الفصل الثاني عشر

جاءت لها تيكا برسالةٍ من تور بعد ذلك بثلاثة أيام. كان تور قد حاول أن يلتقيَ بها عدةَ مرات، لكنها رفضت أن تتحدَّث إليه، ولم تستطِع تيكا أن تُغيِّر موقفها؛ ومن لمعةِ عينها لم تجرؤ تيكا على أن تقترح على تور أن يعلن عن قدومه ببساطة. جاء في رسالته: «سننطلق غدًا عند الفجر. هلا تُودِّعينا؟»

أرادت إيرين أن تحرق الرسالةَ أو أن تُمزِّعها قِطَعًا صغيرة أو أن تمضغها أو أن تنفجر بالبكاء. أمضت ليلتها جالسةً في كُوة النافذة، ملتفَّة في دِثار من الفرو؛ كانت تغفو بين الحين والآخر، لكنها غالبًا ما كانت تراقب النجومَ وهي تتحرك عبْر السماء. لم ترغب في أن تقف في برودة الفجر الرمادي وتشاهد الجيش وهو ينطلق مبتعدًا، لكنها ستفعل ذلك؛ لأنها عرفت أن والدها قد ساءه أن يرفض طلبَها؛ لأنها كانت بعدُ صغيرةَ السن للغاية؛ وغير متمرِّسة؛ لأنه لم يستطِع أن يتحمَّل ولو أبسط شكٍّ في ولاء رُفَقائه حين يواجهون نيرلول، ولأن حضورها سيتسبَّب في ذلك الشك. لأنها كانت ابنةَ المرأة التي أتت من الشمال، يمكن على الأقل أن تودِّعهم بالحب. كان من شِيَم تور أن يأتيَ بتلك البادرة؛ أما والدها ورغم ما يتمتَّع به من عطفٍ بالغ، فقد كان مُعتدًّا بنفسه للغاية — أو كان ملِكًا أكثرَ من كونه مُعتدًّا بنفسه — وكانت هي مُعتدة بنفسها للغاية، أو كانت متعصبة لرأيها للغاية، أو يافعة للغاية.

وهكذا وقفت إيرين بجَفنَين ثقيلين في فِناء القلعة فيما ركب الفرسان ورجال الحاشية جيادهم وانتظروا الملِك ووليَّ العهد. وانتظرهم الجيش في الفسحة الشاسعة المقتطَعة من الغابة بعد بوابات المدينة، وهُيِّئ لإيرين أن بإمكانها سماع وقْع الحوافر على الأرض، وصلصلة اللجم، وأن ترى الظلال الطويلة للأشجار تمتدُّ على خواصر الجياد ووجوه الرجال.

وبرز هورنمار من وراء بناء القلعة الضخم غير المحدَّد المعالم، يقود كيثتاذ الذي سار برفقٍ على أطراف سُوقِه، وكانت أُذناه منتصبتَين ومُتجهتَين للأمام وذيله مرتفعًا. رآها هورنمار وأحضر كيثتاذ إليها دون أن ينطِق بكلمةٍ وسلَّمها لجامَه في يدها. أما سائس ولي العهد فوقف ينتظر في جمود، مُمسكًا بدجيث. واستدار هورنمار ليمتطيَ جواده، حيث كان سيرافق الجيش؛ لكن في تلك الأثناء كان يُعطي لابنة الملك شرفَ الإمساك برِكاب الملِك. ولم يكن هذا شيئًا هينًا؛ فالإمساك برِكاب الملِك كان يجلِب الحظ لمن يمسك به، وفي كثيرٍ من الأحيان فيما مضى كانت الملِكة تُطالب بهذا الشرف لنفسها. لكن كثيرًا أيضًا كان الملك يأمر أحدًا ممن كانوا يُعَدُّون محظوظين — كجنرال منتصر، أو ابنٍ بِكر، أو حتى وليٍّ للعهد — لكي يُمسكَ له رِكابه، خاصة حين كان الملِك يركب ذاهبًا للحرب أو في حملة دبلوماسية صعبة ودقيقة يُمكن أن تنقلِب حربًا.

