الجزء الرابع

علم وليد

(١) حرب الفرسان القديمة

في عام ١٦٠٤، ظهرت لأول مرة أسطورة غامضة عن معركةٍ الْتقى فيها الذهب والزئبق، مدجَّجَين بالسلاح كما الفرسان، مقابل عدوِّهم حجر الفلاسفة في شكل مادة مطبوعة (باللغة الألمانية)، بالرغم من احتمال وجود مخطوطات لهذه الأسطورة قبل ذلك التاريخ.1،2 وقد نُشِرَت نسخٌ مختلفة من هذه الخرافة على مدار القرن السابع عشر باللغتين الألمانية والفرنسية. ونُشِر النص النهائي (المبيَّن في الشكل ٤-١)3 باللغة الإنجليزية في عام ١٧٢٣، ويُشبه كلا المصدرَين الألماني والفرنسي. ومع ذلك، تظل هوية المؤلِّف خفية؛ هل كان ألكسندر توسَّا دي ليمويون دو سان ديزدييه (اسم ظريف، لكن من الواضِح أنه ليس اسم الكاتب الحقيقي)،1 أم يوهان تولده، الناشر الأصلي، الذي ربما يكون كذلك الشخصية الأسطورية بازيل فالانتاين؟
fig76
شكل ٤-١: صورة صدر الكتاب وصفحة العنوان من كتاب «انتصار حجر الفلاسفة» والذي ورَدَت فيه قصة «حرب الفرسان القديمة». تسرد هذه الحكاية الرمزية قصة معركة بين كلٍّ من الذهب والزئبق، اللذَين وقفا متأهِّبين لقتال حجر الفلاسفة.

وعلى الرغم من أن الجانب المُمتع في هذا الكتاب هو استخدام المجاز، فإن الجانب الأروع فيه هو توظيف الاستدلال العلمي الجامد، القائم على التجريب، لدحض بعض العقائد الجوهرية للمعرفة الخيميائية. وبرغم نجاح الخيمياء في تحويل المعادن (انتصار حجر الفلاسفة)، كانت أولى إرهاصات الثورة العلمية تتردَّد مسموعةً في الأفق.

في هذه القصة الرمزية، يُمثِّل الذهب فارسًا مُتغطرِسًا وعدوانيًّا، في حين يُمثِّل الزئبق فارسًا تابعًا للذهب، يدعمه في خضوع. لكن دعنا نستمع إلى الذهب بصوته الرخيم وهو في مواجهته مع حجر الفلاسفة:4

إنَّ الرب بذاته هو من وهبني الشرف، والسمعة، واللمعة البراقة، مما جعل قيمتي ثمينة. ولهذا السبب يُنقِّب كل الناس عني. ويَتمثَّل أحد أعظم جوانب كمالي في أنني معدن لا يُمكن أن يتبدَّل في النار، ولا خارج النار؛ لذلك يُحبُّني كل العالم، ويطاردني؛ أما أنت، فلست سوى هاربٍ ومحتالٍ يستغل كل البشر. وهذا واضح من فرارك وهروبك من أيدي كلِّ من يتعاملون معك.

وهنا يردُّ الحجر ردًّا موزونًا رغم قوته:4

هذا صحيح يا عزيزي الذهب، إنَّ الرب هو مَن وهبك الشرف والقدرة على البقاء والجمال، وهي الأشياء التي تجعل منك معدنًا نفيسًا؛ ولذلك يجب عليك أن تفتأ تَحمد الرب (على جودِه الربانيِّ)، لا أن تَزدري الآخرين كما تفعل الآن؛ يمكنني أن أخبرك أن لست ذاك الذهب الذي كتب عنه الفلاسفة في مؤلفاتهم، وإنما أنت ذاك الذهب المخبأ في كنفي.

إنَّ فكرة الحجر هي أن المادتين اللتَين تتعانَقان في «الزواج الكيميائي» الأسطوري ليسا هذَين المعدنين الساذجين اللذين يواجهانه، وإنما الذهب «الفلسفي» والزئبق «الفلسفي»، وكلاهما له أصول أكثر تعقيدًا إلى حدٍّ كبير. بعدها، يطرح الذهب حجته الخيميائية الأساسية، ومفادها أن «الزواج» («الاتحاد» بتعبير أدق) بين الذهب والزئبق ضروري لتكاثر الذهب، في الواقع إنها طريقة الطبيعة العامة مع التكاثر:5

لا أجهل ما تكلم به الفلاسفة، لكن لربما كان ذلك ينطبق على أخي الزئبق الذي لم يزل معيبًا، والذي رغم كونه كذلك فإنه إذا ما اتَّحد بي، أخذ مني صفة الكمال (التي يَنشُدها)؛ وذلك لأنه هو الأنثى وأنا الذكر، وهو ما يجعل الفلاسفة يقولون إنَّ هذا الزواج مثلي. يُمكنك أن ترى هنا نموذجًا للتكاثُر لدى الإنسان؛ إذ لا يُمكن أن يكون ثَمَّةَ أطفال دون اتصال حميم بين الذكر والأنثى، أي دون اتحاد بينهما. إنَّ لدينا مثل هذا النموذج الموجود عند الحيوانات وكل الكائنات الحية الأخرى.

ولنترك التعقيدات الجنسية التي يَنطوي عليها هذا القول لعلماء النفس، ولنقرأ ذلك الرد العلمي الجدير بالاحترام الذي رد به حجر الفلاسفة:5

حقًّا إنَّ أخاك الزئبق ليس كاملًا، وعليه فإنه ليس زئبق الفلاسفة؛ ومن ثَمَّ رغم أنكما ينبغي أن تتَّحدا معًا، وعلى أحدهم أن يُبقيكما في النار على مدار سنوات، محاولًا أن يُوحِّد بينكما، فدائمًا ما سيحدث (نفس الشيء تحديدًا) أن الزئبق ما إن يَستشعر فعل النار، سيَفصل نفسه عنك، ويتسامى، ويتطاير، ويتركك وحيدًا في القاع. وهكذا إذا ما أُذِبت في ماء النار، أو قُلِّصْت إلى (كتلة) واحدة فقط، إذا صُهِرت، أو قُطِّرت، أو خُثِّرت، فإنك لن تنتج أي شيء إلا مسحوقًا، وراسبًا أحمر: وهكذا إذا ما ألقى أحدهم هذا المسحوق على معدن معيب، فإنه لن يُؤثر عليه؛ لكن المرء يجد نفس مقدار الذهب الذي وجده في البداية، بينما يتخلَّى عنك أخوك الزئبق ويُحلِّق بعيدًا.

بعبارة أخرى، لم يُغيِّر اتحاد فلِزَّيِ الذهب والزئبق شيئًا على أي نحو كيميائي عميق. سَخِّن ملغمةَ ذهب وزئبقًا نقيًّا، وسيتقطَّر الزئبق تاركًا خلفه ذهبًا نقيًّا. على الناحية الأخرى، إذا كان العروسان سيَستحمَّان معًا في حوضٍ (هل سيكون على شكل قلب؟) يَحتوي على ماء النار (حمض النيتريك)، سيَنفصل الزئبق في صورة كلس أحمر، كما يفعل في غياب الذهب. ولما شاط الذهب والزئبق غضبًا من منطق حجر الفلاسفة المتفوق، هاجماه بعنف حتى أُنهكا وذهبَ ريحهما.

يُمثِّل كلٌّ من الذهب والفضة في هذا القصة الخرافية الخيميائيين الزائفين؛ فهم مرضى بالجهل والعجرفة على حدٍّ سواء. على النقيض من ذلك، يُمثِّل حجر الفلاسفة الخبير الحقيقي؛ فهو فيلسوف طبيعي يسعى وراء الحقيقة ويبحث عن حكمة الرب. إنه ذلك العالم المبتدئ الذي سيُؤدي منهجه التجريبي وتفكيره المنطقي يومًا ما إلى علم كيميائي حقيقي؛ أم أنه كان يُبشِّر، بشكلٍ ما، بمولد روبرت بويل، «الكيميائي المتشكِّك»، موضوع مقالنا التالي؟

(٢) شكوك عالم حول «الآراء الكيميائية للسوقة»

وُلِد روبرت بويل (١٦٢٧–١٦٩١) في أيرلندا لعائلة ثرية، وتلقَّى تعليمه في إيتون، وحظي بمزيدٍ من التعليم في أجزاءٍ أخرى من قارة أوروبا، ليعود إلى إنجلترا في عام ١٦٤٥.6 بدأ دراساته العلمية خلال العقد التالي، وفي عام ١٦٥٦ انتقل إلى أكسفورد، حيث ضمن مساعدة روبرت هوك. صنع هوك مضخَّة هوائية لبويل، استعان بها في عدة دراسات، بما في ذلك دراسة العلاقة بين حجم وضغط الغاز، والتي تحمل اسمه الآن.7 يُعتبر بويل بصفة عامة أبا الكيمياء، ويرجع جزء من ذلك إلى قانون الغاز الذي ابتكره ودراسات فيزيائية أخرى، إلى جانب كتابه الكلاسيكي «الكيميائي المتشكِّك»، الذي تضمَّن أولى المحاولات الجادة لتعريف العناصر الكيميائية والمفاهيم الذرية بالحجة التجريبية.
fig77
شكل ٤-٢: النسخة المهذَّبة من صفحة العنوان لكتاب روبرت بويل الكلاسيكي «الكيميائي المتشكِّك» الصادر عام ١٦٦١. ألَّف هذا الكتاب في صيغة مناقشة بين شخصيات خيالية، من بينها شخصية ثيميستيوس، الذي يُمثِّل «المشائين»، المدافعين عن العناصر الأربعة القديمة، وفيلوبونيوس الذي يُدافع عن مبادئ باراسيلسوس الثلاثة، إلى جانب شخصية كاميديس الذي يُمثِّل صوت العقل والمنطق (أي بويل)، والذي يجمع أفضل الخيوط بالطبع (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
fig78
شكل ٤-٣: النسخة الأقل تهذيبًا من صفحة العنوان التي احتواها أيضًا كتاب بويل «الكيميائي المتشكِّك» الصادر عام ١٦٦١ (انظر الشكل ٤-٢) (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
حين نشَر السيد المبجَّل روبرت بويل كتاب «الكيميائي المتشكك» في عام ١٦٦١ (انظر الشكلين ٤-٢ و٤-٣)8،9 كان ثَمَّةَ نظريتان غير مبرهنتَين عن المادة تهيمنان على علم الكيمياء البدئي. كان أول هذه «الآراء الكيميائية» السوقية (أو «العامة») يقوم على العناصر الأربعة (التراب والنار والهواء والماء) التي تُنسَب بطبيعة الحال إلى أرسطو. كان غالبًا ما يُشار إلى أتباع أرسطو ﺑ «المشَّائين»؛ نظرًا إلى أسلوب تدريس أستاذهم، الذي كان يتضمَّن المشي. أما الرأي السوقي السائد الآخر — والذي يرجع إلى عهد باراسيلسوس (١٤٩٣–١٥٤١) — فكان يستند إلى المواد الثلاث الأولية (الكبريت، والزئبق، والملح). وقد أشار بويل إلى المتحمِّسين لهذه النظرية ﺑ «الكيميائيين» (سنُشير إليهم ﺑ «الخيميائيين» و«الأطباء الكيميائيين»). ولم يكن شرفًا كبيرًا أن يكون المرء كيميائيًّا، برغم أن «الكيميائي المتشكِّك» كان على الأقل قادرًا على الإفلات من هذا الوصف. وإلى جانب «الكيميائيين» و«المشَّائين»، كان هناك «الفلاسفة الهرمسيون»، الذين كانوا يَعتقدون أن «النار ينبغي أن تعتبر الأداة الأصيلة والكونية لتحليل الأجساد المختلطة»؛ ومعنى هذا أن دور النار هو التحلُّل الكيميائي. ورغم أن بويل كان مؤمنًا بنظرية جسيمية المادة، الشبيهة بنظرية ليوكيبوس الذرية القديمة، فقد عاب على الفلاسفة اليونانيين عدم إجراء أي تجارب:10

ولذلك أرسلنا في دعوة ليوكيبوس الجريء الذكيِّ ليمنحنا شيئًا من المعرفة من نظريته الذرية، التي توقَّعنا أن تنطوي على مثل تلك الإلماعات الخصبة، لكننا وبعد عناءٍ كبير جاءنا الخبر أخيرًا بأنه لا يمكن العثور عليه.

وفي حين أن أسلوب بويل في الكتابة يدفعك إلى القراءة ببطء، فإن المُقتطَف الوجيز الموضَّح أعلاه يوضح الحس الفكاهي الموظف في كتاب «الكيميائي المتشكِّك». علاوةً على ذلك، استخدم بويل أسلوبًا مسلِّيًا ربما لا يُلائم الدوريات والأبحاث العلمية الحديثة؛ فقد وضع بويل محادثات تخيُّلية بينه وبين «أشخاصٍ خياليِّين» استطاع بسهولة أن يدحض حججهم. وبرغم أن بويل الراوي يلعب دورًا مهمَّشًا إذ يُرافق «إلوثيريوس الكثير السؤال» خلال زيارته إلى «صديقه كارنيديس»، فإن الأخير هو صوت بويل الحقيقي. كان كارنيديس يَجلِس إلى طاولة صغيرة مُستديرة في حديقة مع ثيمستيوس، الذي يجادل لصالح «المشائين»، وفيلوبونس الذي يُدافِع عن وجهة نظر باراسيلسوس.

