الفصل السادس

قوى الكون المظلمة

(١) المادة المظلمة

لقرون ظن علماء الفلك أنهم يدرسون «الكون» عن طريق توجيه معداتهم صوب المجرات والنجوم والكواكب والغازات والغبار. لذا كانت الصدمة عنيفة حين اكتشفوا أن الكون مؤلف من شيء آخر، وأنهم لا يملكون أدنى فكرة عن ماهية هذا الشيء!

جاء التلميح الأول لفكرة أن ما تراه ليس بالضرورة كل ما هو موجود منذ أكثر من سبعين عامًا من خلال العمل الدقيق لفريتز تسفيكي، عالم الفيزياء الفلكية الذي عمل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. كان تسفيكي يدرك أن الكون يتمدد بشكل منتظم، بيد أنه أدرك أيضًا أن هذا التوصيف سطحي بكل تأكيد؛ فالمجرات ليست أجسامًا معزولة؛ بل هي تتجمع معًا في عناقيد قد يبلغ عدد أعضائها العشرات. وداخل تلك العناقيد تهيم المجرات في الأرجاء، وبهذا توجد حركة أخرى موضعية معقدة تضاف إلى حركة الكون المتمدد. على سبيل المثال، تتحرك مجرة درب التبانة، التي نحن جزء منها، ومجرة أندروميدا إحداهما صوب الأخرى بسرعة تقارب ١٣٠ كيلومترًا في الثانية، وفي الوقت ذاته تشاركان في حركة التمدد الكوني الكلية التي اكتشفها هابل. اهتم تسفيكي بدراسة هذه الحركات الموضعية داخل العناقيد المجرية، التي استطاع تبينها عن طريق القياس الحريص للإزاحة الحمراء للضوء القادم من كل مجرة بمفردها.

لكن ما وجده كان غريبًا بحق؛ فأغلب المجرات بدت كأنها تتحرك بسرعة غير متوقعة. في البداية افترض تسفيكي أن العناقيد المجرية متماسكة بعضها مع بعض بفعل جاذبية المادة المنظورة التي تحويها. فإذا تحركت المجرة بسرعة كبيرة فستهرب من قوة الجذب التي يمارسها جيرانها وتتجول مبتعدة عن المجموعة. يمكن لعنقود المجرات البقاء متماسكًا لمليارات السنين، لكن فقط لو كان به ما يكفي من المادة لحبس كل مجرة منفردة بداخله. وجد تسفيكي من واقع حساباته أن الجاذبية المجتمعة لكل المادة المنظورة — النجوم والغازات والغبار — لم تكن كافية ولو من بعيد لإبقاء هذه المجرات المتحركة بخفة في عناقيد. لم يكن هناك سوى تفسير واحد: إن من المؤكد وجود عامل آخر يسهم في زيادة قوة الجذب. بإكمال الحسابات أدرك تسفيكي أن الفارق كان مهولًا؛ إذ فاقت المادة الخفية المسببة للجاذبية المادة المنظورة بمئات الأضعاف، بحيث تعد هي الكتلة المهيمنة على العناقيد المجرية. صارت هذه المادة الخفية المجهولة تعرف باسم «المادة المظلمة». ومع أن نتائج تسفيكي ظلت محل تجاهل لوقت طويل، فإنه على مدار العقود القليلة الماضية جمّع علماء الفلك أدلة عديدة لا تدحض على أن الأجزاء المنظورة من المجرات ليست أكثر من قمة لجبل جليد غامض، وأن أغلب المادة الموجودة في الكون هي في حقيقتها مظلمة.

يتأكد وجود المادة المظلمة أيضًا من الطريقة التي تدور بها النجوم دخل مجرة درب التبانة، فالشمس، مثلًا، تسير لحوالي ٢٥٠ سنة ضوئية كي تكمل دورة واحدة حول المجرة. تأتي الأدلة الدامغة على وجود المادة المظلمة من دراسة كيفية تحرك النجوم في أطراف المجرة. ومجددًا، يتضح أنها تتحرك بسرعة كبيرة بحيث يصعب عليها الارتباط بجاذبية درب التبانة ما لم تكن هناك وفرة من المادة المظلمة تجذبها، فإذا كانت النجوم هي كل ما يوجد في المجرة فستتفكك مجرة درب التبانة وتتناثر نجومها في الأرجاء. حدد علماء الفلك توزيع الكتلة في مجرتنا وغيرها من المجرات من واقع طريقة تحرك النجوم، وتوصلوا إلى أن الشكل الدائري المألوف للمجرة — ذي النواة المركزية التي تغلفها أذرع كالدوامات — يستقر وسط توزيع كروي تقريبًا من المادة المظلمة الممتدة خارج إطار المناطق المضيئة، مشكلة سحابة شاسعة، أو هالة، تواصل التمدد في الفضاء الموجود بين المجرات.