لم يقُل أحدٌ شيئًا، لكن شعرَت إيرين برعدة خفيةٍ تسري عبْر الفِناء فيما فكَّر بعضُ الراكبين إن كانت ابنة الساحرة قد بدأت مُهمَّتهم بفألٍ شؤم أم لا، وتساءلت هي في نفسها إن كان هورنمار قد أسدى إليها صنيعًا حسنًا أم لا. إن تحرَّك الجيش وهو يتوقَّع الأسوأ، فعلى الأرجح سيجد ما توقَّع.

أمسكت إيرين بزمام كيثتاذ مُتجهِّمةً، لكن كيثتاذ لم يكن يَروق له التجهُّم، فأخذ يهمزها بأنفه حتى ابتسمت لاإراديًّا وربَّتت عليه. ورفعت ناظريها حين سمِعت وقْع خطوات الملك، وحين التقت عيناها بعَينَيه سُرَّت أنها أذعنت لطلب تور. قبَّل أرلبيث جبهتها وأحاط ذقنها بيدَيه، ونظر إليها نظرةً طويلة؛ ثم التفت إلى كيثتاذ، وأمسكت إيرين بالرِّكاب ووجَّهته إلى قدمِ أرلبيث.

في تلك اللحظة سرى ضجيجٌ طفيف عند بوابة الفِناء، وتقدَّم رجلٌ يمتطي حصانًا منهكًا على الحجر المُزجَّج. توقَّف الحصان وهو يتمايَل على سُوقه التي تباعدَت المسافة بينها؛ فقد كان مُتعبًا للغاية حتى إنه لم يستطِع أن يَمشيَ بثقةٍ على السطح المصقول؛ ونزل الرجل عن الحصان وترك اللجام من يدِه، وهُرع إلى حيث يقف الملِك. التفت أرلبيث، وكانت يده لا تزال على كتفِ إيرين حين أتى الرجل إليهما.

قال الرجل: «يا صاحب الجلالة.»

مال أرلبيث برأسه وكأنه في قاعته الكبرى، وهذا الرجل هو أول المُتوسِّلين في صباحٍ طويل. كرَّر الرجل يقول: «يا صاحب الجلالة» وكأنه لا يستطيع أن يتذكَّر رسالته، أو أنه لا يجرؤ على تسليمها. انتقلت عينُ الرجل بنظرةٍ سريعة إلى وجه إيرين وهي واقفة، وكانت يدُها لا تزال مُمسكةً بالرِّكاب، وأجفلت حين رأت في عينَي الرجل بريقَ أملٍ عندما نظر إليها.

وقال أخيرًا: «لقد ظهر «التنين الأسود». ماور، الذي لم يرَه أحدٌ منذ أجيال، آخِرُ التنانين العظيمة، ماور العظيم كالطود. لقد استيقظ ماور.»

كان الرجل يتصبَّب عَرقًا، وتنفَّس الجواد وهو يرتجِف ويلهث، مما يعني أنه كان مُصابًا بربو الخيل، وأن ركوب الرجل على ظهره كان فيه مشقَّة شديدة عليه. «أتوسَّل إليك أن … أن تساعدنا. فربما تكون قريتي قد أُبيدَت ونحن نتحدَّث. وعمَّا قريب ستتبعها قرًى أخرى.» هكذا تحدَّث الرجل فعَلَا صوتُه فزعًا. واستطرد: «في غضون عام؛ في غضون موسم واحد، قد تستحيل دامار كلُّها سوداء بأنفاس ذلك التنين.»

قال تور: «هذا أذًى يأتينا عبْر الحدود»، وأومأ أرلبيث موافقًا. ساد الصمت لحظةً طويلة وحزينة وكئيبة، وحين تحدَّث أرلبيث ثانيةً، كانت نبرته جادة. فقال: «كما يقول تور، إن استيقاظ التنين الأسود أذًى أُرسِل إلينا، وأُرسِل إلينا في هذا الوقت الخطير والحاسم بالتحديد بينما لا نستطيع أن نُولِيَه الاهتمامَ اللازم.» تهاوت فجأةً كتفا الرسول كمَدًا، ووضع يدَيه على وجهه.

