا أن استخدام مثل هذه السلطة لن يغرس نفس الاعتقاد في نفوس الأفراد الذين لا يمتلكون هذه الأدوات.

ولا يتمشى تدليل هذه المدرسة مع الدعوى الأصلية التي تتضمنها النظرية، ولكني أدلل على أنه إذا أصبح من المتعذر على المجتمع توزيع ثمار العملية الإنتاجية فسيسعى الأفراد الذين يصابون بخيبة أمل إلى تغيير هذه العلاقات. وإذا لم تتنازل الطبقة التي بيدها مقاليد الأمور عن امتيازاتها فسيترتب على ذلك قيام ثورة اجتماعية، غير أني لم أجزم بضرورة نجاح هذه الثورة، ولكني أقول: إنه لا يمكن تفاديها.

وإني أعتقد أننا قد بلغنا مرحلة من تاريخ الرأسمالية يصعب معها الوصول إلى حل بشأن التناقص الموجود بين البنيان الطبقي وإنتاج العاملين، وذلك في ظل النظام الاجتماعي الراهن. كما أني لا أوافق على ما قاله الرئيس روزفلت عندما أرجع الصعوبات القائمة إلى النواحي غير الأخلاقية التي يقوم بها بعض رجال الأعمال، ولكنه صرح بأنه يمكن استعادة النظام الاقتصادي السليم، وذلك بالقضاء على هذه النواحي. كما أني لا أعتقد أيضًا — كما يرى مستر كينز — وجود اتجاه يكمن في المشروعات العامة، يهدف إلى تطوير بعض النواحي الأخلاقية، حيث تخضع المصلحة الخاصة للخير الاجتماعي المجرد.

إلا أن أسس هذه الصعوبات أعمق بكثير مما تقدمه لنا هذه الفروض، فلقد ذكر مستر لويد جورج في هذا الصدد أن نظامنا الاقتصادي يعتريه بعض القصور؛ إذ إن الوفرة تؤدي إلى الندرة، وهنا يكمن بيت القصيد. ومن هنا يجب أن نبدأ؛ ذلك لأن لدينا طاقة إنتاجية هائلة، ولقد صرح لنا مدير مكتب العمل الدولي بأنه إذا استمر مائتا مصنع من بين اﻟ ١٣٥٧ مصنعًا من مصانع الأحذية في الولايات المتحدة في العمل مدة كاملة؛ فسنجد أنه في إمكان ذلك العدد أن ينتج ما يسد حاجة البلاد، ووجب على ١١٥٧ مصنعًا في هذه الحالة أن تغلق أبوابها. وتنطبق هذه الحالة على أغلب الصناعات في كل دولة، وعندئذ تنتشر البطالة. ويرغمنا هذا الوضع على تخصيص جزء من الضرائب يدفع كإعانة لبعض الصناعات حتى تسير عملية الإنتاج سيرها العادي، ويدفعنا هذا إلى البحث عن أسواق جديدة في الخارج بأي ثمن، حتى ولو اقتضى الأمر نشوب حرب. وتنطبق هذه الحالة على اليابان في منشوريا عندما كانت تسعى لتحقيق هذا الهدف. كما أن هذه الحالة تدفعنا أيضًا إلى الاتجاه نحو طريق القومية الاقتصادية، وذلك بحماية الأسواق المحلية التي تسببت في نقص الإنتاج في الدولة الرأسمالية في السنوات ما بين عام ١٩٢٩م وعام ١٩٣٢م. ولا يعتبر هذا ظاهرة مؤقتة نعزوها إلى الكساد الذي عرفناه في الماضي، فقد دامت هذه الظاهرة مدة أربع عشرة سنة في بريطانيا، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تسلم منها أيضًا.

وتشير الإحصائيات إلى أن الموقف الذي نتخذه الآن لم يكن له مثيل في الفترة الماضية، فهو يقاضي هؤلاء الذين لا يساورهم أي شك في كفاية هذه المبادئ العامة التي تقوم عليها العلاقات بين الطبقات. وقد ذكرت صحيفة التايمز اللندنية منذ سنين قلائل أنه من المشكوك فيه إمكانية استيعاب هذا الإنتاج المتزايد. وتثار مشكلة أخرى هي إمكان قيام صناعات أخرى جديدة لاستيعاب العاطلين، ولا يزال هناك أخذ ورد فيما إذا كانت الآلة قد سبقت الإنسان وعرضت حياته للخطر، وما إذا كان ذلك يقضي بالعمل على إيجاد تنسيق في النواحي الاجتماعي أم لا. لقد واجهنا هذه المشكلة في فترة انخفضت فيها نسبة الأجور، وذلك بعد الحرب، هذا بالرغم من زيادة الطاقة الإنتاجية.

ولكن ليس هذا هو كل ما في الأمر، فلقد صرح لنا بعض المراقبين المحافظين الذين يؤيدون هذا النظام القائم أنه حتى ولو عمل جميع العاطلين؛ فإن تصريف السلع الإنتاجية — بصرف النظر عن رواج السوق — لن يكون أمرًا هينًا. أما عن الولايات المتحدة فيقول مراسل التايمز في واشنطن: إنه إذا رجعنا القهقري — إلى أقصى ما ننتجه في الثلاث سنوات الماضية — فسيؤدي ذلك إلى استحالة إيجاد عمل ﻟ ٤٥٪ من اﻟ ١٢ مليونًا من العاطلين الحاليين. وذكرت الجريدة أيضًا أن استيعاب العاطلين البريطانيين سيعجل بخلق أزمة جديدة. ويقول البروفسور روبنز: إن تخفيض ساعات العمل — بغض النظر عن إنتاج الفرد — لا يعتبر حلَّا، ما لم يُبدِ العامل استعداده لتخفيض الأجر الذي يتقاضاه. كما أن الهجرة لا تعد حلًّا للمشكلة، إذ إن البلاد لا تريد أن تتحمل عبئًا جديدًا، وأن تزيد من عدد عاطليها. وقد عرض رمزي ماكدونالد خطورة الموقف على مجلس العموم وقام بتحذير المجلس، وذكر أنه حتى ولو عم الرخاء، فسيُلقى على كاهل بريطانيا عبء العمل على إعالة الرجال والنساء الذين يربو عددهم على أربعة ملايين باعتبارهم عالة على المجتمع.

