الفصل الأول

النماذج

(١) كيف ترمي حجرًا؟

افترِضْ أنك واقفٌ على أرض مستوية في يوم هادئ، وتُمسك في يدِك حجرًا، وتودُّ أن ترميَه إلى أبعدِ مسافةٍ ممكنة. إذا سلَّمنا جَدلًا بأنك ستُلقيه بقوة، فإن القرار الأهم الذي يجب اتخاذُه هو تعيين الزاوية التي يترك بها الحجر يدَك. إذا كانت هذه الزاويةُ مسطَّحةً للغاية، فإن الحجر سيسقط سريعًا على الأرض مع أنَّ له سرعةً أُفقية كبيرة، ومن ثمَّ فلن تكون لدَيه فرصةٌ للوصول إلى مسافةٍ بعيدة جدًّا. وعلى الجانب الآخر، فإنك إذا رميتَ الحجر لمسافةٍ عالية جدًّا فإنه يظلُّ مدةً أطولَ في الهواء، ولكن لن يُغطِّيَ مسافةً كبيرة على الأرض في هذه الحالة. من الواضح أننا نحتاج إلى حلٍّ وسط.

يتَّضح أن أفضل حلٍّ وسط يمكن أن نأمُلَه في ظل هذه الظروف هو ما يتأتَّى عن استخدام مزيجٍ من الفيزياء النيوتنية وبعضِ مبادئ التفاضُل والتكامل؛ يجب أن يكون الحجرُ عند مُغادرتِه يدَك متجِهًا إلى أعلى بزاويةٍ قياسُها درجةً على الخط الأفُقي. توضِّح هذه العمليات الحسابية نفسُها أن الحجر سيرسم مُنحنًى مكافِئًا خلال طيرانِه في الهواء، وتُخبرك أيضًا بسرعة الحجر عند أيِّ لحظةٍ بعد مفارقته ليدِك.
ولهذا يبدو أنَّ مزيجًا من العلوم والرياضيات يُمكِّننا من التنبُّؤ بسلوك الحجَر من لحظة انطلاقه إلى لحظةِ سقوطه على الأرض. ولكن، لا يتحقَّق ذلك إلا إذا كنَّا مُستعدِّين لوضع عددٍ من الافتراضات المبسَّطة؛ أهمها أن القوة الوحيدة المؤثِّرة على الحجر هي الجاذبيةُ الأرضية، وأنَّ هذه القوة لها المقدارُ والاتجاهُ نفسُهما في كل مكان. إلا أنَّ هذا الافتراض غيرُ صحيح؛ لأنه لا يأخذ في الحُسبان مقاومةَ الهواء، ودوَران الأرض، والتأثيرَ الضئيل لجاذبية القمر، وحقيقةَ أن مَجال جاذبية الأرض يضعفُ كلَّما ارتفع الحجر، وكذلك التغيُّر التدريجي في الاتجاه «رأسيًّا إلى أسفل»، كلما تحرَّكْتَ من جزءٍ إلى آخر من سطح الأرض. وحتى إذا وافقت على العمليات الحسابية، فإن التوصية باستخدام زاوية قياسها درجة يعتمد على افتراضٍ ضِمني آخر، وهو أن سرعة الحجر عندما يترك يدَك لا تعتمدُ على اتجاهه. وهذا، مرةً أخرى، غيرُ صحيح؛ لأنَّ رميَ الحجر يكون أقوى عندما تكون الزاوية أقربَ إلى الزاوية المستقيمة.

في ضوءِ هذه الاعتراضات، وبعضُها من الواضح أنه أكثرُ جِديةً من غيره، ما الموقف الذي على المرء أن يتَّخذه من العمليات الحسابية، والتوقُّعات الناتجة عنها؟ أحد الأساليب هي وضعُ أكبر عددٍ من الاعتراضات في الحسبان. ومع ذلك، فإن النَّهج الأصوبَ على النقيض من ذلك تمامًا؛ حدِّدْ مستوى الدقة الذي تُريده، وحاوِلْ تحقيقه بأبسطِ طريقةٍ ممكنة. وإذا علمتَ من خبرتك أن افتراضًا مبسَّطًا سيكون له تأثيرٌ ضئيل على الناتج، فينبغي لك الأخذُ بهذا الافتراض.

على سبيل المثال، سيكون تأثيرُ مقاومة الهواء على الحجر محدودًا نوعًا ما؛ لأن الحجر صغير، وصلد، ومُتماسكٌ إلى حدٍّ معقول. ولذا، لا مَغزى من تعقيدِ العمليات الحسابية بأخذِ مقاومة الهواء في الاعتبار، في الوقت الذي يُحتمَل فيه حدوثُ خطأٍ كبير وملحوظٍ في زاويةِ رمي الحجر على أي حال. فإذا رغبتَ في أخذ مقاومة الهواء في الاعتبار، فمن الجيد بما يكفي لمعظم الأغراض تطبيقُ القاعدة العامة التالية: كلَّما زادت مقاومةُ الهواء، تعيَّن رميُ الحجر بزاويةٍ أقربَ إلى الزاوية المستقيمة؛ لتعويض ذلك.

