الفصل الثاني

الأعداد والتجريد

(١) الطريقة المجردة

قبل بضعة أعوام، استُهِلَّ مقالٌ نقديٌّ في الملحَق الأدبي لجريدة التايمز بالفِقرة التالية:

إذا كان و ، فهذا يستتبع وجودَ أعدادٍ هي مربَّعاتُ نفسِها. ولكنه يستتبع بدوره وجودَ أعداد. وبخطوةٍ واحدة بسيطة لا تتطلب أيَّ مهارة، نجد أننا قد تقدَّمنا فيما يبدو من موضوعٍ في الحساب الابتدائي إلى استنتاجٍ فلسفي مُذهل ومَثارِ جدلٍ كبير، وهو أن الأعداد موجودة. وكان المرء يظنُّ أن الأمر يُفترَض أن يكون أصعبَ من ذلك.
مقالٌ نقدي لإيه دبليو مور عن كتاب «العقلانية الواقعية» لمؤلِّفه جيرولد جيه جاتس، في الملحق الأدبي لجريدة التايمز، بتاريخ ١١ سبتمبر ١٩٩٨.

يمكن الردُّ على هذا الجدل بطرقٍ عدَّة، ومن غير المحتمل أن يأخذه أحدٌ على محمَل الجِد، بمَن فيهم الناقد. ومع ذلك، يُوجَد بالتأكيد فلاسفةٌ يأخذون مسألةَ وجودِ الأعداد من عدمه بجِدِّية، وهو ما يُميِّزهم عن علماء الرياضيات، الذين يجدون مسألةَ وجود الأعداد بديهيةً وواضحة، أو لا يفهمون كُنه المسألةَ المطروحة. يهدف هذا الفصلُ بصفةٍ أساسية إلى شرح الأسباب التي على أساسها يمكن لعلماءِ الرياضيات (بل ويتعيَّن عليهم) تَجاهلُ هذه المسألة التي تبدو في ظاهرها أساسيَّة.

يتجلَّى سخفُ الجدل «البسيط إلى حدِّ السذاجة» بشأنِ وجود الأعداد إذا نظر المرءُ في جدلٍ مُماثل بشأن لُعبة الشِّطْرَنْج. لنفترض أن المَلك الأسود في الشِّطرَنج يُسمَح له أحيانًا بالتحرُّك في اتجاهٍ قُطري مسافةَ مربعٍ واحد، فإنه يترتبُ على ذلك وجودُ قِطَع من الشِّطرنج يُسمح لها أحيانًا بالتحرك في اتجاهٍ قُطريٍّ مُربعًا واحدًا، وهذا يستتبع بدوره وجودَ قِطَع الشطرنج من الأساس. وبالطبع، لا أعني بذلك أن أُشير ببساطةٍ إلى أن الناس أحيانًا يَبْنون ألواحَ الشطرنج — ففي النهاية، يمكن لعبُ الشطرنج من دون هذه الألواح — ولكن ما أعنيه هو النتيجة الفلسفية الأكثر «إذهالًا»؛ بأنَّ قِطَع الشطرنج تُوجَد بشكلٍ مُستقلٍّ عن مَظاهرها المادية.

ما الذي يَعنيه الملكُ الأسود في لُعبة الشطرنج؟ هذا سؤالٌ غريب، ويبدو أن أحسنَ طريقة للتعامل معه هي تنحيتُه جانبًا قليلًا. فماذا عساه أن يفعل المرءُ أكثرَ من الإشارة إلى لوح الشِّطرنج وشرحِ قواعد اللُّعبة، ربما مع إيلائه اهتمامًا خاصًّا لدور الملك الأسودِ في أثناء ذلك؟ ما يُهم في الملك الأسود ليس وجوده ولا طبيعته الذاتية، ولكن الوظيفة التي يُؤدِّيها في اللُّعبة.

الطريقة المجرَّدة في الرياضيات، كما تُسمَّى أحيانًا، هي النتائج المترتِّبة على اتخاذ المرءِ موقفًا مُماثلًا تجاهَ الكائنات الرياضية. يمكن تلخيصُ هذا الموقف في الشِّعار الآتي: يَكمُن معنى الكائن الرياضي في وظيفته. كثيرًا ما ظهرَت شِعاراتٌ مُشابهةٌ في فلسفةِ اللغة، وهي شِعاراتٌ يمكن أن تكون مثيرةً للجدل على نحوٍ كبير. وفيما يلي مِثالان على ذلك: «في اللغة لا يُوجَد سِوى الفروقِ والاختلافات»، و«يكمن معنى الكلمةِ في استعمالها في اللُّغة»، ويرجع هذان المثالان إلى سوسور وفيتجنشتاين على الترتيب (راجع جزء «قراءات إضافية»)، ويمكن للمرء أن يُضيف الرأيَ الذي اجتمَع عليه أنصارُ الوضعية المنطقية، وهو أنَّ: «معنى أيِّ تصريح يكمُن في طريقة التحقُّق من صحته». فإذا وجدتَ أن تصريحي غيرُ مُستساغ لأسبابٍ فلسفيَّة، فعليك عندَئذٍ أن تُفكِّر فيه من منظورِ أنه موقفٌ يمكن للمرء تبنِّيه أحيانًا، وذلك بدلًا من اعتباره حُكمًا أو تصريحًا مُطلقًا يفتقر إلى وجود بيِّنة أو دليل. وفي الواقع، من الضروري للمرء أن يتمكَّن من تبنِّي هذا الموقف من أجل أن يتوصَّل إلى فَهمٍ صحيح للرياضيات المتقدِّمة، وهذا ما آمُل أن أوضِّحه هنا.