تأكدت هذه الدراسات من واقع مشاهدات أقمار الأشعة السينية والمسبار WMAP. وجميع الأبحاث تشير إلى نفس النتيجة: أن الكون يحوي من المادة المظلمة أكثر بكثير مما يحويه من المادة المنظورة. من الطبيعي أن يتحمس العلماء لمعرفة ماهية هذه المادة، وهم يملكون بالفعل العديد من التصورات. يقسم علماء الفلك المادة المظلمة إلى قسمين: أجرام الهالة الهائلة المضغوطة Massive Compact Halo Objects (MACHOs) والجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل Weakly interacting massive particles (WIMPs).

(٢) أجرام الهالة الهائلة المضغوطة

ويقصد بها تركيزات الكتلة الكامنة في الهالة المجرية. سرعان ما يتبادر لأذهاننا بعض الأجرام المنتمية لهذه الفئة، فالثقوب السوداء مظلمة وتمر دون ملاحظة إلا إذا وُجِدت بالقرب من النجوم أو الغازات وتسببت في ابتلاعها. قد تكون النجوم القزمة أو الكواكب العملاقة مظلمة بدرجة كبيرة تمنع ظهورها في تلسكوباتنا، ومع ذلك فهي توجد بوفرة. أيضًا هناك أجرام أصغر حجمًا، على غرار الكويكبات والمذنبات، وهي وفيرة العدد دون شك، لكن يتعذر ملاحظتها بشكل كبير خارج نظامنا الشمسي.

من العسير للغاية تحديد موقع أحد هذه الأجرام في أعماق الفضاء، وذلك لأسباب واضحة. فلم يتمخض عن البحث المباشر بالتلسكوبات عن النجوم الصغيرة الخافتة الحمراء العثور على عدد وفير منها. من وسائل البحث الأخرى التي جُربت التحدب الناتج عن قوى الجاذبية (انظر الجزء الذي ناقشت فيه الفضاء المنحني في الفصل الثاني). فإذا تموضع أحد هذه الأجرام بشكل ما في طريق الضوء الصادر عن أحد النجوم فسيفضح عن وجوده بتضخيم ضوء هذا النجم. وبهذا سيظهر الجرم المتجول على صورة ارتفاع وانخفاض مميز في شدة ضوء أحد النجوم البعيدة. عُثر على عدد قليل من هذه الأجرام بهذه الصورة، لكن علماء الفلك مقتنعون الآن أن عددها ليس من الكثرة بحيث تُعزى إليه كل المادة المظلمة.

يستطيع علماء الكونيات تقصي المادة المظلمة من خلال خط تفكير مختلف بشكل كلي. كما وصفت في الفصل الثالث، فإنه أثناء الدقائق القليلة الأولى التي أعقبت الانفجار العظيم، حولت تفاعلات نووية الهيدروجين إلى هليوم. حدث هذا حين اتحدت البروتونات والنيوترونات الموجودة في البلازما البدائية كي تكوّن، أولًا، الدويتريوم (المكون من بروتون وحيد متحد بنيوترون وحيد)، وبعد ذلك، باندماج المزيد من أنوية الدويتريوم، الهليوم. إلا أن كميات طفيفة من الدويتريوم لم يُقدَّر لها أن تصير ذرات هليوم، وظلت كما هي. يعتمد مقدار وفرة الدويتيريوم البدائي بالأساس على كثافة الكون وقت حدوث هذه التفاعلات. يتمتع الدويتيريوم بنواة ذات ترابط ضعيف نسبيًّا، تُدمَّر بسهولة عن طريق تصادمات البروتونات. الكون عالي الكثافة سيؤدي إلى تصادمات أكثر تواترًا بين الأنوية، وهو ما يؤدي لتقليل مقدار الدويتيريوم في الخليط النهائي. وعلى العكس يؤدي الكون منخفض الكثافة إلى تراكم كميات أوفر من الدويتيريوم غير المستخدم. وبهذا يمكن لقياس مقدار توافر الدويتيريوم وغيره من العناصر الخفيفة1 المساعدة في تحديد كثافة المادة النووية في الكون المبكر، ومن ثم، عن طريق موازنة النسب، تحديد كثافة المادة العادية اليوم.

وفق أفضل التقديرات لمخزون الدويتريوم كان الكون المبكر ذا كثافة قليلة نسبيًّا من المادة النووية. بل في الحقيقة فقط نسبة مئوية بسيطة من المادة المظلمة يمكن أن تكون على صورة ذرات عادية أو مكوناتها. هذا يستبعد أجرام الهالة من تفسير المادة المظلمة إذا كانت مؤلفة من مكونات طبيعية؛ أي إلكترونات وبروتونات ونيوترونات. من المعقول أن تتكون بعض أجرام الهالة من أنواع غير معروفة من المادة — مادة غير نووية — لا تشارك في إنتاج الدويتيريوم والهليوم. لكن لو دخلنا أرض الجسيمات الافتراضية فسنجد المنظّرين ينتظروننا بقوائم ممتدة منها، وأغلب هذه الجسيمات لن يكون من أجرام الهالة، بل سيكون من الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل.