(٢) ما المقصود بالنموذج الرياضي؟

عندما يفحص المرءُ حلَّ مسألةٍ ما في الفيزياء، فإنه يحدث أحيانًا وليس دائمًا أن يُلاحظ فَرقًا واضحًا بين إسهامات العلوم وإسهامات الرياضيات. فالعلماء يضَعون نظرية، تعتمد في جزءٍ منها على نتائج الملاحظات والتجارِب، وتعتمد في جزءٍ آخرَ على اعتباراتٍ أكثرَ تعميمًا مثل التبسيط والقوة التفسيرية. ثم يفحص الرياضيُّون، أو علماءُ الرياضيات، النتائجَ المنطقية البَحْتة المترتبةَ على النظرية. وفي بعض الأحيان تكون هذه النتائجُ نِتاجَ عملياتٍ حسابية روتينية تتنبَّأ على وجه التحديد بأنواع الظواهر التي صُمِّمَت النظريةُ لتفسيرها، لكن تنبُّؤات النظرية أحيانًا ما تكون غيرَ متوقَّعةٍ بالمرة. وإذا أثبتَت التجارِبُ صحةَ هذه التنبؤات لاحقًا، فإنه يكون لدَينا برهانٌ قوي يؤكِّد تأييدَ النظرية.

ومع ذلك، فإنَّ فكرة تأكيدِ تنبُّؤٍ علمي ما تكون محلَّ نظر إلى حدٍّ ما؛ نظرًا إلى ضرورة إجراء تبسيطاتٍ من النوع الذي ناقَشتُه سابقًا. لنأخُذْ مثالًا آخر: في قانونَيْ نيوتن لكلٍّ من الحركة والجاذبية يقتضي الأمرُ ضِمنًا أنك إذا أسقطتَ جسمَين من الارتفاع نفسِه، فإنهما يرتطمان بالأرض (إذا كانت مستوية) في الوقت نفسِه. كان جاليليو هو أولَ مَن أشار إلى هذه الظاهرة، وهي ظاهرةٌ غيرُ بديهيةٍ نوعًا ما. بل إنها في الحقيقة أسوأُ من ذلك؛ فإذا أجريتَ التجرِبةَ بنفسك باستخدام كُرتَين إحداهما للجولف والأخرى لتنس الطاولة، فإنك ستجدُ أن كرة الجولف ترتطم بالأرض أولًا. إذن، بأيِّ معنًى كان جاليليو مُحقًّا؟

وبالطبع، فإن مُقاومة الهواء هي السبب الذي جعَلَنا لا نعتبر هذه التجرِبةَ دحضًا لنظرية جاليليو أو إبطالًا لها؛ إذ يَثبُت بالتجرِبة صحةُ النظرية عندما تكون مقاومةُ الهواء صغيرة. إذا وجدتَ أنه من الأنسب أكثرَ مما ينبغي اعتبارُ مقاومة الهواء هي المُنقِذَ في كل مرةٍ تُخطئ فيها تنبؤاتُ ميكانيكا نيوتن، فسوف تستعيد إيمانَك بالعلوم، وإعجابَك بجاليليو إذا أُتيحَت لك فرصةُ مراقَبة ريشةٍ تسقط في الفراغ؛ إنها في الحقيقة تسقط تمامًا كما كان سيسقُط الحجر.

وعلى الرغم مما سبق، فإننا بحاجةٍ إلى طريقةٍ أفضلَ لوصفِ العلاقة بين العلوم والرياضيات؛ لأن الملاحظاتِ العلميةَ لا تكون مباشرةً وحاسمة تمامًا. والرياضيُّون لا يُطبِّقون النظريات العلمية تطبيقًا مباشرًا على أرض الواقع، ولكنهم بالأحرى يُطبقونها على النماذج. ومِن ثمَّ، يمكن التفكيرُ في النموذج بهذا المعنى بوصفِه رؤيةً تخيُّلية مبسَّطة لجزءٍ من الواقع موضعِ الدراسة، حيث تكون الحساباتُ الدقيقة ممكِنة. ففي حالة الحجر، على سبيل المثال، تُشبِه العلاقةُ بين الواقع والنموذج العلاقةَ بين الشكلَين ١-١ و١-٢ إلى حدٍّ ما.

تُوجَد العديدُ من الطرق لإنشاء نموذج لموقفٍ فيزيائي معيَّن، ويجب أن نستخدم مزيجًا من الخبرة واعتباراتٍ نظريةً أخرى لتحديدِ الشكل الذي مِن المحتمَل أن يكون عليه النموذجُ المُعطى ليُزودنا بمعلوماتٍ عن الواقع نفسِه. عند اختيار نموذجٍ ما؛ لا بد أن تكون الأولويةُ هي أن يتطابقَ سلوكُه بدقةٍ مع السلوك المُلاحَظ للعالم. ومع ذلك، ثَمة عواملُ أخرى — مثل البساطة والدقَّة الرياضية — يمكن غالبًا أن تحظى بقدرٍ أكبرَ من الأهمية. في الواقع، تُوجَد نماذجُ مفيدةٌ للغاية لا تُشبه تقريبًا الواقعَ الفعليَّ على الإطلاق، كما سيتَّضح من بعض الأمثلة التي سأعرضُها.