(٢) الشِّطرنج بدون قطع فعلية

من المُمتع أن نرى الشِّطرنج — وإن كنتُ لا أستند إليه في مناقشتي — أو أي لُعبة مشابهة، وهو يُنَمْذَج باستخدام الرسوم. (عرَّفنا الرسوم في نهاية الفصل السابق.) تُمثل رءوسُ الرسم الأوضاعَ الممكِنة في اللُّعبة. ويُوصَّل الرأسان و بضِلع واحد إذا أدَّى الشخص في الموضع في دوره نقلةً قانونية انتقَل على أساسها إلى الموضع . وبما أنه ربما لا يمكن الرجوعُ من إلى و مرة أخرى، فلا بد من وضع أسهُم على الأضلاع توضِّح اتجاهها. هناك رءوس معيَّنة تُعتبر فوزًا للَّاعب الأبيض، ورءوس أخرى تعتبر فوزًا للَّاعب الأسود. تبدأ المباراة عند رأسٍ معيَّن يُمثِّل وضعَ البداية في اللُّعبة. ثم يتبادل كلُّ لاعبٍ الدورَ ليتحرك مُتقدمًا على طول الأضلاع. فيحاول اللاعبُ الأول الوصولَ إلى إحدى الرءوس البيضاء الرابحة، ويحاول الثاني الوصولَ إلى إحدى الرءوس السوداء الرابحة. يوضح الشكلُ ٢-١ نموذجًا أبسطَ بكثيرٍ لمباراة الشطرنج هذه (من الواضح في هذه المباراة أن اللاعب الأبيض لدَيه استراتيجيةٌ رابحة).
fig6
شكل ٢-١: بداية المباراة عند اللاعب الأبيض، ولدَيه استراتيجية رابحة

هذا النموذج المرسوم لِلُعبة الشطرنج، وإن كان غيرَ عمَلي بالمرة؛ لوجود عددٍ كبير جدًّا من مواضع الشطرنج الممكِنة، فإنه مِثاليٌّ من منظورِ أن المباراة الناتجةَ تُكافئ تمامًا مباراةَ الشطرنج الحقيقية. ومع ذلك، فإنني عندما عرَّفتُه لم أذكر قِطعَ الشطرنج أبدًا. ومن هذا المنطلق، يبدو من غير العاديِّ تمامًا أن نسأل عن وجود الملكِ الأسوَد؛ لوح الشطرنج وقِطَعُه ما هي إلا مبادئُ مُنظِّمة ملائمة، تُساعدنا على التفكير في النسَق المذهل للرءوس والأضلاع في الرسوم الكبيرة. إذا قُلنا شيئًا مثل «الملك الأسود معرَّض للتهديد» فإن ذلك يعني اختصارًا لجملةٍ تُعيِّن قائمةً طويلة للغاية من الرءوس، وتُخبرنا أن اللاعبَيْن قد وصلا إلى أحَدِها.

(٣) الأعداد الطبيعية

إنَّ مصطلح «الطبيعية» هو اسم أعطاه علماءُ الرياضيات للأعداد المألوفة . وهي من أهم الكائنات الأساسية في الرياضيات، لكن يبدو أنها لا تُشجِّعنا على التفكير بطريقةٍ مجردة. فماذا عساها أن تكون وظيفةُ عددٍ مثلِ العدد بعد كل ذلك؟ إنه لا يتحرك في حيزٍ مثل قطعة الشطرنج. بل يبدو بدلًا من ذلك أنَّ له طبيعةً ذاتية، نوع من الخَمْسية الخالصة التي نستوعبها على الفور عندما ننظر إلى صورةٍ كالمعروضة في شكل ٢-٢.
fig7
شكل ٢-٢: مفهوم الخَمْسية
fig8
شكل ٢-٣: طرقُ تمثيل الأعداد و و (مرتَيْن)
ومع ذلك، فإنَّ هذه الطبيعة الخالصة تتراجعُ قليلًا عندما نتناول أعدادًا أكبر. يُقدِّم لنا شكل ٢-٣ تمثيلاتٍ للأعداد و و . ربما يستوعب بعض الأشخاص على الفور مفهوم السَّبْعية من الصورة الأولى، لكن في عقول معظم الأشخاص ستكون هناك فكرةٌ خاطفة مثل: «النقاط الخارجية تُكوِّن سداسيَّ أضلاع؛ ومِن ثمَّ عندما نجمع ذلك مع النقطة المركزية، فإننا نحصل على ». وبالمثل، من المرَّجح أن نُفكِّر في العدد على أنه أو . أما بالنسبة إلى العدد ، فلا يُوجَد شيء مميَّز على نحوٍ خاص في مجموعةِ ذلك العدد من الكائنات، على عكس العدد مثلًا. إذا رُتِّبَت النِّقاطُ في نمطٍ ما، مثل شبكة مع حذف نقطتَين، فيمكننا بمعلوميَّةِ أنَّ أن نتوصل سريعًا إلى عدد النقاط الموجودة. وإلا، فلن يكون أمامنا سِوى أن نَعُدَّها، بأن نُفكِّر في العدد هذه المرةَ بأنه العددُ الذي يأتي بعد ، الذي هو نفسُه العدد الذي يأتي بعد وهكذا.

