الفصل الثالث

كانت إيرين في صغرها تعشق تالات، فَحْلَ الحربِ الجسورَ الخاصَّ بوالدها، برأسه الشامخ وذيله المرتفع. وقد رأت أن من البديع أن يقف على قائمتَيه الخلفيتَين ويُهاجم أيَّ أحد عدا هورنمار ووالدها، كان الجواد يقف على قائمتَيه الخلفيتَين وأذناه مُستقيمتان جهةَ الخلف، بحيث يبدو رأسه الطويل الإسفيني الشكل وكأنه ثعبانٌ يُهاجم.

لكن حين كانت في الثانية عشرة من عمرها كان والدها قد انطلق إلى معركة حدودية؛ إذ كانت طُغمة قليلة من الشماليين قد تسلَّلت عبْر الجبال وأحرقت قرية دامارية. كان شيء من هذا القبيل يحدُث بصورة متكررة، وفي تلك الأيام كان أرلبيث أو أخوه ثومار يتولَّيان أمرَ هذه الأحداث، فكانا يركبان الخيلَ على عجلٍ مُتشجِّعين لسحق مجموعةٍ قليلة من الشماليين الذين مكثوا لينهبوا ويغنموا بدلًا من أن يعودوا من فورهم عبْر الحدود. وكان الشماليون يعرفون أن انتقام الداماريين دائمًا ما يكون سريعًا، لكن دائمًا ما تكون منهم قلةٌ جشعة متباطئة. كان هذا هو دَور أرلبيث هذه المرة؛ وقد كان هناك من الشماليين عددٌ أكثر من المعتاد. قُتل ثلاثة رجال مباشرةً ولَقِي حصان حتفه؛ وأُصيب رجلان بجروح … وكذا أُصيب تالات.

كان تالات قد تلقَّى ضربةً بسيف أحد الشماليين شقَّت خاصرته جهة اليمين، لكنه حمل أرلبيث آمنًا عبْر المعركة حتى نهايتها. وارتاع أرلبيث حين أصبح أخيرًا في حلٍّ لأن ينزل عن صهوته ويتعهَّد الجرح؛ فقد قُطعت عضلاته وأوتاره؛ كان يُفترَض أن يسقط الجواد حين تلقَّى الضربة. إنَّ أول ما جال ببال أرلبيث هو أن ينهيَ حياته في حينها؛ لكنه نظر إلى وجه جواده الأثير، وقد الْتوت شِفاهُهُ كاشفةً عن أسنانه وبدا بياضُ عينه حول حدقتها: كان تالات يتحدَّى سيِّدَه أن يقتله، ولم يستطِع سيدُه فِعلها. فكَّر أرلبيث إن كان الجواد عنيدًا بما يكفي ليسير إلى المنزل على ثلاثة أرجل، فأنا عنيد بما يكفي لأن أدعَه يحاول.

كانت إيرين من أوائل مَن هرولوا خارج المدينة والتقت بالسريَّة العائدة. وكانت السرية بطيئةً في عودتها للديار؛ ذلك أن تالات كان قد حدَّد إيقاع مسيرهم، ومع أن إيرين كانت تعرف أن رسولًا كان سيُرسَل إلى المدينة في الطليعة لو كان أي شيءٍ قد حدث لوالدها، إلا أن بطئهم كان يُقلقها؛ وشعرت بخوفٍ مريع يعتصر أمعاءها حين رأت تالات أول ما رأت، ورأسه يتدلَّى فيكاد يصل إلى رُكبتَيه، وهو يضع سيقانه الثلاث ببطءٍ واحدةً تلوَ الأخرى ويَحْجِل على الرابعة. وحينها فقط رأت أباها يسير على الجانب البعيد من الجواد.

بطريقةٍ ما صعد تالات بصعوبةٍ التلَّ الأخير نحو القلعة، وتحرَّك ببطءٍ إلى داخل مَربطه، وبتنهيدةٍ فظيعة شاقَّة استلقى ببطء على القش، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يجلس فيها منذ تلقى ضربةَ السيف. قال أرلبيث مُتجهِّمًا: «لقد قطع كل هذه المسافة»، وأرسل في طلب المُعالِجين؛ لكنهم حين أتَوا مُحاصِرين تالات في مربطه، هبَّ واقفًا وخوَّفهم، وحين حاولوا أن يَصبُّوا المخدِّر في حلقه، تطلَّب الأمر أربعةً من الخدم وسلسلة مربوطة حول فكِّه لتثبيته.