ها هو «دليل إثبات» ثيمستيوس على أنَّ الخشب الأخضر «يتحلَّل» إلى العناصر الأربعة عند الاحتراق:11

تكتشف النار نفسها في اللهب بفعل ضوئها، وحين يتصاعَد الدخان إلى أعلى المدخنة، ثم يتلاشى في الهواء، مثل نهر يُسلم نفسه إلى ماء البحر، فإنه يُظهر بما يكفي إلى أي عنصرٍ يَنتمي ويعود في سعادة. والماء في هيئته إذ يَغلي ويُصدِر هسيسه عند أطراف الخشب المُحترق إنما يكشف نفسه لأكثر من حاسة من حواسنا، وكذلك الرماد بوزنه، وقابليته للاشتعال، وجفافه، كل تلك الأشياء تزيل عنك أي شك في انتمائه إلى عنصر التراب.

يجيب بويل (أو كارنيديس) بأن ثَمَّةَ التباسًا هنا. أولًا: يبدو أن «عنصر» النار لا بد أن يُعرَض على «عنصر» النار ليُحرِّره من الخشب الأخضر. ومع ذلك فإن الفكرة الثانية هي افتراض أن مجرد التعريض للنار في حد ذاته يحرر العناصر الأربعة دون تعرُّضها لأي تغيُّر. وفيما يلي حجة كارنيديس العلمية المضادة الممتازة:12

على سبيل المثال، حين يخلط عامل تنقية بين الذهب والرصاص، ويُعرض هذا الخليط في كأس لسخونة النار؛ ومن ثَمَّ يفصل الخليط إلى ذهب نقي لامع ورصاص (يندحر مع ما كان يختلط بالذهب من شوائب، ويُطلق عليه حينئذٍ المُرداسنج الذهبيُّ)، هل يمكن لأي شخص يرى هاتين المادتين المختلفتَين منفصلتين عن الكتلة الأولى أن يتصور أنهما كانتا خليطًا في مركَّب واحد قبل أن يتعرض للنار.

الفكرة هي أن فلزَّي الرصاص والذهب قد ينصهران معًا ليُكوِّنا سبيكة. ومع ذلك، فإن التسخين لفترة طويلة في الهواء الطلق يُؤكسِد الرصاص فيتحوَّل إلى كلس — المرداسنج؛ ذلك المسحوق الأحمر المُصفَرِّ، هذه الصبغة التي نعرفها اليوم بأول أكسيد الرصاص. أما الذهب المنصهر فلا يمر بأي تغيير كيميائيًّا، وأيُّ شوائب (أو رغوة) بالإضافة إلى المُرداسنج المتكون حديثًا سيمتص داخل الكأس، تاركًا الذهب النقي. من الواضح أن المُرداسنج لم يكن له وجود في السبيكة الأصلية، لكنه تحرَّر بفعل النار. والواقع أن ذلك يكاد يتطابق مع حجة حجر الفلاسفة المذكورة في المقال السابق.

وهنا يتجلى بعض المشكلات الأخرى المتعلقة بالعناصر الأربعة.13 يبدو مُستحيلًا حتى مع مساعدة النار أو أي عوامل أخرى أن تَستخلِص التراب، أو الهواء، أو النار، أو الماء من الذهب. في الواقع، لو كان ثَمَّةَ شيء قد يبدو عنصرًا حقيقيًّا، فهو الذهب. على الجانب الآخر، عند «تحليل» الدم باستخدام النار، فإنه يتحلَّل إلى خمس مواد مختلفة هي: النخامة، والروح، والزيت، والملح، والتراب.13
ردًّا على فيلوبونس، الكيميائي الصيدلاني المدافع عن باراسيلسوس، يتساءل كارنيديس عما إذا كانت طبيعة النار دائمًا ما تقضي بأن تؤدِّي إلى «تحليل» المواد، أو، على الأقل، إلى عملية «تحلُّل» مستمر.14 وعلى ذلك، فعند حرق خشب «الجياك»، ينتج عن الاحتراق سِناج ورماد، رغم أن تقطير الجياك (بالنار) داخل مقطرة معوجة ينتج عنه «زيت، وروح، وخل، وماء، وفحم». ويذهب بويل (أقصد كارنيديس) إلى الزعم بأنه إذا أزيل هذا الفحم الناتج من المقطرة المعوجة وحُرِق في الهواء الطلق، فإنه يتحول إلى رماد. بالمِثل، ينتج عن حرق الكافور في الهواء الطلق السِّناج، والذي يُمكن أخذه وفحصه14 ليتبيَّن أنه لا يحتفظ بأيٍّ من خواص الكافور. ومع ذلك، إذا وضع الكافور في وعاء زجاجي مغلق وعُرِّض إلى نار خفيفة، يتصاعد دخان، ثم يتَكثَّف كراسب أبيض صلب، يحتفظ برائحة الكافور العطرية النفَّاذة. وندرك من هذه الحالة الثانية أن «سكين النار التحليلية» التي تعرَّض لها الكافور أدَّت إلى تساميه دون أن يتعرَّض إلى أي تغير.
في كتاب «الكيميائي المتشكِّك»، يطرح بويل أربعة افتراضات15 تُحدد آراءه بشأن تركيب المادة؛ إذ يحاول بويل وصْف كلٍّ من التركيب المادي للمادة (باعتبارها جسيمات دقيقة) والتركيب الكيميائي لها (باعتبارها عناصر لا يُمكن اختزالها كيميائيًّا) وصفًا تأصيليًّا:
  • الافتراض الأول: يبدو طبيعيًّا أن نُدرك عند أول إنتاج للأجسام المختلطة، أنَّ المادة السائدة التي تتكوَّن منها هذه الأجسام — بين أجزاء أخرى من الكون — قُسِّمت في الواقع إلى جسيمات صغيرة بأحجام وأشكال مُختلفة تتحرَّك في اتجاهات مُختلفة.
  • الافتراض الثاني: من المُستحيل بمكان أن تَنفصِل عن هذه الجسيمات الدقيقة الجسيمات الأدق حجمًا المُتجاوِرة والمُنتشِرة هنا وهناك، والتي تترابط معًا في كتل أو تجمعات دقيقة، لتشكل بتجمعاتها هذه مخزونًا هائلًا من مثل هذه التكتلات الصغيرة الأولية، التي لا يُمكن أن تتفكك بسهولة لترجع إلى تلك الجزيئات الصغيرة التي تألَّفت منها قبل التكتُّل.
  • الافتراض الثالث: لن أنكر إنكارًا قطعيًّا أن من بين غالبية هذه الأجسام المُختلطة ما يُشكِّل جزءًا من طبيعة الحيوانات أو النباتات، وقد يكون ما يَنتج منها بالاستعانة بالنار عددًا محدَّدًا من المواد (إما ثلاث، أربع، أو خمس أو أقل أو أكثر) ذات تسميات مختلفة.
  • الافتراض الرابع: بالمثل يُمكن التسليم بأن تلك المواد المختلفة التي تنتجها تكتلات الجسيمات أو تتكوَّن منها، يُمكن دونما أيِّ إشكاليات أن تُسمى عناصر أو جواهر للعناصر.
تتعلَّق الفرضيتان الأوليان بالبِنية الفيزيائية للمادة.16 فثمَّة مستويان لبنية المادة، وهما أدق الجسيمات، أو ما يسمى ﺑ «جسيمات بويل»، التي قد ترتبط معًا في «تكتلات» تتألَّف من «كتل أو تجمُّعات دقيقة». وقد أتاحَت المجاهر — التي اختُرعت في مطلع القرن السابع عشر — أدلة مباشرة على «الضآلة المُتناهية حتى لأجزاء التكتُّلات التي تُستشعَر بالكاد.»15 وقد نشر هوك زميل بويل تحفتَه «الفحص المجهري» (انظر المقال التالي)، بعد أربع سنوات فقط من صدور كتاب «الكيميائي المتشكِّك». وقد ذهب بويل إلى الإشارة إلى أن الزئبق يُمكن أن يُقطَّر ويذاب في الأحماض، ثم يُرشَّح ويُحوَّل إلى ملغمة يمكن طحنها حتى تصير مسحوقًا ناعمًا، ولكن كل هذه الأشكال المطحونة تمامًا للزئبق يُمكن استعادتها في النهاية في صورة سائل فلزي لامع. ولعلَّ أحد أروع أعمال بويل هو مقال «الانبعاثات» (١٦٧٣)،17 الذي يتخيَّل فيه أصغر وحدة يمكن قياسها فيزيائيًّا للمادة، وهي ما أسماها ﺑ «الكتل الدقيقة» (أو «الانبعاثات»). على سبيل المثال، ذرة من الذهب يمكن أن تُقسَّم إلى ستة مربعات مقاس كلٍّ منها بوصات. كانت مَسطَرة بويل الدقيقة (١٠٠ جزء لكل بوصة) تستطيع نظريًّا أن تنتج ٦ × (٣٫٢٥ × ١٠٠)٢ أو ٢٥٣٥٠٠٠ مربع من الذهب، التي كانت ستزن ٠٫٠٠٠٠٠٠٠٣٢ جرام.17
أما المقترحان الثالث والرابع، فيتعاملان مع مفاهيم بويل للعناصر. كان بويل يَعتقِد في تحويل المعادن. بل إنه في مقال مجهول صدر عام ١٦٧٨، أعاد بويل — بصوت شخصٍ يُدعى أريستاندر — سرد قصة عن مشاهدته عملية «تحويل ارتكاسي» (إذ ارتكس الذهب خيميائيًّا ليَصير معدنًا أقل قيمة) أجراها شخص يُدعى بيروفيلوس.18 حين يتساءل الشاهد الآخر، ويدعى سيمبليسيوس: «ما المغزى من تحويل الذهب إلى معدنٍ أقل قيمة؟» يردُّ بويل الحكيم (أقصد أريستاندر) قائلًا: «إذا كنت تعلم كيف تجري عملية تحويل في اتجاه معيَّن، إذن يمكنك أن تُجري عملية تحويل في الاتجاه الآخر كذلك.» ربما كان يَنبغي تسمية هذا المقال «الكيميائي الساذج». وعلى أيِّ حال، ثَمَّةَ أمران واضحان وضوح الشمس؛ ألا وهما: أن مفهوم بويل عن الذرة والعناصر اختلف اختلافًا عميقًا عن المفاهيم الحديثة؛ نظرًا لتصديقِه في عملية التحويل. وأما الثاني فهو أن تعريف بويل للعناصر لم يُشِر إلى قيامه بأيِّ تجارب علمية. على النقيض، كان تعريف لافوازييه للعناصر (المواد البسيطة) الذي جاء لاحقًا بأكثر من قرن قابلًا للاختبار؛ إذ كانت المادة تعدُّ عنصرًا إذا لم يكن من الممكن «تبسيطها» كيميائيًّا:19

ومن ثَمَّ، بينما تمضي الكيمياء نحو الكمال من خلال تحليل المواد ثم تحليل النواتج إلى مواد أبسط وهكذا، يكون من المُستحيل الجزم بالموضع الذي ستَنتهي عنده، وهذه الأشياء التي نَفترض في الوقت الحالي أنها بسيطة، قد يُكتَشَف عما قريب أنها غير ذلك تمامًا. كل ما نستطيع الجزم به عن أي مادة هو أنها يجب أن تُعتبر عنصرًا بحكم معرفتنا الراهنة، وحسبما يقضي ما استطاع التحليل الكيميائي التوصُّل إليه حتى الآن.

fig79
شكل ٤-٤: صفحة العنوان من الطبعة القارية الصادرة عام ١٦٦٨ من كتاب «الكيميائي المتشكِّك». ماذا يجري هنا؟! لقد هدم بويل المتناقِضات، والعناصر الأربعة، والمبادئ الثلاثة، لنرى هذه الصورة المحيِّرة التي تُزيِّن صفحة عنوان هذه الطبعة المترجمة. ولنا أن نتخيَّل رغبة الناشر أرنولد ليرز في بيع كتاب جاد بأساليب مُثيرة. ولنا كذلك أن نتخيَّل ردَّ بويل المستاء لدى تسلُّمه نسخته المجانية التي ربما قال عند تسلمها شيئًا من قبيل: «إنني لستُ سعيدًا»، ليسبق بذلك الملكة فيكتوريا التي قالت العبارة نفسها بقرنَين.
في النهاية، لا يُمكنني مقاومة إغراء عرض صورة صدر الكتاب (الشكل ٤-٤) من الترجمة اللاتينية الصادرة عام ١٦٦٨ من كتاب «الكيميائي المتشكك» والتي نُشِرَت في روتردام.20 تُرى فيمَ كان يُفكِّر الناشر أرنولد ليرز؟ فتلك الأشكال المبيَّنة في الصورة هي الأشكال الكلاسيكية لثنائي الشمس والقمر (الكبريت والزئبق)، والطيور الجارحة المتحابَّة، إلى آخره، والتي تُمجِّد جميعًا مبدأ الثنائيات الذي قوَّضه بويل. ونظرًا لما يبدو من افتقار بويل إلى الحسِّ الفكاهي إزاء الأمور العلمية؛18 فقد يُمكننا افتراض أن ليرز لم يَستشِر بويل أبدًا. تُرى «فيمَ» كان يُفكِّر ليرز؟ إنها الأرباح ولا شك. وإني لأتساءل ما إذا كان العالم الجليل روبرت بويل قد استَشاط غضبًا لدى تسلُّمه نسخته المقدَّمة على سبيل الهدية.

