الفصل الرابع

النهايات واللانهاية

في الفصل الأخير، حاولتُ الإشارة إلى إمكانيةِ صياغةِ مفهوم البرهان الرياضي بطريقةٍ منهجية تمامًا. إذا بدأ المرء من بعض المسلَّمات واتبع بعضَ القواعد وانتهى إلى جملةٍ رياضية مثيرة للاهتمام، فإن هذه الجملة سوف تُقبَل كنظرية، وبخلاف ذلك لن يُقبل. ترجع فكرة استنتاج المزيد والمزيد من النظريات المعقَّدة من بضع مُسلَّمات إلى إقليدس، الذي استخدم خمسَ مُسلَّمات فقط لإرساءِ موضوعات كبيرة في الهندسة. (سوف نناقش مُسلَّمات إقليدس في الفصل السادس.) وربما يتساءل المرءُ لماذا استغرَق الأمرُ حتى القرنِ العشرين لكي يُدرك الناسُ أن هذا النهج يمكن تعميمُه في الرياضيات ككلٍّ؟

السبب الرئيس يمكن تلخيصُه في كلمةٍ واحدة: «اللانهاية». بطريقةٍ أو بأخرى، فإن مفهوم اللانهاية لا غَناء عنه للرياضيَّات، وإن كان يُعَدُّ فكرةً صعبة للغاية لا يسهل تعريفُها بدقة. في هذا الفصل سأُناقش ثلاثَ جُمَل رياضية. يبدو كلٌّ منها بسيطًا في البداية، ولكن يتبيَّن بإمعانِ النظر أنها تتضمَّن مفهوم اللانهاية. وهذا من شأنه أن يُولِّد صعوباتٍ، ولذا سوف نتحدَّث في معظم هذا الفصل حول كيفية التعامل مع تلك الصعوبات.