fig1
شكل ١-١: مسار كرة في الهواء (أ)
fig2
شكل ١-٢: مسار كرة في الهواء (ب)

(٣) إلقاء زوج من النَّرْد

إذا ألقيتُ زوجًا من النَّرْد، وأردتُ أن أعرف كيف سيكون سلوكُه، فإنني أعرف بالتجرِبة أن هناك أسئلةً مُعيَّنة يكون من غير الواقعيِّ طرحُها. فمثلًا من غير المتوقَّع أن يُخبرني شخصٌ مقدمًا بناتجِ إلقاء النَّرْد في إحدى المرات، حتى إذا أُتيحَت له تكنولوجيا باهظةُ التَّكلِفة، فإنَّ إلقاء النَّرْد سيتمُّ آليًّا. وعلى النقيض من ذلك، فالأسئلة ذاتُ الطبيعة الاحتمالية مثل «ما احتمالُ أن يكون مجموعُ العددَين على كل نَرْدٍ سبعة؟» يمكن غالبًا الإجابةُ عنها، وربما تكون الإجابة مفيدةً إذا كنا — على سبيل المثال — نلعب لُعبة الطاولة مقابل المال. بالنسبة إلى النوع الثاني من الأسئلة، يُمكننا بسهولةٍ شديدة إنشاءُ نموذجٍ للموقف بتمثيل إلقاء النَّرْد على أنه اختيارٌ عشوائي لأحد الأزواج المرتَّبة الستة والثلاثين التالية:

يُمثِّل العددُ الأول في كل زوجٍ العددَ على النَّرْد الأول، ويُمثل العدد الثاني في كل زوجٍ العددَ على النَّرْد الثاني. وبما أن عددَ الأزواج المرتَّبة التي مجموعُها سبعةٌ هو ستة فقط، فإن احتمالات الحصول على هذا الناتج هي أو .

ربما كان على المرء أن يعترضَ في هذا النموذج على أساس أن النَّرْد عند إلقائه يكون سلوكه موافقًا لقوانين نيوتن، ولو بدرجةٍ كبيرة من الدقة على أقلِّ تقدير، ومن ثمَّ فإن الوضع الذي يتوقَّف عليه النَّرْد يكون عشوائيًّا. ومن حيث المبدأُ يمكن حسابُ توقُّفه. ومع ذلك، فكلمةُ «من حيث المبدأ» هنا فيها مُغالاة؛ لأن الحسابات تكون معقَّدةً جدًّا، ويجب أن تُبنى على معلوماتٍ أدق عن الشكل والتكوين، والسرعة الابتدائية، ودوَران النَّرْد، مما يمكن قياسُه في الواقع. ولذلك، لا تُوجَد ميزةٌ على الإطلاق في استخدامِ نماذجَ أكثر حسمًا وتعقيدًا.

(٤) التنبُّؤ بالنموِّ السكاني

إنَّ العلوم «الأقل تجريبيَّةً» مثلَ علم الأحياء وعلم الاقتصاد مليئةٌ بالنماذج الرياضية التي تكون أبسطَ بكثيرٍ من الظاهرة التي تُمثلها، أو حتى تتغافل عمدًا عن الدقة بطرقٍ مُعيَّنة، لكنها، مع ذلك، مفيدةٌ ومعبِّرة. لنأخذ مثالًا من علم الأحياء ذا أهميةٍ اقتصادية كبيرة، نتصوَّر فيه أننا نرغب في التنبُّؤ بالتَّعداد السكانيِّ لبلدٍ ما في غُضون عِشرين عامًا. يمكننا استخدامُ نموذج بسيط للغاية، يُمثِّل البلد بأكمله على أنه زوجٌ من الأعداد . حيث يُمثِّل الزمنَ، ويُمثِّل حجمَ السكان عند الزمن . وبالإضافة إلى ذلك، فإنَّ لدَينا العددَين و اللذَين يُمثِّلان نسبةَ المواليد ونسبة الوفَيَات ويُعرَّفان بأنهما نسبةُ عدد المواليد ونسبة عدد الوفَيَات إلى عدد السكان، على الترتيب، في كلِّ سنة.
لنفترضْ أننا نعرف أن عدد السكان في بداية عام ٢٠٠٢ هو . طبقًا للنموذج المُعرَّفِ توًّا، فإن عدد المواليد وعددَ الوفَيات خلال العام هما و على الترتيب، إذن يُصبح عدد السكان في بداية عام ٢٠٠٣ كالتالي: . يصلح هذا البرهانُ مع أي عام؛ ولذا نحصل على الصيغة: ، وهو ما يعني أنَّ عددَ السكان في بداية العام هي مضروبًا في عددِ السكان في بداية العام . بعبارةٍ أخرى، يتضاعف عددُ السكان كلَّ عام بمقدار . ومن ثمَّ، فإنه يتضاعفُ خلال ٢٠ عامًا بمقدار ، وهو ما يُعطينا ناتجَ المسألة الرئيسية.