استطرد أرلبيث، بنبرةٍ خفيضة للغاية حتى لا يسمعه سوى إيرين وتور والرجل. «نحن الآن ذاهبون لمواجهة خطرٍ قد يكون أكثرَ فتكًا من التنانين؛ ذلك أنه خطرٌ بشريٌّ ومن دامار ودافعه شيطاني. يُمكن لدامار أن تُواجِه التنين؛ لكنها إن كانت منقسمةً إلى أشلاء فلن تكون ذات جدوى، حتى ولو قُتِل التنين.» ثم استدار إلى كيثتاذ ووضع قدمَه على الرِّكاب وامتطى صهوتَه. وتقهقرت إيرين خطوةً إلى الخلف فيما وثب كيثتاذ؛ حيث لم يكن يأبه مطلقًا لأمر التنانين ويكترث أكثرَ بحمْل الملِك في مقدِّمة الموكب.

«سنعود بأسرعِ ما يُمكننا، وسنذهب للقاء تنِّينك الأسود. استرِح، وخذ حصانًا نشيطًا، وعُد إلى قريتك. ويمكن لكل أولئك الذين يرغبون في المجيء إلى مدينتنا أن يأتوا وينتظرونا في حِماها.» ورفع ذراعه، فأحدثت رفقته صوتًا كحفيف أوراق الشجر، تنتظر منه إشارةً لبدء المَسير؛ وقاد أحدُ السُّيَّاس حصان الرسول المريض جانبًا، ومرَّ موكب الملك ببوابة الساحة وسار في طريق الملك وتجاوز جدرانَ المدينة إلى حيث كان الجيش ينتظره.

كانت إيرين قد نوت أن تصعدَ إلى قمة القلعة لتُراقب بريقَهم وهم يمضون حتى يختفوا بين الأشجار خارج المدينة؛ لكنها عوضًا عن ذلك انتظرت، واقفةً إلى جوار الرسول الذي كانت يداه لا تزالان تُغطيان وجهَه. وحين غاب آخرُ أصوات رحيل رفقة الملك أنزل يدَيه، وكأنه حتى ذلك الوقت كان لا يزال يأمُل في تغيير قرار الملك؛ ثم أطلق تنهيدة. وغمغم يقول، وهو يُحدِّق أمامه في الفراغ: «كدتُ أفوِّتهم تمامًا. وكان ذلك بلا جدوى. ليتني فوَّتُّهم ولم أشقَّ على حصاني إلموث المسكين وهو مريض هكذا»، وتحوَّلت عيناه إلى الحصان الذي كان قد أتى مُمتطيًا إيَّاه.

فقالت إيرين: «سيتلقى إلموث رعايةً حسنةً في إسطبلاتنا، وسأصحبك الآن لأجد لك طعامًا وفراشًا.»

تحوَّلت عينا الرجل ببطءٍ نحوها، ورأت فيهما مجددًا وميضَ أملٍ خافت. «لا بد أن أعودَ بأسرعِ ما يُمكنني، ومعي على الأقل رسالةُ إحسان الملِك لمن أضحوا من أهلي بلا مأوًى أو مُرتاعين.»

فقالت إيرين: «الطعام أولًا. لقد قطعتَ طريقًا طويلًا ومرهقًا.»

أومأ الرجل، لكنَّ عينَيه لم تُفارقا وجهَها.

فأضافت إيرين بنبرة رقيقة: «سأصحبك في طريق عودتك؛ لكنك تعرف هذا بالفعل، أليس كذلك؟»

انعكس بريقُ الأمل الآن في ابتسامة، لكنها كانت ابتسامةً ضئيلة جدًّا لدرجةِ أن إيرين ما كانت لتراها لولا أنها كانت من جانبها تأمُل أن تراها.

وقال الرجل: «شكرًا لكِ أيتها الأميرة إيرين، يا قاهرة التنانين.»

•••

انطلقا معًا عصرَ ذلك اليوم. كان تالات نشيطًا، فنزَع إلى الوثب؛ لم يهتم برماح التنانين المُعلَّقة بسَرجه؛ لأنه اعتقد أنه كان يعرف كلَّ شيءٍ كان يلزَمه معرفته بشأن التنانين. وكانت الرحلة صامتة. انطلقا في طريقهما بأسرعِ ما استطاعا أن يضغطا به على جواديهما، وكان ذلك أبطأ قليلًا مما كان يودُّ الرسول، لكن إيرين كانت تعرف أنها وتالات سوف يُواجهان التنين، وكان تالات مُسنًّا؛ وإن لم يرغب تالات في تذكُّر هذا، فكان من الأهمية بمكان أن تتذكَّره إيرين نيابةً عنه.