(١) الجذر التربيعي للعدد يساوي تقريبًا

أين تكمُن فكرةُ اللانهاية في جملةٍ بسيطة كالواردةِ أعلاه، والتي تقول ببساطةٍ إن عددًا صغيرًا ما يُساوي تقريبيًّا عددًا آخَر؟ تتمثل الإجابة في العبارة «الجَذر التربيعي للعدد »، التي تفترض ضِمنًا أن العدد له جذرٌ تربيعي. إذا أردْنا أن نفهمَ الجملةَ فهمًا تامًّا، فإن هذه العبارة تضطرُّنا إلى أن نتساءل عن نوع الكائن الذي عليه الجذرُ التربيعيُّ للعدد . وهنا تكمن فكرةُ اللانهاية: الجذر التربيعي للعدد هو عدد عشري غيرُ مُنتهٍ.
كما يُلاحَظ أنه لا ذِكر للانهايةِ في الجملة التالية الوثيقة الصلة: العدد تربيعٌ يقترب من العدد . هذه الجملة هي مقدارٌ مُنتهٍ تمامًا، ومع ذلك يبدو أننا نقول الشيءَ نفسَه تقريبًا. وكما سترى لاحقًا، فهذا مُهم.
ماذا يعني القولُ بأنه يُوجَد كسرٌ عشري غير مُنتهٍ، يكون الناتج عند تربيعه هو ؟ لقد تعلَّمنا في المدرسة كيف نضرب الكسورَ العشرية المنتهية، لا غيرَ المنتهية، وبطريقةٍ ما يُفترَض أنه يمكن جمعُها وضربها. ولكن كيف يمكن ذلك؟ لمعرفة نوع الصعوبات التي يمكن أن تنشأ، دَعْنا نتناول الجمع أولًا. عندما نجمع كسرَين عشريَّين منتهِيَين مثل و ، فإننا نكتب أحدهما تحت الآخَر، ونجمع الأرقام المتناظرة بدءًا من جهة اليمين. نبدأ بجمع الرقمَين الأخيرَين و معًا. هذا يُعطينا ، ولذا نكتب ونحتفظ ﺑ . وبعد ذلك، نجمع الرقمَين قبل الأخيرَين، و ، والرقم المحتفَظ به ، فنحصل بذلك على . واستمرارًا على هذا المنوال، نصل إلى الناتج، وهو .
نفترض الآن أن لدَينا كسرَين عشرِيَّين غيرَ مُنتهيين. لا نستطيع أن نبدأ من اليمين لأن الكسر العشريَّ غيرَ المنتهي لا يُوجَد فيه رقم أخير. إذن كيف يُمكننا جمعُهما معًا؟ تُوجَد إجابةٌ واحدة بديهية. نبدأ من جهة اليسار. ولكن، ثَمة عائق في ذلك. إذا حاولنا هذا مع الكسرَين العشريَّين المنتهِيَين و ، على سبيل المثال، فإننا نبدأ بجمع و ، فنحصل على . وبعدها، ننتقل إلى يمين العلامة العشرية، فنجمع العددَين و ، لنحصلَ على ، وهو للأسف ناتجٌ غير صحيح.
هذا الخطأ مُثيرٌ للإزعاج، ولكنه ليس بكارثةٍ إذا احتفَظنا برباطةِ جأشِنا وأكمَلْنا. سنجمع بعد ذلك العددَين و ، ويُمكننا هنا أن نكتب على أنه الرقمُ الثالث في الناتج، ونُصحِّح الرقم الثاني بتغييره من إلى . تستمرُّ هذه العملية بكتابة على أنه العدد الرابع في الناتج، ويمكن تصحيحُه عندئذٍ إلى .
يُلاحَظ أن التصويبات ربما تحدث بعد وقتٍ طويل من كتابة الرقم. على سبيل المثال، إذا جمعنا العددَين و ، فإننا نبدأ عندئذٍ بكتابة ، ولكن يجب تصحيح هذه السلسلة من العدد عندما نصل إلى الخُطوة التالية، وهي جمعُ العددَين و . عندئذٍ، وعلى غِرار صفٍّ من أحجار الدومينو، تتحول التسعات إلى أصفارٍ عندما نحتفظ ﺑ مرةً بعد مرة. ورغم ذلك، تنجح هذه النتيجة وتُعطينا الناتجَ ، وهذا يُتيح لنا إسباغَ معنًى على فكرةِ جمع كسرَين عشريَّين غيرِ مُنتهيين. ومن السهل أن نرى أن أيَّ رقمٍ لن يتطلَّب التصحيحَ إلا مرةً واحدة فقط، ومن ثمَّ إذا كان لدَينا كسران عشريَّان غيرُ مُنتهيَين، فإن الرقم الذي ترتيبه — على سبيل المثال — في مجموع الكسرَين سيكون هو ما نكتبه في الخطوة من العملية الموضَّحة أعلاه، أو تصحيحه، في حالِ لو استلزم الأمرُ إجراءَ تصحيحٍ لاحقًا.