بل إنَّ هذا النموذج الرئيسي جيدٌ بما فيه الكفاية لإقناعنا بأنه في حالِ ارتفاع معدَّل المواليد بدرجةٍ كبيرة عن معدَّل الوفَيات، فإن عدد السكان سيزداد بسرعةٍ كبيرة للغاية. ولكنه أيضًا غيرُ واقعي على نحوٍ يجعل تنبؤاتِه غيرَ دقيقة. على سبيل المثال، افتراض أنَّ نسبة المواليد ونسبة الوفَيات ستظلان كما هما مدةَ ٢٠ عامًا ليست مقبولة؛ ذلك أنهما قد تأثَّرا في الماضي بالتغيُّرات الاجتماعية والأحداث السياسية مثل التطورات الحادثة في مجال الطِّب، والأمراض الحديثة، وارتفاع متوسِّط العمر الذي تبدأ عنده النساءُ في الولادة، والحوافز الضريبية، والحروب الواسعةِ النطاق في أجزاءٍ متفرقة من العالم. سببٌ آخر لتوقُّع تغيُّر نسبة المواليد ونسبة الوفَيات مع مرور الزمن هو أن أعمار السكان في البلد الواحد ربما تكون موزعةً على نحوٍ غير متساوٍ إلى حدٍّ ما. على سبيل المثال، إذا حدَث ارتفاعٌ مفاجئ في المواليد قبل ١٥ عامًا، فهناك مبررٌ لتوقُّع ارتفاع نسبة المواليد خلال ١٠ إلى ١٥ عامًا.

يستحثُّنا هذا على تعقيد النموذج بإضافة عواملَ أخرى. يمكننا أن نكتبَ نسبة المواليد ونسبة الوفَيات على هذا النحو و للإشارة إلى أنهما يتغيَّران مع مرور الزمن. وبدلًا من أن يكون لدينا عددٌ واحد يُمثِّل حجم السكان، ربما يرغب المرءُ في معرفةِ عدد السكان في مجموعاتٍ عُمرية مختلفة. وربما من الجيد أيضًا أن نعرف قدْرَ الإمكان السلوكَ والمواقف الاجتماعية في هذه المجموعات العمرية؛ للتنبؤ بمعدلات المواليد والوفَيات المُحتمَلة في هذه المجموعات مُستقبلًا. الحصولُ على هذا النوع من المعلومات الإحصائية صعبٌ وباهظ التكاليف، إلا أن هذه المعلومات من شأنها أن تُحسِّن دقةَ التنبؤات بدرجةٍ كبيرة. ولهذا السبب لا يُوجَد نموذجٌ بعينِه أفضلُ من جميع النماذج الأخرى. على سبيل المثال، من المستحيل الجزمُ بأي درجةٍ من اليقين بالتغيُّرات الاجتماعية والسياسية المرتقب أن تحدث. ومِن ثمَّ فإن أقصى ما يمكن للمرء أن يأمُلَه في أي نموذجٍ هو التنبؤات ذاتُ النوع الشرطي، وهي التنبؤات التي تُخبرنا عن التأثيرات المرتقبة للتغيُّرات الاجتماعية والسياسية إذا حدثَت.

(٥) سلوك الغازات

وفقًا لنظرية الحركة للغازات التي قدَّمها دانييل برنولي عام ١٧٣٨، وتطوَّرَت على يد ماكسويل وبولتزمان وآخَرين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإن الغاز يتكوَّن من جُزَيئاتٍ متحرِّكة، وكثيرٌ من خصائصه، مثل درجة الحرارة والضغط، هي خصائصُ إحصائيةٌ لهذه الجزيئات. درجة الحرارة مثلًا تُناظِر متوسطَ سرعة الجزيئات.

ومع أخذِ هذه الفكرة في الاعتبار، فلْنُحاولْ وضْعَ نموذجٍ للغاز الموجود في صندوقٍ مكعَّب. يجب بالطبع تمثيلُ الصندوق بمكعَّبٍ (وهو تمثيلٌ رياضي وليس فيزيائيًّا)، وبما أن الجزيئاتِ صغيرةٌ جدًّا فمن الطبيعيِّ تمثيلُها بنقاطٍ داخل المكعب. من المفترض أن هذه النقاطَ تتحرَّك، ومِن ثمَّ يجب أن نُقرر القواعد التي تحكم حركتَها. وفي هذه المرحلة، علينا إجراءُ بعض الاختيارات.