(٣) تعزيز الحواس البشرية الضعيفة

يبدو أننا — الكيميائيِّين — قد تنازلنا عن روبرت هوك (١٦٣٥–١٧٠٣) للفيزيائيين والبيولوجيين، هذا إذا اعتبرنا الكتب الدراسية التمهيدية مؤشرًا لأي شيء. فبداية من مرحلة الدراسة الإعدادية وما بعدها، يتعلم الجميع أن هوك هو من صاغ كلمة «خلية» لوصف البنية المجهرية للفلين. ومن يدرسون الفيزياء يعرفون أن الزنبرك، سواء كان حلزونيًّا أم لا، يخضع لقانون هوك. نحن نعرف أنه لم يَمضِ وقتٌ طويل بعد اختراع أوتو فون جيريكه المضخة الهوائية (عام ١٦٥٤)،21 حتى أنشأ هوك مضخَّة بويل الهوائية؛ إذ كان يعاون روبرت بويل.21،22 ومع ذلك، كان هوك يُطلِق على نفسه «فيلسوفًا طبيعيًّا»، وكان مجال نشاطه العلمي يُبرِّر ذلك اللقب بأكثر مما يكفي؛ فبعد الانتهاء من التدريب في جامعة أكسفورد، عُيِّن أمينًا للتجارب في الجمعية الملَكية، وحصل على زمالة الجمعية الملكية بالانتخاب في عام ١٦٦٣، وفي عام ١٦٦٥، عُيِّن أستاذًا للهندسة في كلية جريشام.23،24 ويقال إن هوك كان «يعاني من سوء حالته الصحية وقلة النوم»؛ نظرًا لإصابته بنوع من وسواس المرض، ويُقال إنه «في السنوات القليلة التي سبقت وفاته لم يكن يخلد إلى فراشه أو يخلع ملابسه.»25 ويسهل تفهُّم ذلك؛ نظرًا لأن «تشتُّت جهوده كان يرجع على ما يبدو، في جزءٍ منه على الأقل، إلى الاهتمامات المتنوعة للجمعية الملكية، والتي جعلت هوك يُجري مجموعة متنوعة من التجارب دون منحه الوقت لإنهاء أيٍّ منها. وكانت الجمعية تطلب منه أيضًا أن يُكرِّر نفس التجربة مرارًا، رافضةً رؤية التفسير الصحيح الذي كان هوك يُلحقه بها.»25
كان أهم أعمال هوك المنشورة هو كتاب «الفحص المجهري»26 — المنشور عام ١٦٦٥ في قَطع نصف فرخ — الذي يعد أحد أروع الكتب في تاريخ العلوم. يتناول الكتاب الفحص المجهري في معظمه، وإن كان المقالان الأخيران يصفان دراسات على النجوم والقمر أجريت بالاستعانة بالتلسكوب. وقد استُخدِمت رسوم هوك التخطيطية اللاحقة لكوكب المريخ في القرن التاسع عشر لتحديد الفترة المدارية للكوكب.23
ويُطمئننا هوك27 عبر مرآة القرن السابع عشر البعيدة أن بإمكاننا «استرداد بعض من مظاهر الروعة الغابرة» (تلك التي فقدْناها بطرد آدم وحواء من الجنة)؛ وذلك إذا:

اعتنينا بالحواس البشرية بتعزيز قصورها بالمعدات، وإذا جاز القول، إضافة أعضاء صناعية للأعضاء الطبيعية.

وفي حين أنَّ اكتشاف المجهر العظيم الذي توصَّل إليه هوك كان أحدث ما توصل إليه العلم في عام ١٦٦٥، فقد قال:27

ليس مستبعدًا أن تُختَرَع وسائل مساعدة عديدة أخرى للعين، تتفوَّق إلى حدٍّ كبير على تلك الموجودة بالفعل؛ إذ تعمل عمل العين المجرَّدة؛ ومن ثَمَّ ربما نستطيع من خلالها اكتشاف كائنات حية على سطح القمر، أو على الكواكب الأخرى، أو أشكال الجسيمات المركبة للمادة، والتراكيب المحددة للأجسام وأنسجتها.

يا لها من خطة طموحة، لكن دعونا نتخير بضع مقتطفات من كتاب «الفحص المجهري».

تستكشف المشاهدة الثالثة عشرة28 الأشكال المجهرية للمواد البلورية وتطرَح الفرضية العميقة بأن هذه التراكيب المنتظمة ثلاثية الأبعاد يُمكن أن تُوضَّح من خلال التعبئة المتراصَّة (السداسية) للكرات (انظر الشكل ٤-٥). أما المشاهدة الرابعة عشرة29 (وهي لعدَّة أنواع من الأشياء المجمَّدة)، فتُصوِّر بلورات ثلج من مصادر مختلفة (الشكل ٤-٦)؛ والبلورات التي تُلاحظ على سطح البول المجمَّد تكون في بعض الأحيان عملاقة (خاصة تلك التي شُوهِدت في قنوات مليئة بمياه الصرف). وهي تتَّخذ شكلًا شبه سداسي مُتماثِل (الصورة i). (ملحوظة: الأرقام الرومانية المُستشهَد بها في النص تشير إلى الأشكال الأصلية المعروضة في هذه الصور التجميعية الموضَّحة بالأسفل.) فما طبيعة بلورات البول؟ يقول هوك: «من خلال تذوُّق عدة قطع صافية من هذا الثلج، لم أتمكن من تمييز مذاق البول فيها، لكن تلك القطع القليلة التي تذوقتُها، بدت لي بلا مذاق كالماء.»29
fig80
شكل ٤-٥: بلورات من كتاب هوك «الفحص المجهري» الصادر عام ١٦٦٥. وضَّح هوك في هذه الصورة البِنى البلورية بنظام التعبئة المتراصَّة للكرات، في رؤية استباقية ثاقبة لشرح دالتون الذي تبع ذلك بمائة وأربعين عامًا.
fig81
شكل ٤-٦: بلورات ثلج كما رآها هوك تحت المجهر. أدرك هوك أن هيئتها السداسية المتماثلة مبنية على التعبئة المتراصة للكرات (الشكل ٤-٥). ووجد هوك أن البلورات الثلجية للبول كانت ماءً نقيًّا (إذ لم تحتوِ على مذاق «البول»).
وتُجسِّد الصورة ٢ (في الشكل ٤-٦) رقائق ثلج موضوعة على قطعة قماش سوداء، ويلاحظ أنه رغم تطابق الأذرع الست لرقاقة الثلج الواحدة، فإنها تختلف عن أذرع الرقائق الأخرى. أما الصورة ٣، فهي نسخة مكبَّرة من رقاقة ثلج واحدة. والصورتان ٤ و٥ توضِّحان بلورات ثلج مقشوطة بسكِّين من سطح وعاء زجاجي كان مُمتلئًا بالماء ثم تمَّ تجميده. وبالرغم من أن تماثل الشكل السداسي لا يتبيَّن من الوهلة الأولى، فإن الزوايا التي تشكلها الأذرع مع «الجذع المركزي» في الصورة ٤ هي ٦٠ درجة و١٢٠ درجة. وتوضح الصورة ٦ سطح الماء إذ يشرع في التجمُّد. وقد ربط هوك هذه المشاهَدات بالمشاهَدة الثالثة عشرة (الشكل ٤-٥)، لا سيما بتعبئة الكرات المتراصَّة في هيئة سداسية لتشكيل بلورات. ورغم عجزه عن إعطاء معنًى كيميائي لهذه الكرات، استعان جون دالتون بعده بنحو مائة وأربعين عامًا بنظرية هوك الذرية لشرح البنية البلورية للثلج برسوم مشابهة تُوظف الكرات لتُمثِّل جزيئات الماء.30
من الناحية الكيميائية، تُمثِّل المشاهَدة السادسة عشرة (عن الفحم، أو النباتات «المحترقة»)31 أكثر المقالات تشويقًا في كتاب «الفحص المجهري». فتُوضَع المادة النباتية في بوتقة، مع إحاطتها وتغطيتِها تمامًا بالرمال، ثم تُسخَّن على النار. وما إن تنتهي عملية التسخين، وتُترك الرمال لتبرد، يُمكنك الحصول على الفحم. ولكن، إذا كان الرمل ما زال ساخنًا (أو حتى دافئًا)، فإن الفحم غير المغطَّى سوف يَتطاير في شكل لهب ويتبدَّد تمامًا. أما البيئات الأخرى التي يقلُّ فيها الأكسجين (بما في ذلك الفراغ)، فلم تدعم عملية احتراق الفحم. غير أنَّ الفحم الذي كان يتمُّ تسخينه في الفراغ كان يشتعل بمجرد إدخال تيار من الهواء الجوي. بالطبع كان البارود (المكون من الفحم والكبريت ونترات البوتاسيوم) معروفًا منذ قرون. وكان تسخين الفحم مع نترات البوتاسيوم ينتج احتراقًا قويًّا وكاملًا في وعاء مغلَق (وتحت الماء أيضًا). على النقيض من ذلك، كان إحراق الفحم في وعاء مغلق غير مُفرَّغ من الهواء سرعان ما يتوقَّف تدريجيًّا. وقد سجل هوك مشاهدات مماثلة عند استخدام الكبريت بدلًا من الفحم. فافترض أن الهواء «مذيب» قادر على «إذابة» الأجسام «الكبريتية» (أي القابلة للاحتراق). علاوةً على ذلك:31

تتمُّ إذابة الأجساد الكبريتية من خلال مادة متوطنة، ومختلطة مع الهواء، تشبه — إن لم تكن هي نفسها — المادة التي يحتوي عليها مركب نترات البوتاسيوم، والتي أظن أنه يُمكِن الكشف عنها بوضوح كبير بإجراء عدد من التجارب باستخدام نترات البوتاسيوم.

سنتحدَّث بعد قليل عن د. جون مايو، صديق هوك ورفيقه. لمَ دائمًا ما يُنسَب اكتشاف أن أحد عناصر الهواء يدعم الاحتراق والتنفس إلى مايو لا إلى هوك؟ يشير بارتينجتون32 إلى أن هوك افترض أن المادة «المختلطة» بالهواء هي «مادة ملحية» (ربما نترات بوتاسيوم متحلِّلة ومعلَّقة؟) ربما «ترشَّحت» على نحو ما. وكان مايو هو من أثبت على نحو صحيح أن المادة الفعالة هي عنصر غازي من عناصر الهواء الجوي.
وقد عرض كتاب «الفحص المجهري» عدة صور لأشياء صغيرة تحت المجهر. على سبيل المثال، قدمت الصورة المجهرية لشوكة نحلة33 رؤى كاشفة مفيدة للغاية بشأن آلية عملها. غير أن جامعي الكتب القديمة يرون أن ما يفوق النحل اللاسع الشرس والبراغيث الحاملة للطاعون سوءًا هي عثة الكتب المخيفة (انظر الشكل ٤-٧)!34 ولنستمع إلى ما قاله هوك في هذا الشأن:

في الواقع، حين أتأمل كومة نشارة الخشب أو الرقاقات التي يَحملها هذا الكائن الضئيل (الذي يُمثِّل واحدًا من أنياب الدهر) في أحشائه، لا يَسعُني سوى أن أذكر في إعجاب روعة ما تبدعه الطبيعة من وضع مثل هذه النار في هذه الحشرات؛ إذ تقتات هذه الحشرات وتتغذَّى باستمرار على هذه المواد التي تحملها في بطنها، والتي تحرقها الرئتان، وكذا أعجب من تشكيلها إحدى أروع بِنى الكائنات الحية، حيث جعلت الطبيعة استهلاك هذه النار وتنفيثها شرطًا أساسيًّا لكي تؤمن هذه الحشرات وتجمع مزيدًا من المواد التي تُساعدها على العيش والتنامي؛ وهذا على ما يبدو هو الغاية الأساسية من جميع الآليات الحيوية التي يُمكن رصدها في كل الحيوانات.

fig82
شكل ٤-٧: ما من جامع كتب أو أمين مكتبة سيعترض على هذا المُلصَق المطلوب فيه ضبط هذه الحشرة حية أو ميتة.

وكان ذلك قبل حوالي ١٢٠ عامًا من إثبات لافوازييه بالميزان والمسعر (جهاز قياس كمية الحرارة) أن التنفُّس عملية احتراق!