نودُّ أن نُوضح الافتراضَ القائل بوجود كسرٍ عشري مُنتهٍ، مربَّعُه هو العدد . للقيام بذلك، علينا أولًا أن نرى كيف نحصل على هذا الكسر العشريِّ غير المنتهي، ثم نفهم ما الذي نعنيه بضربِه في نفسه. وكما هو متوقَّع، فإن ضرب الكسور العشرية غيرِ المنتهية أكثرُ تعقيدًا من جمعها.
ولكن، دعنا نتناول أولًا طريقةً مُعتادة للحصول على الكسر العشري. يجب أن يقع بين العددَين و ، لأن ، وهو أقلُّ من ، و ، وهو أكبر من . إذا حسبت ، و ، ، وهكذا وصولًا إلى ، فإنك تحصل على ، وهو أقل من ، و ، وهو أكبرُ من . ولذا، فإن يقع بين و ، وعليه فإن المفكوك العشريَّ له لا بد أن يبدأ ﺑ . والآن لنفترض أنك حسبت بهذه الطريقة بحيث إن الأرقام الثمانية الأولى ﺑ هي . يمكنك عندئذٍ إجراءُ العمليات الحسابية التالية التي توضح أن الرقم التاليَ هو .
بتَكرار هذه الخطوات، يمكننا الحصول على أرقام بالعدد الذي نريد. ومع أنك لن تنتهيَ حقيقةً من هذه العملية، فإن لديك على الأقل طريقةً واضحة تمامًا لتعريف الرقم النونيِّ بعد العلامة العشرية، أيًّا كانت قيمةُ : سيكون الرقم النهائي نفسُه في أكبر كسرٍ عشريٍّ مربعُه أقلُّ من وبه عدد من الأرقام بعد العلامة العشرية. على سبيل المثال، هو أكبر كسرٍ عشري مربَّعه أقلُّ من وبه رقمان بعد العلامة العشرية، وعليه فإن يبدأ ﺑ .
دعنا نُسَمِّ الكسرَ العشريَّ غير المنتهي الناتج . ما سبب ثِقتنا أنَّ ؟ يمكننا أن نُجيب على النحو التالي.
كما يتَّضح في جدول العمليات الحسابيةِ أعلاه، كلما زاد عددُ الأرقام التي نَستخدِمها للمفكوك العَشري ﺑ ، حصلنا على عددٍ أكبر من التسعات بعد العلامة العشرية عند ضرب العدد في نفسِه. ومن ثمَّ، إذا استخدَمْنا المفكوكَ غيرَ المنتهي الكليَّ ﺑ ، فإننا نحصل على عددٍ لا نهائي من التسعات، والعدد (يُقرأ «واحد وتسعة من عشرة دوري») يساوي .
تنطوي هذه الطريقةُ على صعوبتَين؛ الأولى: لماذا العدد يساوي ؟ والثانية، والأهم: ماذا يعني أن «نستخدم المفكوكَ اللانهائيَّ الكلي»؟ هذا ما كنا نحاول فَهمه في المقام الأول.
لتفادي المأخذِ الأول؛ يجب مرةً أخرى أن نُنحِّي جانبًا أيَّ نزعاتٍ مثاليةٍ غير عمَلية. إنها لَحقيقةٌ مقبولة رياضيًّا أنَّ العدد يساوي ، ولكن هذه الحقيقة لم تكن نِتاجَ إحدى عمليات التأمُّل الميتافيزيقي. بل هي بالأحرى تقليدٌ مُتعارَف عليه. ومع ذلك، فإنها بأي حالٍ ليست تقليدًا اختياريًّا؛ لأن عدم تطبيقها يضطرُّنا إما إلى استحداثِ كائناتٍ جديدة غريبة، أو التخلِّي عن بعض قواعد الحساب المعروفة. على سبيل المثال، إذا اعتبرت أن لا يساوي ، فما ناتج ؟ إذا كان الناتج صفرًا، فقد تخلَّيتَ بذلك عن القاعدة المفيدة التي تنصُّ على أن يجب أن يُساويَ عندما . وإذا لم يكن صفرًا، فإنه لا يكون له مفكوكٌ عشري متعارَف عليه (وإلا، فاطرَحْه من ولن تحصلَ على العدد ، ولكنْ على عددٍ أصغر)، ما يضطرُّك إلى استحداثِ كائن جديد مثل «صفر متبوعًا بعلامة عشرية، ثم عدد لا نهائي من الأصفار، ثم واحد». إذا قمتَ بذلك، فستكون هذه مجردَ بدايةٍ للصعوبات التي ستُواجهك. فعلامَ تحصل عند ضربِ هذا العدد المبهَم في نفسه؟ عدد لا نهائي من الأصفار، ثم عدد لا نهائي من الأصفار مرةً أخرى، ثم واحد؟ ماذا يحدث إذا ضربتَه في بدلًا من ذلك؟ هل تحصل على عدد «ما لا نهاية ناقص واحد» من الأصفار متبوعًا بواحد؟ ما المفكوكُ العشري للعدد ؟ والآن، اضرِب هذا العددَ في . هل الناتج هو أم ؟ إذا اتبعتَ الطريقة المعتادة المتعارَف عليها، فلن تُثار أسئلةٌ مُحيِّرة من هذا النوع. (مُحيِّرة لكنها مُستحيلة؛ اكتشفَ أبراهام روبنسون مفهومًا متَّسقًا للأعداد «المتناهية الصِّغر» في ستينيَّات القرن العشرين، لكنَّ نظريته، التي سُمِّيَت بالتحليل غير القياسي، لم تصبح جزءًا من الاتجاه السائد في الرياضيات.)