(٣) الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل

قابلنا بالفعل أحد الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل والمرشح المحتمل كمكون للمادة المظلمة؛ النيوترينو. ليست النيوترينوات مظلمة بمعنى «سوداء»، بقدر ما هي «غير مرئية»؛ نظرًا لأن أغلبها ينفد من المادة العادية دون أن يفضح وجوده. والنيوترينوات توجد بوفرة في الكون، بحيث تفوق الجسيمات النووية عددًا بمراحل. ومع ذلك فهي لا تزن الكثير؛ إذ قد يصل وزن أحدها إلى واحد على المليون من وزن الإلكترون. وبهذا، حتى مع نسبة أفضلية عددية تبلغ المليار إلى واحد، لا تستطيع النيوترينوات وحدها أن تفوق النجوم وزنًا. من هنا جاءت أهمية كلمة «الضخمة»؛ إذ نحتاج شيئًا مثل النيوترينو في الوفرة، لكن مع كتلة تساوي كتلة البروتون أو أكبر.2 بهذه الصورة يمكن لهذه الجسيمات أن تهيمن على تأثيرات الجاذبية للمادة العادية دون أن نلحظها. ومثل النيوترينوات يمكن لهذه الجسيمات أن تمر من أجسادنا بأعداد هائلة طوال الوقت دون أن نعي ذلك.

هناك كثير من الجسيمات «الافتراضية» التي تناسب هذا الوصف، على سبيل المثال الجسيمات فائقة التناظر مثل نظير الفوتون. بل الحقيقة هي أن عدد المرشحين كبير لدرجة تجعل المجربين عاجزين عن معرفة ما يبحثون عنه تحديدًا. المشكلة الأساسية في عملية البحث عن هذه الجسيمات هي أنها، بطبيعتها، لا تتفاعل إلا بصورة ضعيفة للغاية مع المادة. إلا أن الحسابات توحي بأنه نادرًا ما يتوقف أحد الجسيمات ضعيفة التفاعل بواسطة نواة ذرة ما ويطلق بعض الطاقة. التحدي هنا يكمن في تبين هذا الارتفاع الطفيف في الطاقة وفصل هذه الإشارة من ضوضاء الخلفية. من الطرق التي جُربت استخدام بلورة كبيرة من الجيرمانيوم النقي كأداة استكشاف وللبحث عن تأثيرات ارتداد النواة، إما من واقع الاضطرابات الكهربية أو الصوتية (في الحالة الثانية يستمع العلماء لصوت الارتطام). تؤخذ البلورة إلى أعماق كبيرة تحت الأرض لعزلها عن الأشعة الكونية الأكثر قوة وتفاعلًا التي تغمر الإشارة الصادرة عن أحد الجسيمات ضعيفة التفاعل. يؤمن العلماء الذين رسموا توزيعًا للمادة المظلمة بأنها تميل للتجمع بالقرب من مراكز المجرات. وهم يتصورون وجود سحابة كثيفة غير مرئية من الجسيمات ضعيفة التفاعل تسبح فيها الأرض والشمس في رحلتهما الطويلة حول مجرة درب التبانة. وإذا كان الحال كذلك فلن تغمر هذه الجسيمات كوكب الأرض من جميع الاتجاهات بشكل متساو، بل ينبغي أن تتدفق ناحيتنا من جهة كوكبة العذراء، التي يتجه صوبها نظامنا الشمسي في الوقت الحالي بسرعة تقارب الثلاثمائة كيلومتر في الثانية.