ومن الواضح أن مدلولات هذا الموقف ثورية بطبيعتها، ولا أعتقد أن الحل الناجح هو العودة إلى حياة التقشف بما فيها من تبادل للسلطة السياسية لضمان تحقيق النواحي المادية. كما أعتقد أيضًا أن السياسي الفرنسي الذي يجعل من وظيفة الدولة أداة للحيلولة دون استغلال المخترعات خشية أن تلتهم الآلة النواحي البشرية قد أدرك جوهر المشكلة. ومما يذكر أن الحكومة الهتلرية قد انتهجت هذه السياسة، ولكنها لم تُضْفِ على نفسها صفة الصانع الحر. ومن السخف أن نقول: إن العلوم التي طورت الحضارة الحديثة تعتبر عدوًّا للبشر، فإذا أدى نظام العلاقات القائمة بين الطبقات إلى عرقلة استخدام وسائل الإنتاج، وجب علينا تغيير هذا النظام؛ إذ ينبغي لنا أن نسد احتياجات الملايين من الرجال والنساء ونحقق آمالهم. وجدير بالذكر أن هؤلاء الملايين هم الذين يرون أن حياتهم ستضج من المواد التالفة التي تتخلف عن الصناعة (خردة) بعدما ظهر من تقدم الإنتاج الآلي. وعلينا أن نفعل ذلك ذاكرين أهمية عبارة مستر كينز المأثورة التي تقول: إن الأفراد لن يتحملوا الجوع بالتدريج دائمًا.

ويحضرنا في هذا المجال أيضًا عبارة أخرى له، فقد أشار إلى أن طبيعة المجتمع الرأسمالي تتطلب منه أن يكون أكثر نجاحًا من أي بديل آخر طالما كان يهيمن على ولاء الأفراد. وجدير بالملاحظة ظهور هذا الشك على هذه الأسس، فالرأسمالية يمكنها أن تتمسك بذلك لأن هذا النجاح يمكنها من تحقيق التحرر السياسي، وتنديم المستوى الملائم للمواطنين، ولكن يجب ألا يغيب عن البال أن الرأسمالية لا تقوم بهذه النواحي وهي واقعة في محنة، فعندما تزداد الشكوك حول الأسس التي تقوم عليها نجدها وقد اضطرت إلى أن تحقق بالقوة ما تستطيع عمله وتحقيقه عن طريق الموافقة. وعندما يتعرض أمنها للخطر، نجد أنها تعتمد على سلطة الدولة حتى تفترض نمطًا من أنماط السلوك الذي ينظر إليها المواطنون منذ نصف قرن مضى على أنها بدأت ببدء نظام الطبيعة، وكما دللت من قبل، نجد أن أي نظام قام على كبت نتيجة للعنف واستخدام القوة يجب أن يتخذ وجهة أخرى ويدخل في نظام تكون الموافقة فيه هي العامل الأول، وذلك إذا أراد أن يضمن لنفسه الأمن، إذ إن الأمن يعتبر دائمًا الشرط الذي يسبق انتشار الرخاء الاقتصادي.

والسبيل الوحيد الذي تستطيع به الرأسمالية — وهي في محنة — أن تكشف عن هذا الأمر هو عن طريق إيجاد إيديولوجية (مذهب) جديدة تدفع الناس إلى الاقتناع بالمستويات المادية القائمة في هذه الفترة التي يسود فيها التدهور والاضمحلال. ويجب ألا يغيب عن البال أن مثل هذه المذاهب ترقى وتضمحل برقي نظم العلاقات الجديدة بين الطبقات واضمحلالها، ولكن إذا قيل إن الفاشستية تعتبر مذهبًا من هذه المذاهب الجديدة؛ فإن الرد الوحيد على ذلك هو أن الفاشستية تعتبر — إذا درست بإمعان — (جوال) يختلط فيه الحابل بالنابل، ويحوي بقايا الفلسفات المختلفة التي تسعى جاهدة لإيجاد مكان لها.

ويتضح لنا صدق هذا عندما نقرأ ما قاله الزعماء أنفسهم: نجد ذلك في خطاب موسوليني عندما طلب من بيانكي برنامجًا للحركة حتى توطد أركانها، إلا أنه لم يكسب لونًا مذهبيًّا بالرغم من مقتطفات هيجل وسوريل وبرجسون ومكيافيلي، وفي عام ١٩٢١م أيدت الفاشستية المذهب الجمهوري ونظام نزع التسلح، ومصادرة أموال الكنيسة، وغنائم الحرب؛ إذ إنها كانت ترمي إلى توزيع الأراضي على الفلاحين، كما كانت تهدف إلى أن تكون السيطرة الصناعية في أيدي نقابات العمال والفنيين. ولقد هدفت أيضًا إلى إلغاء سوق الأوراق المالية، وحل البنوك، والشركات الخاصة البسيطة، وكانت الفاشستية تعادي الكنيسة. ولقد ذكر موسوليني أن من واجبها إطاحة هذه المعابد التي قدر لها الدمار، إلا أنها كنت تؤمن بوجوب تحقيق ذلك تدريجيًّا. وليس من الضروري أن نشير إلى أنها لم تصبح جمهورية، وأنها لم تحقق شيئًا من مسألة السلاح، ولم تمس الأراضي أو الملكية الصناعية، ولم توقع اتفاقية مع الكنيسة فحسب. وهي اتفاقية تقضي بتخويل الكنيسة حق التحكم في الزواج والتعليم، ولكن اعتبرت الديانة أيضًا كما قال موسوليني ظاهرة من الظواهر الراسخة في روح الإنسان، ومن ثم وجب احترامها وحمايتها والدفاع عنها. والفاشستية معناها المناعة الإجبارية للدولة التي ترمي إلى حماية العلاقات القائمة بين الطبقات.

وينطبق هذا على الوضع الألماني؛ إذ نجد أن ذلك يعتبر بيانًا لنظرية فجة يسودها مذهب العنصرية وتفسر فيها النظريات الأصلية من المسيحية. كما جدت أفكار جديدة عن معنى حكومة الرايخ، وكلنا يعرف برنامج فيدار الذي وضع عام ١٩٢٠م، وأعلن التمسك به عام ١٩٢٦م، وهو يهدف إلى إلغاء الدخل الذي لا يحصل عليه الفرد من عرق جبينه، كما يقضي بمصادرة غنائم الحرب، وتأميم الشركات، والأخذ بمبدأ المشاركة في المنفعة. أما الأراضي التي ترمي إلى تحقيق أهداف جماعية فيجب مصادرتها دون دفع أي تعويض. ولقد فسر هتلر — قبل بلوغه منصبه — البرنامج الذي وضعه على أنه من أجل أسباب دبلوماسية، وقد قيل لمشترك رأسمالي: إنه ينبغي علينا أن نتكلم بلغة العمال الاشتراكيين الذين ذاقوا المرارة، وإلا فلن يشعروا بالألفة وهم بين ظهرانينا. وكتب هتلر في سيرة حياته: إن الفرد الألماني ليست لديه أدنى فكرة عن كيفية وجوب تضليل الشعب إذا أردنا حكمه. ولكن عندما يتولى النازي الحكم يختفي ما قد أعد من برامج. وكما نجد في إيطاليا كانت هناك خطب بليغة عن الأهداف الجديدة التي ستحققها الدولة في حكومة الرايخ الثالثة، ولكن إذا تغاضينا عن الهجوم الذي تشنه الحكومة الهتلرية على اليهود يبدو أنه لم يخطر على بال الحكومة أنها تنوي التدخل في العلاقات بين الطبقات.