الصعوبة الثانية أكثرُ تأصلًا، لكننا نستطيع التحايُلَ عليها. بدلًا من محاولة تصوُّر ما يحدث فعلًا إذا طبَّقنا نوعًا من عمليات الضرب المطوَّل على الكسور العشرية غيرِ المنتهية، فإننا نُفسر الجملة على أنها تعني ببساطةٍ أننا كلَّما أخذْنا أرقامًا أكثرَ من ، اقترب مربعُ العدد الناتج من ، كما لاحظنا ذلك توًّا. وإمعانًا في الدقة، لنفترضْ أنك أصررتَ على الحصول على عدد، عند تربيعه، يُنتج عددًا يبدأ ﺑ . سأقترح العدد ، الذي نحصل عليه من الأرقام الأولى القليلة ﺑ . بما أن العدد قريبٌ جدًّا من العدد ، أتوقع أن يكون مربَّعاهما أيضًا متقارِبَين جدًّا (وهذا يمكن إثباتُه بسهولةٍ تامة). ولكن بسبب كيفية اختيار ، فإن العددَ أقلُّ من والعدد أكبر من . ومن ثمَّ، فإن كلا العددَين قريب جدًّا إلى العدد . وللتحقق فحسب: ، وبذلك أكون قد وجدت عددًا بالخاصية التي تُريدها. إذا طلبت الآن عددًا يبدأ، عند تربيعه، ﺑ
ففي مقدوري حينها استخدامُ الحُجة نفسِها تمامًا، لكن مع عددٍ أكبر قليلًا من الأرقام في . (يتضح أنه إذا أردتَ عدد من التسعات، فسيكون وجودُ عدد من الأرقام بعد العلامة العشرية كافيًا دائمًا.) وحقيقةُ أنه يُمكنني القيام بذلك، أيًّا كان عددُ التسعات الذي تريده، هي المقصودُ بالقول إنَّ العدد العشريَّ غيرَ المنتهي ، عند ضربه في نفسه، يُساوي .
يُلاحظ أن ما فعلناه هنا أننا جعلنا مفهومَ غيرِ المنتهي «مُستساغًا»، بشرح جُملةٍ تتضمَّن اللانهاية على أنها لا تَعْدو أن تكون أكثرَ من بديلٍ مُختصَر مُستحسَن لجُملةٍ أكثر تعقيدًا لا تتضمَّن مفهوم اللانهاية. الجملة غير المنتهية المستحسَنة هي « هو كسرٌ عشري غيرُ مُنتهٍ مربعه ». ويمكن ترجمة هذا إلى شيءٍ من قبيل «تُوجَد قاعدة، لأي عدد ، تُحدِّد على نحوٍ واضح العدد النونيَّ ﺑ . وهذا يسمح لنا بتكوينَ كُسورٍ عشرية مُنتهية طويلة اختياريًّا، تكون مربَّعاتها قريبةً من بالقدرِ الذي نريده، وذلك ببساطة عن طريق اختيارها طويلةً بقدْرٍ كافٍ.»
هل ما أعنيه بذلك أن المعنى الحقيقيَّ للجملة البسيطة في ظاهرها هي في الواقع جملةٌ مُعقَّدة للغاية؟ هذا ما أعنيه من ناحيةٍ ما؛ لأن الجملة تنطوي بالفعل على بعض التعقيدات غير الظاهرة، ولكن من ناحيةٍ أخرى مهمةٍ فإنني لا أعني ذلك. فمن المجهِد تعريفُ عمليتَي جمع الكسور العشرية غير المنتهية وضربها دون الإتيان على ذِكر اللانهاية، ويجب التحقُّق من أن التعريفات المعقَّدة الناتجة تُطبِّق القواعدَ المذكورة في الفصل الثاني، مثل قانونَي الإبدال والتجميع. ومع ذلك، بمجرد أن يتمَّ ذلك، يُصبح لنا مُطلق الحرية للتفكير بطريقةٍ مجردة مرةً أخرى. ما يعنينا في هو أن مربعه . وكلُّ ما يَعنينا في كلمة «مربعه» أن معناها يعتمد على تعريفٍ ما لعمليةِ الضرب يخضع للقواعد الملائمة. لا يَعنينا حقًّا ماهيَّةُ الرقم في الموضع تريليون من ، ولا يعنينا حقًّا أن تعريف عملية الضرب معقَّدٌ إلى حدٍّ ما.