تلعب المادة المظلمة دورًا أساسيًّا في تحديد شكل الكون عن طريق توفير القدر الأعظم من قوى الجاذبية المطلوبة لنمو المجرات. كان الكون في عمر ٣٨٠ ألف عام، كما كشف لنا المسبار WMAP، متجانسًا للغاية، وقد ظهرت البنية الكلية الحالية للكون بسبب المناطق الأعلى كثافة بقدر طفيف التي تمكنت من جذب المادة إليها ومن ثم تعظيم كثافتها أكثر. لو كان الأمر معتمدًا على المادة العادية وحدها لكانت هذه العملية ضعيفة للغاية لدرجة يتعذر معها تكوين المجرات والنجوم والكواكب وغيرها، التي دونها ستكون الحياة مستحيلة. لكن المادة المظلمة ساعدت كثيرًا في عملية التجميع هذه. لمعرفة كيف حدث هذا قارن علماء الكونيات البنية الكلية المرصودة للنماذج بنتائج عمليات المحاكاة الحاسوبية المعقدة التي تصور مجموعة من عناصر المادة المظلمة.3
مع أن علماء الكونيات لا يملكون الكثير من الأدلة بشأن طبيعة المادة المظلمة، فإنهم يستطيعون على الأقل تحديد نسبتها الإجمالية تحديدًا دقيقًا. إن مشاهدات المسبار WMAP، المصحوبة بنتائج عمليات المسح التلسكوبية وغيرها من البيانات، تشير إلى أن المادة العادية (البروتونات والنيوترونات والإلكترونات والذرات والجزيئات) تشكل حوالي ٤ بالمائة من إجمالي المحتوى الكلي للمادة في الكون (ومن هذه النسبة يأتي النصف وحسب على صورة نجوم وكواكب). وبهذا يتألف ٩٦ بالمائة من الكون من مادة مظلمة غامضة. هذا في حد ذاته أمر يثير الحيرة، لكن هناك المزيد، فمن نسبة اﻟ ٩٦ بالمائة هذه لا تمثل المادة المظلمة التي تحدثت عنها إلى الآن أكثر من الثلث فقط. أما ما يؤلف الباقي، أي على الأقل ثلثي مادة الكون، فهو شيء آخر أكثر إرباكًا بكثير.

(٤) الطاقة المظلمة

في أواسط التسعينيات أذهلت مجموعتان من العلماء المحافل العلمية بإعلانهما أن معدل تمدد الكون يتزايد، وهو ما أكدته مشاهدات النجوم المستعرة (السوبرنوفا) في المجرات البعيدة. يعني هذا أن الكون الآن يتمدد بمعدل أكبر من ذي قبل ويبدو في طريقه للتفكك بعيدًا بعضه عن بعض إذا استمر هذا التزايد. زلزل هذا الاكتشاف أسس النظرية الكونية، المبنية على الإيمان الراسخ بأن قوى الجاذبية تعمل عمل المكابح، بحيث تهدئ من قوة التمدد الهائلة التي بدأت مع الانفجار العظيم كي تصل إلى المعدل المعقول الذي نرصده اليوم. الآن تغير اسم اللعبة؛ فهناك قوى غامضة مضادة تعارض قوى الجاذبية، وقد نجحت في تحويل التمدد المتناقص إلى تمدد متزايد.

رأينا في الفصل الثالث كيف أن التضخم — ذلك التسارع الهائل في معدل التمدد في المرحلة المبكرة للغاية من عمر الكون — حدث بسبب دفعة من الجاذبية المضادة التي سببها الضغط السالب ﻟ «مجال تضخم» افتراضي. الآن يبدو أن الكون (على الأقل الجزء المرصود منه) بدأ في التضخم مجددًا، لكن بسرعة أبطأ بكثير، بمعدل عشرة أس نيف وخمسين مرة أبطأ مما كان الحال عليه في الكون المبكر للغاية. ما الذي يحدث هنا؟