إذا كان هناك جُزَيءٌ واحد في الصندوق، فستكون لدَينا قاعدةٌ واضحة: سوف يتحرك الجُزَيء بسرعةٍ ثابتة ثم يرتدُّ عائدًا من جُدران الصندوق عند اصطدامِه بها. وعليه، فإن أبسطَ طريقةٍ لتعميم هذا النموذج هي أخذُ عدد من الجزيئات، حيث عددٌ ما كبيرٌ، ونفترض أن جميع الجُزيئات سوف تسلك المسلكَ نفسَه، مع عدم وجودِ أيِّ تفاعل بينها. ولكي نبدأَ في استخدام النموذج المحتوي على عدد من الجزيئات؛ علينا أن نختارَ مواقعَ وسرعاتٍ ابتدائيةً للجزيئات، أو بالأحرى نختار نقاطًا لتمثيلها. وإحدى الطرق الجيدةِ لعمل هذا هي الاختيار العشوائي، بما أننا نتوقَّع أن تنتشرَ الجزيئات الموجودة في غازٍ حقيقي في أي لحظة، وتتحركَ في اتجاهاتٍ متعددة.
ليس من الصعب أن نقول ما المقصودُ بنقطةٍ عشوائية في المكعب، أو المقصود باتجاهٍ عشوائي، ولكن الأقل وضوحًا هو كيفيةُ اختيار سرعةٍ عشوائيًّا، حيث إن السرعة يمكن أن تأخذ أيَّ قيمةٍ من صِفر إلى ما لا نهاية. وللتغلب على هذه الصعوبة؛ دعونا نضَع افتراضًا غيرَ معقول فيزيائيًّا، وهو أن كل الجزيئات تتحرَّك بالسرعةِ نفسِها، وأن المواقع والاتجاهات الابتدائية اختِيرَت عشوائيًّا. يوضح شكل ١-٣ نسخةً ثنائيةَ الأبعاد للنموذج الناتج.
إنه لَمِن قَبيل الإفراط في التبسيط افتراضُ أن كل الجزيئات البالغِ عددُها تتحرَّك بمَنأًى تمامًا عن بعضها البعض، وهو بلا شك تبسيطٌ زائد عن الحَدِّ. على سبيل المثال، هذا يعني أنه لا أمَل في استخدام هذا النموذج لِفَهم السبب الذي يجعل الغازَ يتحوَّل إلى سائلٍ عند درجات الحرارة المنخفِضة بدرجةٍ كافية: لو أبطأَت النقاطُ في النموذج فستحصل على النموذج نفسِه دون تغيير، لكن الجزيئات تتحركُ ببطءٍ أكبر. وعلى الرغم من ذلك، فإنه يُفسِّر كثيرًا من سلوك الغازات الحقيقية. على سبيل المثال، تصوَّر ماذا كان سيحدثَ لو أننا صغَّرْنا الصندوقَ تدريجيًّا. كانت الجزيئات ستستمرُّ في الحركة بالسرعةِ نفسِها، ولكن نظرًا لأن الصندوق صار الآن أصغرَ فإنَّ مرَّات اصطدامها بالجدران تَزيد، وتكونُ مساحة الجدران المعرَّضةُ للاصطدام أقلَّ. ولهذين السببَين، فإن عدد الاصطدامات في الثانية في أي مساحةٍ مُعطاةٍ من الجدار ستُصبح أكبر. وهذه الاصطدامات تُفسِّر الضغط الذي يُمارسه الغاز، ومن ثمَّ نستنتج أنك إذا ضغطتَ الغاز في حجمٍ أقلَّ فسيزداد ضغطه على الأرجح، حسبما يتأكَّدُ ذلك بالمشاهدة والملاحظة. وثمة دليلٌ مُماثل يُفسِّر السبب في أنك لو رفعتَ درجةَ حرارة الغاز من دون أن تَزيد حجمه، يزداد ضغط الغاز أيضًا.
fig3
شكل ١-٣: نموذج ثنائي الأبعاد لأحد الغازات

وليس من الصعب أبدًا استنتاجُ العلاقات العددية بين الضغط ودرجة الحرارة والحجم.

النَّموذج السابق يُشبه نموذجَ برنولي تقريبًا. كان أحدُ إنجازات ماكسويل أنه اكتشف برهانَ نظريةٍ بسيطة حَلَّت مشكلةَ كيفية اختيار السرعات الابتدائية بواقعيةٍ أكثر. ولِفَهم هذا دَعونا نبدأ باستبعادِ افتراضنا أن الجزيئات لا تتفاعل. بدلًا من ذلك، سنفترض أنها ستتصادم من حينٍ إلى آخَر، مثل زوجٍ من كُرات البلياردو الصغيرة، وبعدها ستتحركُ بسُرعاتٍ أخرى، وفي اتجاهاتٍ أخرى، تخضع لقوانين حفظ الطاقة، وكمِّية الحركة، لكنها فيما عدا ذلك تكون عَشوائية. بالطبع، من غير السهل رؤيةُ الكيفية التي ستفعل بها ذلك لو كانت نِقاطًا منفردة لا تَشغَل حجمًا، لكن هذا الجزء من البرهان نحتاج إليه فقط كمُبرِّر غيرِ شكلي لنوعٍ من العشوائية في سرعات الجزيئات واتجاهاتها. وضعَ ماكسويل سيناريوهَين مُحتملَي الحدوث جدًّا عن طبيعة هذه العشوائية؛ وهما أنها يجب ألَّا تتغير بمرور الوقت، وأنها لا تُميز بين اتجاهٍ وآخَر. وبوجهٍ عام، يعني الافتراضُ الثاني أنه إذا كان و اتجاهَين، و هي سرعة مُعينة، فإن احتمالاتِ أن يتحرك جُسيمٌ بسرعة في الاتجاه هي نفسُها احتمالاتُ أن يتحركَ بسرعةِ في الاتجاه . المدهش أن هذَين الافتراضَين كافيان لِنُحدِّد بالضبط الكيفيةَ التي يجب توزيعُ السرعات بها. بمعنى أنهما يُخبرانِنا أننا إذا أردنا أن نختار السرعات عشوائيًّا، فثَمة طريقةٌ بديهية واحدة لفعل ذلك. (يجب أن يكون تعيينُهما طبقًا للتوزيع الطبيعي، وهذا هو التوزيع الذي يُنتِج «منحنى الجرس» الشهير، الذي يردُ ذِكره في عددٍ كبير من السياقات المختلفة، المتعلقة بالرياضيات والتجارِب على حدٍّ سواء).