كان مسارهما نحو الشمال مباشرةً، لكن الجبال كانت في أشدِّ درجات انحدارها في ذلك الاتجاه؛ لذا خرجت إيرين والرسول عن مسارهما ليسلكا طريقًا أيسرَ، وتحرَّكا بسرعة أكبر خلاله. وعند مطلع فجر اليوم الثالث كان ثمَّة غمامة سوداء عالقة أمامهما، بالقرب من الأفق الذي شكَّلته الجبال، مع أن السماء فوقها كانت صافية؛ وبحلول عصر ذلك اليوم كانا يستنشقان هواءً لاذعًا. كان رأس الرسول قد غاصَ بين كتفَيه، ولم يرفع عينَيه عن الطريق بعد أن أبصرا الغمامة السوداء للمرة الأولى.

وقد تأنَّى تالات في خطواته في عقِب الحصان الآخر. كان تالات الآن أحسنَ سلوكًا مما كان عليه حين كان صغير السن وكان جواد الحرب الخاص بالملك؛ حينها كانت فكرة اتباعه لأي حصان آخر تجعله مُغتاظًا ومُستاءً. تركت إيرين هذا الأمر لتالات؛ ذلك أنها لم تكن تنظر إلا إلى الغمامة. وحين حاد الرسول يسارًا، وبينما كانت الغمامة لا تزال تحوم فوقهما، قالت إيرين: «انتظر.»

فتوقَّف الرجل ونظر خلفه. وكان الذهول باديًا على وجهه، وكأن سماعه لكلمة «انتظر» كان قد أخرجه من خِضم الخواطر.

«التنين يكمُن أمامنا؛ إنَّ ما نراه أمامنا في السماء هو الأمارة الدالة عليه. سأمضي في ذلك الطريق.»

فتح الرجل فمه، وزال الذهول عن وجهه قليلًا؛ لكنه أغلق فمَه ثانيةً دون أن يقول شيئًا.

قالت إيرين بنبرةٍ رقيقة: «اذهب إلى قومك وأبلغهم رسالةَ الملك. سوف آتي إليكم لاحقًا، وقتما أستطيع — وقد لا أفعل.»

أومأ الرجل، لكنه ظلَّ جالسًا دون حركة، والتفت على سَرجه لينظر إلى ابنة الملك، حتى تجاوزته إيرين على صهوةِ تالات وسلَكت الطريق الذي كان الرجل قد حاد عنه، واتجهت مباشرةً صوب الغمامة.

ضربت إيرين مُخيَّمها تلك الليلة بالقُرب من جدولٍ اسودَّ لونُه بفعل الرماد؛ ولكي تغلي الماء لتصنع المالاك كان عليها أن تُصفِّيه أولًا في زاويةٍ من زوايا بطانيتها؛ لأن تلك كانت حالة طارئة لم تكن قد خطَّطت لها. «وإن كنتُ أعتقد أنه كان ينبغي أن أخطِّط لها» هكذا قالت لتالات، وهي تُعلِّق الغطاء الرطب على إطارٍ من الأغصان بالقرب من النار آملةً أن يجفَّ قبل أن يتعيَّن عليها أن تُدثِّر به نفسها. وكان عليها أن تُصفِّي الماء لأجل تالات أيضًا، ذلك أنه رفض أن يشرب من الماء المليء بالرماد في الجدول؛ إذ أخذ ينخُر وينبش الأرض بحوافره ويهزُّ رأسه في استياء وأُذناه منبسطتان.