وقد خاطوا له جرح ساقِه، وشُفِيَت. لكنه صار أعرجَ، وسيظل أعرجَ طَوال حياته. أحالوه إلى مرعًى خاصٍّ به، أخضرَ بعُشبٍ طوله يُقارب ارتفاعَ صدره، معتدل الجو بفعل الأشجار فيه، به جدولٌ صغير يشرب منه وبِركة ينقع نفسَه فيها، وطين عند حافة البِركة ليتمرَّغ فيه، وسقيفة كبيرة جافة وجميلة تقِيه المطر؛ وكان هورنمار يُحضِر له الحبوب في الصباح والمساء ويتحدَّث إليه.

لكن تالات ازداد نحولًا وبدأ يفقد رُقَطَه السوداء؛ إذ خشُن شَعر جِلده ولم يأكل الحبوب، ورفض التعامُل مع هورنمار؛ لأن هورنمار كان حينئذٍ يرعى جواد الحرب الجديد لأرلبيث.

كان أرلبيث قد علَّق آماله على أن يُنجبَ له تالات أمهارًا؛ وما كان ليرغب في شيءٍ أفضلَ من أن يمتطيَ صهوةَ تالات ثانية. لكن ساق تالات المُصابة كانت ضعيفةً للغاية؛ فلم يكن بإمكانه أن يَعتليَ إناث الخيل، ومن ثمَّ كان يُهاجمها بضراوة، وكان ينقلب على سائسيه حين يحاولون منْعه من ذلك. وقد أُعيد تالات إلى مَرعاه في خِزي. فلو كان حصانًا عاديًّا ولم يكن الأثير عند الملِك، لصار طعامًا للكلاب.

كان قد مرَّ ما يزيد على سنتَين منذ أن اقتاد أرلبيث تالات إلى الديار من آخرِ معاركه، وكانت إيرين في الخامسة عشرة من عمرها حين أكلت بعضَ أوراق السوركا. ففيما كانوا يُحاولون أن يجعلوا تالات يتناسل، كانت إيرين تترنَّح وتسقط من فوق السلالم ويطاردها دخان أرجواني ينبعث من كهوفٍ قرمزية.

بدأ الأمر بمواجهةٍ مع جالانا، كما بدأ الكثير من أسوأ المتاعب التي حدَثت لإيرين. كانت جالانا هي الأصغر بين أفراد العائلة الملَكية باستثناء إيرين، وكانت على مشارف السابعة من عمرها حين وُلِدت إيرين. وكانت جالانا قد أصبحت مُعتادةً تمامًا أن تكون الطفلةَ المدلَّلة للأسرة، فكانت تتلقَّى المُلاطفة والمُداعَبة؛ وكانت طفلةً غايةً في الجمال، وقد تعلَّمت بسهولةٍ أفضلَ سُبل استغلال مَن يُرجَّح أن يُدلِّلوها. وكان تور هو الأقرب لها في العمر؛ إذ كان يَكبُرها بأربعة أعوام فقط، لكنه دائمًا ما كان يحاول أن يتظاهر بأنه ناضج بقدْر بقيةِ أقربائه بيرليث وثورني وجريث، الذين كانوا أكبرَ منه بست وسبع وعشر سنوات. ولم يكن تور يشكِّل تهديدًا. أما قريبتهم التالية الأصغر سنًّا، كاتاه، فكانت تكبُر جالانا بخمس عشرة سنة، وكانت المسكينة كاتاه بسيطةً وساذجة. (وقد تزوَّجت أيضًا بعد فترة قصيرة للغاية من ولادة إيرين، بأحد البارونات القرويين، حيث ازدهرت حياتها؛ الأمر الذي أثار اشمئزاز جالانا كثيرًا، وأصبحت شهيرةً بأنها سوَّت خلافًا في أُسرة زوجها على أرضٍ، كان سببًا في صراع دموي طويل استمرَّ أجيالًا.)