بعبارةٍ أخرى، لا يُشترَط أن تكون الأعداد كبيرةً للغاية للتوقُّف عن التفكير فيها ككائناتٍ معزولة، والبدء في فَهمِها من خلالِ خصائصها، ومن خلال علاقتها بالأعداد الأخرى، ومن خلال دَورها في نظام الأعداد. هذا ما قصَدتُ إليه عند حديثي عن «وظيفة» العدد.

أصبح واضحًا الآن أن مفهوم العدد يرتبطُ جوهريًّا بالعمليات الحسابية للجمعِ والضرب. مثلًا: بدون بعض مفاهيم الحساب لا يسَعُ المرءَ أن يستوعِبَ بوضوحٍ معنى عددٍ مثل . نظام الأعداد ليس مجردَ مجموعةٍ من الأعداد، بل مجموعة من الأعداد مع وجود قوانينَ تُحدد كيفيةَ إجراء العمليات الحسابية عليها. ثَمة طريقة أخرى لتلخيص الأسلوب المجرَّد؛ فكِّر في القواعد بدلًا من الأعداد نفسِها. وبِناءً على وجهة النظر هذه، الأعداد رموزٌ في نوعٍ من الألعاب (أو ربما يجب أن نُسمِّيَها عدَّادات).
لتكوينِ فكرة عن ماهيَّة هذه القواعد، دعونا نتناوَلْ مسألةً حِسابية بسيطة: كيف يتأكَّد المرء من أن ؟ ربما يلجأُ معظم الأشخاص إلى التحقُّق من ذلك باستخدام الآلة الحاسبة، ولكن إذا لم يكن ذلك ممكنًا لسببٍ ما، فربما يُفكِّرون على النحو التالي:
ولكن، لماذا تبدو هذه الخُطوات صحيحةً للعِيان؟ على سبيل المثال، لماذا يُدرك المرء على الفور أن ؟ تعريف العدد أنه حاصلُ ضربِ وتعريفُ العدد أنه حاصل ضرب ، وعليه يُمكننا القول بثقةٍ تامة إن . ولكن لماذا العدد هذا؟

بطبيعة الحال، لن يَعبأَ أحدٌ بطرح هذا السؤال، لكن في حالِ طَرْحِه، يمكننا الإجابةُ بأن:

سنجد أننا نستخدِم حقيقتَين معروفتَين عن الضرب دون التفكير حقًّا فيه، وهما أن: حاصلَ ضربِ أيِّ عددَين لا يتغيَّر، بل يبقى نفسه مَهما تغيَّر ترتيبُ العددَين. وحاصل ضرب أكثرَ من عددَين لا يتغيَّر مهما كانت صورةُ تجميع الأعداد باستخدام الأقواس؛ إذ لا يُشكِّل ذلك فارقًا. على سبيل المثال، و . لاحظ أن الحسابات البينيَّة في المثال الثاني من هذَين المثالَين تتأثَّر بالتأكيد بالأقواس، لكننا نعلم أن الناتج النهائيَّ سيظلُّ كما هو.

يُسمَّى هذان القانونان بقانون الإبدال وقانون التجميع في عملية الضرب. دعوني أسرُدْ لكم بعضَ القواعد، بما فيها هذان القانونان، التي نستخدمها عادةً عند الجمع والضرب.

  • قانون الإبدال للجمع: لأيِّ عددَين و .
  • قانون التجميع (الدمج) للجمع: لأي ثلاثةِ أعداد و و .
  • قانون الإبدال للضرب: لأي عددَين و .
  • قانون التجميع (الدمج) للضرب: لأي ثلاثة أعداد و و .
  • قانون المحايد الضربي: هو المحايد الضربي: لأي عدد .
  • قانون التوزيع على الجمع: لأي ثلاثة أعداد و و .
سرَدتُ هذه القوانينَ للتنبيهِ على الدَّور الذي تلعبه في تفكيرنا، لا للإقناع بأنها مهمةٌ في ذاتِها، حتى عن الجُمَل الرياضية البسيطة تمامًا. اقتناعنا بأن يستند على الأرجح إلى صورةٍ مثلِ هذه.

•••

ومن ناحية أخرى، فإن طريقة الفَهم المباشرةَ غيرُ واردة على الإطلاق إذا كنا نريد إثبات أن ، ولذا فإننا نُفكر في هذه الحقيقة الأكثرِ تعقيدًا بطريقةٍ مختلفة تمامًا، باستخدام قوانين الإبدال والتجميع (الدمج) والتوزيع. وإذا طبَّقنا هذه القوانين، فإننا نُصدِّق الناتج. بل الأكثرُ من ذلك أننا نُصدِّقه حتى إذا لم يكن لدَينا فَهمٌ مرئيٌّ لما يمكن أن يبدوَ عليه عددُ من الكائنات.

(٤) الصفر

تاريخيًّا، تطوَّرَت فكرةُ العدد صفر في وقتٍ لاحِق من تطوُّرِ فكرة الأعداد الموجبة. وبدا هذا غامضًا ومتناقضًا لكثيرٍ من الناس، حيث أثار الأمر أسئلةً من قَبيل: «كيف يُمكن لشيءٍ أن يكون موجودًا وهو مع ذلك لا شيء؟» ولكن من وجهةِ النظر المجرَّدة، فإنَّ للصفر معنىً مباشرًا للغاية؛ وهو أنه مجردُ رمزٍ جديد دخَل في نظامنا العدديِّ وله الخاصيةُ المميزة التالية.