وكانت نار المُخيَّم أقلَّ جلبًا للراحة مما كان ينبغي لها أن تكون؛ إذ توهَّج ضوءُها فآذى عيونهما، وبدا أن النار تُصدر دخانًا أكثرَ مما ينبغي بنار مُخيَّم صغيرة أن تفعل، وقد علِق الدخان قريبًا من الأرض ولم ينجرف بعيدًا، وإنما تعلَّق بحلقَيهما وصدرَيهما. تلفَّفت إيرين بالغطاء الذي كان لا يزال رطبًا وحاولت أن تنام؛ لكن أحلامها أقضَّت مضجعها؛ فقد سمِعت التنين يتنفَّس، وبدا لها أن الأرض من تحتها تهدر بنبض قلب التنين. وكان تالات هو الآخر أرِقًا، فكان كثيرًا ما يلتفِت مُحدِّقًا في الظلمة، وكان ينفض جِلده وكأنه كان يشعر بنُدَف الرماد تحتكُّ به.

أقبل الفجر، وكانت إيرين ترقُد مُستيقظة تمامًا، تشاهد النورَ يزداد، وكانت لا تزال تشعر بالأرض ترتجف من نبض التنين؛ ولم يكتمل سطوع النور كما ينبغي له، وإنما ظل الجو مغبشًا كوقت الشفق. طوت إيرين بطانيتها وتركتها مع عُدة الطهو في حِمى صخرة؛ ودهنت جسمَ تالات كلَّه بالكينيت، وكذلك فعلت بنفسها، وارتدت بزَّتها الجلدية المدهونة؛ ثم دهنت نفسها وكذلك جوادها بالكينيت مُجددًا، وكان تالات مُستسلمًا بفعل الضوء الرمادي والأرض المُرتعشة ولم يَحتجَّ على هذا الانحراف عن الجدول الزمني المعتاد. ودهنت إيرين رِماحها بالكينيت، وتحقَّقت من أنَّ المقابض المصنوعة من الجلد المدبوغ معقودة في مكانها بإحكام؛ وتحقَّقت من إبزيم حزام سيفها ومن مَكمن السكين القصيرة التي تحملها في فردة حذائها اليُمنى. وفي الأخير، شدَّت قُفَّازَيها على يدَيها؛ وشعرت بأن أصابعها مُتيبِّسة وكأنها خناجر.

كان ماور ينتظرهما. كانا قد أمضيا ليلتهما لا يفصلهما عن التنين سوى صخرة ناتئة أطول من تالات بقليل؛ وكان الاتجاه الذي كثيرًا ما التفت إليه تالات أثناء ساعات الليل هو الاتجاه الذي كان يكمُن فيه التنين. أو ربما كان ماور قد اقترب منهما من المكان الذي كان قد رقد فيه بالأمس، وكان ثِقل أقدامه هو ما شعرت إيرين بأنه نبضُ قلبِه فيما رقدت مُستيقظة بالقرب من نار المُخيَّم الكثيرة الدخان.

ربما لم يكن التنين كبيرًا بحجم جبل؛ لكن الغمامة السوداء الكثيفة التي كانت عالقة على مقربة منه جعلته أكبرَ من الجبل، وحين وقعت عيناه عليهما رفع جناحَيه شيئًا قليلًا، فاختفت الشمس وعوت حولهما ريحٌ كأنها ريح عاصفة. ثم أحنى التنِّين رقبته الطويلة إلى الأرض، وكان أنفه مُسدَّدًا تجاههما، وحدَّقت عيناه الحمراوان المُرتخِيتا الجَفن فيهما مباشرةً.

توقَّف تالات عندما صارا خلف الصخرة التي شكَّلت لهما حاجزًا واقيًا، ورفع رأسه. كانت إيرين مستعدة للترجُّل بسرعة عن صهوة تالات إن كانت شجاعة تالات أقل من أن يُواجه ماور؛ إذ لم يكن قد حظِي بما حظِيت به من تحذير، وعلى الأقل حتى الليلة السابقة لا بد أنه اعتقد أنهما في طريقهما لمواجهةِ تنينٍ آخرَ كغيره من التنانين. لكن تالات وقف، وقد تجذَّرت حوافره في الأرض، وأخذ يُبادل التنين التحديق، واتسعت عينا ماور الحمراوان أكثرَ قليلًا، وبدأ يُكشِّر قليلًا، وتسرَّب دخان من بين أسنانه التي كانت تُقارب طولَ أرجل تالات. زحف الدخان على الأرض نحوهما، والتفَّ حول كاحلَي تالات الأبيضَين، فضرب الأرض بقدَمِه وارتجف لكنه لم يتحرَّك من مَوضعه، وزاد التنين من تكشيره قليلًا.