(٢) بلَغنا سرعة ميلًا في الساعة بمجردِ أن تجاوَزْنا عمودَ الإنارة هذا

افترِض أنك في عرَبة مُتسارعة، وأنَّك لاحظتَ أن عدَّاد السرعة يتحركُ بانتظامٍ من ميلًا في الساعة إلى ميلًا في الساعة. من المُغري أن تقول في لحظةٍ مُعينة — تحديدًا اللحظة التي يتجاوز فيها مؤشرُ عدَّاد السرعة — إن السيارة تسير بسرعة ميلًا في الساعة. قبل تلك اللحظة، كانت السيارة أبطأَ وبعدها أصبحَت أسرع. ولكن، ما معنى أن تقول إن السيارة تسير بسرعةِ ميلًا في الساعة في لحظةٍ مُعيَّنة؟ إذا كانت السيارة غيرَ مُتسارعة، فإننا نستطيع أن نَقيس عدد الأميال التي تقطعها في الساعة، وهذا يُعطينا سرعتَها. (ولكن كحلٍّ بديل، وأكثر عمَليةً، يمكن أن نحسب مقدارَ المسافة التي تقطعها السيارة في ثانية، ونضرب الناتج في .) ولكن، هذه الطريقة من الواضح أنها لا تصلح مع السيارة المتسارِعة: إذا قِسنا المسافةَ التي قطعَتها السيارة في زمنٍ معيَّن، فكلُّ ما نستطيع حسابَه هو السرعة المتوسِّطة خلال هذا الزمن، وهي لن تُخبرنا بشيءٍ عن سرعة السيارة في لحظةٍ بعينها.
كان من الممكن أن تختفيَ هذه المشكلةُ لو استطعنا قياسَ المسافة التي قطعَتها السيارةُ خلال زمن مُتناهٍ في الصغر؛ لأن السرعة ما كانت لِتَجد وقتًا عندئذٍ يسمح لها بأن تتغيَّر. لو دامت الفترة الزمنية لعدد من الساعات، حيث عددٌ متناهٍ في الصغر، لاستطعنا قياسَ عدد الأميال التي تقطعها السيارةُ خلال هذا العدد من الساعات، ولَأخَذنا بعدها الناتج ، الذي كان سيكون بالطبع عددًا مُتناهيًا في الصِّغر كذلك، ونقسِمه على ، فنحصل بذلك على السرعة اللحظية للسيارة.
يقودنا هذا النهجُ التصوُّري إلى مسائلَ مشابهةٍ كثيرًا لتلك التي صادفناها عندما تناوَلنا بإيجازٍ فكرةَ أن العدد ربما لا يُساوي . فهل يساوي صفرًا؟ إذا كان كذلك، فمن الواضح تمامًا أن لا بد أنها أيضًا تُساوي صفرًا (لا تستطيع سيارةٌ أن تقطع أيَّ مسافة في لا زمن على الإطلاق). ولكن، لا يمكن قسمةُ صفرٍ على صفر والحصولُ على ناتج غيرِ مُبهَم. ومن ناحية أخرى، إذا كان لا يساوي صفرًا، فإن السيارة تتسارع خلالَ ذلك العدد من الساعات ويكون القياس غيرَ صحيح.
إنَّ السبيل إلى فَهم السرعة اللحظية هو الاستفادةُ من حقيقة أن السيارة لا يكون لديها الوقتُ لتتسارع بالقدرِ الكبير للغاية إذا كانت قيمة صغيرة جدًّا — لنقُل جزءًا على مائة من الثانية. افترض أننا لا نريد حسابَ السرعة بالضبط، لكن نريد بدلًا من ذلك الحصولَ على تقديرٍ جيد لها. إذا كانت أجهزةُ القياس لدينا دقيقة، فإننا نستطيع أن نحسبَ المسافة التي تقطعها السيارةُ في جزءٍ على مائةٍ من الثانية، ونضربَ هذه المسافة في عدد الأجزاء من مائةٍ على الثانية خلال ساعة، أو . لن يكون الناتجُ صحيحًا تمامًا، لكن بما أن السيارة لا تستطيع أن تتسارع كثيرًا خلالَ جزءٍ على مائة من الثانية، فسوف يُعطينا ذلك أقربَ قيمةٍ تقريبية.
يُذكِّرنا هذا الموقفُ بحقيقة أن هو أقربُ عدد إلى ، ويُتيح لنا هذا أن نتفادى القلقَ بشأن غيرِ المنتهي، أو في هذه الحالة المتناهي في الصغر، بطريقةٍ مُشابهة كثيرًا. لنفترض بدلًا من قياس المسافة التي قطعَتها السيارةُ في جزءٍ على مائةِ جزء من الثانية، أننا قِسْنا المسافة التي قطعَتها خلال جزءٍ على مليون من الثانية. كانت السيارة ستتسارع بدرجةٍ أقلَّ خلال هذا الزمن، ومن ثمَّ كان الناتج سيكون أدقَّ رغم ذلك. تمنحنا هذه الملاحظةُ طريقةً لترجمة الجملة «تسير السيارة بسرعة ميلًا في الساعة … الآن!» إلى جملةٍ مُنتهية أكثرَ تعقيدًا: «إذا حدَّدت هامشَ الخطأ المسموح لي، فما دام عددًا صغيرًا بما يكفي من الساعات (عادةً أقل من )، فيُمكنني حسابُ عدد الأميال التي تقطعها السيارة في عدد من الساعات، وقِسمتُه على ، فنحصل على الناتج الذي سيكون قريبًا على الأقل من ميلًا في الساعة طبقًا لهامش الخطأ المسموح لي.» على سبيل المثال، إذا كان صغيرًا بما يكفي، فيُمكنني تأكيدُ أن تقديري سيكون ما بين و . إذا طلبت ناتجًا دقيقًا في نطاق ، فربما يتعيَّن عليَّ حينَئذٍ أن أجعل أصغر، ولكن بقدرٍ ما تكون قيمتُه صغيرةً بما يكفي، يمكنني إعطاؤك درجةَ الدقة التي تريدها.

مرةً أخرى، نحن بصدد تناوُل جملةٍ تتضمَّن مفهوم اللانهاية كطريقةٍ ملائمة لكتابة جملة أكثرَ تعقيدًا بخصوص التقريب. يمكن استخدام كلمة أخرى، قد تكون أكثرَ إيحاءً، وهي «النهاية». الكسر العشري غير المنتهي هو نهايةٌ متتابعة من الكسور العشرية المنتهية، والسرعة اللحظية هي نهايةُ التقديرات التي نضعها بقياس المسافة المقطوعة خلال أوقاتٍ زمنية أقصرَ فأقصر. كثيرًا ما يتحدث علماءُ الرياضيَّات عمَّا يحدث «بداخل النهاية» أو «عند اللانهاية»، لكنهم يُدركون أنهم لا يقصدون إلى الجدِّية التامة عندما يفعلون ذلك. وفي حال الضغط عليهم للإفصاح عما يَعْنونه بالضبط، فإنهم يبدَءون في الحديث عن التقريب بدلًا من ذلك.