  • قانون المحايِد الجَمْعي: الصفر هو المحايد الجمعي: لأي عدد .

وهذا هو كل ما تحتاج إلى معرفته عن الصفر. ليس ما يَعنيه الصفر في ذاته، ولكن مجرد قانون صغير يُخبرك بوظيفته.

ماذا عن الخصائص الأخرى للعدد صفر، مثل حقيقة أن حاصلَ ضرب الصفر في أيِّ عددٍ يكون صفرًا؟ أنا لم أذكر هذا القانونَ في القائمة أعلاه؛ لأنه يمكن استنتاجُه من قانون المحايِد الجمعي والقوانين السابقة. فيما يلي، على سبيل المثال، طريقةُ إثبات أن ، حيث هو حاصل جمع . يخبرنا قانون الإبدال للضرب أن . ثم يخبرنا قانون التوزيع أن . ولكن طبقًا لقانون المحايد الضربي، ومِن ثمَّ فإن هذا يساوي . يقتضي قانون المحايد الجمعي أن ، وإلى هنا ينتهي البرهان.
ربما لو طرحنا برهانًا غير مجرد بديلًا سيكون شيئًا على هذا النحو: «يعني جمع اثنين من لا شيء، وإذا فعلت ذلك فإن الناتج هو لا شيء، أي صفر». لكن طريقة التفكير هذه تجعل من الصعب الإجابةَ عن أسئلةٍ مثل السؤال الذي طرَحَه ابني جون (عندما كان في السادسة من عمره): كيف يكون لا شيء، مضروبًا في لا شيء يؤدِّي إلى لا شيء؛ لأن ذلك يعني أنك لا تملك أيَّ شيء؟ الإجابة الصحيحة، ولو أنها لم تكن مناسبةً في ذلك الوقت، هي التي يُمكن استنتاجها من القوانين كالآتي. (كتبتُ القانون الذي استخدمتُه بعد كل خطوة.)
  • (المحايد الضربي)
  • (المحايد الجمعي)
  • (قانون التوزيع على الجمع)
  • (المحايد الضربي)
  • (قانون الإبدال للجمع)
  • (المحايد الجَمْعي)

لماذا أُعطي هذا البرهانَ المستفيض لإثبات حقائقَ أوليةٍ للغاية؟ مرةً أخرى، ليس لأنني أجدُ البراهين ممتعةً رياضيًّا، ولكن لأنني أرغبُ في بيانِ ما يَعنيه تعليلُ الجُمَل الحسابية وتسويغُها بطريقةٍ مجرَّدة (باستخدام بعض القواعد البسيطة، دون أن نُجهِد أنفسنا بماهيَّة الأعداد فعليًّا) بدلًا من التفسير المادي الملموس (بالتفكر فيما تَعنيه الجُمَل). ومن المفيد جدًّا — بالطبع — أن نَربط المعانيَ والصور الذهنية بالكائنات الرياضية، لكن، كما سنرى كثيرًا في هذا الكتاب، غالبًا ما يكون هذا الربطُ غيرَ كافٍ لإخبارنا بما علينا فِعلُه في السياقات الجديدة غيرِ المألوفة. ولهذا، تصبح الطريقة المجردة لا غِنَى عنها.

(٥) الأعداد السالبة والكسور

كما يعرف أيُّ شخص لدَيه خبرة في تدريس الرياضيات للأطفال، يُوجَد شيءٌ غيرُ مباشر فيما يخصُّ عمليَّتَي الطرح والقِسمة يجعلهما أصعبَ فهمًا من عمليتَي الجمع والضرب. يمكن بالطبع استخدامُ مفهوم الحذف لشرح عملية الطرح، وذلك بطرح أسئلة مثل: «إذا كان لدَينا خمس برتقالاتٍ، وأكلنا اثنتَين، فما عدد البرتقالات المتبقية؟» ومع ذلك، هذه ليست دائمًا الطريقةَ المُثلى للتفكير في الأمر. على سبيل المثال، إذا طُلِب منا طرح من ، فمن الأفضل عندَئذٍ ألا نُفكر في طرح من ، ولكن فيما ينبغي أن نُضيفه إلى للحصول على . ومن ثمَّ، فما نفعله عمليًّا هو حلُّ المعادلة ، على الرغم من أنه من غير المعتاد بالطبع أن يَخطر الحرف على أذهاننا خلال إجراءِ هذه العملية الحسابية. وبالمثل، تُوجَد طريقتان للتفكير في عملية القسمة. لشرحِ معنى مقسومًا على ، يمكنك إما أن تسأل: «إذا قسَّمتَ عنصرًا إلى مجموعاتٍ مُتساوية، فكم عنصرًا سيُوجَد في كل مجموعة؟» أو تسأل: «إذا قسَّمت عنصرًا إلى مجموعاتٍ من ، فكم سيكون عددُ المجموعات»؟ النهج الثاني يُكافئ السؤالَ «10 مضروبًا في كم يساوي ؟» وهو ما يُكافئ بدوره حلَّ المعادلة .
من الصعوبات الأخرى في شرح عمليَّتَي الطرحِ والقسمة للأطفال أنهما لا يتحقَّقان دائمًا. على سبيل المثال، لا يمكنك أن تأخذ عشْرَ برتقالاتٍ من طبقٍ به سبعٌ، كما أنه لا يمكن لثلاثة أطفال أن يتَقاسَموا إحدى عَشْرة كرةً زجاجية صغيرة بالتساوي بينهم. ومع ذلك، لم يمنع ذلك الكِبارَ من طرح من أو قسمةِ على ، حيث يحصلون على الناتج والناتج على الترتيب. وهذا بدوره يطرح السؤال: هل العددان و موجودان فعلًا؟ وإذا كانا موجودَين، فما هما؟
من وجهة النظر المجردة يمكن التعاملُ مع هذه الأسئلة مثلما فعَلنا مع العدد صفر؛ بأن ننسى أمْرَها. كلُّ ما علينا معرفتُه عن أننا عندما نُضيف إليه فإننا نحصل على صفر، وكلُّ ما علينا معرفتُه عن أننا عندما نضربُه في فإننا نحصل على . هذه هي القواعد، وجنبًا إلى جنبٍ مع القواعد السابقة، فإنها تسمح لنا بإجراءِ عملياتٍ حسابية في نظام أعدادٍ أكبر. لماذا ينبغي لنا توسيعُ نظام الأعداد على هذا النحو؟ لأنه يُعطينا نموذجًا يمكن فيه حلُّ معادلات مثل و ، أيًّا كانت قيمة وقيمة ، بشرطِ ألا تُساويَ صفرًا في السؤال الثاني. بعبارة أخرى، إنها تُعطينا نموذجًا تتحقَّق فيه دائمًا عمليَّتَا الطرح والقسمة، ما دُمنا لا نحاول القسمةَ على صفر. (سنُناقش مسألةَ القسمة على صفرٍ لاحقًا في هذا الفصل.)