كانا في وادٍ صغير يُشكِّل حوضًا؛ أو أنَّ ما تبقى من الوادي مع وجود التنين فيه كان صغيرًا. كان بالوادي فيما مضى أشجار، وكذلك كان ثمَّة أشجار على المنحدرات الشديدة من حولهم، لكن لم يَعُد ثمَّة أشجار الآن. كان من الصعب رؤية أي شيء. كان الدخان يتصاعد من حولها، والوادي قد صار أسودَ؛ وحين تحرَّك نتوء صخري مُنخفض نحوهما، أدركت إيرين فجأةً أنها جزء من ذيل التنين. كانت التنانين في بعض الأحيان تصرَع فرائسها بذيولها حين لم يكن لدَيها رغبةٌ في أن تستهلك الطاقة التي يتطلَّبها أمرُ نفْث النار، أو حين كانت تشعر أن الفريسة لا تستحقُّ العناء.

أرخت إيرين رمحًا في مكانه وقادت تالات إلى الأمام بساقَيها. إلا أنه كان بطيئًا بعض الشيء في استجابته. رفعت إيرين الرمح وقذفتْه بكلِّ ما أوتيت من قوة نحو عين التنين الأقرب.

رفع ماور رأسه بحركةٍ مفاجئة، فارتدَّ الرمح عن النتوء الصلب تحت عينه دون أن يُحدِث أي ضرر؛ ومال تالات بعيدًا عن الذَّيل المُهاجِم. وفيما تفادى تالات الذيل التفت رأس التنين كالثعبان، فراوغ تالات مجددًا، ومرَّت النار تصدَح بالقرب من أذن إيرين، نار لم يَشهد أيٌّ منهما مثلها من قبل، بقدْر ما كان هذا التنين مُختلفًا عن أي تنِّين آخرَ شهِداه من قبل. كانت النار بيضاء تقريبًا، مثل البرق، وفاحت منها رائحةٌ حادة ومعدنية؛ كانت رائحتها تُشبه رائحةَ الصحراء وقت الظهيرة، كانت رائحتها مثل رائحة حريق في غابة؛ وكانت لفحة الهواء التي غلَّفتها أكثرَ سخونة من أي مِصهَر معادن في دامار.

وقد استحالت عين تالات بيضاء فيما بادل التنين خلفه التحديق بنظرةٍ غاضبة من فوق كتفه؛ كان ماور يجلس جاثمًا الآن، لكنه كان يُكَشِّر ثانيةً عن أنيابه، ولم يأتِ بأي حركة تجاههما.

كانت إيرين ترتجف على السَّرج، ارتجافًا طويلًا مُضطربًا يَشي بالذعر. فكَّت الرمح الثاني والتفَّت بتالات في تردُّد لتواجه التنين مجددًا؛ أرادت بشدة أن تهرُب وتختبئ، ولولا أن حلقها كان جافًّا من شدةِ ما بها من رعب لانتحبت. وطقطقت كتفُها فيما رفعت الرمح. وحثَّت تالات على التقدُّم، فتحرَّك بأرجلٍ مُتيبِّسة، وكان ذيله يضرب يَمنة ويَسرة في قلق؛ وأسرعت به إيرين وكأنهما سيجتازان التنين من جانبهما الأيسر؛ وطوال الوقت كانت تعي أن عينَي ماور الضيقتَين كانتا تُراقِبانهما وهو ما أصابها بالذعر. سعَلت إيرين من الدخان المتصاعد، وكادت تفقد السيطرةَ على الرمح؛ وفيما كانا قد قاربا تجاوزَ الكتف الأخرى للتنين أدارت تالات فجأةً فانحرف نحو الداخل من تحت صدْر التنِّين بينما هو جاثم، وقذفت الرمح نحو البُقعة الضعيفة تحت فكِّه.