وعندما نقوم بتحليل ذلك نجد أن الدولة ذات المسئوليات الشائعة تبدو على أنها جزء من ديانة مزعزعة الأركان، وعندما تشبع احتياجات الزعيم البلاغية، نجد أن الأسس الرأسمالية — وهي الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج — تبقى كما هي، دون اضطراب. وهنا يتغير طابع الدولة، وتحل الدكتاتورية محل النظام الديمقراطي البرلماني، وهذا هو كل شيء، إلا أن الفرد — كما تشير إلى ذلك فكرة من أفكار موسوليني المتغيرة، وهي أن النظر إلى الدولة أمر مطلق — نقول: إن الفرد يجب أن يخضع للنواحي الاجتماعية الخيرة المراد تحقيقها من أجل الجميع. وعندما ندرس هذه العبارة الرنانة نجد أنها تحاول إخفاء قصور هذه الأيديولوجية الجديدة، ويجب أن نعلم أن الفاشستية أكثر النظم الأخرى تحررًا من الحاجة إلى توضيح قدرتها على استغلال إمكانيات النظام الإنتاجي استغلالًا كاملًا.

وهذا يعتبر — إذا تغاضينا عن النواحي البلاغية — ناحية جديدة لصورة قديمة، طالما بنيت على التمسك بالملكية الخاصة لأدوات الإنتاج، فهي تشير — كما عبر عنها وليام جيمس — إلى النظام الحالي للعلاقات بين الطبقات. أما استخدامها سلطة الدولة لتنظيم هذه العلاقات فإنها لا تجد أهدافًا جديدة لكي تكرس نفسها لتحقيقها، ولا تتغير طبيعة الدولة باتخاذ اسم جديد لها، كما أن تحقيق الأهداف القديمة بطرق جديدة لن يغير من طابع هذه الأهداف.

وفي الحقيقة ليست هذه الطرق مستحدثة، فاستخدام القوة مثلًا لكبت المعارضة خدعة قديمة قدم التاريخ، هي خدعة المستبدين في الشرق، والطغاة في اليونان، والإمبراطور الروماني، وهؤلاء تطيعهم قواتهم طاعة عمياء، والأمراء الصغار الذين حكموا المدن الإيطالية، والمقاطعات الألمانية في العصور الوسطى. ولكن ما جد على الموقف هو الأهداف التي تعهد بتحقيقها الحكام الجدد للقضاء على ما أطلق عليه موسوليني اسم «جيفة الحرية العفنة». ومن ثم لإنهاء أنبل دافع للعمل عرفه الإنسان، وما جد أيضًا هو قدرة المراقبين الأجانب على إدراك بعض النواحي الخاصة بالتوحيد الإبداعي في النظام الفاشستي، يكون لها قيمتها في فتح حقبة جديدة في المجالات البشرية، وما جد أيضًا منذ القرن السادس عشر على الأقل هو وجوب إخضاع العقل البشري لزعيم لا يوجه إلى ما يقوم به من عمل أي نقد. ولقد ساد افتراض الحضارة الغربية في الفترة السابقة، ويقضي هذا الافتراض بمشاركة الرجل العادي في كل النواحي؛ إذ إن معرفة ما يجول بخاطره أسلم طريق لتحقيق النواحي الاجتماعية، ومن ثم أوحى بأن القدرة على سد احتياجات هذه الخبرات هي محك كفاية الدول. أما في النظام الجديد فتجد إما إنكارًا لصحة هذه الخبرة، أو أنه من الممكن تطبيق ذلك، ولقد دعينا إلى العودة إلى فترة يسودها الإيمان الذي يسانده استخدام العنف، لا اعتناق ديانة تقوم على الإرادة الإلهية. ومن الطبيعي أن يداخلنا الشك فيما إذا كانت شروط مثل هذه الفترة تستحوذ على طابع يساند نظامًا اجتماعيًّا ثابت الأركان.

٨

يحق لنا الآن أن نقرر بعض النتائج الإيجابية، فإذا كانت هذه الدراسة صحيحة أمكننا القول بأن موضوع الدولة هو السلطة التي تستخدم الإجبار حتى تقوم بتنفيذ إرادة الجماعة أو الجماعات التي ترأس الحكومة، إذ إن سلطة الدولة تقوم بأداء عملها عن طريق هذه الحكومة، وتحدد إرادة الدولة طابع العلاقات بين الطبقات في المجتمع.

فإذا اختلفت نتائج العملية الإنتاجية من طبقة إلى أخرى، نجد أن سلطة الدولة تستخدم دائمًا لحماية مصلحة الطبقة التي تمتلك أدوات الإنتاج، وتحدد طابع هذه الملكية القواعد التي يستمر معها الإنتاج، كما أنه سيحدد الهدف الذي من أجله يمكن الإبقاء على النظام والقانون عندما يتعرضان للخطر. كما أن طابع هذه الملكية سيحدد الأنماط السلوكية التي تفصح عنها الهيئات الاجتماعية الموجودة، والتي تتأثر نتيجة المحافظة على هذا النظام وذلك القانون. ومن ثم فهو يحدد نظامًا من الآراء التي تحاول استمالة المواطنين إلى أن تحقيق الأهداف التي تتمثل فيه يتمشى مع خير المجتمع. ولكن طالما كانت وسيلة اقتصادية ناجحة، فسيحوز هذا النظام القبول، ولكن عندما يفشل نجد أن هذه الآراء لا تحوز القبول، وإذا لم يتمكن من استمالة الأفراد لسلطته التي تعتبر وظيفة لاستغلال إمكانيات الوسائل الإنتاجية، فإن هؤلاء الذين يستبعدهم نظام الملكية من امتلاك السلطة الاقتصادية سيحاولون تغيير هذا النظام.