(٤) نشقة أكسجين عابرة؟

كان جون مايو (١٦٤١–١٦٧٩)35 قاب قوسين أو أدنى من «وأد» نظرية الفلوجستون «في مهدها» فور طرح بيشر لصيغتها الأولى في عام ١٦٦٩. التحَقَ مايو في البداية بجامعة أكسفورد في عام ١٦٥٨، ثم قُبِل كباحثٍ في عام ١٦٥٩، وانتُخِب زميلًا لكلية أول سولز في عام ١٦٦٠. أصبح مايو «طبيبًا معتمدًا» حوالي عام ١٦٧٠، على الرغم من أن بارتينجتون لم يَستطِع أن يجد أي دليل على حصول مايو على أيِّ شهادة رسمية في الطب.35 ليس معروفًا على وجه التحديد متى التقى مايو وهوك، أو ما إذا كان مايو قد التقى بويل من الأساس. ولكن يبدو أنه قد سُمِح له بدخول مضخَّة بويل الهوائية في أكسفورد خلال ستينيات القرن السابع عشر.36
نشر مايو عام ١٦٦٨ مقالين علميَّين قصيرَين يتناولان التنفُّس والكساح. وفي عام ١٦٧٤، جرى تنقيح هذين المقالين ونُشرا مع ثلاثة مقالات أخرى لتُشكِّل جميعًا مؤلَّفًا بعنوان «خمسة مقالات في الفيزياء الطبية …»37 في هذا العمل يُعرِّف مايو ما أسماه «الروح النترو هوائية». ومثلما فعل هوك في كتابه «الفحص المجهري» الصادر عام ١٦٦٥، يُحدِّد مايو مادة في الهواء لازمة لدعم احتراق المادة «الكبريتية» مثلما كان معروفًا عن النتر أو نترات البوتاسيوم. كان يُقال إن المواد السريعة الاشتعال تحتوي على «مادة كبريتية»، وكان ذلك وثيق الارتباط قطعًا بنظرية الفلوجستون. في الواقع، يُمكن أن تُنسَب هذه المفاهيم إلى المواد الجوهرية الثلاث التي صنفها باراسيلسوس: الكبريت والزئبق والملح. ومع ذلك، تمثل أعظم إسهامات مايو35 في الكيمياء في التوصل إلى أن: (١) ثَمَّةَ عنصرًا في الهواء يدعم الاحتراق. (٢) هذا العنصر الموجود في الهواء له نفس تأثير النتر أو نترات البوتاسيوم. (٣) هذا العنصر كذلك يدعم التنفس؛ والاكتشاف الأكثر تفردًا هو (٤) أن هذا العنصر هو عنصر غازيٌّ معين في الهواء. وهكذا، احتوى «الهواء الجوي» على عنصر غازي قادر على دعم الاحتراق والتنفُّس وعنصر غازي آخر لا يستطيع ذلك. وقد تطرقنا لوصف أدوات مايو وتجاربه في موضع آخر.38 تناول مايو ملاحظةً مثيرةً لبويل عن البارود بالشرح على نحو صحيح. كان معروفًا أن نترات البوتاسيوم التي يحتوي عليها البارود تُوفِّر قدرًا من «الروح النترو هوائية» أكبر بكثير من تلك التي كان يوفرها الهواء الجوي. علاوة على ذلك، يُمكن للعناصر «القابلة للاحتراق» في البارود، والكربون، والكبريت أن يَحترق كلٌّ منها في وعاء مُغلَق إلى درجة معيَّنة ومِن ثَمَّ تنطفئ. على النقيض، عند حرق الكربون والكبريت مع نترات البوتاسيوم في وعاءٍ مُغلَق، فإنها ستحترق احتراقًا كاملًا مثلما يحدث للبارود في مثل هذه الظروف. لكن بويل وضع بعض البارود في دائرة على سطح تحت الفراغ.39 وتحت عدسة حارقة لاحظ اشتعالًا بطيئًا وموضعيًّا لجزيئات البارود المعرَّضة مباشرة إلى الضوء الشديد. وعند إبعاد العدسة توقَّف الاحتراق. ومع ذلك، في حالة تركيز العدسة الحارقة على بعض بلورات البارود داخل دائرة المسحوق وكان الجهاز مُعرَّضًا للهواء الجوي، يحدث احتراق كامل على الفور. وقد أصاب مايو بالتفكير في أن الجزيئات «النترو هوائية» يَنبغي أن تكون متصلة اتصالًا مباشرًا بالفحم أو الكبريت لكي يَحدُث الاحتراق.40
يعلق بارتينجتون41 على زعم مايو بأنه قد سخَّن النتر وجمَّع حمض النيتريك الناتج؛ فيقول: «لو أنه أجرى التجربة بحق، لاستطاع اكتشاف الأكسجين.» ومع ذلك، بحسب ما يشير بارتينجتون وآخرون، لم يكن مايو يملك الوسائل اللازمة لحبس الغازات، والتحكُّم فيها، ودراستها. فمثل هذه التقنيات انتظرتُ ما أحدثه ستيفن هيلز42 من تطوُّرات في عام ١٧٢٧، وما لحقها من تحسينات أدخلها ويليام براونريج، وجوزيف بلاك، وهنري كافنديش، وجوزيف بريستلي.
عُنيَ كتاب «خمسة مقالات في الفيزياء الطبية» بمسائل عملية أخرى تتجاوز المسائل الطبية، والفسيولوجية، والكيميائية. على سبيل المثال، ناقش مايو منشأ الأعمدة المائية وعزاها إلى الاضطرابات الجوية (انظر الشكلين ٤-٨، ٤-٩؛ وانظر كذلك دراسات بنجامين فرانكلين على هذه الظواهر في الشكل ٥-٢٢ في جزء لاحق من هذا الكتاب). إن شرح مايو للبرق والرعد يُذكِّر بشروح باراسيلسوس،43 ويُصوِّر الانفجارات بين الروح «النترو هوائية» والمادة «الكبريتية» في الغلاف الجوي.
fig83
شكل ٤-٨: عمود مائي مصوَّر في كتاب «خمسة مقالات في الفيزياء الطبية» (من طبعة عام ١٦٨١ التي نُشرت في لاهاي؛ وكانت الطبعة الأولى قد نُشِرَت في أكسفورد في عام ١٦٧٤).
fig84
شكل ٤-٩: عمود مائي آخر مُصوَّر في طبعة عام ١٦٨١ من كتاب مايو «خمسة مقالات في الفيزياء الطبية». كان مايو قابَ قوسَين أو أدنى من اكتشاف أن نترات البوتاسيوم تحتوي على الأكسجين، مما يُمكِّنه من دعم الاحتراق. وقد درس روبرت بويل ومساعده روبرت هوك، الذي كانت تربطه علاقة ودية مع مايو أيضًا، قدرة نترات البوتاسيوم على تعزيز الاحتراق.

(٥) عنصر لوسيفر وحبوب نوكل

استخدم البول — ذلك السائل الذهبي الذي وُهِب خواص حيوية وخفية — لقرون في آلاف المستحضرات الخيميائية. ولا شك أنه قد تعرَّض إلى التقطير حتى الجفاف مرَّات لا حصر لها. غير أنه في عام ١٦٦٩، قام خيميائي مغمور رغم براعتِه — يُدعى هينيج براند — بغلي البول، مركِّزًا إياه حتى أصبح شرابًا سميكًا مركَّزًا، ثم قطِّر منه زيتًا أحمر اللون. أُضيف الكربون الأسود المُترسِّب في المقطَّرة المعوجة إلى هذا الزيت الأحمر ثم سُخِّن في مقطَّرة معوجة فخارية. وقد تخيَّل جون إمزلي المشهد في كتابه الرائع «العنصر الثالث عشر».44 «فنرى» براند يراقب سائلًا متوهِّجًا كثيفًا يتحوَّل إلى ألسنة لهب ما إن يتعرَّض للهواء.45 وما إن يعزل براند السائل في وعاء الاستقبال، حتى يتصلَّب ولكنه لا يزال متوهِّجًا. تخيَّل مدى التعجُّب الذي أثاره هذا المشهد — سرٌّ مُلتهِب وهاج مختفٍ في أجسادنا ومفرغاتنا! لقد اكتشف براند عنصر الفوسفور (وهي تسمية تعني «جالب النور»). إن درجة انصهار الفوسفور الأبيض (٤٤ درجة مئوية) ودرجة غليانه (٢٨٠ درجة مئوية) منخفضتان تمامًا؛ وهذا يُبرِّر سهولة تقطيره، وحقيقة أن الشوائب قد تُقلِّل درجة انصهاره بما يكفي لإنتاج «فوسفور سائل».
وبدلًا من أن ينشر براند رسالة عن البول وتحوُّله إلى الفوسفور، أبقى عمله في هامبورج سرًّا لحوالي ست سنوات، آملًا في جمع ثروة بمجرد أن يتوصَّل إلى فائدة لهذا الاكتشاف.45 ولكنه بعد أن استنزف ثروة زوجته الثانية في هذا البحث غير المثمر، انتهى به الحال إلى الإعلان عن اكتشافه الذي جذب انتباه يوهان نوكل، وكان صانع ذهب غير موفق لدى «ناخب ساكسونيا»،46 تقاعد حديثًا ليدرس في جامعة فيتنبرج. زار نوكل هامبورج لكنه لم يستطع معرفة أي تفاصيل من براند. فأخبر نوكل، بدوره، زميلًا خيميائيًّا آخر، هو يوهان دانيال كرافت، في درسدن عن تلك المادة الجديدة. فما كان من كرافت، ما إن استشعر وجود فرصة، إلا أن أسرع من فوره إلى هامبورج واشترى كل مخزون براند من الفوسفور، بالإضافة إلى الحقوق الحصرية وتعهُّدٍ بالسرية من براند. وقد مرَّ هذا الاحتيال التجاري تحت عِلم نوكل، إذا جاز القول، ولم يَنتفِع هذا الأكاديمي المتميِّز بشيء من براند سوى الإشارة إلى أن البول هو مصدر الفوسفور.45
على الرغم من أن نوكل (١٦٣٠–١٧٠٣)،47 الذي ولد لأبٍ خيميائي، لم يحصل على أي تعليم أكاديمي رسمي، فقد كان باحثًا علميًّا متمكِّنًا ومحترمًا. فبتلكَ الإشارة المُبهمة التي أعطاه إياها براند، اكتشف نوكل بمفرده العملية، ونشر خواص ما أسماه «ضوء الليل الذي لا ينتهي»، دون طريقة تحضيره، في عام ١٦٧٨. حصل روبرت بويل على عينات من كرافت ونوكل خلال هذه الفترة، وعليه نشر كتابًا في عام ١٦٨٠ عن تحضير الفوسفور السائل وخواصه بعنوان «روح ضوء الليل»، وكتابًا آخر عام ١٦٨٢ عن الفوسفور الصلب بعنوان «ضوء الليل الصلب».47 حتى عالم الرياضيات البارز جوتفريد فيلهلم لايبنتز (١٦٤٦–١٧١٦)، الذي وضع حساب التفاضل والتكامل مستقلًّا عن السير إسحاق نيوتن؛ فقد استمر على اهتمامه بالخيمياء طوال حياته، مثلما كان حال غريمه الأساسي نيوتن، وكتب عن دراساته التجريبية عن الفوسفور.47،48 يوضِّح الشكل ٤-١٠ الصورة المجازية الساحرة المقترنة بالفوسفور؛ إذ يبين هذا الشكل صفحة صدر الكتاب الرائعة لكتاب يوهان هاينريش كوهاوزن49 الذي نُشر عام ١٧١٧ عن الفوسفور، والتي يظهر فيها كلٌّ من هرمس وتنين طائر كمصدرين للضوء والنار. ويُظهر الشكل ٤-١١50 فيما يبدو يوهان دانيال كرافت إذ «يُقنع» ليوبولد الأول بالفوسفور في بداية عهده الطويل (١٦٥٨–١٧٠٥) كإمبراطور للإمبراطورية الرومانية المقدَّسة. في ذلك الشكل، تُبيِّن الصورة ١ الفوسفور المضيء (الصلب)؛ والصورة ٢ تبين الفوسفور السائل يُطلِق أبخرة وهو في حالة السكون؛ وفي الصورة ٣، مقياس للضغط يومض في الظلام. وتُبيِّن الصورة ٥ شيئًا يُشبه «الإشارة الضوئية»51 مطبوع عليها اسم الإمبراطور بخطٍّ مُنمَّق بالفوسفور الصلب — في ملمح عصري للغاية من ملامح فن البيع الذكي.
fig85
شكل ٤-١٠: صفحة العنوان الغامضة من أطروحة يوهان هاينريش كوهاوزن المنشورة عام ١٧١٧ عن الفوسفور، وفيها يظهر هرمس والتنين الطائر كمصدرَين للنار والضوء؛ في صورة مجازية لخواصِّ الفوسفور الأبيض.
fig86
شكل ٤-١١: رسم توضيحي من كتاب كوهاوزن المنشور عام ١٧١٧ بعنوان «الفوسفور: نور جديد يتوهج». كيف يستطيع شخص إبرام اتفاقية لبيع الفوسفور للإمبراطورية الرومانية المقدسة؟ الأمر بسيط، اصنع لافتة واكتب عليها بالفوسفور الأبيض اسم الإمبراطور «ليوبولد»، فيُضيء الاسم بقوة في الليل.
fig87
شكل ٤-١٢: صورة فرن تصنيع الزجاج كما جاءت في كتاب «أسلوب تجريبي في صناعة الزجاج» (١٦٧٩) لنوكل (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي). تعرَّض نوكل للخداع من «صديقه» يوهان دانيال كرافت («البائع المتجول» في الشكل ٤-١١) الذي احتكَر اكتشاف هينينج براند للفوسفور. ولكن تلك الإشارة غير المقصودة من براند إلى أن الفوسفور نتج عن البول كانت كافية لنوكل الذكي لاكتشاف كيفية إنتاجه بمفرده.
fig88
شكل ٤-١٣: تصنيع دُمى الزجاج الصغيرة بمساعدة منفاخ يدار بدواسة (من كتاب نوكل «أسلوب تجريبي في صناعة الزجاج» الصادر عام ١٦٧٩، بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
كان نوكل بلا شك خيميائيًّا متحمِّسًا، وإن لم يكن صانع ذهب ناجحًا. وقد سجَّل نوكل، انطلاقًا من اعتقاده بأن الزئبق هو الروح ذات الخواص الفلزية التي تبقى محفوظة خلال عملية تحول المعادن، أنه استخرج الزئبق من كل المعادن.52 ومع ذلك، فقد أشارت دراساته الكمية إلى أن الأنتيمون يزداد وزنًا عند التكليس، وتضمَّنت أيضًا قياس قوة حمض النيتريك بتشبيعه بالفضة، وتبخير المحلول حتى الجفاف، ثم قياس وزن الملح المتبقِّي.53 وقد ساهم نوكل أيضًا في فن صناعة الزجاج، وتضمَّن كتابه «أسلوب تجريبي في صناعة الزجاج» — المنشور عام ١٦٧٩ — عمل أنطونيو نيري المنشور عام ١٦١٢ (في سبعة كتب)، وحدَّثه نوكل بضمِّ كتب ثلاثة من تأليفه.54 ويُبيِّن الشكل ٤-١٢، من الكتاب المنشور عام ١٦٧٩، فرنًا لصناعة الزجاج وعُمالًا يُصمِّمون زجاجات. وفي الشكل ٤-١٣، نرى منفاخًا يُدار بدواسة يُستخدم في تصنيع لُعب زجاجية صغيرة.47
يتتبع كتاب إمزلي44 تاريخ تطور الفوسفور واستخداماته، واقترح إمكانية تسمية هذا العنصر ﺑ «عنصر الشيطان».55 كذلك يصف الكتاب أساس التقطير الإتلافي للبول (أو العظام) لإنتاج الفوسفور؛ إذ يُبيِّن كيف أن مادة عضوية — مثل الكرياتين — في البول تتحلَّل تحت ظروف النقص الشديد للأكسجين إلى كربون أولي (مثل الفحم). ومع التسخين في درجة حرارة عالية، ينتزع الكربون ذرات الأكسجين من أملاح الفوسفات الموجودة أيضًا في رواسب البول، مكوِّنًا غاز أول أكسيد الكربون. وفي الواقع، لا يختلف هذا الوصف كثيرًا عما يحدث في العملية الصناعية لإنتاج الفوسفور الأبيض من الفوسفات الصخري في وجود فحم الكوك وثاني أكسيد السيليكون (السيليكا):56
في أحد فصول كتاب إمزلي والذي جاء تحت عنوان57 «المنشط السام»، يشير إمزلي إلى التسويق لحبوب مصنوعة من هذا العنصر البالغ السُّمِّيَّة. كانت تلك الحبوب مغلَّفة بغلاف رقيق من الذهب أو الفضة للسلامة الجسدية، وكانت تُسوَّق تحت اسم «حبوب نوكل»، وذلك بعد فترة قصيرة جدًّا من وفاة الكيميائي المشهور. وثمة ستون صفحة تُغطِّي التاريخ الكيميائي والعملي والتجاري والاجتماعي لأعواد الكبريت، وهذا الجزء ممتع للغاية، حتى إنك يُمكن أن تقرأه كرواية. (اكتُشِف الفوسفور الأحمر — ذلك المتآصِل البولمري — في القرن التاسع عشر بتسخين الفوسفور الأبيض حتى درجة حرارة ٤٠٠ درجة مئوية في وعاء مُغلَق. وقد ساعد في جعل صناعة أعواد الكبريت أكثر أمانًا.) هنا، نتعرَّف لأول مرة على آني بيسنت، المُصلِحة الاجتماعية الإنجليزية في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، والتي شكَّلت اتحادًا للنساء العاملات في صناعة أعواد الكبريت الخطيرة والاستنزافية. وسوف نَلتقي بها في موضع لاحق من هذا الكتاب — بعد حوالي عشرين عامًا من «التنبُّؤ» بالبِنى الداخلية للذرات (انظر [الجزء الثامن: بعض المرح، القسم الأول: صور واضحة للذرَّات – سرد كيميائي غريب]). ويصف إمزلي مصدر توهج الفوسفور الأبيض، وهو الأمر الذي لم يُوضَّح تمامًا إلا عام ١٩٧٤. يحدث تفاعل على سطح الفوسفور الأبيض، وهو مادة صلبة تتكوَّن من جزيئات P4 رباعية الأوجه، مع الأكسجين، وهو التفاعل الذي يُسفِر عن تكوين جزيئات HPO وP2O2 التي تتَّسم بدرجة بالغة من عدم الاستقرار، والتي تتلألأ بالقرب من سطح الفوسفور الأبيض الذي كوَّنها قبيل «تلاشيها» تمامًا.58