وانحرف ماور بعيدًا عنهما بأسرعَ مما يمكن لشيءٍ في مثل حجمه أن يتحرَّك؛ وقد تسبَّب الهواء الناتج عن حركته في ترنُّح خطوات تالات، حتى تعثَّر. ورفع ماور رأسه وهو يزأر زئيرًا بدا كصوت جبال تنهار، واندلعت في السماء نارٌ باللونَين الأبيض والأصفر. تشبَّثت إيرين بوهَنٍ في عُرف تالات فيما انحرف مُبتعدًا عن مِخلَب التنين الأمامي الجارف، ورأت أن رمحها قد أصاب هدفه؛ كان الرمح يَتدلَّى من تحت فكِّ التنين وبدا شيئًا هشًّا كعود عشب، وعرفت إيرين أن تلك الضربة لم تكن ذات جدوى. فلو كانت رميتُها محكَمة، لسقط ماور من فوره يُقاسي سكرات الموت، ولمَّا انهال عليهم برأسه ثانيةً وقذف عليهم لهيبًا أبيضَ من شدة حرارته.

انحرف تالات ثانية، ولم تمسَّهما النار إلا وهي تمر بهما. هزَّ ماور رأسه بعنف فتحرَّر رمح إيرين من مكان إصابته وارتمى بعيدًا وكأنه ورقة شجر في عاصفة؛ كانت عينا التنين مفتوحتَين عن آخرهما الآن، وسمِعا هسهسة أنفاسه، ووجَّه نحوهما مزيدًا من اللهب، فاستدار تالات جانبًا ثانيةً باستماتة. وكان ثمَّة عَرق على ظهر تالات، وكذلك أحاط العَرق بعينَيه الداكنتَين؛ ولم تستطِع إيرين فِعل شيء سوى التمسُّك في صمتٍ بالسَّرج؛ إذ رفض عقلها أن يعمل. كانت قد فقدت رِماحها، ولم يكن يمكن فِعل شيء مفيد بسيفها. قفز تالات جانبًا مرة ثانية، فكاد يُسقِطها من فوق صهوته؛ وانكمشت بائسةً وتساءلت لماذا لم يولِّ تالات ظهرَه ويهرُب، وإنما استمرَّ في مواجهة هذا الوحش، ينتظرها أن تفعل … شيئًا.

اندلع نحوهما تيارٌ آخر من اللهب، وهذه المرة، وبينما ارتدَّ تالات على عرقوبيه واستدار هلعًا جهة اليمين، خانته ساقُه الخلفية الضعيفة. فصرخ، خوفًا أو خِزيًا، فيما الْتوت ساقُه وسقط؛ وسقطت إيرين معه؛ ذلك أن ردودَ أفعالها كانت فاقدة للحس للغاية بحيث لم يمكن لها أن تُحرِّرها. وهكذا، كانت إيرين فوق تالات قليلًا، ولحِق بها شيء من لهيب التنين فغشيها.

كانت إحدى ذراعيها مرفوعةً لأعلى، أو تخلَّفت عنها أثناء السقوط، فأحرقت النار الجلد المتشبِّع بالكينيت فحوَّلته رمادًا على الفور، وسفعَتْ ذراعها من تحته؛ كما اسودَّت الخوذة التي على رأسها وسقطت عنها، واحترق معظم شعرها، وشبَّت النار بوجهها المدهون بالكينيت. فتحت فمَها لتصرخ، وحينَها كانت قذيفة اللهب قد تجاوزتها، وإلا لكانت قد ماتت من فورها؛ لكن مع ذلك انسلَّ شيءٌ قليل من الطرَف الخارجي من نار التنين، والذي لم يكن أسخن من النار المُستخدَمة في صناعة سيوف الملك، من بين شفتَيها وعبْر حلْقها إلى رئتيها، وحينها لم يكن قد تبقَّى لها شيء تصرُخ به.