ولقد دللت على أنه لتنفيذ ذلك يجب عليهم استخدام سلطة الدولة الإلزامية العليا؛ إذ وجب استخدامها لإعادة تحديد نظام الملكية، وهذا يعني إعادة تحديد العلاقات بين الطبقات في المجتمع، كما أنه يعني إجراء تغيير شامل في أهداف القانون الذي يختص بفرض الحق القانوني على أية وسيلة يُقصد منها توزيع ثمار العملية الاقتصادية. وهنا نجد أن الدولة تقوم بوضع كل ما لديها من قوة تحت تصرفها، وهي بهذا تضفي على القانون (وهي كلمة مجردة) صفة الواقع وذلك بإشباع مطالبها. ويحدد نوع هذا الإشباع طابع كل دولة، وبالتالي يتغلغل في جميع العلاقات بين الطبقات في المجتمع ويلونها.

أما التغييرات التي شهدتها الحضارة الغربية في السبعين سنة الأخيرة، فقد أضعفت من هذه النظرة، إذ أصبحت الدولة السلبية دولة إيجابية. ويمكن أن نقول: إن الدولة البوليسية التي كانت تسود القرن التاسع عشر أصبحت في القرن العشرين دولة تقوم على أساس الخدمات الاجتماعية. ولقد دللت على أن المبدأ الحيوي في هذا التطور يتمثل في الحقيقة التي تقول: إن ذلك يعتبر وظيفة الصراع الذي تدور رحاه بين الطبقات الاقتصادية لامتلاك سلطة الدولة. ويعتبر هذا التغيير الثمن الذي كان على المجتمع الرأسمالي أن يدفعه للاحتفاظ بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. وكان المجتمع الرأسمالي على استعداد لدفع هذا الثمن طالما كان ذلك في الإمكان، وطالما كانت مطالب هؤلاء الذين يمتلكون هذه الأدوات تشبع. ولكن عندما يوجد تناقض بين أرباح الرأسمالية وتكاليف الدولة القائمة على الخدمات الاجتماعية، فإن الافتراضات الأخيرة منها تكون عرضة للهجوم لأن ذلك يهوي بالرأسمالية إلى الحضيض.

إلا أن هذه الدولة قد ولدت من الآراء التي يهب الأفراد للدفاع عنها، وكما انبثقت الديمقراطية السياسية من الرأسمالية كرد قاطع على النظام الذي أطاحت به، نجد أن الدولة القائمة على الخدمات الاجتماعية قد أعلنت مولد فكرة الديمقراطية الاجتماعية لتكون ردًّا على الدولة السلبية التي كانت تضع الثروة في الاعتبار الأول. وفي أواخر القرن التاسع عشر أصبحت الديمقراطية الرأسمالية هي المثل الأعلى لمعظم المواطنين في الحضارة الغربية، وأقامت أسس المساواة السياسية. وهي تخول الحق لأعضائها في استخدام حريتهم السياسية لتحسين حالتهم المادية، وقد قاموا بذلك عن طريق استخدام الضرائب في الدولة بمنح أنفسهم الامتيازات الخاصة التي لا تتكافأ مع ما يتلقونه من أجر، وهم ينظرون إلى أنفسهم على أن الحق في منح أنفسهم هذه الامتيازات، وعندما يتسع أفق النظام الاقتصادي، عندئذ يتمادون على هذا، ويقدرون أنفسهم أنهم خليقون بالحصول على هذه الامتيازات باستمرار.

وكما أوضحت من قبل قام نظام الديمقراطية الرأسمالية بتأدية عمله على خير وجه، إذ إنه كان في فترة ساد فيها، ولكن إذا سلمنا بالفرض التي قام عليها نجد أنه كان في حاجة إلى تصريف بضائعه في أسواق رائجة. وعندما لا يتمكن من القيام بذلك فإن الرصيد هو الذي يسحب منه الضرائب، وكذلك الامتيازات التي يمكن توزيعها سيكتب عليها التقلص والانكماش ما لم يتأهب الرأسمالي للتخلي عن حقه في الحصول على الأرباح، ولكن طالما كان هذا الحق هو الافتراض الذي قامت على أساسه الديمقراطية الرأسمالية، أي طالما كانت الفكرة السائدة عن الخير قد قامت على صحة هذا الحق، فالسبيل الوحيد هو إما التقليل من هذه الامتيازات، أو إجراء تغيير في فروض هذا المجتمع. وطالما تعود الأفراد على إدراك الديمقراطية السياسية بما فيها من مضامين على أنها المثل الأعلى للدولة، فإن الكثيرين سيطالبون باستمرارها، وعلى المجتمع الرأسمالي إما الاستسلام لهم، أو استخدام سلطة الدولة لإخماد الديمقراطية السياسية، وبذلك يمكنه التمسك بحق الرجل الرأسمالي في الحصول على أرباح دون الحاجة إلى إشباع مطالب هيئة المنتفعين. وعندما نميط اللثام عن التناقض الموجود بين الأقلية الاقتصادية للرأسمالية والأساس الديمقراطي السياسي يصبح في الإمكان إثبات هذا التناقض، وذلك بالقضاء على الأساس الديمقراطي.

ولكن مما هو جدير بالذكر أن أهمية هذا التطور لا تعد أمرًا جديدًا في الفلسفة السياسية بوضوح وجلاء كما أدركها هارنجتون، عندما جعل أساس نظامه السياسي المثل الذي تسبقه السلطة الاقتصادية، والذي يحدد طابع السلطة السياسية. كما أنها كانت أساس خوض «ماديسون» ميدان السياسة وتغلغله فيها حتى جعلته يؤمن بأن مصدر القلاقل الوحيد يتمثل في حق الملكية. أما ملتون فلم يجعلها تحيد عن الصواب عندما أصر على التعارض القائم بين الديمقراطية وسيطرة الطبقة التجارية، وعندما حذر ماكولي مجلس العموم وقال: إن حق الانتخاب الشامل يتمثل في القضاء على الملكية الخاصة باستخدام لغة تتسم بالاعتدال، حتى إن فكرة الصراع الطبقي كما هو موجود في الاقتصاديات الرأسمالية قد استمدت وجودها من سسموندي وسانت سيمون. أما التغيير الحقيقي فيكمن في الحقيقة المزدوجة التي تنادي بأن هذه الفكرة قد اتخذت طابع الحركة عند ماركس وأنجلز، وأن هذه الحركة قد تمثلت في صورة جيش على استعداد لخوض المعركة من أجل هذه المبادئ، وذلك عندما أخذت الرأسمالية تتدهور، أما عن بداية تلك الفترة التي اتسمت بالارتباط فهي نتيجة مرورنا بخبرة الرأسمالية وهي في مرحلة تطورها، وهذه حقيقة مستحدثة، ولكنها تنذر بالشر. كما أن استخدام الأسلحة التي جعلها العلم أداة طيعة للقوة ربما أدى إلى القضاء على ما بلغناه من حضارة. ولا أعني بهذه النظرة إلا أني سأتناول في الفصل الأخير من هذا الكتاب بعض النواحي التي تترتب عليها. ويكفيني الإشارة إلى أن هناك حلين لا ثالث لهما لمشكلة الديمقراطية الرأسمالية، وهما: إما القضاء على الرأسمالية، أو القضاء على الديمقراطية. ويعني بالقضاء على الرأسمالية قيام ثورة اقتصادية، أما القضاء على الديمقراطية فيعني القيام بثورة سياسية. وتعني الأولى شيوعية من كل ناحية بدلًا من شيوع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. ويكمن في هذا التحول تغيير في العلاقات بين الطبقات وبالتالي في العلاقات القائمة في المجتمع. ومعنى ذلك قيام ثورة في طريقة معيشتنا، وذلك إذا قورنت بالتغييرات التي حدثت في القرن السادس عشر أو تلك النواحي التي دفعها تدهور الطبقة الأرستقراطية إلى الخروج في نهاية القرن الثامن عشر. أما القضاء على الديمقراطية فلن يترتب عليه أي تغيير أساسي في العلاقات بين الطبقات، ولكن نجد من الناحية الأخرى أنه سيحول دون الاستمتاع بتلك النواحي التي دفعها تدهور الطبقة الأرستقراطية إلى الخروج في نهاية القرن الثامن عشر. أما القضاء على الديمقراطية فلن يترتب عليه أي تغيير أساسي في العلاقات بين الطبقات، ولكن نجد من الناحية الأخرى أنه سيحول دون الاستمتاع بتلك النواحي التي نحاول تبريرها عن طريق قيام الرأسمالية بعملها.