(٣) مساحة الدائرة التي نِصف قُطرها يساوي

إنَّ إدراك أن اللانهائي يمكن فهمه في صورةِ حدود منتهية كان واحدًا من أهم انتصارات القرن التاسع عشر في مجال الرياضيَّات، على الرغم من أن جذوره تعود إلى حقبةٍ أسبقَ من ذلك بكثير. في مناقشةِ مثالي الآتي، كيفية حساب مساحة الدائرة، سوف أستخدِمُ حُجةً اخترعها أرشميدس في القرن الثالث قبل الميلاد. ولكن قبل إجراء هذه العملية الحسابية، علينا أن نُحدِّد ماهيَّة ما نحسبه، وهو ليس بأمرٍ سهل كما قد يظن المرء. ما المقصود بالمساحة؟ إنها بالطبع شيءٌ مثل مقدار المادة التي تُغطي سطح الشكل (أي: المادة الثنائية البُعد)، لكن كيف يُمكننا حسابُها بدقة؟

أيًّا كان الأمر، فإنه يبدو من السهل بالتأكيد حسابُ المساحة لبعض الأشكال. على سبيل المثال، إذا كان لدَينا مثلثٌ يبلغ طولا ضِلعَيه و ، فإن مساحته هي . يمكن التفكير في أي مثلثٍ قائم الزاوية على أنه ينتج عن قصِّ مُستطيلٍ إلى نصفَين عموديًّا على أحد قُطرَيه، وبذلك تكون مساحته هي نصفَ مساحة المستطيل المناظر. يمكن قصُّ أي مثلث إلى مثلثَين قائمَي الزاوية، ويمكن تقسيم أيِّ مضلَّع إلى مثلثات. وهكذا، لن يكون من الصعب حسابُ المساحة لِمضلَّع. فبدلًا من الانشغال بماهية ما حسَبناه بالضبط، يمكن ببساطةٍ تعريفُ مساحة المضلع بأنها مُحصلة ما حسبناه (ما إن نُقنع أنفسنا بأن تقسيم المضلع إلى مثلثاتٍ بطريقتَين مختلفتَين لن يُعطينا ناتجَين مختلفَين).
تبدأ مُشكلاتنا عندما نبدأ في تناول الأشكال ذاتِ الحدود المنحنية. فلا يمكن تقسيمُ الدائرة إلى عددٍ صغيرٍ من المثلثات. وعليه، ماذا نقصد عندما نقول إن مساحة الدائرة تساوي ؟

هذا مثالٌ آخر يساعد فيه كثيرًا المنهجُ المجرَّد. دعنا لا نُركِّز على ماهيَّة المساحة، بل على ما تفعله. هذا الاقتراح يحتاج إلى توضيح؛ حيث لا يبدو أن المساحة تفعل الكثير، ولكنْ مؤكَّدٌ أنها موجودة. ما أعنيه هو أنه يجب التركيز على الخصائص التي يتضمَّنها أيُّ مفهوم منطقي للمساحة. سنستعرِض فيما يلي خمسَ خصائص.

  • الخاصيَّة الأولى: إذا حرَّكت شكلًا، فإن مساحته لا تتغيَّر. (أو بصيغةٍ أكثرَ تخصصًا: أيُّ شكلَين مُتطابقَين متماثلان في المساحة).
  • الخاصية الثانية: إذا وُضِعَ شكلٌ بأكمله داخلَ شكلٍ آخر، فإن مساحة الأول لا يمكن أن تكون أكبرَ من مساحة الثاني.
  • الخاصية الثالثة: تُحسَب مساحة المستطيل بضربِ طولَي ضلعَيه.
  • الخاصية الرابعة: إذا قصصتَ شكلًا إلى بضعة أجزاء، فإن مجموع مساحات الأجزاء يساوي مساحةَ الشكل الأصلي.
  • الخاصية الخامسة: إذا مدَدتَ شكلًا بمُعامل في كل اتجاه، فإن المساحة الناتجة تُساوي المساحة الأصلية مضروبةً في .