لم تكن جالانا مسرورة على الإطلاق بولادة إيرين؛ فلم تكن إيرين تحمل لقب أميرة أولى وحسب — اللقب الذي لن تحمِله جالانا أبدًا إلا إذا تمكَّنت من الزواج بتور — بل إن أمَّها ماتت وهي تلِدُها، الأمر الذي جعل إيرين شخصيةً مُثيرةً للاهتمام جدًّا داخل الأسرة نفسِها التي كانت جالانا ترغب في أن تستمرَّ في أن تتمحور حولها هي.

كانت إيرين بطبيعتها من نوع الأطفال الذي يقع في المتاعب أولًا ثم يفكِّر في الأمر لاحقًا إن فعل، وكانت جالانا بدورها فَطِنة إلى حدٍّ كبير. كانت جالانا هي مَن تحدَّت إيرين لتتناول ورقة من السوركا؛ تحدَّتها بأن قالت إن إيرين ستخشى أن تمسَّ النبات الملكي؛ لأنها لم تكن تحمل دمًا ملكيًّا حقيقيًّا؛ وأنها انتكاسةٌ إلى نَسل أمِّها من الساحرات، وأن أرلبيث كان أباها اسمًا فقط. وأنها ستموت إن مسَّت نبات السوركا.

كان ينبغي لإيرين، وهي في الخامسة عشرة من عمرها، أن تكون قد أظهرت بالفعل علاماتٍ على «هِبات» دمها الملكي؛ عادةً ما تبدأ «الهبة» في إظهار وجودها — في أغلب الأحيان من خلال نوباتٍ سبَبُها روح شريرة — في سنٍّ أصغر من ذلك بسنوات. كانت جالانا قد دبَّرت لأن تواري كُرهَها لأصغر أقربائها طوال سنوات بعد أن كانت نوبات غضبِها على مولد إيرين قد باءت بفشلٍ تام؛ لكن مُؤخَّرًا خطر لجالانا، التي كانت حينئذٍ قد تقدَّمت في العمر، أن إيرين لو كانت حقًّا انتكاسة، أو تسلية — كما بدأ يظهر حقًّا — لكان لجالانا مُسوِّغ ممتاز يجعلها تزدري إيرين وتَمقُتها؛ فوجود إيرين كان عارًا على الشرف الملكي.

وقفت الاثنتان متواجِهَتَين وحيدتَين في الحديقة الملَكية، تتبادلان التحديقَ إحداهما في الأخرى. كانت جالانا قد اكتملت نموًّا وجمالًا بحلول ذلك الوقت؛ كان شعرها الأسود الضارب إلى الزُّرقة يتدلَّى متجاوزًا وَرِكيها في تموُّجات ثقيلة، وكان مثبتًا في مكانه ببراعة من خلال شبكةٍ ذهبية من خيوط دقيقة نُظمت فيها حبَّات اللؤلؤ؛ وكانت وجنتاها محمرَّتَين من الغضب على نحوٍ جذَّاب حتى أصبحتا في حمرة شفتيها، وكانت عيناها السوداوان الواسعتان جدًّا مفتوحتَين على اتساعهما. وكادت أهدابها الطويلة أن تنموَ مُجدَّدًا منذ الليلة التي وضعت فيها إيرين مُخدرًا في نبيذ عَشائها وتسلَّلت إلى حجرة نومها في وقتٍ لاحق وقصَّت أهدابها. عرف الجميع من فورهم مَن فعلها، ولم تتكبَّد إيرين عناء إنكار ذلك؛ ففي عموم الأمر كانت إيرين تزدري الكذب. كانت إيرين قد قالت أمام البلاط المنعقد — ذلك أن جالانا كانت قد أصرَّت كالعادة أن تعقد جلسة خصومة علنية — إنه يجب على جالانا أن تكون مُمتنةً لأنها لم تحلق لها شَعر رأسها؛ كانت جالانا تنخر كالخنزير في نومها، وما كانت لتستيقظ منه حتى لو رمَتْها خارج نافذة حجرة نومها. عندئذٍ انفجرت جالانا في نوبةٍ هستيرية قوية وتحتَّم أن تُحمَل إلى خارج القاعة (كانت ترتدي بُرقُعًا يغطي وجهها حتى شفتيها، حتى لا يمكن لأحد أن يرى ملامحها المُدمَّرة) وأُبعِدَت إيرين إلى غرفتها الخاصة مدة أسبوعين.