في الواقع، نحتاج إلى قانونَين آخَرين لتوسيع نظام الأعداد على هذا النحو: أحدهما لإدخال الأعداد السالبة، والآخَر لإدخال الكسور، أو الأعداد النسبية، كما هي معروفةٌ عادةً.

  • المعكوس الجمعي: لأي عدد يُوجَد عدد بحيث يصبح .
  • المعكوس الضربي: لأي عدد باستثناء صفر يُوجَد عدد بحيث يصبح .
في ضوء هذين القانونَين، يمكننا التفكير في و كترميز للعددَين في قانون المعاكس الجَمْعي و في قانون المعاكس الضربي على الترتيب. وفيما يخصُّ تعبيرًا أكثرَ تعميمًا مثل ، فإنه يرمز إلى مضروبًا في .

يقتضي قانونا المعكوس الجمعي والمعكوس الضربي قانونَين آخرَين، يُعرَفان بقوانين الحذف.

  • قانون الحذف للجمع: إذا كانت و و أيَّ ثلاثةِ أعداد و ، فإن .
  • قانون الحذف للضرب: إذا كانت و و أيَّ ثلاثة أعداد و ليس صفرًا و ، فإن .
أُثبِتَ القانونُ الأول بإضافة إلى كِلا الطرفين، والقانونُ الثاني بضرب كلٍّ من الطرفَين في ، كما توقعنا تمامًا. يلاحظ اختلاف الوضع في قانونَي الحذف للجمع والحذفِ للضرب عن القوانين المذكورة سابقًا — إنهما نتيجتان تمخَّضَتا عن القوانين السابقة، أكثرَ منهما قانونَين قُدِّما ببساطةٍ للحصول على لعبةٍ جيدة.
إذا أردنا إضافةَ كسرَين، مثل و ، فإن الطريقة المعتادة أن نضعَ لهما مَقامًا مشتركًا، على النحو التالي:

يمكن التحقُّق من هذه الطريقة، وغيرِها، باستخدام القوانين الجديدة التي ذكَرناها أعلاه. على سبيل المثال،

وكذلك

ومِن ثمَّ، فإنه باستخدام قانونِ الحذف للضرب، يكون و متساويَين، كما افترضنا في العملية الحسابية.
وبالمثل، يمكننا التحققُ من الحقائق الشائعة حول الأعدادِ السالبة. وسوف أترك للقارئ أن يستنتجَ من القوانين أن ، وهو استنتاج مُشابه تمامًا للبرهان الذي يُثبت أن .

لماذا يبدو لكثيرٍ من الناس أن الأعداد السالبة أقلُّ واقعيةً من الأعداد الموجبة؟ ربما لأن عدَّ مجموعاتٍ صغيرة من الأشياء يعدُّ نشاطًا أساسيًّا بين الناس، وعند عملِه لا يتطلَّب الأمرُ استخدام الأعداد السالبة. لكن، هذا كلُّه يعني أن نظام الأعداد الطبيعية، باعتباره نموذجًا، يكون مفيدًا في حالاتٍ مُعيَّنة، ولكن النظام الموسَّع للأعداد ليس كذلك. فإذا أردنا أن نُفكِّر في درجات الحرارة أو التواريخ أو الحسابات البنكية، فإن الأعداد السالبة تُصبح مفيدة فعلًا. وما دام النظام العدديُّ الموسَّع متَّسقًا منطقيًّا، فلا يوجد ضررٌ من استعماله نموذجًا.