ومن الواضح أننا سندفع ثمنًا باهظًا لهذا الإنكار، كما أنه من الواضح أيضًا أن الدولة الجديدة ستؤدي عملها تساندها القوة لا الطاعة التي تستطيع ضمانها.

ولكن ما يسترعي الانتباه هو نظرية الدولة التي تؤدي إليها هذه النتائج، دعونا نضعها في صورة أخرى وهي صورة النفي، عندئذ نقول: إن الدولة لا تعلو على الطبقات، كما أنها لا تتخطى المصالح الخاصة، وهي لا تعبر عن الخير العام لهذا المجتمع، إلا أنها تعد الوسيلة الوحيدة لإشباع احتياجات المواطنين، إذ إنها لا تحقق الحقوق التي ترتبط بالمحافظة على كرامتهم كأفراد، وهي لا تتمسك بقانون أو نظام كمجرد عامل حيوي لتحقيق احتياجات الأفراد، كما أنها لا تقوم بجعل القوة أمرًا قانونيًّا حتى تحشد القوة لخدمة الجماعة التي ينظر إليها على أنها هيئة من الأفراد.

ويجمل بنا أن نسأل إذن: ما هي الدولة؟ إنها السلطة الإلزامية العليا التي تستخدم للدفاع عن الثمار الكامنة في أركان أي مجتمع، كما أن الحكومة تمارس هذه السلطة باسم الدولة طالما لا تستطيع هذه الدلة أن تؤدي عملها إلا عن طريق الأفراد. فإذا قامت هذه الأركان على النواحي الرأسمالية نجد أن الدولة تقوم بالدفاع عن النتائج التي يتطلبها النظام الرأسمالي، ولكن لا يعني هذا أن الدولة ستحمي نظرية مجردة عن الرأسمالية تنسج خيوطها في مخيلة المفكر، ولكن ذلك يعني أن الدولة ستدافع عن أفكار الخير الاجتماعي الذي يعرضه الرأسماليون كنتائج حتمية في المجتمع، حيث نجد أن الجميع ينشدون تحقيقه؛ ولذلك فستتمشى سلطة الدولة في المجتمع الرأسمالي مع الأفكار الرأسمالية عن الخير، وربما تعارضت هذه الآراء، وربما تغاضينا عن هذا التعارض إلا أن الطريق الوحيد لوجود هذا التعارض هو تغيير الأسس الرأسمالية التي يقوم عليها المجتمع، ولكن طالما تمسكت الدولة بهذه الأسس ولو باستخدام القوة المسلحة إذا لزم الأمر، نجد أن الدولة ستكون عرضة للانشقاق إذا أرادت أن تغير هذه الأسس.

وهنا يكمن السر في أن القوات المسلحة يجب أن تكون مسئولة أمام الحكومة وحدها، إذ في بعض الأحيان يمكن إخضاع المواطنين لأي قرار تتخذه الحكومة؛ ولهذا السبب تعتمد جميع الثورات الحديثة على الجيش لتعرف اتجاهاته حتى تضرب ضربتها القاضية لتحرز النصر؛ ولهذا السبب أيضًا نجد أن ما يسترعي الانتباه هو وجود السلطة في الجيش في الدولة الرأسمالية، في أيدي الطبقة الرأسمالية. أما النظرة الأيديولوجية لهؤلاء الأفراد فهي بمثابة ضمان لولائهم للحكومة، وتنطبق هذه الحالة على الدولة الشيوعية. ومن الملاحظ أيضًا أن القوميسير الروسي (رئيس إدارة في الحكومة) لإدارة الشئون الحربية كان يهنئ حزبه على النسبة المتزايدة للانخراط في سلك الشيوعية في الجيش السوفيتي، وتنطبق هذه الحالة على ألمانيا، وهي ليست أمرًا عرضيًّا أو محض صدفة عندما نجد أن الصراع تشتد حدته بين أتباع هتلر. أما فصل السلطة الإلزامية في المجتمع عن جمهرة الشعب فيعد أمرًا ضروريًّا للاستمساك بالقانون والنظام طالما استطاعوا الدفاع عن مصلحة غير متكافئة في النتائج التي تتمخض عن نظام الملكية.

وهنا تكمن الحقيقة في المناقشة الماركسية التي تقول: إنه في مجتمع بلا طبقات، نجد أن الدولة تضمحل وتتفكك، إذ إنها كما نعرف لها وظيفتها. ولا يقصد منها التشبث بالقانون والنظام كنواحٍ مطلقة يراها الجميع. إن وظيفة الدولة هي التمسك بهذا القانون وذلك النظام، وتتضمنها أهداف مجتمع طبقي من نوع خاص، ولكن طالما تحدد مصالح أصحاب أدوات الإنتاج طابع هذا المجتمع الطبقي نجد أن هذا القانون وذلك النظام يسخران في كل الأوقات العصيبة لخدمة هذه المصالح وحدها. ولكن إذا امتلك الجميع أدوات الإنتاج نجد أن سلطة الدولة ستحمي مصالح المجتمع بأسره، وليست مصالح طبقة واحدة. وفي مثل هذه الظروف تتعارض عادات الدولة لتغيير شامل، إلا أن أي جهاز عادي في الحكومة له ضرورته وأهميته، غير أن هذه الفروض لن تكمن في إعلاء السلطة الإلزامية العليا حتى تتمسك بالمصالح الاقتصادية للطبقة المالكة، ومهما نجد من معارضات في المجتمع فسيحمي ذلك بما يتضمنه من أمور.