كانت إيرين في نفس طول جالانا، فكان جسد جالانا مكتنزًا وصغيرًا ومستديرًا، وكان جسد إيرين طويلًا وأخرقَ؛ وكانت بشرة إيرين الشاحبة تُظهِر بُقَعًا حين تغضب، وشعرها المائج بعنف — الذي حين يكون مبتلًّا بعد استحمامها يكون في واقع الأمر أطولَ من شعر جالانا — ازداد تموُّجًا بفعل حرارة انفعالها، رغم كلِّ ما به من دبابيس تحاول أن تُبقيه تحت السيطرة. كانتا وحيدَتَين في الحديقة؛ ولم تكن جالانا تخشى أن تثرثر إيرين بما حدث أيًّا كان (كان ذلك ذريعةً ممتازة أخرى لجالانا كي تزدري إيرين)، وهكذا حين التفتت إيرين وجذبت فرعًا من السوركا وحشَتْ معظم أوراقه في فمها، لم يكن من جالانا إلا أن ابتسمت. التَوت شفتا جالانا المُمتلئتان بجاذبيةٍ شديدة حين ابتسمت، فأصبح بروز عظام وجنتيها مستدقًّا.

حاولت إيرين أن تتقيَّأ وشهقت وتلوَّن جسدها بألوان كان آخِرها الشحوب، ثم هوت بشدة على الأرض. لاحظت جالانا أنها كانت لا تزال تتنفَّس، ومن ثمَّ انتظرت بضع دقائق فيما أخذت إيرين تتلوَّى وترتجف، ثم توجَّهت متأنيةً تطلب المساعدة. وكانت مقالتها أنها ذهبت تتنزَّه في الحديقة ووجدت إيرين هناك. كان هذا صحيحًا إلى حدٍّ ما؛ لكنها كانت تخطِّط منذ مدةٍ من الوقت لأن تجد إيرين وحيدةً في الحديقة، حتى يتسنَّى لها أن تقول لها أشياء معيَّنة. كانت قد فكَّرت في تلك الأشياء بينما لازمت حجرتها فيما أخذت أهدابها تنمو مجددًا.

مرِضت إيرين أسابيع. كانت الجرعة التي تناولتها قد سبَّبت لها هلوسات جنونية عن رجال لهم جِلدٌ شفَّاف أزرق يَمتطون وحوشًا لها ستُّ أرجل، وعن وجهٍ شاحب يُشبه وجهها إلى حدٍّ مُرعب ملفوف حول صدغَيه ضمَّادةٌ رمادية باهتة، ينحني فوقها خلال سحابات من الدخان، وعن كهفٍ له خمسة جدران تتلألأ وكأنها مُرصَّعة بالياقوت. بعد ذلك أخذت أسوأ هذه الهلوسات تخبو، فتسنَّى لها أن ترى ثانيةً جدران حجرتها حولها، ووجه تيكا وهي منحنية فوقها، تختلط فيه مشاعرُ الغضب والذُّعر؛ لكنها كانت لا تزال تعاني نوبات دُوار وآلامًا في المعدة، وقد دامت هذه النوبات والآلام فترة طويلة جدًّا. كانت تعرف أنَّ الأمر لم يكن يُفترَض أن يكون على هذا النحو في حالةِ ابنة ملك، تمامًا كما قالت جالانا؛ وقد تسبَّب اكتئابٌ أصابها، ولم تُقرَّ بوجوده أكثرَ من ذلك، بأن أبطأ من تعافيها.