ربما يبدو غريبًا أن نُسمِّيَ نظام الأعداد الطبيعية نموذجًا. ألسْنا نُجري عمليةَ عَدٍّ فِعليًّا، دون أيِّ تمثيل بعينه؟ نحن فعلًا نفعل ذلك، لكن هذا الإجراء ليس دائمًا مناسبًا أو حتى مُمكنًا. فليس هناك خطأٌ في العدد من وجهة النظر الرياضية، ولكن إذا لم نستطع عَدَّ الأصواتِ في فلوريدا فإنه من غير المتصوَّر أن نتأكد في أيِّ وقتٍ أنَّ لدَينا تجمُّعًا من عنصرًا. وإذا أخذتَ كومتَين من أوراق الشجر، وجمَعتَهما مع كومةٍ ثالثة، فإن الناتج لا يكون ثلاثَ كوماتٍ من الأوراق، ولكن كومة كبيرة واحدة. وإذا راقبتَ عاصفةً ممطرة، فإن الإجابة الصحيحة عن السؤال كما قال فيتجنشتاين: «كم قَطْرةَ مطرٍ رأيت؟» ستكون: «كثيرًا»، وليس أنَّ هناك عددًا يُحصيها لكنك لا تعرفه.

(٦) الأعداد الحقيقية والمركبة

يتكوَّن نظام الأعداد الحقيقية من جميع الأعداد التي يمكن تمثيلُها بكسورٍ عشريةٍ غيرِ منتهية. هذا المفهوم أكثرُ تعقيدًا مما يبدو؛ لأسبابٍ ستُشرَح في الفصل الرابع. أما الآن، فدعني أقُلْ لك إن سبب توسيع نظام الأعداد من الأعداد النسبية إلى الأعداد الحقيقية مماثلٌ لسببِ تقديمنا للأعداد السالبة والكسور؛ إنها تُمكِّننا من حلِّ مُعادلاتٍ لا يمكن حلُّها بدونها.

وأكثرُ الأمثلة شهرةً على ذلك هي المعادلة . في القرن السادس قبل الميلاد اكتشفَت مدرسةُ فيثاغورس أن عدد غير نِسبي، وهذا يعني أننا لا نستطيع تمثيلَه بكسر. (سنستعرض برهانًا يُثبت ذلك في الفصل التالي). وقد تَسبَّب هذا الاكتشافُ في كثيرٍ من الاستياء عند طرحه، لكننا الآن نتَّفق على ضرورة توسيع نظام الأعداد إذا أرَدْنا نَمْذَجةَ أشياء مثل طول قُطر المربَّع. ومرةً أخرى، فإن الطريقة المجردة تجعل مُهمَّتنا سهلةً جدًّا. نتناول هنا رمزًا جديدًا وهو ، ولدَينا قاعدةٌ واحدة تُخبرنا ماذا نفعل به: إنَّ تربيعَه يساوي
إذا تدرَّبت بما يكفي، فإنك ستعترض على ما قُلته توًّا، على أساس أن القاعدة لا تُفرِّق بين و . إحدى الطرق للتعامُل مع هذه المسألة هي أن نتناول مفهومًا جديدًا في نظام الأعداد، وهو الترتيب. من المفيد غالبًا أن نتحدَّث عن عددٍ بأنه أكبرُ من عددٍ آخَر، وإذا سمَحْنا لأنفسنا بهذا فإنه يُمكننا تمييزُ بخاصية إضافية وهي أنَّ أكبر من صفر. ولكن حتى بدون هذه الخاصية، فإنه يُمكننا إجراءُ عملياتٍ حسابية مثل:
وبالفعل توجد مَيزةٌ في عدم التمييز بين و ، وهي أننا نعلم أن العمليةَ الحسابية السابقة تتحقَّق لكِلا العددَين.
وتاريخيًّا، تركَ الشكُّ في الطريقة المجرَّدة آثارَه في الكلمات التي تصف الأعدادَ الجديدة التي نتَجَت في كل مرة وُسِّع فيها نظامُ الأعداد، مثل كلمتَي «سالب» و«غير نِسبي». لكن توجد كلماتٌ أصعبُ فهمًا بكثير منها مثل «الأعداد التخيُّلية» أو «الأعداد المركَّبة»، أي الأعداد التي على الصورة ، حيث و أعدادٌ حقيقية، و هو الجذر التربيعي للعدد .
ومن وجهة نظر مادية، يمكننا سريعًا أن نُنحي الجذر التربيعيَّ للعدد جانبًا؛ بما أن مربع أيِّ عددٍ يكون موجبًا، فإن ليس له جذرٌ تربيعي، وهذا كلُّ ما في الأمر. ولكن، لا معنى لهذا الاعتراض إذا تبَنَّينا وجهة النظر المجرَّدة. لماذا لا نستمرُّ ببساطةٍ في توسيع نظامنا العدديِّ بتقديم حلٍّ للمعادلة ، ونُسمِّي الحلَّ ؟ لماذا يُفترض أن يُثير هذا الأمرُ اعتراضًا أكبرَ عمَّا حدث عندما طرَحْنا ؟
ربما تكون إحدى الإجابات المتداولة أنَّ له مفكوكٌ عَشري (من حيث المبدأ)، يمكن حسابُه إلى أيِّ درجةٍ منشودة من الدقة، في حين لا يُوجَد ما يُكافئ هذا القولَ بالنسبة إلى العدد . ولكن جميع هذه الأقوال نعرفها مُقدمًا، أعني أن عددٌ غيرُ حقيقي، تمامًا كما أن عددٌ غيرُ نِسبى. ولا يعوقنا ذلك عن توسيع نظامنا العددي إلى نظامٍ يُتيح لنا إجراءَ عملياتٍ حسابية مثل:
الفرق الأساسي بين و هو أننا في حالة مُضطرُّون أن نفكِّر بطريقةٍ مجردة، أمَّا في حالة فهناك دائمًا مجالٌ للاختيار بين تمثيلٍ مادِّي مثل أو طول قُطر مربع الوحدة. ولكي تعرف السبب في أن ليس له تمثيلٌ كهذا، اطرح على نفسِك هذا السؤال: أيٌّ من الجذرَين التربيعيَّين ﺑ هو وأيُّهما ؟ هذا السؤال ليس له معنًى؛ لأن الخاصية الوحيدةَ للعدد هي أن مربَّعه . وبما أن له الخاصيةُ نفسُها، فإن أيَّ جملة صحيحة عن ستظلُّ صحيحةً إذا استبدلنا بها الجملةَ المُناظِرة عن . من الصعب إذا استوعبنا هذا أن نُولِيَ أيَّ اعتبار لِوجهة النظر التي ترى أن ربما ترمز لشيءٍ أفلاطوني ذي وجودٍ مُستقل.