(٦) الخيميائي مستشار الإمبراطور الاقتصادي

رحل يوهان يواكيم بيشر (١٦٣٥–١٦٨٢)59،60،61 منذ أكثر من ثلاثة قرون، وعادةً ما لا نراه سوى المؤسِّس الأول للنظرية الكيميائية الجامعة: الفلوجستون. لكن ما نُغفلُه عامةً هو أن بيشر ربما كان أعظم خبير اقتصادي في الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة في القرن السابع عشر.61 وربما يكون ذلك هو العامل المشترك الذي يجمعه بأنطوان لوران لافوازييه، الذي سيُصبح خلال أواخر القرن الثامن عشر مؤسس الكيمياء الحديثة رغم كونه أحد أعظم رجال الاقتصاد في فرنسا.62 في عام ١٦٦٦، عُيِّن بيشر ذو الواحدٍ والثلاثين عامًا آنذاك مستشارًا اقتصاديًّا للإمبراطور ليوبولد الأول، ولقَّب نفسه ﺑ «المستشار التجاري لجلالة إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة.»63 بعد ذلك بستة عشر عامًا، تُوفي بيشر في لندن، تاركًا أسرته تشكو شظف العيش، حتى إنَّ ابنته اضطُرت للعمل خادمةً في المنازل.64
بقيَت الإمبراطورية الرومانية — على الأقل اسمًا — لألف عام ويزيد بعدما خلع البابا ليو الثالث لقب الإمبراطور على شارلمان في عام ٨٠٠ ميلاديًّا.65 وكانت الإمبراطورية الرومانية تُشكل مملكة شاسعة في وسط أوروبا نواتها الجرمانيون الذين جاء منهم مُعظَم الحكام الشعبيِّين. وقد أدَّت حركة الإصلاح في القرن السادس عشر إلى نشوء مراكز قوى متمرِّدة، لا سيما بين الأمراء الجرمانيِّين الذين اعتنقوا البروتستانتينية وتمرَّدوا على الإمبراطور. وعززت هذه التوترات الدينية صراعات وتحالفات إقليمية معقدة وغير مفهومة أسفرت عن بدء حرب الثلاثين عامًا الكارثية (١٦١٨–١٦٤٨).66 وبعد انتهاء الحرب بتوقيع معاهدة وستفاليا في عام ١٦٤٨، فقَدَت إسبانيا هولندا وفقدت معها تفوُّقها في القارة، وعلا نجم فرنسا كقوة أوروبية غربية كبرى، ودُمِّر اقتصاد العديد من المدن الجرمانية، وصارت الإمبراطورية الرومانية إلى ضعفٍ من بعد قوةٍ بلا رجعة. وبعد قرن، جاء الكاتب الفرنسي الساخر الشهير فولتير ليقول ساخرًا عن الإمبراطورية الرومانية المقدسة: «لم تكن مقدَّسة، ولا رومانية، ولا حتى إمبراطورية.»65 وانتهت الإمبراطورية الرومانية المقدسة من الوجود تمامًا في ظروف مؤسفة في عام ١٨٠٦، بعد عامين من إعلان نابليون نفسه إمبراطورًا لفرنسا.
fig89
شكل ٤-١٤: صفحة العنوان من طبعة عام ١٦٦٠ الصادرة في فرانكفورت من كتاب «ملاحظات طبيعية عن المعادن» ليوهان يواكيم بيشر. يُعرَف بيشر بين الكيميائيِّين بأبي نظرية الفلوجستون؛ ومع ذلك فقد كان مشهورًا، ولو بنفس القدر على الأقل، بعلمه بالاقتصاد ومكانته كمُستشار تجاريٍّ لليوبولد الأول إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
بلَغ بيشر سنَّ الرشد في أعقاب حرب الثلاثين عامًا، وكرَّس نفسه لرخاء ألمانيا وازدهارها، شأنه في ذلك شأن كثيرٍ من الكيميائيين البارزين في ذلك الوقت، من بينهم نوكل، ويوهان رادولف جلاوبر. تولى بيشر تعليم نفسه بنفسه، ونَما لديه اهتمام مبكِّر بالتكنولوجيا، ونشر كتابه الأول في عام ١٦٥٤ حول الخيمياء تحت الاسم المستعار سولينوس سالتزثال.59،60 ومع حلول عام ١٦٥٥، رسَّخ بيشر مكانته كمُستشارٍ للرياضيات للإمبراطور الروماني المقدس فرديناند الثالث في فيينا، وكان يقدم له المشورة فيما يخصُّ العمليات الخيميائية.67 نُشِر أول كتاب لبيشر عن كيمياء الفلزات والطب الكيميائي — بعنوان «ملاحظات طبيعية عن المعادن» (انظر الشكل ٤-١٤) — في عام ١٦٦٠.59 كان بيشر يَعتقِد في «النظرية الحيوية» والتي تفيد بأن المعادن، والحيوانات، والنباتات «تعيش حياةً من نوعٍ ما وتنبت من بذور في الأرض.»59 حصل بيشر على شهادة الطب من جامعة ماينز في عام ١٦٦١، وعُيِّن في كلية الطب في الجامعة عام ١٦٦٣، وأصبح طبيبًا ﻟ «ناخب ماينز». تزوَّج في عام ١٦٦٢ امرأة من عائلة ثرية وتحظى باحترام كبير، ثم انتقل بيشر الذي لا يعرف الهدوء أبدًا إلى ميونخ في عام ١٦٦٤ وأصبح مستشارًا طبيًّا ورياضيًّا ﻟ «ناخب بافاريا».59–61 في هذه الفترة اندمج إلى حدٍّ كبير في النشاط التجاري، وأسس «الشركة التجارية الشرقية»، وحاول تأسيس مُستعمَرة تجارية في أمريكا الجنوبية لكفيله. وكما سبق أن أشرنا، انضمَّ في عام ١٦٦٦ لرجال الإمبراطور ليوبولد الأول في فيينا.
في كتابه المنشور عام ١٦٦٤ «كيمياء أوديب»،68 يصفُ بيشر أولى تصوُّراته بشأن التركيب الأساسي للمادة.60 أما عمله الأشهر، فهو الكتاب الذي نُشر في عام ١٦٦٩ والذي يُعرَف عمومًا ﺑ «فيزياء ما تحت الأرض».59–61،69 في هذا الكتاب ذهب بيشر59،60 إلى أن الهواء، والماء، والتراب يشكلون العناصر الحقيقية، فيما يعمل الهواء كأداة للخلط.» ويقول بيشر إنَّ المعادن والأحجار تتشكَّل من ثلاث فئات من التراب وهي: التراب الزجاجي (جوهر المادة تحت الأرضية)، والتراب الدهني (خاصية قابلية الاحتراق)، والتراب السائل (الرائحة، وعدم الثبات، وبعض السمات الخفية الأخرى). وخلص بيشر إلى أن كل المواد التي تَحترِق، بما في ذلك المعادن مثل القصدير والزنك، لا بدَّ أن تَحتوي على التراب الدهني، على الرغم مما أشار إليه بارتينجتون59 من أن بيشر لم يُحدِّد أبدًا ما يحدث للتراب الدهني. في الواقع، كان بيشر يعلم تمام العلم أنَّ المعادن «تزداد» وزنًا عند تشكيل الكلسات. وقد عزا بيشر ذلك إلى تراكم الأبخرة المُلتهِبة على المعدن كما ألمح بويل من قبل.70
اعتمَد تحوُّل بيشر71 من «مستودع للأسرار الخيميائية» قبل عام ١٦٥٤ إلى المستشار الفني الموثوق للنُّبلاء والأباطرة على مدار الخمسة عشر عامًا التالية على براعته في الميكانيكا والعلوم، والتي ضخَّمتها قدرته على تسويق نفسه بوصفه الخبير الذي يجب الاتجاه إليه عند طلب المشورة في عالم مليء بالمدعين معدومي الضمير. وفيما يلي مُقتطَف من خطاب موجه إلى الإمبراطور ليوبولد كُتب في سبعينيات القرن السابع عشر:71

ومع ذلك، فإن الأمر الأهم، نظرًا لرغبة جلالتك في إجراء بعض التجارب على هذه الأشياء، أنه سيكون من الضروري الاستعانة بشخص مُخلص وأمين وواسع المعرفة، يُمكن لجلالتك أن تستشيره في أمر هذه العمليات التي يُخبرك بها هؤلاء الصعاليك الحقراء، ويستطيع فهم هذه العمليات في سرية وتكتم وإخلاص، ويرفع لجلالتك تقارير بشأنها. فإن لم يحدث ذلك، لن تتمكَّن جلالتك من فهم جذور هذه العمليات، ولا فهم طبيعتها، وستظلُّ ضحيةً لخداع هؤلاء المحتالين.