«أيتها الحمقاء!» هكذا صاح فيها تور. «أيتها البلهاء المُغفَّلة، يا لكِ من معتوهة مجنونة! كيف استطعتِ فعل ذلك؟» حاول أن يُذكِّرها بقصص نبات السوركا؛ وتساءل إن كان قد تصادف وتذكَّرت هي أن تلك النبتة خطيرة حتى على أولئك الذين ينتمون إلى العائلة الملكية؟ صحيح أنها لم تكن تَقتُلهم؛ صحيح أن ورقةً منها كانت تهَبُ حاملَ الدم الملكي قوةً خارقةً للطبيعة وعينًا نافذةً كعيون الطيور الجارحة، أو إن كانت «الهِبة» قوية بما يكفي، كانت تمنح رؤًى حقيقية؛ وإن كانت الأخيرة تلك غاية في النُّدرة. لكن حين ينجلي أثرُ تلك الأوراق بعد عدة ساعات أو عدة أيام، تكون التأثيرات اللاحقة في أفضل الأحوال إنهاكًا مُميتًا ورؤية مشوَّشة، وأحيانًا تكون هذه التأثيرات مستديمة. أَنَسِيَتْ حكايةَ الملك ميرث الثاني، الذي ظلَّ في ميدان المعركة طوال أسبوعين لم يذُق فيهما الراحةَ بفضل نبتة السوركا، فلم يكن يتوقَّف إلا ليمضغ أوراقها لدى الحاجة؟ لقد ربِح المعركة، لكنه مات وهو يُعلِن انتصاره. وحين دفنوه كان يبدو وكأنه طاعن في السن جدًّا، مع أنه لم يكن قد تجاوز العشرين إلا بعامٍ واحد.

«لا بد أنكِ أكلتِ نصفَ الشجرة، يبدو ذلك من حجم ندبة الفرع الذي اقتلعتِه. هذا يكفي لاثنين أو ثلاثة من أمثال الملك ميرث. هل حقًّا تُحاولين قتْل نفسكِ؟» هنا كاد صوته ينقطع، فتعيَّن عليه أن ينهض وأخذ يضرب الأرضَ بقدمِه في أرجاء الغرفة وركل كرسيًّا كان في متناوله، ورفعه بعد ذلك حتى لا تُلاحظ تيكا ما فعل فتمنعه من دخول غرفة التمريض. ثم جلس على حافة فراش إيرين وأطال التفكير. «لا بدَّ أن جالانا هي مَن كانت وراء ذلك. جالانا دائمًا هي السبب. ماذا فَعَلَتْ هذه المرة؟»

تحرَّكت إيرين في مكانها. «بالطبع جالانا هي السبب. لقد يئستُ من التفكير في عذرٍ يمنعني من حضور زفافها. لم يبقَ عليه إلا ما يزيد قليلًا على موسمٍ واحد كما تعلم. وكان هذا هو أفضل ما واتاني من أفكار.»

هنا ضحِك تور، على مضض، لكنه ضحك. «أسامحكِ تقريبًا.» ثم مدَّ يدَه وأمسك إحدى يدَيها. أحجمت هي عن إخباره أنَّ تَقافُزَه على حافةِ فراشها كان يُشعرها بالإعياء، وأن كل مرة يتحرَّك فيها يتعيَّن عليها أن تُعيد التركيزَ عليه ببصرها، وأن ذلك كان يجعلها تشعر بإعياء أكثرَ، فضغطت على يده. «أظن أنها تحدَّتكِ لتأكُلي ورقة منها. أظن أنها أخبرتكِ أنكِ لا تنتمين إلى سلالة الملوك، وأنك ما كنتِ لتَجرُئي على مسِّ تلك النبتة.» ونظر إليها بنظرات صارمة. نظرت إليه بدورها، وكانت ملامحها خالية من أي تعبير. كان تور يعرفها معرفةً تامة، وكان يعرف أنها تعرف، لكنها لم تقُل شيئًا؛ عرف تور ذلك أيضًا، وأطلق تنهيدة.

كان أبوها يزورها بين الفينة والأخرى، لكنَّه كان دائمًا ما يُرسِل خبرًا بقدومِه، وبمجرد أن أصبح بإمكانها الخروجُ من الفراش من دون أن تسقط من فورها وتتكوَّم على الأرض، بدأت تستقبله في غرفة الجلوس، فكانت تُثبِّت نفسها منتصبةً في كرسي مُستقيم ويداها متقاطعتان على حِجرها. وعندما كان يسألها عن حالتها كانت تُجيب أنها الآن تشعر بتحسُّن وتشكره. كانت قد عرفت أن أحدًا لا يستطيع أن يعرف مدى سوء انحراف بصرِها عن موضع تركيزها، ما دامت ساكنة في مكانها حيثُ لا يمكن للدُّوار أن يشتِّتها؛ فكانت تُبقي عينَيها مثبَّتَتين على الظلال الآخِذة في التبدُّل أمامها بلون البشرة حيث وجهُ والدها. ولم يكن والدها يمكث طويلًا مُطلقًا، وحيث كانت تُغلِق عينَيها حين كان يقترب منها لينحنيَ عليها ويقبِّل وجنتَها أو جبينها (كانت حركات الآخرين حولها تُسبِّب لها الدُّوار بقدْر حركتها هي)، لم ترَ قَط تعبيرات القلق على وجهه، ولم يكن يَصيح بها كما كانت تفعل تيكا أو يفعل تور.