يتوازى ذلك مع مسألةٍ فلسفية شهيرة. هل يمكن أن يكون إحساسُك عند ملاحظتك اللونَ الأحمر هو ما أتصوَّرُه أنا عند ملاحظتي اللونَ الأخضر، والعكس صحيح؟ بعضُ الفلاسفة يتعاملون مع هذا السؤال على نحوٍ جِدِّي ويُعرِّفون «الكيفيات المحسوسة» بأنها خِبراتنا الذاتية المطلقة عندما نرى الألوان على سبيل المثال. بينما لا يعتقد الفلاسفةُ الآخَرون في الكيفيات المادية المحسوسة. ذلك أنهم يرَون أن كلمةً مِثل «أخضر» تُعرَّف بطريقةٍ أكثر تجريدًا بدَورها في نظامٍ لُغويٍّ ما؛ أي بعلاقاتها بمفاهيمَ مثل «عُشب»، «أحمر»، وهكذا. ومن غير الوارد استنتاج موقفِ شخصٍ ما من هذا المقال من طريقةِ كلامه عن اللون، باستثناء خلال المناقشات الفلسفيَّة. وبالمثل، فإن كلَّ ما يهمُّ عَمليًّا فيما يخصُّ الأعدادَ وغيرها من الكائنات الرياضية هو القوانين التي تتبعُها.

إذا قدَّمنا للتوصُّل إلى حلٍّ للمعادلة ، فماذا عن معادلاتٍ أخرى مماثلةٍ مثل ، أو ؟ من الجدير بالذكر أن كلَّ معادلةٍ من هاتَين المعادلتَين يمكن حلُّها في نظام الأعداد المركَّبة. بعبارةٍ أخرى، كان قَبول العدد بمثابة استثمارٍ صغير، ولكننا دفَعْنا مقابلَ ذلك مراتٍ عديدة. تُعرَف هذه الحقيقة، التي لها تاريخٌ معقَّد لكنها تُنسَب عادةً إلى جاوس، باسم النظرية الأساسية في الجبر وهي تُمِدُّنا بدليلٍ مُقنِع تمامًا بوجود شيءٍ طبيعي حول العدد . ربما لا يمكن تخيُّلُ سلةٍ مليئة بعدد من التفاح، أو رحلةٍ بالسيارة تستغرق عدد من الساعات، أو حسابٍ بنكي نسحبُ منه مبلغ من الجنيهات. لكن نظام الأعداد المركبة أصبح لا غِنى عنه للرياضيِّين والعلماء والمهندسين — نظرية ميكانيكا الكَمِّ، مثلًا، تعتمد إلى حدٍّ كبير على الأعداد المركَّبة. وهي تُمدُّنا بواحدٍ من أحسَن التوضيحات للمبدأ العامِّ القائل بأنه: إذا كان تكوينٌ رياضي مجردٌ طبيعيًّا بدرجةٍ كافية، فمن المؤكَّد غالبًا أن يُستخدَم نموذجًا.

(٧) لمحةٌ مبدئية عن المالانهاية

بمجرد أن يتعلَّم المرءُ التفكيرَ بطريقةٍ مجردة، فإنه يكون مُبتهجًا، وهي بهجةٌ تُشبه إلى حدٍّ ما بهجتَه عندما يتمكَّن فجأةً من ركوب الدراجة دون القلق بشأن الحفاظِ على توازُنِه. ولكني لا أريد إعطاءَ انطباعٍ بأن الطريقة المجردة شأنها شأن ترخيصٍ لطباعة النقود. من المهمِّ مُضاهاة تقديم العدد في نظام الأعداد بما حدَث عند محاولة تقديم العدد ما لا نهاية. في البداية، يبدو أنه ليس هناك ما يوقفنا؛ فمن المفترض أن ما لا نهاية تَعني شيئًا مثلَ قِسمة على صفر، فلِمَ لا يكون رمزًا مجردًا ونعتبره حلًّا للمعادلة ؟
تظهر مشكلةُ هذه الفكرة بمجردِ محاولة إجراءِ عمليةٍ حسابيةٍ ما. فيما يلي، على سبيل المثال، نتيجةٌ بسيطة لقانون التجميع (الدمج) للضرب، وحقيقة أن .
يوضح هذا أنَّ وجود حلٍّ للمعادلة يؤدِّي إلى عدمِ اتِّساق. هل هذا يعني أن المالانهاية غيرُ موجودة؟ لا، هذا يعني ببساطة أنه لا تُوجَد فكرةٌ طبيعية عن المالانهاية تتَّسق مع قوانين الحساب. ومن المفيد أحيانًا توسيعُ نظام الأعداد بحيث يشمل رمزَ ، مع قَبول أنه في النظام الموسَّع للأعداد قد لا تتحقَّق هذه القوانينُ دائمًا. ومع ذلك، عادةً ما نُفضِّل الحفاظَ على القوانين، ونستخدِمها دون المالانهاية.