والآن، من كان يرى الطبيب بيشر تعيينه خبيرًا للإمبراطور؟ تشير باميلا إتش سميث، كاتبة سيرة بيشر، ساخرةً إلى أن: «وصف بيشر للتاجر الأناني الذي يبحث عن الربح يُشبه إلى حدٍّ لافت موقفه شخصيًّا قبل عشر سنوات من هذا الخطاب.»71
أدى انخراط بيشر في مصالح الاقتصاد الألماني إلى تصميمه مصنعًا للأواني والمصنوعات الزجاجية، إلى جانب معمل ومكتبة. وقد فشلت المراسيم التي أصدرها في عام ١٦٧٧ بمنع دخول الواردات الفرنسية إلى جنوب ألمانيا، وأدى ذلك إلى سجنه لفترة قصيرة في عام ١٦٧٨.60 وفي عام ١٦٧٨، تورَّط أيضًا في محاولة فاشلة للاتجار بتقنية هينينج براند لتصنيع الفوسفور.72 ومع ذلك، نجح «اتحاد» آخر يرأسُه جوتفريد فيلهلم لايبنتز — عالم الرياضيات المعروف الذي كان «مُتواطئًا» مع الجاسوس الصناعي الغامض يوهان دانيال كرافت، في جلب براند وتقنيته إلى هانوفر. ستتذكر سيدي القارئ تلك الواقعة التي سبق أن أتينا على ذكرها من استغلال كرافت السريع لإشارة نوكل له عن اكتشاف براند للفوسفور، ومُحاولته «احتكار السوق و«إقصاء نوكل». حتى براند وزوجته مارجريتا لم يكونا أرقى من اللجوء إلى التهديد بالانضمام إلى بيشر للحصول على أموال إضافية من الاتحاد الذي يرأسه لايبنتز. ولم يكن خطاب السيدة براند إلى لايبنتز يَنطوي على كثيرٍ من المعاني الخافية: «إنَّ الطبيب بيشر بالغ الأمانة دائمًا، ومنذ أربعة أسابيع، حين كان مغادرًا هامبورج إلى أمستردام، منح زوجي أربعة وتسعين رايشستالر (عملة الإمبراطورية الرومانية المقدسة) تكريمًا له.»72
وتحسُّبًا لفشل عرضه العملي الموسَّع المحتمل لعملية استخراج الذهب من رمال البحر التي كان بيشر قد حدَّد لها موعدًا في مارس عام ١٦٨٠ في هولندا،60 غادر بيشر بسرعة متجهًا إلى لندن، دون عائلته. وعلى الرغم من أن روبرت بويل كان أحد مناصريه في إنجلترا، لم يَنجَح بيشر في التماساته إلى الجمعية الملَكية لانتخابه عضوًا فيها. ومع ذلك، باع ثلاثة من أفرانه المحمولة (انظر الشكلين ٤-١٥ و٤-١٦) مقابل ١٢ جنيهًا لكلٍّ منها، أحدها اشتراه بويل. أعترف بأنني كنتُ سأستمتع بقراءة مسرحية أو قصة قصيرة تجسد ذلك التفاعل بين بويل الرجل الإنجليزي الأرستقراطي وبيشر الذي يَصغُره بثمانية أعوام، الذي ربما «أنهكته» المكائد التي تعرَّض إليها على مستوى القارة، والمآزق القانونية التي وقع فيها، وتركه لعائلته خلال العامَين الأخيرين من حياته القصيرة المليئة بالمغامَرات.
fig90
شكل ٤-١٥: لم يكن بيشر أي شيء سوى صاحب رأس مال مُخاطر، وهذا هو الفرن النقَّال الذي ابتكَره وسوَّقه. وقد اشترى روبرت بويل أحد هذه الأفران مقابل ١٢ جنيهًا (من كتاب بيشر «ملاحظات طبيعية عن المعادن» بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
fig91
شكل ٤-١٦: صورة لمكوِّنات فرن بيشر النقَّال منفصلة (انظر الشكل ٤-١٥) (من كتاب بيشر «ملاحظات طبيعية عن المعادن»؛ بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
لم تجد نظرية بيشر من يعترف بها في زمنه، حتى تبنَّاها الطبيب الشهير جورج إرنست شتال (١٦٦٠–١٧٣٤) بعد نحو ثلاثة عقود.73،74،75 وعلى الرغم من أنك كثيرًا ما تقرأ أن شتال كان «تلميذًا» أو «مريدًا» لبيشر، فإن من الجدير بالملاحظة أن شتال كان قد أتمَّ لتوِّه عامه الثاني والعشرين، وكان يدرس الطب في ينا بألمانيا حين تُوفي بيشر في لندن في عام ١٦٨٢. وبالرغم من أن اهتمام شتال بالكيمياء بدأ مبكرًا، فما من إشارة إلى أن شتال قد التقى بيشر أبدًا. غير أن قراءة شتال لعمل بيشر وتبنِّيه لنظريته هو الذي دفعه إلى إعادة نشر كتاب بيشر «فيزياء ما تحت الأرض» في عام ١٧٠٣. وشتال هو من صاغ مُصطلَح «فلوجستون»، ووضع مبدأ أن جوهر النار تبتلعه البيئة المحيطة خلال عملية الاحتراق والتكلسات.73 يذكر بارتينجتون أن «شتال كان متكبرًا، مُثيرًا للإزعاج؛ فقد تشاجَرَ مع زميله هوفمان الذي كان له أقدمية عليه، والذي يدين له شتال بتعيينه في هاله، وكان نادرًا ما يردُّ على الخطابات، ويُبدي احتقاره لكلِّ من يختلف مع آرائه، ويأتي بردَّات فعلٍ عنيفة إزاء النقد. وقد عززت هذه السمات … سمعته إلى حدٍّ كبير.»75

(٧) هبة الفحم المتواضعة

لا يُمكن اعتبار الفحم مادة مثيرة للإعجاب، لكنه مع ذلك أدى دورًا محوريًّا في التاريخ البشري. فكما أشرْنا في المقال السابق، أدَّت قدرة الفحم على انتزاع الأكسجين من الفوسفات عند تعريضه إلى درجات حرارة مرتفعة إلى اكتشاف براند — الذي أصابته الدهشة — لعنصر الفوسفور (الأبيض) الأولي. بمُصطَلحات هذا العصر، نُدرك أن القوى المحرِّكة لهذا التفاعل قوًى دينامية حرارية. يُكوِّن أول أكسيد الكربون أقوى رابطة تساهمية في الطبيعة.76 وعلى مستوى الطاقة، يُمثِّل تكوين روابط كيميائية قوية على حساب الروابط الأضعف عاملًا محركًا قويًّا للتفاعلات الكيميائية. علاوة على ذلك، نحن نُدرك أن الإنتروبيا (درجة العشوائية في نظام ما) يُمكن أن تكون قوة محرِّكة قوية أيضًا. وإنتاج غاز (أول أكسيد الكربون) يزيد درجة العشوائية ومن ثَمَّ درجة الإنتروبيا يعدُّ قوة دافعة شديدة في الاختزالات التي يقوم بها الفحم.77 ويؤدِّي انطلاق الغاز في الجو إلى الحيلولة دون إعادة دخول ذرة الأكسجين الوحيدة الموجودة في أول أكسيد الكربون لإعادة تشكيل المادة «الأم»، مما يدفع التفاعُل الكيميائي إلى الخطوة التالية. وعبر العصور والفحم يُسخَّن مع مختلف تكلسات المعادن (مساحيق الأكاسيد) لاختزالها إلى المعادن الصافية الأصلية.78 أما غاز أول أكسيد الكربون — الناتج الثانوي لهذه التفاعلات — فيختفي في الجو. يا له من تأثير سحري! في الواقع، يُشكِّل الفحم المُنشَّط حديثًا أيضًا مادة ماصة قوية للغاية بإمكانها إزالة الروائح، وتجريد السوائل من ألوانها، بل وجعل النبيذ الأحمر يشبه الماء. ويا لذلك من تأثير بشع!
fig92
شكل ٤-١٧: لوحة بالألوان الزيتية على البورسلين للفنان إل ستورم، والأرجح أنه الرسام لودفيج ستورم المعروف بالرسم على البورسلين (المصدر: د. ألفريد بادر). ورغم أن اللوحة بعنوان «الخيميائي»، فإنها تُصوِّر كيمياء عقلانية. والعنصر الرئيس في الصورة هو وعاء الفحم. ويَرجح أن أكسيدًا فلزيًّا قد اختُزِل إلى معدن بفعل الفحم في البوتقة شديدة السخونة. انظر الصور الملوَّنة (أود أن أعرب عن بالغ امتناني لمتحف الفن التابع لجامعة ولاية نيويورك في بينجهامتون لمَنحي الإذن باستخدام هذه الصورة).
يُظهر الشكل ٤-١٧ صورة بالألوان الزيتية على البورسلين بفرشاة فنان يدعى إل ستورم بعنوان «الخيميائي».79 والفنان الذي رسم الصورة هو في الغالب فنان يُدعى لودفيج ستورم (١٨٤٤–١٩٢٦)، اشتهر في بامبرج وميونخ برسمه على البورسلين.80 «ربما» يكون عنوان اللوحة مناسبًا؛ نظرًا لأن الشخصية المحورية في الصورة يبدو وأنه يُجري عملية خيميائية لصالح العميلين الثريين المصورين بأزياء القرن الثامن عشر. ومع ذلك، فإن الخيمياء قد بلغت قمة ازدهارها خلال منتصف القرن السابع عشر، ومع منتصف القرن الثامن عشر كانت الكيمياء تشق طريقها في ثقة نحو اتخاذ مكانتها كعلم دقيق. كذلك كان الأثرياء السُّذَّج قد أصبحوا عقلاء بحلول تلك الفترة. فماذا يَجري في هذه اللوحة؟ من الواضح أن مساعد الكيميائي قد أمدَّه ببوتقة شديدة السخونة باستخدام فرنه ومنفاخه، بينما يضيف الكيميائي مسحوقًا كلسيًّا إلى البوتقة. والعنصر الأساسي في هذه الصورة هو وعاء الفحم المسحوق الذي يظهر أمام العميل الثري الواقف إلى اليمين. ربما نتصوَّر إضافة الفحم إلى البوتقة قُبيل إضافة الكلس مباشرة. فلو كان الكلس هو أكسيد النحاس الأسود، لكانت النتيجة مشوقة على نحو خاص؛ إذ سيتصاعَد هسيس غاز من الكتلة الداكنة وتظهر قطرة ذهبية مائلة إلى الحمرة من معدن سائل سرعان ما يتصلَّب متحولًا إلى نحاس.

لكن لو نظرنا إلى الصورة من منظور أحد أنصار نظرية الفلوجستون، لاختلف الأمر. إن الفحم غني ومُحمَّل بالفلوجستون — جوهر النار. وكلس النحاس سيكون فعليًّا نحاسًا مجرَّدًا من الفلوجستون. وتلك العملية الكيميائية الموضَّحة في الصورة من شأنها اختزال الكلس ليعود فلزًّا مرةً أخرى بإعادة كامل محتواه من الفلوجستون له. فهل كان الشخص في وسط الصورة خيميائيًّا (تُرى أهو مدَّع أم محتال؟) يُغري مُستثمرَيْن ثريَّيْن كانا يأملان في مضاعَفة ثروتيهما؟ أعتقد أن الأمر ليس كذلك. ربما يكون كيميائيًّا مبتدئًا أو عالم معادن كفئًا يَطلُب الدعم من بعض المستثمرين الأثرياء.