بمجرد اختيارنا للسرعات، نستطيع مرةً أُخرى أن نغُضَّ الطَّرْف تمامًا عن وجود تفاعلاتٍ بين الجزيئات. ونتيجةً لذلك، فإن النموذج المُحسَّن قليلًا سيشترك في كثيرٍ من عيوب النموذج الأول. ولا سبيلَ أمامنا لإصلاح ذلك إلا بوضعِ نموذج يُراعي هذه التفاعلاتِ بطريقةٍ أو أخرى. ويتَّضح أنه حتى النماذج البسيطة جدًّا لأنظمة الجسيمات المتفاعلة تتصرَّف بطريقةٍ مدهشة، وتُسفِر عن مشكلاتٍ رياضية صعبة للغاية، مُستحيلة الحل غالبًا.

(٦) نَمْذجة الدماغ البشري وأجهزة الكمبيوتر

يمكن أيضًا التفكيرُ في أجهزة الكمبيوتر بأنها مجموعةٌ من الأجزاء البسيطة التي يتفاعل أحدُها مع الآخر، ولهذا السبب غالبًا يَزْخر علم الكمبيوتر النظريُّ أيضًا بمشكلاتٍ مُهمة غيرِ محسومة. وفيما يلي مثالٌ جيدٌ لنوع الأسئلة التي ربما يرغب المرءُ في الإجابة عنها. لنفترض أن شخصًا اختار عددَين أوَّليَّين و ، وضربَ العددَين معًا وأخبرَك أن الناتج هو . يمكنك إذن أن تعرف العددين و عن طريق أخذِ كل عدد أوَّليٍّ على التوالي، ومعرفةِ ما إذا كان يمكن أن ينتجَ حاصلُ الضرب . على سبيل المثال، إذا أُعطِيتَ العدد ، فإنه يمكنك بسرعةٍ إثباتُ أنه ليس مُضاعَفًا للأعداد أو أو ، ومن ثمَّ أنه يساوي .
ولكن، إذا كان و عددَين كبيرَين جدًّا — يتكون كلٌّ منهما من رقم مثلًا — فإن طريقة المحاولة والخطأ هذه ستستغرقُ وقتًا طويلًا لا يمكن تصوُّرُه، حتى مع الاستعانة بجهازِ كمبيوتر فعَّال. (إذا أردت التدرُّبَ على هذا النوع من المسائل الصعبة وإتقانَها، فحاوِلْ أن تجد عددَين أوليَّين حاصل ضربهما وعددين آخرَين حاصل ضربهما .) ومن ناحية أخرى، من الواردِ وجودُ طريقةٍ أذكى لتناوُل المسألة، يمكن استخدامها كأساسٍ لبرنامج كمبيوتر لا يستغرق وقتًا طويلًا في تشغيله. إذا تَمكَّنا من إيجاد هذه الطريقة، فإنها ستسمح بحلِّ التعليمات البرمجية التي تُبنى عليها غالبيةُ أنظمة الأمان الحديثة في الإنترنت وغيرها؛ لأن صعوبة حلِّ هذه التعليمات البَرمَجية يعتمد على صعوبة تحليل الأعداد الكبيرة إلى عواملها الأولية. ولذا، من الأفضل لو أن هناك طريقةً ما لإثباتِ عدم وجود إجراءٍ سريع وفعَّال لحساب و من حاصل ضربهما . وللأسف، فإنه في الوقت الذي تُفاجئنا أجهزةُ الكمبيوتر باستمرارٍ بأوجُه استخدامها الممكِنة، فإننا لا نعرف شيئًا تقريبًا عما تعجز عن القيام به.
fig4
شكل ١-٤: برنامج كمبيوتر بسيط
قبل أن نبدأ التفكير في هذه المسألة، يجب أن نجدَ طريقةً ما نُمثِّل بها جهاز الكمبيوتر رياضيًّا، وتكون بسيطةً قدر الإمكان. يوضح شكل ١-٤ واحدةً من أفضل الطرق للقيام بذلك؛ إنه يتكوَّن من عددٍ من الطبقات تحتوي على رءوسٍ ترتبط معًا بخطوطٍ تُسمى الأضلاع. في الطبقة العُلوية تُكتَب «المُدخَلات»، وهي مُتتابعة من الأصفار والآحاد، ومن الطبقة السُّفلية نحصل على «المخرَجات»، وهي مُتتابعة أخرى من الأصفار والآحاد. والرءوس ثلاثةُ أنواع تُسمى بوَّابات AND وOR وNOT. كلُّ بوابة من هذه البوابات تستقبل بعضَ الأصفار والآحاد من الأضلاع التي أُدْخِلَت فيها من أعلى. واعتمادًا على ما تستقبله البوَّابة، فإنها عندَئذٍ تُرسِل أصفارًا أو آحادًا تبعًا للقواعد البسيطة التالية؛ إذا لم تستقبل بوابة AND شيئًا إلا الآحاد فإنها تُرسل آحادًا في شكل مُخرَجات، وإلا فإنها تُرسل أصفارًا، وإذا لم تستقبل بوابة OR شيئًا إلا الأصفار، فإنها تُرسل أصفارًا كمُخرَجات، وإلا فإنها ترسل آحادًا. ولا يُسمح بدخول بوابة NOT من أعلى إلا لضِلع واحد فقط، ومن ثمَّ فإنها ترسل آحادًا إذا استقبَلَت 0، وتُرسل أصفارًا إذا استقبلت .