وحين كانت بصحةٍ أفضلَ بما يكفي لأن تترنَّح خارج الفراش فترةً أطول مما يتطلَّبه الأمر لتجلس في كرسي في حجرة الجلوس الخاصة بها، أو بالأحرى حين كانت تبغض الفِراش كثيرًا حتى لم يَعُد بإمكان تيكا أن تُبقِيَ عليها فيه، كان يَتعيَّن عليها أن تشقَّ طريقها في أرجاء القلعة بالتحسُّس على امتداد الجدران؛ ذلك أن عينَيها وقدمَيها لم يُوثَق بهما. وكان تسلُّل أحدِ مُحاربي أبيها القدامى الذين هربوا من مساكن النعمة والفضل في الجزء الخلفي من القلعة غيرَ ذي تأثير على معنوياتها، وكانت بعزمٍ وطيدٍ أكثرَ من المعتاد تتفادى الجميع عدا تيكا، وكذلك تور بدرجةٍ ما؛ وكانت تبتعِد تمامًا عن طريق البلاط الملكي.

وكانت بصفة خاصة تتجنَّب الحديقة في منتصف القلعة. كانت نبتة السوركا موجودةً عند بوابتها الرئيسية، مُلتفَّة حول أحد الأعمدة الطويلة البيضاء. وكان وجود تلك النبتة رمزيًّا ليس إلَّا؛ إذ يمكن لأي أحد أن يمرَّ من دون أن يكون عُرضةً لخطرِ أن يمسَّ أوراقها، وكان ثمَّة مداخلُ أخرى عدة للحديقة. لكنها شعرت وكأن نبتة السوركا تبثُّ الهلوسات في الجوِّ من حولها وتنتظر بابتهاجٍ أن تتنفَّسها، وشعرت أيضًا وكأن النبتة تخشخش أوراقها في وجهها إن هي اقتربت منها أكثر من اللازم. وسمِعت إيرين النبتةَ تسخر منها إن هي تجرَّأت حتى أن تطأ إحدى الشرفات المُطلَّة على الحديقة من ارتفاع ثلاثة طوابق أو أربعة. كاد مرَضُها الذي طال أمدُه أن يُثبت حجَّة جالانا حول إرثها بأكثر من كونه حجةً عليها هي نفسها، وذلك بغضِّ النظر عما قاله تور، لكنها لم ترَ داعيًا لأن تذكِّر نفسها به بأكثر مما تفعل.

كان ما ساقها إلى المرعى انزعاجًا محصورًا يُخالطه إحساس بعلاقةٍ تربطها بتالات المضطرب والمحصور بنفس القدْر. كانت قد زارتْهُ من قبلُ أو حاولت ذلك، في السنوات الثلاث المنصرمة، لكنه لم يكن مُهذَّبًا معها أكثرَ من تهذيبه مع هورنمار، وقد آلمها كثيرًا مجردُ النظرِ إليه؛ لذا وبدافع الجبن توقَّفت عن الذهاب. والآن كانت تشعر أنها لم تَعُد تهتم؛ فهي على أي حالٍ لم يكن بإمكانها أن ترى بوضوح مسافةَ قدمَين أمامها. لكن كان شاقًّا نوعًا ما أن تُنفِّذ ولو خطة بسيطة جدًّا كأن تسير إلى أحد المراعي الأصغر التي تقع خلف الحظائر الملكية. أولًا، كانت تريد عصًا، حتى يكون معها شيء تتحسَّس به طريقها؛ لذا أقنعت تور أن يفتح لها باب قاعة كنوز الملك، الذي كان فتْحُه يتطلَّب تعويذةً تُحرِّر الأقفال، لم يكن باستطاعتها تنفيذها مثلما لم يكن باستطاعتها إصلاح الأطباق المكسورة.