(٨) التصنيفات الكيميائية المذهلة للمعادن والرخويات

شهدت السويد في القرن الثامن عشر81 ازدهارًا كبيرًا في مجال التعدين وصناعة المعادن؛ إذ أصبحت المصدر الرئيس للحديد لباقي بلدان أوروبا. إلى جانب ذلك، كانت السويد تتمتَّع بمورد طبيعي وفير آخر متمثِّل في الغابات البكر، مما جعلها مركزًا لصناعة الأخشاب وتصنيع الأثاث. وربما يُفسِّر هذا تأسيس التصنيف العلمي المفصَّل لكلٍّ من مُملكتي النبات والمعادن في السويد خلال هذه الفترة. على الناحية الأخرى، ربما كان ذلك التصنيف نابعًا ببساطة من رغبة اللوثريِّين الشديدة في النظام والتناغُم.
في عام ١٧٥٣، نشر كارلوس لينيوس (١٧٠٧–١٧٧٨)82 كتاب «الأنواع النباتية»، مُقدِّمًا فيه أول تصنيف علمي ممنهج للنباتات المزهرة والسراخس. وكان التصنيف مستندًا بوجه عام إلى البِنى الخارجية (التكوين) لأجزاء الزهور. كذلك كان للمظهر الخارجي دور رئيس في تصنيف المعادن. على سبيل المثال، كان ذلك التصنيف يفترض أن الأحجار الكريمة والياقوت قريبَا الصلة. وفي عام ١٧٥٨، نشر سويدي آخر، هو أكسيل فريدريك كرونستيت [١٧٢٢ (أو ١٧٠٢)–١٧٦٥]،83 (دون الكشف عن هويته) كتابه «محاولات في علم المعادن». في هذا الكتاب، صنَّف كرونستيت كل المعادن في أربع مجموعات كيميائية: المعادن الأرضية، والمعادن الملحية، والمعادن الزفتية، والمعادن الفلزية.83 ومع ذلك، فإن هذا التصنيف البسيط نُشر بعد عامين فقط من إعلان بلاك اكتشافه «الهواء المُثبَّت» (غاز ثاني أكسيد الكربون)، وكان ذلك قبل حوالي عقدَين من الثورة الكيميائية.
لتوضيح حالة الالتباس الكيميائي التي سادت علم المعادن خلال القرن الثامن عشر، سأذكر بضعة أمثلة كافية لهذا الغرض. البلمباجو أو حجر الجرافيت هو معدن زلق ضارب إلى الرصاصيِّ يؤدِّي إلى اسوداد اليدين،84 وأُطلِق عليه كذلك «الرصاص الأسود»؛ نظرًا لشبهه الظاهري بالفلز الناعم الضارب إلى الرصاصيِّ أيضًا. وكان الجرافيت يدخل في صناعة الأقلام الرصاص في القرن السابع عشر؛85 ومن هنا جاءت تسميتُه الأحدث: الجرافيت. بالطبع ما زال استخدام الأقلام «الرصاص» شائعًا.86 وقد صنَّف يوهان جوتشوك فالريوس (١٧٠٩–١٧٨٥)، وهو سويدي أيضًا، الجرافيت كأحد أنواع فلز التلك.87 وفي عام ١٧٧٩، أكسَد الكيميائي السويدي العظيم كارل فيلهم شيله الجرافيت مع النتر، وجمع غاز ثاني أكسيد الكربون «الهواء المُثبَّت» الناتج، وخَلُص إلى أن معدن الجرافيت يتكوَّن من الكربون الصافي.88 على الناحية الأخرى، يبدو مظهر الألماس مختلفًا عن الجرافيت، كما يُمكن أن تتخيَّل. فهو بلوري وشفاف وأصلب من الصخر. وبالفعل، كان الألماس يبدو أقرب إلى الأحجار الكريمة الجميلة النادرة الأخرى، بما في ذلك الياقوت الأحمر، والعقيق، والياقوت الأزرق. ومع ذلك، اكتسبت الشائعات التي انتشرت حول التجارب التي يُحرَق فيها الألماس مصداقية مُتزايدة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر.89 وفي عام ١٧٦٠، وصف فرانسوا الأول — إمبراطور النمسا — تجربةً حُرق فيها الألماس وأحجار الياقوت على مدار ٢٤ ساعة في بوتقات.89 ولدى فتح البوتقات، وجِد الياقوت الأحمر كما هو دون أن يطرأ عليه أي تغيير، بينما اختفى الألماس دون أي أثر. وفي عام ١٧٩٧، أكسد سيمثسون تينانت الألماس مع النتر وأثبت بالدليل القاطع أن الألماس أيضًا كربون صافٍ.90
fig93
شكل ٤-١٨: طُوِّرَت الأدوات المستخدمة في تحليل المعادن باستخدام الحملاج لتُصبِح ذات تقنية عالية في السويد في القرن الثامن عشر (من كتاب توربم بيرجمان «مقالات في الفيزياء والكيمياء» المنشور عام ١٧٨٨).
كان الحملاج (أداة نفخ) أداةً مبكرة فعالة لتحليل تركيب المعادن وكيميائيتها. وعلى الرغم من أن أصولها ضاربة في القدم، فقد خضعت للتعديل للتخلُّص من عيوبها في السويد خلال القرن الثامن عشر.91 وكان كلٌّ من شيله وتوربرن بيرجمان يَستخدمان هذه الأداة على نحو مكثَّف. ويصف الشكل ٤-١٨ — من مقالات لبيرجمان — بالتفصيل تركيب حملاج فضي الصلب واستخدامه.92 تبدأ الوحدة A (أعلى يمين الصورة) بالبوق، التي تَضيق تدريجيًّا إلى أن تتناسَب في إحكام مع فتحة الوحدة B، التي تَدفع الأنفاس دفعًا لتنعطف بزاوية ٩٠ درجة، وتجمع الرذاذ وقطرات الماء المختلطة بأنفاس نافخ البوق في مجرى. تتصل الوحدة B بالأنبوب C، الذي ينتهي بفتحة صغيرة مستديرة وانسيابية g التي توجِّه الأنفاس إلى لهب الشمعة. يُنفَخ اللهب أفقيًّا، وربما تُركز أجزاؤه المُختَزِلة أو المُؤكسِدة على عينات المعادن حسب الرغبة. قد تُعَرَّض عينات ضئيلة من المعادن للهب بوضعها في الملعقة E، المصنوعة من الفضة أو الذهب، وإذا كان المعدن غير قابل للاشتعال، يُوضع في فتحة داخل قطعة من الفحم. تسحق المطرقة F القطع المعدنية داخل الحلقة المعدنية H على اللوح المعدني G. وتُمسك هذه القطع المعدنية باستخدام الملقط I.
والآن يأتي الجزء الصعب؛ إذ لا بد أن يكون تدفُّق الأنفاس إلى اللهب سلسًا ومتواصلًا لدقائق في كل مرة أحيانًا. جرب ذلك. ومع ذلك، يؤكد لنا بيرجمان92 إمكانية إتقان هذا الأسلوب بالممارسة — املأ خديك بالهواء ومع الشهيق والزفير من منخرَيك، وأبقِ خديك ممتلئين بالهواء، ثم استمر في اعتصارهما بقوة بأصابع إحدى يديك، حتى يظل التنفُّس ثابتًا ومستمرًّا. عزيزي القارئ، ها أنا آذن لك بالانصراف عن مواصلة القراءة وأخذ باقي اليوم إجازة للمُمارَسة!

ثَمَّةَ عديد من الخطوات يجب اتباعها. أولًا: عَرِّض عيِّنة المعدن الصغيرة للجزء الخارجي (ناقص الوقود)، المُؤكْسِد من اللهب. فإذا لم يطرأ أي تغيير على العينة، عرِّضها لحافة الجزء الأزرق المُختَزِل والأعلى حرارة من اللهب. في حالة عدم انصهار العينة بفعل اللهب، يُدخل بيرجمان ثلاثة مواد «صهيرة» لدعم انصهار العينات المعدنية، وهي: ملح الفوسفات الحمضي، وملح قلوي (هيدروكسيد الصوديوم)، وملح معتدل (بوراكس). تذاب المادة الصهيرة، ثم يُضاف معدن مسحوق تمامًا إليها ويُدخَل في تفاعل مع المادة الصهيرة، ثم تُسجل النتائج. وقد كانت عمليات التحليل التي أُجريت بالحملاج بالغة الدقة وشديدة الحساسية.

fig94
شكل ٤-١٩: التصنيف الكيميائي للمعادن كما وضحه رينيه أيوي في كتابه «دراسة في علم المعادن» المنشور في باريس عام ١٨٠١ (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
fig95
شكل ٤-٢٠: شرح ويليام هايد ولاستون للأوجه البلورية (من كتاب «فجر الكيمياء» لسي. سينجر، شركة فوليو سوسايتي للنشر. بإذن من شركة فوليو سوسايتي للنشر).
قُربَ نهاية القرن الثامن عشر، اتَّحدت التطورات التي طرأت على عمليات تحليل المعادن مع النظرية الكيميائية لإعداد الساحة لثورة في تصنيف المعادن. والشكل ٤-١٩ من كتاب «دراسة في علم المعادن» للأب رينيه جست أيوي (١٧٤٣–١٨٢٢).93 في هذا الكتاب، يظهر كلٌّ من بلورات الكبريت الصفراء العديمة الشكل والألماس البلوري الشفاف — على اختلافهما — معًا في الصورة ٦٣ كعنصرَين كيميائيَّين قابلَين للاشتعال. كان أيوي أول من أدرك أن البلورات تنفصم عند أوجه محدَّدة من بنيتها ترتكز على طبقات بلورية مُتماثِلة سفلية. وربما يكون المؤسس الأول لعلم البلورات.94 وقد قاس ويليام هايد ولاستون (١٧٦٦–١٨٢٨) بدقة زوايا الأوجه البلورية، موحدًا بذلك فكرتَي هوك (انظر الشكل ٤-٥) ودالتون95 بشأن التعبئة المتراصة للبلورات، وموظفًا إياهما لفهم التماثل والانفصام البلَّوريين (انظر الشكل ٤-٢٠).94 وقد مكَّنت دراسات المعادن التي نشأت في السويد مع «علم الكيمياء الحديث»، عالِمَ المعادن الأمريكي جيمس دوايت دانا في عام ١٨٣٧ من طرح التصنيف الكيميائي للمعادن الذي لا يزال معمولًا به حتى اليوم.96

والآن، ما الصلة التي تربط هذه المناقشات المتعلِّقة بالمعادن بالرخويات؟ تقوم منهجيات تصنيف لينيوس على البنية الخارجية (علم التشكل). وكان هذا التصنيف قد وُضع قبل قرن من اكتشاف دارون للتطور؛ ومن ثَمَّ افتقد إلى الرؤى المستمَدة من نظرية الانتخاب الطبيعي. وهكذا فإننا الآن نُدرك التشابه الظاهري بين أسماك القرش والدلافين بشكل أفضل (اللذَين كثيرًا ما يلتبس الفارق بينهما على السبَّاحين المُتوتِّرين)، من خلال فهم المسارات التطورية المتوازية التي تُتيح لكلا النوعين العيش في بيئات وكوَّات متشابهة. والشكل الظاهري في هذه الحالة مضلِّل للغاية؛ فالقروش — وهي أسماك — والدلافين — وهي من الثدييات — يختلف بعضها عن بعض كاختلاف الياقوت الأحمر عن الألماس. على النقيض، تبدو الدلافين مُختلفة عن الجياد على المستوى الظاهري مثل الجرافيت والألماس. ومع ذلك، فإن الدلافين والجياد حيوانات حارَّة الدماء، تلدُ صغارَها الحية دون وضع أي بيض، وترعى صغارها. والحقيقة الكيميائية الخفية بشأن الجرافيت والألماس هي أن كليهما كربون نقيٌّ.