ويحق لنا أن نلاحظ ما يمكن في محو ذلك، ولنضرب مثلًا بحرية الخطابة، نجد أن معظم الأفراد ولا سيما في البلاد الديمقراطية يوافقون على أن من المرغوب فيه الاحتفاظ بها. ويوافق الأفراد أيضًا على فرض قيود على ما تقوم به من عمل، وكما جرت العادة نجد أن هذه القيوم قد حددتها معاقبة أي تعديل يحمل معنى تعريض النظام والقانون للخطر، ولا يعاقب المسيء للهدف الذي يسعى إلى تحقيقه، ولكن يوقع عليه القصاص؛ لأن طريقته أدت إلى إخلال بالأمن العام، ولكن ما نعنيه بالأمن العام في المجتمع الرأسمالي هي الشروط القانونية التي عن طريقها تؤدي فروض الرأسمالية عملها، وستوضح لنا أية دراسة لبعض القضايا التي عرضت أمام المحاكم أن الغالبية العظمة للمتهمين هم نقاد الرأسمالية، ويجد القضاة في أقوالهم ما يتضمن الإخلال بالأمن، كما أن أية دراسة للوائح التي يطبق عليها القانون توضح تطورًا محتملًا. وقال عنها البروفسور ديسي وهو يتكلم عن بريطانيا: إنه ستستحيل معها المناقشات السياسية، وقد أصاب في قوله هذا.

وليس هذا هو كل شيء، إذ إن العقوبات التي يفرضها القانون تعتبر أمرًا واحدًا، ولكن عقوبات الرأي العام أمرٌ واقع ولو كان ذلك بطريق غير مباشر، فعندما يكون الحق في العمل معتمدًا على إرادة حق الملكية، عندئذ نجد أن له من القوة ما يمكنه من أن يكون ذلك العمل وظيفته للاستقامة في أي أمر يختاره. وسيجد الفرد الذي يعبر بصراحة عن آراء مناهضة للرأسمالية أنه من الصعب أن يستمر في عمله، كما أنه حرم من أعمال كثيرة، ووقفت في طريقه العقبات. أما الأغنياء الذين لهم أعمالهم فسيتطاولون على هؤلاء الكفرة، فإذا طبقت هذه الحالة على نفر من المثقفين نجد أنها تطبق على جمهرة كبيرة من العاديين. أما إذا نظرنا لطبقة الكتبة وهي لم تنتظم بعد، فإننا ندرك أن هناك من الملايين الذين لم يجرءوا على اعتناق آراء خطيرة ولا يعبرون عنها؛ خشية أن يصبوا جام الغضب على العمال والعملاء. وربما استطاع العمال اليدويون أن يحرروا أنفسهم من هذا الضغط المستمر؛ وذلك لأنهم يعملون معًا تساندهم ذلك نقاباتهم القوية، ولكنهم وجدوا أنه ليس من الضروري أن يدافع القانون عنهم عندما يمارسون الحقوق الأولية كحرية الخطابة والاجتماعات العامة. وفضلًا عن ذلك فإن الإلزام الضمني الكامن في الفقر والبطالة يجعلهم يسخرون من الحقوق المتكافئة. وعندما نترك المناطق الصناعية، نجد أنه في مناطق جديدة لا يعتبر حق الانتخاب أمرًا واقعًا. وإذا تغاضينا عن الحقيقة التي تذهب إلى أن الملكية تهيمن على تسعة أعشار الصحافة تقريبًا، ولها ما لها من دعاية، نجد أن الآراء تتعرض للخطر، وعندئذ تنبذ الديمقراطية والسلطة الاقتصادية التي تمتلكها أية طبقة.

وتشهد على ذلك كل مرحلة من مراحل الحياة الاجتماعية، ولقد شدد رجال الأعمال النكير على الحرية الأكاديمية في الولايات المتحدة، وكان هؤلاء الرجال يدافعون عن طرد الأساتذة بتهمة الآراء المتطرفة، ولا نكاد نجد سيرة حياة زعيم نقابي إلا وقد سرد فيها تاريخ الأحداث العصيبة التي واجهته لكي يحتفظ بعمله عندما يقوم بالنهوض بمهمات زملائه من العمال. ويعد شهداء تولبوديل مثلًا أعلى بالرغم من أنها مجرد حادثة صغيرة في هذا السجل الرهيب، كما أن لدينا دلائل لا يمكن دحضها بالطرق والوسائل التي تساعد المستخدمين على مراقبة الآراء غير المرغوب فيها بين العمال. أما النواحي الخاصة فهم يقرنونها بفكرة تقضي بالإحجام. وعلاوة على التشويش بنشر الأخبار واستخدام بعض الفنيين لأسلوب جديد يوجد قدرًا يعتد به بين المطبوعات. كما أن فن الدعاية قد بلغ مبلغًا يعرض للخطر المكاسب التي حصلنا عليها بالنسبة للتعليم الشعبي في القرن التاسع عشر.

عندما يكون الدفاع عن الحرية مبدأ يختلف عن المبادئ الأخرى، يجب علينا أن نسمي الأشياء بأسمائها، وأن نحدد معنى دقيقًا للفكرة التي نؤمن بها، فالحرية الحقة في أي مجتمع لا تنعدم بانعدام طبقة همها الوحيد هو الحيلولة دون إظهار ما يجيش في صدرها. وليس ذاك فحسب، وإنما نجدها وقد استخدمت سلطاتها لكي تحقق ذلك الهدف. وإتاحة الفرصة للتفكير الحر تعتبر وسيلة من الوسائل التي تحقق الاستقلال الاقتصادي. فالمجتمع الذي يربط هذا الاستقلال بالملكية يقوم في الواقع بقصر حرية الفكر على أصحاب هذه الملكية، ولكن طالما كان في المستطاع طرد العامل لا لعدم كفاءته ولكن لأن الآراء الاقتصادية أو السياسية التي يعبر عنها تثير شك صاحب العمل، نجد أن هذه العلاقات القائمة تفرض قيودًا على هذا العامل، علمًا بأن هذه القيود ربما أودت بهذه الحرية. وهذا هو السبب في أن حرية الرأي في ظل الرأسمالية تبدو أقل واقعية للطبقات العاملة عما تبدو لصاحب العمل أو الرجل المثقف. وتختلف مدلولات الحرية الفكرية، حتى إنك تجد تفسيرات عدة، ويخيل للفرد أن كلًّا منها قد جاء من عالم يختلف عن الآخر.