(٨) رفع الأعداد لقُوًى سالبةٍ وكسريَّة

من أعظم فوائد الطريقة المجردة أنها تسمح لنا بإسباغ معنًى على المفاهيم المألوفة في المواقف غير المألوفة. ومن المناسِب هنا اختيارُ عبارة «إسباغ معنًى» حيث إن هذا ما نفعله ببساطة، وليس اكتشاف معنًى موجودٍ من قبل. ومثالٌ بسيط على ذلك الطريقة التي نوسِّع بها مفهومَ رفعِ عددٍ إلى قوة.

إذا كان عددًا صحيحًا موجبًا، فإن يعني ناتجَ حاصل ضرب في نفسها بعددِ من المرات. على سبيل المثال، و . لكن مع هذا التعريف ليس من السهل تفسيرُ جملةٍ مثل ؛ لأنك لا تستطيع أن تأخذ وتضربَها معًا. فما الطريقةُ المجردة للتعامُل مع هذه المسألة؟ مرةً أخرى، ليس المطلوبُ النظرَ إلى المعنى الجوهريِّ — في حالةِ تعبيراتٍ مثل — وإنما المطلوب هو التفكير في القوانين.

وفيما يلي القانونان الأساسيَّان لرفعِ الأعداد إلى قُوًى:

  • القانون الأول: لأيِّ عدد حقيقي .
  • القانون الثاني: لأي عدد حقيقي وأيِّ زوجَين من الأعداد الطبيعية و .
على سبيل المثال، حيث تعني ، و تعني . وهما العدد نفسُه؛ لأن الضرب هنا تمَّ تبعًا لخاصية التجميع (الدمج).
من هذَين القانونَين، يُمكننا بسرعةٍ استعادةُ الحقائق التي نعرفها. على سبيل المثال، ، التي هي طبقًا للقانون الثاني نفسُها . وطبقًا للقانون الأول فهذه هي ، كما يفترض أن تكون. لكننا الآن في وضعٍ يُمكننا فيه عملُ أكثرَ من ذلك. دعْنا نكتب للعدد . إذن، ، وهو طبقًا للقانون الثاني يُساوي . بعبارةٍ أخرى . وهذا لا يُحدد تمامًا، بما أن العدد له جذران تربيعيَّان، فمن المعتاد تَبنِّي النهج التالي.
  • القانون الثالث: إذا كان و عددٌ حقيقي، فإن عدد موجب.
باستخدام القانون الثالث كذلك، نجد أن هو الجذرُ التربيعيُّ الموجَب للعدد .
ليس هذا اكتشافًا «للقيمة الحقيقية» للعدد . ومع ذلك، لا يُقدم أيٌّ منهما التفسيرَ الذي أعطيناه للتعبير اختياريًّا — بل إنه فقط الإمكانيةُ الوحيدة إذا أردنا الاحتفاظ بهذه القوانين الثلاثة. يتيح لنا برهانٌ مماثلٌ تفسيرَ مفهومِ ، على الأقل عندما لا تكون صفرًا. طبقًا للقانونَين الأول والثاني، نعلم أن . ومن ثمَّ، يقتضي قانونُ الحذف أن ، أيًّا كانت قيمة . أما فيما يتعلق بالقُوى السالبة، إذا عرَفنا قيمة ، فإن ، التي تستتبع أن . العدد ، على سبيل المثال، هو .
ثَمة مفهومٌ آخر يُصبح أبسطَ عندما ننظر إليه بالطريقة المجردة، وهو مفهوم اللوغاريتم. ليس لديَّ الكثيرُ لقولِه عن اللوغاريتمات في هذا الكتاب، لكن إذا كان الأمر يقع في دائرة اهتمامك، فربما يروق لك أن تعلم أن كلَّ ما تحتاج إليه لاستخدام اللوغاريتمات هو القواعد الثلاث الآتية. (إذا أردتَ اللوغاريتم للأساس بدلًا من ، فيمكنك استبدال بالعدد في القاعدة الأولى.)
  • القاعدة الأولى:
  • القاعدة الثانية: .
  • القاعدة الثالثة: إذا ، فإن .
على سبيل المثال، لنرَ أن أقلُّ من ، لاحِظْ أن ، طبقًا للقاعدتَين الأولى والثانية. ولكن ، طبقًا للقاعدة الثانية، و طبقًا للقاعدة الثالثة. وعليه، فإنَّ ؛ ولذا .

سوف أناقش عددًا من المفاهيم ذات الطبيعة المماثلة في جزءٍ لاحقٍ من الكتاب. تبدو هذه المفاهيمُ ضَربًا من الغموض إذا حاولتَ أن تفهمها فَهمًا ملموسًا، لكنها تفقد غُموضها إذا استرخيتَ، ولم تعبَأْ بماهيَّتِها، واستخدمتَ الطريقةَ المجردة في التفكير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