fig19
شكل ٦-١: الكون الجامح. يرى علماء الفلك أن معدل تمدد الكون يتزايد، وذلك بفعل تأثير قوة الجاذبية المضادة. يوضح هذا الشكل أفضل تخمين للنحو الذي تطور عليه الكون، بداية بالانفجار العظيم، المتبوع بمليارات قليلة من الأعوام من التمدد المتناقص، على نحو شبيه بالمبين في الشكل ٣-١. لكن بعد ذلك يزداد معدل التمدد مع وقوع الكون تحت سيطرة طاقة مظلمة غامضة.
في عام ١٩١٧ اقترح أينشتاين وجود قوة طرد كونية، أي قوة جاذبية مضادة، في محاولة منه لتوصيف الكون الساكن (انظر الإطار [أكبر أخطاء أينشتاين]). بيد أنه هجر هذه الفكرة حين وجد أن الكون يتمدد. حسن، ربما كان أينشتاين محقًّا. بكل تأكيد ليس الكون ساكنًا، لكن يبدو أن الجاذبية المضادة موجودة فيه على أية حال. وإذا كان التوصيف الصحيح هو ما تقدمه نظرية أينشتاين المقدمة في عام ١٩١٧، فلن يبدو تمدد الكون على ذلك الشكل المتعارف عليه والمبين في الشكل رقم ٣-١، بل سيشبه النحو المبين في الشكل ٦-١. في ذلك الشكل سينشأ الكون بانفجار عظيم، ولن يكون للجاذبية المضادة في هذه المرحلة المبكرة تأثير كبير لأن الكون مضغوط بشكل كبير، إضافة إلى أن قوى الطرد التي يقترحها أينشتاين ضعيفة في المسافات الصغيرة. لكن مع استمرار الكون في التمدد تزداد الجاذبية المضادة قوة، إلى أن تصل إلى نقطة، على نطاق الكون ككل، تضاهي فيها قوة الجذب العادية. وقتها ينشأ صراع هائل تكون فيه هاتان القوتان متساويتين، وهنا يستمر الكون في التمدد بمعدل ثابت، إلا أنه من المحتم في نهاية المطاف أن تفوز قوى الجاذبية المضادة؛ نظرًا لازديادها في القوة مع زيادة تمدد الكون. وفور أن تكون للجاذبية المضادة اليد العليا يبدأ معدل التمدد في الزيادة، بحيث يصير أسرع وأسرع مع الوقت، إلى أن يقترب في النهاية من معدل التمدد «الأسّي»، الذي بموجبه يتضاعف حجم أي منطقة في الكون كل بضعة مليارات من الأعوام.
من المبكر للغاية التصريح بأن القوة التي تسبب تسارع تمدد الكون هي نفس قوة الجاذبية المضادة التي وصفها أينشتاين، رغم كون هذا أبسط التفسيرات. ثمة اقتراحات أخرى قُدمت في هذا الصدد، منها على سبيل المثال المجالات التي تتباين فيها شدة القوى مع الوقت. وكما أوضحت (في الفصل الثالث) فإن الجاذبية المضادة يمكن اعتبارها نتاجًا لطاقة الفضاء الخاوي نفسه، ومصاحبة للضغط السالب. وبالمثل، يمكن عزو الطاقة والضغط السالب إلى مجال غير مرئي يتغلغل في الفضاء. في كل الحالات لن نستطيع رؤية أي شيء من هذه الطاقة؛ لذا يستخدم المصطلح العام «الطاقة المظلمة» للإشارة إلى كل هذه الاحتمالات. يخطط علماء الفلك قياسات أفضل لمعرفة المزيد عن هذه الطاقة. لكن مهما تكن ماهيتها، فإذا قمنا بحساب قدر الطاقة المظلمة المسئولة عن زيادة معدل تمدد الكون فستجد أن لها كتلة كلية أكبر من جميع أشكال المادة — المرئية والمظلمة — مجتمعة (انظر الشكل ٦-٢). يبدو أن الطاقة المظلمة تؤلف القدر الأعظم من كتلة الكون، ومع ذلك لا يعرف أحد ماهيتها بالضبط.
fig20
شكل ٦-٢: منتَج كوني ثانوي. من المثير للدهشة أن المادة المألوفة، كالذرات، تمثل حوالي ٤ بالمائة فقط من إجمالي كتلة الكون، وكأنها ليست إلا منتَجًا ثانويًّا. ٢٢ بالمائة من كتلة الكون يأتي على صورة نوع آخر من المادة، غير محدد بعد، و٧٤ بالمائة من كتلة الكون يأتي على صورة طاقة مظلمة تتغلغل في أرجاء الفضاء.