إلا أن الرأسمالية قد قامت كما ذكر البروفسور جريجوري على «حق الفرد في التعبير عن نفسه من الناحية الاقتصادية»، وبذلك فمن العسير أن تأخذ هذه الدعوى على محمل الجد في ظل الظروف الحقيقية التي نعرفها. ونجد مثلًا أن حق العامل في التعبير عن نفسه في بنسلفانيا (وهي إقليم يشتهر بالصلب) لا ينظر إليه نظرة عالية، غير أنه إذا سلمنا بمستوى الأجور الحالية والإخلال بالأمن الذي تتعرض له النواحي الصناعية، والقيود المفروضة على تدريبه في نواحي التعليم، والعقبات التي تقف في سبيل هجرته، وعدم قدرة العامل على الاختيار بين الأعمال التي يجدها، نجد أن له العذر عندما يساوره الشك بخصوص ما إذا كان هذا التعبير عن النفس من الناحية الاقتصادية يصف بالدقة الموقف الذي يجد نفسه فيه.

إن أية دولة تكون فيها وسائل الملكية بين أيدي الخاصة تكون دون شك متحيزة فيما تقوم به من عمل، وهي قد تحدد الحقوق التي تمنحها للأفراد في صيغة شاملة، ثم تقصر نطاق التمتع بها على أصحاب الملكية. ويتمثل حقها في قدرتها على إقناع أفرادها بأن حالهم في ظل هذا النظام أفضل منه في ظل أي نظام آخر. ولو أن هذه مسألة تقوم على سلطة فعلية تكفل تنفيذ ذلك، سلطة تخلو من أية أسس أخلاقية. وهذه القدرة كما ذكرت تعتمد دائمًا على استعداد الدولة لإشباع الاحتياجات التي تواجهها، وستقل الاحتياجات التي على الدولة أن تكفلها إذا ما كانت دكتاتورية عنها إذا ما كانت ديمقراطية. ولكن طالما كانت الدولة تكون مجتمعًا منظمًا فإنه لا يوجد أي قياس سوى قدرتها على سد تلك الحاجات.

وعلى ذلك، لا يخول الحق لأية دولة في أن تفرض على مواطنيها تقديم فروض الولاء لها طبقًا لما تراه، إذ إنها ليست بالصورة التي تتمثل في تأديتها لعملها أو في محاولتها لتحقيقه، ولكن وجودها مرتبطٌ بما يصدره هؤلاء الأفراد عليها من حكم، هذا الحكم الذي يكون أساسًا للالتزامات السياسية، إذ إن كلًّا منا يحدد ما هو صواب وما هو خطأ في النواحي السياسية. وهذا الحكم تلونه الخبرة التي نمر بها. وينتج عن هذه الخبرة مقياس المطالب الضرورية، وننتظر من الدولة تهيئة هذا المستوى، ولكن عندما نفشل نحاول رفع شكوانا إلى المسئولين. وعندما نجد آذانًا صاغية تدرك نوايا الدولة الحميدة، ولكن عندما تهمل شكونا أو تقابل بالإخماد فستتخذ شكلًا آخر وتتمثل في صورة مذهب من المذاهب، وعندئذ يهب أي حزب في البلاد الديمقراطية للدفاع عن هذا المذهب. أما في البلاد الدكتاتورية كما في روسيا مثلًا فنجد أن بعض الأفراد يقومون بحياكة المؤامرات للقضاء على ذلك الداء. ويرمي هذا الحزب أو هذه المؤامرة إلى تحقيق هدف واحد، فهما يسعيان إلى تغيير المبادئ القانونية التي تحول دون إشباع احتياجاتهم، وعندئذ سيدل كل مبدأ من هذه المبادئ على أن أي تغيير يعني القضاء على الدولة نفسها طالما تعرض لأسس النظام الاجتماعي.

ولقد اعتبرت أية محاولة يقصد منها تغيير أسس النظام الاجتماعي مخاطرة لها لون خاص، إذ إن القيام بذلك معناه الهجوم على الأساس الذي يحدد طبيعة كل الوصايا الاجتماعية والأفكار السائدة. ومن الواضح أن القضاء على الدولة في البلاد الدكتاتورية يعتبر مخاطرة ثورية، إذ إن طبيعة الحكم لا تبيح لأي فرد الانحراف عن الأهداف الموضوعة. وفي الواقع أن فروض الولاء ما هي إلا موقف يتخذه العقل، ويمكن للإجبار المكشوف أن يلزم الأفراد بأهداف لا تقبلها عقولهم. ولذلك فإن أية دولة ترغب في وضع مطالبها على أساس أرسخ يجب أن تكسب طاعتها عن طريق الموافقة، لا بالقوة. ويمكن تحقيق هذا بوضع أهداف ترمي إلى سد مطالب غالبية المواطنين، وعندما يستمر هذا النظام نجد أنه يحرم نفسه من السبيل الوحيد الذي يثبت به استحقاقه لفروض هذا الولاء على أساس خلقي. وهو يقوم على القدرة على تثبيت أقدامه بموافقة حرة ينبذ بها هؤلاء الأفراد.

ولكن هل يختلف الوضع في النظام الديمقراطي؟ إنني أعتبر وجود هذا الاختلاف أمرًا جوهريًّا في بعض الظروف الخاصة، ففي الدولة التي يتمتع فيها الأفراد بالحقوق السياسية الأساسية بدرجة يصبح معها في الإمكان تحويل هذا الاتجاه إلى الناحية الأصلية الأساسية (الأرثوذكسية). وأرى أن على الفرد أن يستغل كل الوسائل التي أتاحها له دستور الدولة، وذلك قبل الالتجاء إلى القيام بالثورة. وإني أعتقد أن طبيعة الديمقراطية الرأسمالية تقف ضده، كما أن ذلك ربما اتسم بالحكمة لا بالحق الأخلاقي، غير أني أعتقد أن المكاسب الكامنة في وسائل الدستور أعمق من تلك التي تكمن في الناحية الثورية.