أخبرت تور فقط أنها تريد أن تستعير عصًا للسير تتكئ عليها في صعودها ونزولها الدَّرج. وعرف تور يقينًا أنها كانت ترمي إلى شيءٍ أبعدَ من ذلك، لكنه لبَّى لها طلَبَها على أي حال. اختارت عصًا لها رأسٌ كبير على نحوٍ مقبول، حيث إن حاسَّة اللمس لديها كانت أيضًا ملتبِسةً بعض الالتباس.

كانت أول ردة فعلٍ من تالات أن يهاجمها. ولم تتحرك، إنما نظرت إليه وحسب، متكئة على عصاها وتتمايل برفق. «إن حاولتُ الهربَ منك، فستقفز الأرض بي وترميني عنها.» وفي صمتٍ تحدَّرت دمعتان على وجنَتَيها. «لا يُمكنني حتى أن أسير على نحوٍ طبيعي. مثلك.» طأطأ تالات رأسه وبدأ يأكل العشب، دون اهتمامٍ كبير، لكن ذلك أعطاه شيئًا يتظاهر أنه يفعله بينما ينظر إليها.

عادت في اليوم التالي، والذي يليه. بدا أن التريض، أو الهواء العليل، أو كليهما، يجديانها نفعًا؛ إذ بدأت رؤيتها تنجلي بعض الشيء. وكان الهدوء والسكينة يعمَّان مرعى تالات، حيث لم يأتِ أحد، وكانت تعود إلى القلعة المزدحمة على كُرْهٍ يزداد شيئًا فشيئًا. ثم واتتها فكرة المكتبة الملكية. ما كانت قدَم جالانا لتطأ المكتبة أبدًا.

ذهبت إيرين إلى المكتبة للمرة الأولى لتهرُب من مقرِّ إقامتها، الذي بدا في حجمِ علبة حذاء، وأيضًا بداعٍ من شيءٍ من الانزعاج المُبهم نفسه الذي كان قد أوحى لها بزيارة تالات. لكن، بفتور، مرَّرت إيرين أصابعها على ظهور الكتب التي اصطفَّت على الأرفف، وسحبت واحدًا له غلاف مُتقَن الصُّنع بصورةٍ مُثيرة للاهتمام. وفي فتورٍ أكبرَ فتحته، ووجدت أن عينَيها السقيمتَين المشوَّشتَين كانتا تُركِّزان تركيزًا رائعًا جدًّا على صفحةٍ مطبوعةٍ أمسكت بها ليس ببعيدٍ كثيرًا عن أنفها؛ ووجدت أنها تستطيع القراءة. وفي اليوم التالي أخذت الكتاب معها إلى مرعى تالات.

لم يستقبلها تالات بصهيل متحمِّس ينِمُّ عن الترحيب، لكن بدا أنه يقضي معظم وقته على الضفة غير المُوحلة للبحيرة، حيث أسندت ظهرها إلى ساق شجرة مُريحة وأخذت تقرأ. وقالت وهي تمضغ عودًا من العشب: «من الغريب أن يظنَّ المرء أنه لا يستطيع القراءة ما دام لا يستطيع السير. أن يظن أن تنظيم حركة العينَين سيكون على الأقل بنفس صعوبة تنظيم حركة القدمين.» انحنت إيرين وطرحت قضيبَ الميك على الأرض بأبعدِ ما يمكن ليَدِها أن تصل، واعتدلت في جِلستها ثانية وهي لا تنظر إلا أمامها مباشرةً. وبعناية حملت الكتاب الكبير في حجرها وأضافت: «حتى حمله في الأرجاء مُفيد. إنه نوعًا ما يزيد من ثِقلي، فلا أترنَّح كثيرًا.» كان بإمكانها سماع دقات حوافره يتبعها صوتُ جرِّه لساقه الضعيفة. «ربما يكون ما أحتاج إليه لقدميَّ مُكافئًا للتركيز العضلي للقراءة.» هنا توقَّف صوتُ الحوافر. «والآن، لو بإمكان أحدهم أن يُخبرني ماذا قد يكون ذلك.»

كان قضيب الميك قد اختفى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