(٥) نهاية الكون

لطبيعة الطاقة المظلمة تبعات مهمة للغاية؛ خاصة وأن مصير الكون بأكمله يعتمد عليها. من القضايا التي واجهت علماء الكونيات لفترة طويلة قضية هل سيستمر الكون في التمدد إلى الأبد، أم سيقل معدل تمدده إلى نقطة يبدأ عندها في الانكماش مجددًا؟ تسمح نظرية النسبية لأينشتاين بكلا الاحتمالين، اعتمادًا على قدر المادة الذي يحويه الكون. بالتغاضي عن الطاقة المظلمة للحظة، من المعروف منذ عمل ألكسندر فريدمان في أوائل العشرينيات أن هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة؛ أولًا هناك الكون منخفض الكثافة، الذي تكفي فيه قوة الانفجار العظيم لجعل المادة الكونية تتغلب على قوى الجذب الخاصة بها وبهذا يستمر الكون في التمدد. يبطؤ معدل التمدد نتيجة التأثير الكابح للجاذبية، لكن هذا التأثير يضعف مع الوقت إلى أن يصل الكون في النهاية لمعدل تمدد شبه ثابت. يعبر الخط المنحنى أ عن هذا السيناريو في الشكل ٦-٣.
fig21
شكل ٦-٣: مصير الكون. حدد ألكسندر فريدمان ثلاثة نماذج محتملة للكون: قد يتمدد الكون إلى الأبد بمعدل ثابت (أ)، وقد ينهار في انسحاق عظيم (ب)، أو قد يتأرجح بين الاثنين (ﺟ). في الحالة أ يكون الفضاء منحنيًا بالسلب (انظر الشكل ٢-٨)، وفي الحالة ب يكون منحنيًا بالإيجاب (انظر الشكل ٢-٦)، وفي الحالة ج يكون مسطحًا.
الاحتمال الثاني، والموضح بالخط المنحني ب في الشكل ٦-٣، هو الكون عالي الكثافة. يحتوي هذا الكون على مادة أكثر، مما يؤدي لوجود قوة جذب أكبر، ومن ثم تأثير كابح أكبر. يتباطأ معدل التمدد مع مرور الوقت إلى أن يتوقف بشكل تام، وعند تلك النقطة يبدأ الكون في الانكماش والانهيار على نفسه. تتزايد سرعة الانكماش وصولًا إلى الانهيار التام، الذي يعرف باسم «الانسحاق العظيم». الاحتمال الثالث، الموضح بالخط ﺟ، هو سيناريو وسيط بين الاحتمالين السابقين. هنا يقل معدل التمدد مع الوقت، لكن دون الوصول لنقطة يتوقف فيها بشكل تام. تربط النسبية العامة الاحتمالات الثلاثة بهندسة الكون. ففي السيناريو ب، يحني مجال الجاذبية القوي للمادة الكثيفة الفضاء إلى كرة فائقة، وفي السيناريو أ ينحني الفضاء بالسلب ويكون مفتوحًا ولانهائيًّا. أما في السيناريو ﺟ فيكون الفضاء مسطحًا ولانهائيًّا.
تصير الخيارات الثلاثة أ، ب، ﺟ أكثر تعقيدًا مع وضع الطاقة المظلمة في الاعتبار. وكما أوضحت من قبل فإن سلوك الكون في المراحل المبكرة لم يتأثر إلا قليلًا بالجاذبية المضادة، إلا أن هذا التأثير يمكنه في نهاية المطاف أن يكون حاسمًا، فإذا وصلت كثافة كتلة/طاقة الكون الإجمالية (بما فيها الطاقة المظلمة) لنقطة حرجة معينة، سيكون الفضاء مسطحًا، ويسلك الكون المسلك المبين في الشكل ٦-١. هذا هو أفضل نموذج يناسب البيانات المتاحة. إلا أن المستقبل البعيد للكون سيبدو كئيبًا؛ إذ إن التمدد المتزايد سيحول الكون إلى ما يشبه الثقب الأسود المقلوب. في الفصل الثاني أوضحت كيف أن سرعة الضوء المحددة ستؤدي لوجود ما يسمى بأفق الفضاء، الذي نعجز عن رؤية ما يوجد خلفه، مهما بلغت تلسكوباتنا من قوة. يخلق التمدد المتزايد أفقًا من نوع آخر، يسمى «أفق الحدث»، يشبه سطح الثقب الأسود. تخيل أن دفقة من الضوء انطلقت من كوكب الأرض صوب مجرة بعيدة تزداد ابتعادًا عن الأرض. بينما يطارد الضوء المجرة، تزداد المجرة ابتعادًا. إذا كان معدل تمدد الكون ثابتًا فسيصل الضوء إلى المجرة في نهاية المطاف. لكن لو كان معدل التمدد يتزايد، قد لا يصل الضوء لهذه المجرة «قط»؛ إذ إنه مهما حاول الضوء أن يجتاز الفجوة، فالفجوة نفسها تزداد اتساعًا. وبالمثل، فإن الضوء المنبعث من المجرة البعيدة صوب الأرض في نفس الفترة الزمنية قد لا يصل إلينا قط، مهما انتظرنا. في هذه الحالة تظل منطقة الكون التي تقع فيها تلك المجرة المتباعدة (وكل المناطق الأبعد منها) غير مرئية من جانبنا، إلى الأبد. في الكون ذي التمدد المتزايد تتحرك المجرات بعيدًا بعضها عن بعض، أسرع وأسرع، وفي النهاية تختفي تمامًا وراء أفق الحدث الخاص بكل منها. سيتطلب الأمر مليارات السنوات كي تختفي أغلب المجرات التي نراها اليوم، لكن لو أن الكون يتصرف بالفعل على النحو المبين في الشكل ٦-١ فسيحدث هذا لا محالة. إلى أن يحدث هذا فإن المجرات القريبة (على سبيل المثال مجرة أندروميدا) المرتبطة بمجرة درب التبانة بفعل قوة الجاذبية ستندمج في مجرة فائقة مليئة بثقوب سوداء هائلة ونجوم محترقة. أما بقية الكون (البالغ حجمه مليارات السنوات الضوئية) فسيكون خاويًا. وفي النهاية، حتى الثقوب السوداء العملاقة ستتبخر على صورة إشعاع حراري، سيختفي بدوره عبر الأفق، شأن كل شيء آخر.