إذا نظرتَ فيما سبق، فستجد أننا استخدمنا الخصائصَ الأولى والثالثة والرابعة لحساب مساحة المثلث القائم الزاوية. قد تبدو الخاصيةُ الثانية بديهيةً لدرجةِ أنها لا تستحقُّ الذِّكر، لكن هذا ما يتوقَّعه المرءُ في حالة المسلَّمات، وسوف نرى فيما بعدُ أنها مفيدةٌ جدًّا. وعلى الرغم من أهمية الخاصية الخامسة، فإننا قد لا نحتاج إليها حقًّا كمُسلَّمة نظرًا إلى أنها يمكن استنتاجها من الخصائص الأخرى.

كيف يمكننا استخدامُ هذه الخصائص لتوضيح المقصودِ بمساحة الدائرة؟ رسالة هذا الفصل حتى الآن أنه قد يكون من المُثمر أن نُفكر في تقريب المساحة بدلًا من تعريفها في خطوةٍ واحدة. يمكن ذلك بسهولةٍ تامة على النحو التالي. تخيَّل شكلًا مرسومًا على قطعةٍ من ورق الرَّسم البياني يتكوَّن من شبكةٍ مُنتظِمة من المربَّعات. نعرف مساحة هذه المربعات من الخاصية الثالثة (بما أن المربع نوعٌ خاصٌّ من المستطيل)؛ ولذا يمكننا أن نُحاول تقديرَ مساحة الشكل بإحصاءِ عدد المربعات الواقعة بالكامل داخل الشكل. فإذا كان الشكلُ يحتوي مثلًا على مربعًا، فإن مساحته ستكون على الأقل مرةً من مساحة المربع. لاحِظ أن ما حسَبناه فعليًّا هو مساحةُ شكلٍ مكوَّن من مربعًا، وهو ما يمكن تحديده بسهولةٍ بواسطة الخاصيتَين الثالثة والرابعة.
بالنسبة إلى الشكل الموضَّح في شكل ٤-١، فإنه لا يُعطي الإجابة الصحيحة؛ نظرًا إلى أن العديد من المربعات يقع جزءٌ منها داخل الشكل وجزءٌ خارجَه، ومن ثمَّ فإننا لم نحسب كلَّ المساحة. ولكن، تُوجَد طريقة جيدة لتقدير المساحة على نحوٍ أفضل، وهي تقسيم كلِّ مربعٍ إلى أربعة مربعات أصغر، واستخدام هذه المربعات الأصغر بدلًا من المربعات الأصلية. وكما في السابق، فإن بعض المربعات سيكون جزءٌ منها داخل الشكل، وجزءٌ خارجَه، لكننا الآن ضمَمْنا جزءًا أكبرَ قليلًا من الشكل ضمن المربعات التي تقع بأكملها داخلَه. وعلى العموم، كلما زادت دقةُ شبكة المربعات، أخذنا في اعتبارنا مقدارًا أكبرَ من الشكل عند حساب مساحته. نجد (وهذه ليست حقيقةً واضحة تمامًا كما تبدو) أنه عندما نتناول شبكاتٍ أدقَّ وأدق، تحتوي على مربعاتٍ أصغرَ فأصغر، فإن نتائج الحسابات تكون أقربَ أكثر وأكثر إلى عددٍ ما، تمامًا كما تقترب نتائجُ تربيعِ قِيَمٍ تقريبية أفضلَ فأفضل إلى من العدد ، ونحدِّد هذا العدد ليكون مساحة الشكل.
fig18
شكل ٤-١: حساب المساحة التقريبية لشكلٍ مُنحنٍ

وعليه، نزوعًا إلى المفهوم الرياضي، فإن جملة «للشكل مساحةٌ مقدارها ياردة مربَّعة واحدة» تعني الآتي. في حال السماح بهامشِ خطأ مُعيَّن، يمكننا — مهما كان صِغَر الهامش — اختيارُ شبكةٍ من المربعات منتظمةٍ بما يكفي، ثم نحسب المساحةَ التقريبية بجمع مساحات المربعات داخل الشكل، فنحصل بذلك على ناتجٍ يكون الفارقُ بينه وبين الياردة المربعة الواحدة أقلَّ من ذلك الهامش المسموح به. (ربما نعلم في أعماق أنفسنا، ولكننا لا نبوح بالأمر، أنه «بداخل النهاية» يمكن استعمالُ عددٍ لا نهائيٍّ من المربعات المتناهية في الصغر، والحصولُ على الناتج الصحيح تمامًا.)