يُطلَق على مجموعةِ البوَّابات المرتبطة بواسطة أضلاع اسمُ «دائرة»، وما استعرضتُه هنا هو نموذج الدائرة الحسابي. السببُ في أن كلمة «الحسابي» مناسبةٌ هنا هو أن الدائرة يمكن التفكيرُ فيها بأنها تأخذ متتابعةً واحدة من الأصفار والآحاد، وتنقُلها إلى متتابعة أخرى، طبقًا لقواعدَ محددة سابقًا، من الممكن أن تكون معقدةً للغاية في حالِ إذا كانت الدائرةُ كبيرة. وهذا أيضًا ما تفعله أجهزةُ الكمبيوتر، على الرغم من أنها تُترجم هذه المتتابعاتِ إلى صِيَغٍ يمكن فهمُها مثل لُغات البرمجة العاليةِ المستوى والإطارات والأيقونات وهكذا. ومن ثَم يصبح من السهل جدًّا (من الناحية النظرية، ولكنه يظلُّ كابوسًا مروِّعًا من الناحية العَملية) تحويل أيِّ برنامج كمبيوتر إلى دائرة تُحوِّل المتتابعات المكوَّنة من أصفارٍ وآحاد طبقًا للقواعد نفسِها تمامًا. علاوةً على ذلك، الخصائص المهمَّة لبرامجِ الكمبيوتر تكون لها ما يُماثلها في الدوائر الناتجة.

وعلى وجه الخصوص، فإن عدد الرءوس في الدائرة يُقابل المدةَ الزمنية التي يستغرقها برنامجُ الكمبيوتر في تشغيله. ولهذا إذا استطاع المرءُ إثباتَ أن طريقةً معيَّنة لنقل مُتتابعات الأصفار والآحاد تحتاج إلى دائرةٍ كبيرة جدًّا، فإنه يكون قد أثبتَ كذلك أنها تحتاج إلى برنامجِ كمبيوتر يستغرق في تشغيله وقتًا طويلًا للغاية. تتمثل مَيزةُ استخدام نموذج الدائرة بدلًا من تحليل أجهزة الكمبيوتر في أنه أبسطُ وأسهل وأقرب إلى الواقع.

يمكن أن يُسفر تعديلٌ صغير في نموذج الدائرة عن نموذجٍ مفيد للدماغ البشري. والآن، بدلًا من الأصفار والآحاد، فإن المرءَ لدَيه إشاراتٌ مُتباينة في قوتها، يمكن تمثيلها بأعدادٍ ما بين صفرٍ وواحد. البوابات التي تُقابل الخلايا العصبية، أو خلايا الدماغ، مختلفةٌ أيضًا، لكنها ما زالت تتصرَّف بطريقةٍ بسيطة للغاية. تستقبل كلُّ بوابة بعضَ الإشارات من البوابات الأخرى. فإذا كانت القوة الكلية لهذه الإشارات — أي مجموعُ كلِّ الأعداد المقابلة — كبيرةً بدرجةٍ كافية، فإن البوابة تُرسِل إشاراتها الخاصةَ بقُوًى مُعيَّنة. وإلا، فإنها لا تُرسل أيَّ إشارة. وهذا يُقابل قرار الخلية العصبية في أن «تستجيب» أو لا.

يبدو أنَّ من الصعب الاعتقادَ بأن هذا النموذج يمكنه التقاطُ كل تعقيدات الدماغ. ومع ذلك، قد يكون ذلك صحيحًا جُزئيًّا؛ لأننا لم نقل شيئًا عن عدد البوابات التي ينبغي أن تكون موجودة، ولا الكيفية التي ينبغي ترتيبُها وَفقًا لها. يحتوي الدماغ البشريُّ النموذجي على نحوِ مائة مليون خليةٍ عصَبية مُرتَّبة بطريقةٍ معقَّدة جدًّا، وعلى ضوء المعرفة الحاليَّة بالدماغ، من غير الممكن أن نقول ما هو أكثرُ من ذلك، على الأقل فيما يتعلق بالتفاصيل الدقيقة. وعلى الرغم من ذلك، فإن النموذج يُمِدُّنا بإطارٍ نظري مُفيد للتفكير في آليَّة عملِ الدماغ، وأتاح للناس مُحاكاةَ بعض أنواع السلوك الشبيهة بالدماغ.