(٦) التمزق العظيم

لا تقتصر سيناريوهات نهاية الكون على التمدد الأبدي أو الانهيار في انسحاق عظيم وحسب، بل ثمة طريقة ثالثة يمكن أن ينتهي عليها الكون. لقد افترضت إلى الآن أن الطاقة المظلمة ثابتة في الزمان والمكان، كما هو الحال في النظرية الأصلية لأينشتاين. لكن بما أن طبيعة الطاقة المظلمة لا تزال غامضة بالكامل، قد لا يكون هذا الافتراض صحيحًا. ولو أن الطاقة المظلمة هي نتاج لنوع جديد من مجالات المادة (التي يشار إليها أحيانًا باﻟ «جوهرية»)، عندئذٍ من المرجح أن يتفاوت المجال في المكان والزمان، بل قد يتفاعل مع المادة، مؤديًا لخلق المزيد من الاحتمالات. على سبيل المثال، قد يكون هناك انتقال كمي مفاجئ إلى قيمة أقل للطاقة المظلمة، مما يؤدي لخلق فقاعة من الفراغ تتمدد بسرعة تقارب سرعة الضوء وتحيط بالكون القابل للرصد بأكمله. جعل ستيفين باكستر هذا السيناريو المرعب موضوع رواية الخيال العلمي التي ألفها بعنوان «الزمن».4 وقد تتفاوت الطاقة المظلمة ببطء شديد، مما يؤدي إلى انخفاض شدتها تدريجيًّا على مر مليارات الأعوام. وفي النهاية، قد تصير الطاقة سالبة (وفي هذه الحالة ستبدأ في التصرف مثل الجاذبية عوضًا عن الجاذبية المضادة). وإذا حدث هذا فسيتباطأ التمدد المتزايد ثم ينقلب ليصير انهيارًا متسارعًا، وسيعقب هذا حدوث الانسحاق العظيم.
إلا أن مصيرًا أكثر درامية ينتظر الكون لو أن الطاقة المظلمة «تزيد» في الحجم مع تمدد الكون. عندئذٍ سيزيد «معدل» التسارع مع الوقت، مؤديًا إلى تمدد أسّي فائق، وسينكمش أفق الحدث، مقللًا حجم الكون المرئي، أما الجاذبية، ذات التأثير الضئيل حاليًّا على النظام الشمسي أو حتى على مستوى المجرة، فستبدأ في التعاظم على مستويات أصغر وأصغر في الحجم، وسرعان ما يأتي الوقت الذي تتمزق فيه مجرتنا إربًا. ومع ذلك ستزداد الجاذبية المضادة قوة، ممزقة مجموعات النجوم، وفي النهاية النجوم نفسها، متغلبة على قوة الجاذبية التي تربطها بعضها ببعض. وفي المراحل الأخيرة حتى كوكب الأرض سيتمزق إربًا. الفصل الأخير من هذه الدراما سيأتي حين يصير معدل التمدد لانهائيًّا (انظر الشكل ٦-٤). مثل هذه الحالة تمثل نقطة تفرد زمكانية — أي نهاية للزمان والمكان — مثل الانسحاق العظيم، لكن بشكل معكوس، لأن ما يحدث هو تمدد كارثي وليس انهيارًا. اكتشفت أنا وجون بارو هذا المصير البغيض للكون في الثمانينيات، لكننا لم نأخذه بجدية لأنه كان مبنيًّا على نموذج رياضي مفتعل إلى حدٍّ ما.5 ومع ذلك فمنذ سنوات قلائل أعيد اكتشاف نفس الفكرة على يد روبرت كالدويل من جامعة دارتماوث بنيوهامبشاير، وأعطيت ذلك الاسم الآسر «التمزق العظيم» The Big Rip.6 لا يزال من غير المرجح أن ينتهي الكون بهذه الطريقة، لكن ربما لا تبدو النظرية خيالية مثلما بدت حين كنت أنا وبارو نتسلى بها.
fig22
شكل ٦-٤: التمزق العظيم. طريقة أخرى ربما ينتهي بها الكون هي بالتمدد أسرع وأسرع إلى أن يصير التمدد لانهائيًّا، كما هو موضح بالشكل. لا يمتد المنحنى وراء نقطة معدل التمدد اللانهائي لأن هذه نقطة تفرد زمكانية.