fig19
شكل ٤-٢: طريقة أرشميدس لإثبات أن مساحة الدائرة تساوي
تُوجَد طريقة أخرى لتناول هذه الفكرة ربما تكون أوضحَ عن سابقتها. إذا كان لدَينا شكلٌ مُنحنٍ مساحتُه سنتيمترًا مربعًا بالضبط، وطُلِبَ إليَّ توضيحُ ذلك باستخدام شبكةٍ من المربعات، فإن مهمَّتي ستكون مستحيلة؛ إذ سأحتاج إلى عددٍ لا نهائي من المربَّعات. ولكن، إذا أعطيتَني أيَّ عددٍ بخلاف ، كالعدد مثلًا، فيُمكنني حينها استخدامُ شبكةٍ من المربعات لأُثبت على نحوٍ قاطع أن مساحة الشكل ليست هذا العدد: كلُّ ما عليَّ فعلُه هو اختيار شبكةٍ منتظمة بدرجةٍ كافية لكي تكون المساحةُ غيرُ المتضمَّنةِ أقلَّ من سنتيمتر مربع. بعبارة أخرى، يمكنني إيجاد المساحة دون التطرُّق إلى اللانهاية إذا اكتفيت — بدلًا من إثبات أن المساحة تساوي — بإثبات أنها ليست أيَّ شيءٍ آخر. وعندئذٍ، ستكون مساحةُ الشكل هي العددَ الوحيد الذي لا يُمكنني إثباتُ عدم صحته.
تمنحنا هذه الأفكارُ تعيينًا مُقنِعًا للمساحة، لكنها ما زالت تضعنا أمام مشكلة. كيف يمكننا إثباتُ أنه إذا استخدمنا الإجراءَ أعلاه لتقديرِ مساحة دائرة نصفُ قطرها ، فإن تقديرنا سيكون أقربَ فأقرب إلى ؟ الإجابة التي تنطبق على معظم الأشكال هي أن علينا استخدامَ حساب التكامل، وهو موضوعٌ لا أتطرَّق إليه بالمناقشة في هذا الكتاب، أما فيما يخصُّ الدائرة، فإنه يمكننا استخدامُ الحجة العبقرية لأرشميدس، كما ذكرتُ سابقًا.
يعرض شكل ٤-٢ دائرةً قُسِّمَت إلى أجزاءٍ، ثم فُصِلَت هذه الأجزاءُ وأُعيد تجميعُها من جديد، فتكوَّن بذلك شكلٌ مستطيل تقريبًا. ولأنَّ عرض الأجزاء صغيرٌ جدًّا، فإن ارتفاع المستطيل يكون مُساويًا تقريبًا لنصف قُطر الدائرة . مرةً أخرى، نظرًا إلى أن عرض الأجزاء صغيرٌ جدًّا، فإن الضلعَين العُلويَّ والسفليَّ للمستطيل التقريبي عبارةٌ عن خطَّين مُستقيمَين تقريبًا. بما أن كلَّ ضلعٍ منهما يرتكز على نصف مُحيط الدائرة، وطبقًا لتعريف فإن محيط الدائرة يساوي ، ومن ثمَّ يكون طولُ كلِّ ضلع تقريبًا. وعليه، فإن مساحة المستطيل التقريبيِّ تساوي — تقريبيًّا على الأقل.
fig20
شكل ٤-٣: إيجاد مساحة دائرة تقريبيًّا بواسطة مضلع
بالطبع، تبلغ المساحةُ بالضبط بما أن كلَّ ما فعلناه هو تقسيمُ الدائرة وتغيير مواضع الأجزاء، لكننا لا نعرف هذه القيمةَ حتى الآن. ربما أقنعَتك هذه الحجةُ بالفعل، لكنها لم تنتهِ تمامًا؛ إذ علينا إثباتُ أن التقريب السابق يقترب أكثرَ فأكثر من كلما ازداد عدد الأجزاء. باختصار شديد، إحدى الطُّرق للقيام بذلك هي أخذ المضلعَين المنتظمَين، المضلَّع المتضمَّن داخل الدائرة والآخر الذي يتضمَّن الدائرة نفسَها. يوضح شكل ٤-٣ هذه الفكرة باستخدام شكلَين سُداسيَّين. محيط المضلع الداخليِّ أقصرُ من محيط الدائرة، بينما محيط المضلع الخارجي أطولُ منه، ويمكن تقسيم كلٍّ من المضلعَين إلى جزأَين مثلثَي الشكل ثم تجميعُهما في شكلَي متوازي أضلاع. يتضح بعمليةٍ حسابية مباشرة أن مساحة متوازي الأضلاع الأصغرِ أقلُّ من مضروبةً في نصف محيط المضلع الداخلي، ومن ثَم فهي أقلُّ من . وبالمثل، فإن مساحة المضلع الأكبرِ أكبرُ من . ومع ذلك، إذا زاد عدد الأجزاء بدرجة كافية، فإنه يمكن تقليلُ الفرق بين مساحتَي المضلعَين حسبما نريد. وبما أن الدائرة تحوي دائمًا المضلعَ الأصغر، ومتضمَّنةٌ داخل المضلع الكبير فإن مساحتها يجب أن تكون بالضبط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