غير أن ذلك يؤدي بنا إلى دراسة استراتيجية السياسة، لا إلى الخوض في فلسفتها، ويحق لي في هذا المجال أن أبين ناحيتين: أولاهما ما إذا كانت مسألة التمتع بالحقوق السياسية الأساسية حقيقة واقعية، ولها ما يمكنها من إجراء تغيير في الأسس الاجتماعية. إننا لا نستطيع أن نصدر حكمًا خاطئًا من الناحية الأخلاقية إلا إذا استطعنا إثبات الخطأ الأخلاقي الكامن في أهدافهم أو وسائلهم. أما الأيرلنديون الذين ثاروا ضد بريطانيا عام ١٩١٦م فلم يتسموا بالحكمة، بمعنى أن ما كانوا يقومون به من المغامرة لن يكتب له أي نجاح في المستقبل، كما أني لا أعتقد أن أي خطأ أخلاقي لما يتخذونه من قرارات لا تثبت صحته. فهم يخلون بالقانون، إلا أن تاريخ العلاقات بين إنجلترا وأيرلندة قد حرمهم إرجاع الالتزامات الأخلاقية إلى القوانين؛ إذ عندما يُدفع الأفراد إلى اتخاذ هذا الموقف، وقد دفعتهم إلى ذلك الخبرة التي مروا بها معتقدين أن ذلك هو الخطأ بعينه، فمن اليسير اكتشاف حقيقة ما في ذلك السخط الذي لا يمكن تبريره.

أما الأمر الثاني فليس بأقل أهمية من سالفه، فلم يرد مؤيدو التغييرات في طبقات المجتمع بالطرق السلمية عن قضية هؤلاء الذين يقولون: إن الخبرة التي نمر بها لا تختلف عنها في الماضي، وإن قيام الثورة يعتبر إجراء شرعيًّا، بل وإن الاستعداد لها بمثابة حكمة يتطلبها الموقف، ويندر أن يستسلم الملاك إلا في حالات الضرورة القصوى. وقد لاحت الإصلاحات ولكن بعد فوات الأوان، وبذلك لم يتيسر لها القضاء على النواحي المجحفة. ومن النادر أن يتسامح الملاك عما يوجه إليهم من نقد بمجرد تعرض أمنهم للخطر. أما النية الحسنة التي يجب أن نوضحها فهي القدرة على التسامح، حتى عندما يجدون أنفسهم في وضع تسيطر عليه بعض الآراء المخففة كما عبر عن ذلك مستر هولمز. ولكنهم لم يقدموا أي دليل، بل على العكس كلما دنت لحظة التحدي والمقاومة أخذوا يطلبون من الدولة ممارسة وظيفتها الرادعة، وهذه هي الحالة التي تسود في فترة الأزمة الاقتصادية. ومن المعقول أن نقول إذن: إن الديمقراطية الرأسمالية لا تستطيع إجراء أي تغيير بالطرق السلمية أكثر مما يستطيع أي نظام آخر القيام به، فإذا صفحت الدول عن كل شيء؛ لأنها تشعر بالأمن فإن الإخلال بالأمن سيؤدي حتمًا إلى الوصول إلى بعض النواحي الدستورية حيث يضعف احتمال إجراء تغييرات في النواحي السلمية.

ولكن ذلك لا يشير إلى ضرورة وجود هذا التسامح فحسب، فالدستور الذي يقوم على أسس ديمقراطية يعتبر أمرًا ينبض بالحياة؛ إذ يقوم على الروح التي يطبق بها أكثر من اعتماده على ألفاظ مجردة. فإذا سخرت القوانين لخدمة الفئة القائمة فمعنى ذلك المخاطرة بولاء الذين طلب منهم أن يثقوا بتلك الروح التي تطبق بها القوانين. وما الاتحاد السياسي لشعب من الشعوب إلا تفاعل العادات والتقاليد والإجراءات الدستورية. ونحن نجد أن استغلال هذه النواحي بطريقة متحيزة لا سيما في الفترات العصيبة يعد ضربة قاضية للأسس التي قامت عليها. إلا أن الدلائل تشير إلى استعداد الطبقة المالكة للقيام بهذا الاستغلال الذي يعرض استتباب الأمن للخطر. ولقد وقع في ذلك الخطأ الرئيسي رجال الحكم في أسرة ستيوارت، كما أنه أدى إلى عدم إيمان الشعب في روسيا بالتجارب الدستورية التي قام بها نيقولا الثاني. وهناك مثالان من التاريخ يشهدان على أن استغلالًا من هذا النوع كاد يوقعنا في أزمة من الأزمات، وإن الموقف الذي اتخذه مجلس اللوردات بشأن قانون الإصلاح الذي صدر عام ١٨٣٢م، ورفضه لميزانية عام ١٩٠٩م، والمحاولة التي قام بها الزعماء المحافظون عمدًا حول الحوادث التي قامت في الستر عام ١٩١٣م وعام ١٩١٤م؛ لإفساد الولاء للجيش، والظروف الغامضة التي أحاطت بمولد الحكومة الوطنية عام ١٩٣١م، والتحقير من شأن ما ينظر إليه منذ رسالة بت الصغير المشهورة التي أرسلها للورد ثيرلو على أنه المذهب الأساسي لمسئولية الوزارة الجماعية: كل هذه الحوادث جعلت الأفراد لا يؤمنون باستخدام القوة لاستتباب الأمن في فترة تتسم بالتغيير. ومما هو جدير بالذكر أن الاتحاديين قد اتُّهِموا بانتهاج نفس الأسلوب، كما أن استخدام المادة الثامنة والأربعين من دستور فيمار في السنين الأخيرة من الجمهورية الألمانية قد اعتبر تطاولًا على النواحي الدستورية.

وقصارى القول أن هؤلاء الذين يسنون الدستور يضعون بعض اللوائح لكي يؤدي عمله، وهم ينتظرون من معارضيهم الموافقة عليه والأخذ به، والجميع يحترمون هذه اللوائح طالما كانت الطبقة التي بيدها مقاليد الأمور تتمشى مع هؤلاء الذين وضعوا اللوائح. ولكن تلاحظ اتجاهًا خطيرًا مؤداه أن الطبقة الجديدة التي ستتولى مقاليد الحكم تجد أن من حقها تغيير هذه اللوائح بما يتناسب ومصلحتها، ونجدها تقوم بتفسير نواحٍ عديدة أو إحياء نواحٍ قديمة، ونجدها في بعض الأحيان تتخلى عن هذه اللوائح كما فعل هتلر في أغسطس عام ١٩٣٤م، عندما تقلد منصب الرئاسة. وما من شك في أن هذا الموقف يعتبر ضربة قاضية للنوايا الحميدة التي يجب أن يعتمد عليها الدستور. وينبغي لنا أن ننسى مدى صعوبة التطور البطيء لمبدأ الأغلبية في تاريخ الحكومات، ومدى تعقيد النواحي التي تكفل لها النجاح في أداء عملها. وتقوم الطبقة التي تعرض الدستور للخطر عندما تقف النواحي الديمقراطية في طريقها بالحد من العملية الديمقراطية، ويعتبر هذا ضربة قاضية لأغلب المكاسب الروحية التي تتميز بها الحياة المتمدينة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