(٧) تلوين الخرائط وإنشاء الجداول الزمنية

لنفترض أنك صمَّمتَ خريطةً مُقسَّمة إلى قطاعاتٍ، وأردتَ أن تختار ألوانًا لهذه القطاعات. ورغبتَ في أن تستعمل أقلَّ عددٍ ممكنٍ من الألوان، لكنك لا ترغب في تعيين اللون نفسِه إلى قِطاعَيْن متجاورَيْن. نفترض الآن أنك أردتَ أن تُنشئ جدولًا زمَنيًّا لمحاضراتِ مقرَّرٍ جامعي مُقسَّم إلى وحداتٍ تعليميَّة. عدد المواعيد المتاحة للمحاضرات محدود، ومن ثمَّ يحدُث تعارضٌ بين بعض الوحدات التعليمية وغيرها. ولدَيك قائمةٌ تُحدِّد كلَّ طالبٍ والوحدات التي يأخذُها، وتريد أن تختار المواعيد بحيث لا تتعارض وَحْدتان تعليميَّتان إلا إذا كان لا أحدَ يحضرهما معًا.

تبدو هاتان المسألتان مختلفتَين تمامًا، لكن باختيارِ نموذجٍ مناسبٍ يتَّضح من وجهة النظر الرياضية أنهما متطابقتان. في كِلتا الحالتَين يُوجَد بعض الكائنات (بلدان، وحدات تعليمية) يجب تعيينُ كائنٍ لها (لون، ميعاد). بعض أزواج الكائنات تكون غيرَ متوافِقة (البلدان المتجاورة، الوحدات التي ينبغي ألا تتعارَض) بمعنى أنه لا يُسمَح بتعيين الكائن نفسِه لها. في أيٍّ من المسألتَين، ما يَعنينا حقًّا هو ماهيَّةُ هذه الكائنات أو الكائنات التي عُيِّنَت لها، ومِن ثمَّ فربما نُمثِّلها على هيئةِ نقاطٍ وحَسْب. لتوضيح أزواج النقاط غيرِ المتوافقة يُمكننا توصيلُها بخطوطٍ للربط بينها. مجموعة النقاط التي يرتبط بعضُها بخطوطٍ هي بِنْية رياضيةٌ معروفة باسم الرسم. يُقدِّم لنا شكلُ ١-٥ مثالًا بسيطًا على ذلك. ومن المعتاد أن تُسمَّى النقاط في الرسم بالرءوس، والخطوطُ بالأضلاع.
fig5
شكل ١-٥: رسم له ١٠ رءوس، و١٥ ضلعًا
عندما نُمثِّل المسائلَ بهذه الطريقة، تُصبح مهمتُنا في الحالتَين أن نُقسِّم الرءوس إلى عددٍ صغير من المجموعات بحيث لا تحتوي أيُّ مجموعةٍ على رأسَين مرتبطَين بضلع. (الرسم في شكل ١-٥ يمكن تقسيمه إلى ثلاثِ مجموعاتٍ من هذا النوع، لكن لا يمكن تقسيمُه إلى مجموعتَين فقط.) هذا يُوضح سببًا آخَر وجيهًا جدًّا لإنشاءِ نماذجَ بسيطةٍ قدْر الإمكان؛ إذا حالفَك الحظ، فربما يمكن استخدامُ النموذج نفسِه لدراسة ظواهرَ مختلفةٍ جملةً واحدة.

(٨) معانٍ مختلفةٌ لكلمة «مُجرَّد»

عند إنشاء نموذج، فإننا نُحاول قدْر الإمكان تجاهُلَ ما يمكن تجاهلُه من الأمور المتعلقة بالظاهرة قيد الدراسة، ونستخلص منها فقط السِّمات الأساسيةَ لِفَهم سلوكِها. في الأمثلة التي نوقِشَت اختُزِلَت الأحجارُ إلى نقاطٍ مفردة، واختُزِلَ سكان أيِّ بلدٍ إلى عددٍ واحد، واختُزِلَ الدماغ إلى شبكةٍ من البوابات التي تخضع لقواعدَ رياضيةٍ بسيطة للغاية، واختُزِلَ التفاعلُ بين الجزيئات إلى صفرٍ أو لا شيء. إنَّ البِنَى الرياضيةَ الناتجة هي تمثيلاتٌ مجرَّدة للمواقف المادِّية الجاريةِ نمْذَجَتُها.

الرياضياتُ موضوعٌ مجرَّد من منظورَين؛ إنها تستخلص السِّماتِ المهمةَ من مشكلةٍ ما، وإنها تتعامل مع كائناتٍ غير مادية وغير ملموسة. وسوف يُناقش الفصلُ التالي مفهومًا ثالثًا أعمقَ للتجريد في الرياضيات، وهو ما أعطانا المثالُ المذكور في الجزء السابق فكرةً عنه بالفعل. الرسم هو نموذجٌ مَرِن جدًّا له استخداماتٌ كثيرة. ومع ذلك، فلا داعيَ عند دراسة الرسوم أن يأخذ المرءُ استخداماتها في الاعتبار؛ لا يُهم إذا كانت النقاطُ تُمثِّل قطاعاتٍ أو محاضراتٍ أو غير ذلك تمامًا. يمكن للباحث النظريِّ في مجال الرسوم أن يترك العالمَ الواقعيَّ كُليةً وراءه ويدلفَ إلى عالم التجريد البَحْت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