حينها أصبحت إيرين تحت ألسنة اللهب، وراقدة على الأرض وإحدى ساقَيها عالقة تحت جسد تالات، ورقد تالات بلا حَراك. وكان ما بها من ألَمِ احتراقِ حلقها ورئتيها عظيمًا جدًّا حتى إنها كادت تنسى ما بها من ألمٍ في ذراعها ورأسها؛ لكنها وجدت، بطريقةٍ ما، ما يكفي من الوعي بداخلها لتُفَاجَأ، وذلك حين رأت ظلًّا عظيمًا يتحرَّك باتجاههما ويحوم فوقهما، أنه لا يزال بإمكانها الرؤية وبكلتا عينَيها. ما زلتُ على قيد الحياة، هكذا فكَّرت في نفسها ورمشت بعَينها؛ وكانت وجنتُها غير المحترقة على الأرض، وشعرت بأن الأرض باردة كالثلج. فكَّرت في نفسها: «ها هو ذا التنين يَميل علينا؛ لا شك أنه سيقضي علينا هذه المرة.» وأمام عينَيها كان ثمَّة ضباب أحمر اللون معلَّق في الجو، أو ربما كانت عيناها مُلتهبتَين وحسب من الدخان والرماد؛ لكن لم يكن بإمكانها الرؤية بوضوح. ولا بد أنها قد تخيَّلت أنها رأت فكَّي التنين ينفتِحان؛ لأنها لو كانت قد رأتهما ينفتحان فعلًا، لم يكن ليُصبح لديهما وقتٌ مُتبقٍّ. وهكذا كان لديها وقتٌ لتفكر، بهدوء وصفاء، لقد قتلتُ تالات لأنه ما كان ليستدير ويهرب؛ فهو جوادُ حرب. ربما يُمكنني أن أهرُب نحو الأمام، وليس نحو الخلف أيضًا، بعدما فات أوان الهرب.

لم يكن لديها وقت لتُدرك مدى سوء إصابتها؛ لذا لملمت نفسَها وألقت بنفسها على أنف التنين وهو يَحني رأسه ليُحرِّكهما بأنفه، أو ليبتلِعَهما، أو أيًّا كان ما نوى أن يفعله؛ واكتشفت بعد فوات الأوان أن كاحلها الذي كان قد علِق تحت جسد تالات مكسورٌ، وأن ذراعها اليسرى مشلولة بفعل النار حتى إنها لم تكن تستطيع أن تُنفِّذ ما تريد؛ لكنها وبطريقةٍ ما أمسكت بفتحتي أنف ماور، وفيما سحب رأسه نحوَ الأعلى بعُنفٍ تمسَّكت به بشدَّة بيد واحدة وقدم واحدة، وربما تمسَّكت بأسنانها أيضًا. فكَّرت في نفسها، ولكن في سوداوية الآن، أنها تفعل ذلك لأجل تالات. قالت في نفسها إنه لا يزال هناك سكِّين في حذائها، لكنها لا تملك إلا يدًا واحدة؛ ولا يُمكنها أن تتشبَّث به وتسحب السكين بيد واحدة.

إلا أن ماور تراجِع وهو يرفع رأسه، فحمَلَها الهواء على أنفه لحظةً، وكادت تضحك، وأعملت يدَها السليمة في أعلى حذائها الطويل الرقبة وسحبت السكين منه. توقَّف التنين عن التراجُع وهبش أنفه بمخالب إحدى ساقَيه الأماميتَين؛ لكنَّ عينَيه كانتا مُتدنِّيتَين كثيرًا وتقعان في رأسه في بقعةٍ مُتأخِّرة كثيرًا بحيث لم يستطِع التنين أن يرى موضعها، وكان جِلده ثخينًا بأكثر من أن يستطيع أن يُحدِّد بدقة موضعها، فأخطأتها ضربةُ مخالبه. وقالت في نفسها إنه لم يتبقَّ إلا خطوات قليلة، بضع خطوات بعد، ولا يُهم إن كان كاحلها مكسورًا؛ فوقفت حتى كادت تنتصب وجرت مسافةً طولها يساوي طولَ رأس التنين وألقت بنفسها فتسطَّحت وأغمدت سكينها في عين ماور اليُمنى.

كان وزنها كلُّه خلفَ قوة الضربة؛ ذلك أنها لم يكن قد بقي بها من القوة إلا قليل، ودفع وزنها بالسكين عميقًا في عين التنين حتى وصل إلى مخِّه، وبينما كانت أصابعها المُغطَّاة بالقفاز مقبوضة في تشنُّج حول مقبض السكين، تبِعتها ذراعها حتى كتفها. فاندفعت دماء التنين الساخنة كالنار في وجهها، كالنافورة وغطَّتها، وغابت عن الوعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