(٧) هل ستستمر الحياة إلى الأبد؟

مهما يكن النموذج الذي ستثبت صحته فلا يزال أمامنا وقت طويل حتى فناء الكون، ولا يوجد فيما اكتشفه علماء الفلك والكونيات ما يجعلهم يعتقدون أن فناء الكون وفق أي من السيناريوهات السابقة قد يبدأ قبل مليارات الأعوام. مع ذلك، قبل أن يحدث ما يعكر صفو الكون على النطاق العريض، ستكون شمسنا قد تجاوزت عمرها الافتراضي، ففي خلال ما يربو قليلًا على المليار عام ستبدأ حرارة الشمس في الازدياد، وستواجه الأرض أزمة في صلاحيتها للسكنى. ومع ذلك، إذا ألقينا نظرة غير محدودة على مستقبل الحياة، يوجد وقت وفير أمام أحفادنا، أو أي مخلوقات صناعية من ابتكارنا، أو حتى أمام كائنات الأنظمة النجمية الأخرى التي تواجه مصيرًا مشابهًا، للانتقال إلى نظم نجمية جديدة ومواصلة عمل ذلك إلى أن تنفد المادة الخام لتكون النجوم. وحتى حين تحترق كافة النجوم سيتوافر مخزون أعظم من الطاقة في حقول الجاذبية، خاصة تلك الخاصة بالثقوب السوداء، بحيث يمكن لشكل ما من أشكال الحياة أن يستمر.

لكن هل يمكن للحياة أن تستمر حرفيًّا «إلى الأبد» (على فرض أن الكون لن ينهار في انسحاق عظيم أو يتفسخ بفعل تمزق هائل)؟ هل سيتمكن أحفادنا بشكل ما من البقاء على قيد الحياة أبد الدهر؟ في أعقاب الورقة البحثية الثورية التي قدمها فريمان دايسون في السبعينيات،7 صارت النظرة السائدة هي أن الحياة ستتمكن دومًا من الاحتفاظ بموطئ قدم في مكان ما من الكون دائم التمدد. لكن حديثًا أعيد التفكير في هذه النتيجة في ضوء اكتشاف الطاقة المظلمة. فإذا كان الكون، كما يقترح الاكتشاف، سينتهي به المطاف كفضاء خاو داخل أفق الحدث، وقتها يبدو من غير المرجح لأي شكل من أشكال الحياة، أو حتى أي عملية معالجة معلومات منهجية، أن يستمر؛ لأن الحالة النهائية ستكون حالة من التوازن الديناميكي الحراري، المشابهة لفكرة الموت الحراري للكون التي نوقشت في القرن التاسع عشر (انظر الإطار [لماذا لا يمكن أن يكون الكون قد وُجد على هذه الصورة على الدوام؟]). لذا على أية حال، يبدو أنه لن يكون بمقدور الحياة أن تستمر للأبد داخل هذا الكون.8

في هذا الفصل ناقشت نظريات عديدة بشأن ماهية الطاقة المظلمة، لكني لم أقل شيئًا عما يحدد مقدارها الإجمالي. لقد اختار أينشتاين ببساطة قيمة مأخوذة من المشاهدات الفلكية تمكن معادلاته من وصف الكون الساكن، ولا تقدم النسبية العامة أي دليل عما يمكن أن يكون عليه هذا الرقم. ولهذا، على مدار عقود، ظلت قوة الجاذبية المضادة مجرد معامل اعتباطي يفضل أغلب علماء الكونيات أن يحددوه بالرقم صفر. لكن لو أن الطاقة المظلمة صادرة عن عملية فيزيائية، كطاقة الفراغ الكمي أو الطاقة الجوهرية، عندئذٍ يمكن للمنظرين حساب مقدار الطاقة المظلمة الموجود في حجم معين من الفضاء. وكما سنرى في الفصل التالي، حين يحدث هذا تكون النتيجة محيرة حتى إنها تشير لأزمة حقيقية تمس قلب الفيزياء النظرية وتستلزم حلًّا حاسمًا لتلك المعضلة.

النقاط الأساسية

  • الجزء الأعظم من الكون مكون من شيء لم تتحدد ماهيته بعد. المادة العادية لا تؤلف سوى نسبة ضئيلة من الكون.

  • المادة المظلمة مكونة على الأرجح من جسيمات ثقيلة ضعيفة التفاعل تسبب الانفجار العظيم في وجودها بوفرة.

  • يبدو كما لو أن القدر الأعظم من كتلة الكون على صورة «طاقة مظلمة» — ويا لها من صدمة كبيرة! الطاقة المظلمة (التي لا يجب الخلط بينها وبين المادة المظلمة) ذات قوة طاردة مضادة، وهذا يتسبب في جعل الكون يتمدد أسرع وأسرع. لا يعرف أحد ماهيتها. قد لا تكون إلا طاقة الفضاء الخاوي (اقترح أينشتاين هذا في ١٩١٧)، أو قد تكون مجالًا جديدًا غامضًا.

  • إذا ظلت الطاقة المظلمة ثابتة فسيصير الكون في النهاية مظلمًا وخاويًا، ويتمدد بمعدل أسّي. أما لو قلت وفي النهاية صارت سالبة، فسينهار الكون على نفسه في انسحاق عظيم. أما لو زادت فسينتهي الحال بالكون في تمزق عظيم.

  • سيكون من الصعب على الحياة أن تستمر إلى الأبد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