fig96
شكل ٤-٢١: عرضٌ تفرعي حديث للعلاقات التطورية السلالية بين أنواع المحار المختارة. تقوم هذه التصنيفات التفرعية على معايير كيميائية (تسلسلات الحمض النووي) وليس على تكوين الصدفة (الشكل الخارجي). تُشير هذه الدارسات الكيميائية الحيوية إلى أن محار كيلميري الملزمي (C. kilmeri) أقرب وراثيًّا إلى محار الماء المالح جيجاس (V. gigas) ومحار إكتناجينا إكستنتا (E. extenta) منه إلى محار إلونجاتا الملزمي (C. elongata)، ومحار باسيفيكا الملزمي (C. pacifica)، ومحار فيزيوليفورميس الملزمي (C. phaseoliformis) الأقرب إليه في الشكل الظاهري. وقد خضع علم المعادن لتطوُّر مشابه من التصنيف على أساس الشكل إلى التصنيف الكيميائي قبل أكثر من قرنين من الزمان. فقبل عام ١٧٧٠، كان يُعتَقَد أن الألماس أقرب إلى الياقوت الأحمر، ولا يمتُّ بصلة إلى الجرافيت. لكن الكيمياء أظهَرَت أن الألماس والجرافيت كلاهما كربون نقي، وكلاهما لا يمتُّ بصلة إلى الياقوت الأحمر (خالص تقديري للأستاذ روبرت فرايجنهوك لتعريفي بالمفاهيم التفرعية، ومناقشته لدراساته على المحار، وإمدادي بهذه الأشكال المبينة في الكتاب).
يُظهر الشكل ٤-٢١ ستة أنواع من المحار في رسمٍ بيانيٍّ،97 أربعة من هذه الأنواع تَنتمي إلى فصيلة المحار «كاليبتوجينا»، أما النوعان المتبقيان، فينتميان إلى فصيلتَي محار «فسيكوميا»، ومحار «إكتناجينا». وقد قامت هذه التصنيفات بوجه عام على الشكل الخارجي لأصداف المحار؛ نظرًا لأنها الجزء الوحيد الذي يتبقى بعد موت المحار، كما أنها تتيح ربطها بالأسلاف الأحفورية (انظر مقال لامارك الوارد لاحقًا في هذا الكتاب). ومع ذلك، فخلال الجزء الأخير من القرن العشرين، ابتُكِرت أدوات كيميائية حديثة، من بينها تحديد تسلسل البروتين، ثم تحديد تسلسل الحمض النووي لاحقًا، لدراسة الأبعاد الخفية في مثل هذه العلاقات الوراثية التطورية. وبوجه خاص، كل بروتين مُمَيَّز في الكائن الحي يُقابله جين مسئولٌ عن شفرته. وهكذا يكون الهيموجلوبين في الحصان أشبه لهيموجلوبين البقرة منه لهيموجلوبين الفأر. في هذه الحالة، على الأقل، تعكس العلاقة الشكلية الظاهرية الواضحة الاختلافات الجينية الكامنة. ونحو نهاية القرن العشرين، ومع التطورات الحاصلة في التحليل الكيميائي، والتشغيل الآلي، والبيولوجيا الحاسوبية، ظهر فرع جديد من العلوم باسم «علم الجينوم»، والذي أتاح عقد مقارنات مباشرة بين التسلسلات الجينية الهائلة للكائنات الحية المختلفة، وأحيانًا ما تكون النتائج التي تظهر مذهلة للغاية.
يُوضِّح الشكل ٤-٢١ العلاقات النظامية بين أنواع المحار الستة موضوع الدراسة، ليس بناءً على الأشكال الخارجية للأصداف، وإنما بناءً على تسلسلات الحمض النووي الخاص بوُحيدة ميتوكوندريا أوكسيداز الأولى.97 وتظهر تصنيفات التطور السلالي المُبيَّنة في شكل مخطَّط تفرُّعي98 والتي يُمثل فيها كل فرع من الشجرة تعديلًا مختلفًا يتشكَّل منه فصيلة جديدة. من منظور علم الجينوم، تختلف العلاقة بين أنواع المحار تمامًا عن التصنيف القائم على الشكل الخارجي (الشكل ٤-٢١)؛ فالحقيقة الكيميائية الخفية تختلف اختلافًا مهولًا عن الاستنتاجات القائمة على البِنية الخارجية؛ ومن ثَمَّ، وبناءً على هذا التصنيف الكيميائي، تُمثِّل فصائل محار الماء المالح جيجاس، ومحار إكتناجينا إكستنتا، ومحار كيلميري الملزمي ثلاث فصائل مختلفة، لكن من الممكن أن تُنسَب إلى فصيلة وحيدة (نظرًا إلى أن أصولها تعود إلى سلف مشترك). يشير المخطط التفرعي إلى أن أوجه التشابه بين محار باسيفيكا وكيلميري الملزميين، المصنفين في فصيلة واحدة، أقل من أوجه التشابه بين محار كيلميري الملزمي ومحار إكتناجينا إكستنتا (رغم أن إكتناجينا إكستنتا يبدو مختلفًا على مستوى الشكل عن محار كيلميري الملزمي).97 وقد اكتشف الأستاذ روبرت فرايجنهوك أن المحار الموجود في خليج مونتيري الذي يسمى محار باسيفيكا الملزمي يُمثِّل في الواقع ثلاثة أنواع مختلفة متشابهة شكلًا ولكنها مختلفة جينيًّا وتعيش على أعماق مختلفة. أما محار باسيفيكا الملزمي الحقيقي، فلا يعيش من الأصل في خليج مونتيري، وإنما في جوار ولاية واشنطن.97
ومع اجتياز علم الجينوم حداثة عهده، بدأ يُثير كثيرًا من المسائل الصعبة. على سبيل المثال، لا تعكس كل البروتينات تطابُق العلاقات التطورية السلالية بين الأنواع المتقاربة. ولا يُمثِّل استخدام القطاع المحدَّد من الحمض النووي المبيَّن أعلاه — لتحديد العلاقات التطورية السلالية بين أنواع المحار الستة المصوَّرة في الشكل ٤-٢١ — الاحتمالية الوحيدة. فمع اكتساب مزيدٍ من المعرفة في هذا المجال الثوري، ربما يُتوصَّل إلى قرارات بشأن أنسب التسلسلات الجينية وكذلك العوامل الترجيحية. فهل يعيدنا هذا إلى ذاتية التصنيف القائم على الشكل، أم يُمكن القبول بأنْ تعمل جينات «محورية» معينة كمؤشرات محدَّدة؟ بالطبع هذه أسئلة أعقد بكثير من تلك التي أثيرت قبل قرنين حول المعادن، الأكثر بساطة من الناحية الكيميائية؛ إذ لا تحوي أنسجة وأعضاء وظيفية، ولا تستقلب معادن أخرى، وعلى حد علمنا، لا تتزاوج أو تتطور.

(٩) في الجير حقيقة

fig97
شكل ٤-٢٢: جدول من كتاب يوهان فريدريش ماير «مقالات في الكيمياء»، الصادر عام ١٧٦٦. لقد كان يؤمن بوجود مادة «أسيدوم بينج» («الحمض الدهني» أو «الزيتي») في القلويات القوية (الكاوية) (مثل مادة هيدروكسيد البوتاسيوم) في حين أنها لا توجد في القلويات المعتدلة (مثل كربونات البوتاسيوم). إنَّ إضافة الأسيدوم بينج في الواقع كانت تُساوي فقدان ثاني أكسيد الكربون، مثلما كانت إضافة الفلوجستون تساوي فقدان غاز آخر غير مرئي، هو الأكسجين.
في مقولة «في الخمر حقيقة» معنًى ضمنيٌّ بأن لسان المرء يُطلَق من عقاله على الأرجح — بعد أن «تُزلقه الخمر» بالدرجة المناسبة — فيعترف بكل شيء. ومع ذلك، ربما قال الصيدلاني الألماني يوهان فريدريش ماير (١٧٠٥–١٧٦٥)99 كذلك «في الجير حقيقة»؛100 إذ اكتشف من خلال كربونات الكالسيوم (CACO3) (الحجر الكلسي؛ الحجر الجيري) مادة أسيدوم بينج، التي يقال إنها المادة الأساسية العامة الكامنة في الأجساد، وجوهر النار، والعنصر المكون لكل الأحماض (انظر الشكل ٤-٢٢).101 ولربما قالها أيضًا؛ نظرًا لأنه أقر بتناول ١٢٠٠ رطل من الحجر الجيري على مدار ثماني سنوات لعلاج حموضة معدتِه الشديدة.102
حتى عام ١٧٥٦، كان الغاز أو «الهواء» الوحيد المعروف هو الهواء الجوي. في تلك السنة، نشر د. جوزيف بلاك ورقته البحثية عن عزل خواص «الهواء الثابت» (ثاني أكسيد الكربون أو).103 وقد استخدم التقنيات المُعتمِدة على الهواء المضغوط التي ابتكرها كلٌّ من ستيفن هيلز وويليام براونريج لحجز «الهواء» الذي كان «مثبتًا» في الحجر الكلسي الطبشوري (CaCO3). وبالرغم من أن فان هيلمونت قد تعامل مسبقًا مع هذا «الهواء» على مدى ١٠٠ عام، فلا هو ولا أي من العلماء المعاصرين له استطاعوا وصفه على نحو صحيح.
لم يكن معروفًا خلال الفترة التي عاصَرَها بلاك سوى ثلاثة قلويات أساسية، هي:103 النباتات، وماء البحر، والمواد الطيارة. وقد وُجِد كلٌّ من هذه القلويات في صور «معتدلة» وكاوية. وقد دفعت دراسات بلاك الكمية الدقيقة به إلى قناعة صحيحة مؤدَّاها أن فقدان «الهواء المُثبَّت» هو ما يحول القلويات من الحالة المُعتدلة إلى الحالة الكاوية؛ ويُمكِن تلخيص هذا الاستنتاج بالاصطلاحات الكيميائية الحديثة كما يلي:
عائلة القلويات قلوي «معتدل» قلوي «كاوٍ»
النباتات KOH
ماء البحر NaOH
المواد الطيَّارة
أما نظرية ماير فكانت عكس نظرية بلاك من الأساس.99 فقد قيل إن المادة التي أسماها ماير «أسيدوم بينج» («الحمض الدهني» أو «الزيتي») عنصر حاضر في كل الأحماض. حين تفاعَلَت القلويات المعتدلة (التي أدرك بلاك أنها كربونات) مع الأحماض، أشار الفوران الناتج عن التفاعل إلى امتصاص مادة «أسيدوم بينج» الموجودة في جميع الأحماض. أما القلويات الكاوية — كما أشير أعلاه — فكانت مشبعة بمادة «أسيدوم بينج»؛ ومن ثَمَّ لم ينتج أي فوران عند تفاعلها مع الأحماض. وذلك الملمس الزلق الذي يميِّز القلويات الكاوية نشأ عن «الحمض الدهني» الذي تتشبَّع به. ويوضح الشكل ٤-٢٢ جدولًا لأوجه الارتباط بمادة «أسيدوم بينج».
في هذه المرحلة، باتت الرؤى المتماشية مع نظرية الفلوجستون جلية تمامًا.99 فقيل إنَّ كلسات الفلزات تكتسب الفلوجستون وتُصبح فلزات عند تسخينها مع الفحم، الذي يعدُّ مادة مشبَّعة بالفلوجستون. على النقيض، أثبت لافوازييه أن الكلسات قد «فقدت» الأكسجين الذي ينتقل إلى الفحم ليشكل ثاني أكسيد الكربون . وبحسب ما ذكر ماير، كان يقال إنَّ القلويات المعتدلة تكتسب مادة «أسيدوم بينج» من النار لتُصبح قلويات كاوية. وأثبت بلاك أن المواد القلوية، في الواقع، «تفقد» ثاني أكسيد الكربون خلال هذه التحولات.

غير أنَّ ما زاد البلبلة أن تحوُّل فلز مثل الكالسيوم إلى كلس الكالسيوم في النار كان سيَستلزم إضافة الأسيدوم بينج المستمدَّة من النار. والكلس أثقل في الواقع من الفلز. غير أن إضافة «الأسيدوم بينج» إلى القلويات المُعتدِلة لتشكيل القلويات الكاوية من شأنه أن يشير إلى أن هذه الأخيرة لا بد وأن تكون أكثر كثافة أيضًا. لكن واقع الأمر أن القلويات الكاوية أخفُّ من المعتدلة؛ نظرًا لفقدان ثاني أكسيد الكربون خلال التحول. ومصدر كل «هذه البلبلة اللانهائية» هو أنَّ الفلوجستون (التراب الدهني) هو جوهر النار الكامن في المواد القابلة للاحتراق. في المقابل، تُمثِّل مادة «أسيدوم بينج» أحد عناصر النار التي تعمل كعامل كيميائي خارجي يضاف إلى المواد القابلة للاحتراق. لقد قام كلٌّ من بلاك ولافوزاييه ﺑ «استئصال» الدهون من الفلوجستون ومادة «أسيدوم بينج»، أو ربما فرَّغا كلتا النظريتَين من محتواهما.

هوامش

(1) J. Ferguson, Bilbiotheca Chemica, Vol. II, Derek Verschoyle, London, 1954, pp. 486-487.
(2) L. I. Duveen, Bilbiotheca Alchemica Et Chemica, HES Publishers, Utrecht, 1986, p. 361.
(3) Limojon De Saint Disdier, Alexandre Toussaint de, The Hermetical Triumph;, or, The Victorious Stone. A Treatise more compleat and more intelligible than any has been yet, concerning The Hermetical Magistery. Translated from the French. To which is added, The Ancient War of the Knights. Translated from the German original. As also, some Annotations upon the most material Points, where the two Translations differ. Done from a German Edition. P. Hanet, London, 1723.
(4) Limojon De Saint Disdier, op. cit., pp. 4-5.
(5) Limojon De Saint Disdier, op. cit., pp. 13-14.
(6) J. R. Partington, A History of Chemistry, Macmillan and Co., Ltd., London, Vol. 2, pp. 486–549.
(7) A. Greenberg, A Chemical History Tour, John Wiley and Sons, New York, 2000, pp. 87–92.
(8) R. Boyle, The Sceptical Chymist: Or Chymico-Physical Doubts & Paradoxes, Teaching the Spagyrist’s Principles Commonly call’d Hypostatical, As they are wont to be Propos’d and Defended by the Generality of Alchymists. Whereunto is præmis’d Part of another Discourse relating to the same subject, F. Caldwell for F. Crooke, London, 1661. I am grateful to The Roy G. Neville Historical Chemical Library (California) for supplying these two images. Although the title page cited above (Figure 4-2) is commonly quoted, the original first title page appears to be that shown in Figure 4-3 (Dr. Neville, personal correspondence). It is both anonymous and a bit nasty (“Vulgar Spagyrists”), and perhaps Boyle (or the publisher) had some second thoughts.
(9) E. Rhys (ed.), The Sceptical Chymist by The Hon. Robert Boyle, J. M. Dent & Sons, London; E. P. Dutton & Co., New York, 1944.
(10) Rhys, op. cit., p. 13.
(11) Rhys, op. cit., p. 21.
(12) Rhys, op. cit., p. 24.
(13) Rhys, op. cit., p. 27.
(14) Rhys, op. cit., pp. 36-37.
(15) Rhys, op. cit., pp. 30–34.
(16) Brock, op. cit., pp. 54–70.
(17) Greenberg, op. cit., pp. 109–111
(18) Greenberg, op. cit., pp. 92–94.
(19) A. Lavoisier, The Elements of Chemistry in a New Systematic Order Containing All the Modern Discoveries (Robert Kerr, translator), William Creech, Edinburgh, 1790, p. 177.
(20) R. Boyle, Chymista Scepticus Vel Dubia Et Paradoxa Chymico-Physica circa Spagyricorum Principia, Apud Arnoldum Leers, Rotterdam, 1668. This is the second Latin edition, the first edition was published in 1662 (Partington, op. cit.).
(21) A. Greenberg, A Chemical History Tour, John Wiley & Sons, New York, 2000, pp. 87–90.
(22) Greenberg, op. cit., pp. 91-92.
(23) The New Encyclopedia Britannica, Encyclopedia Britannica Inc., Chicago, 1986, Vol. 6, p. 44.
(24) J. R. Partington, A History of Chemistry, Macmillan & Co., Ltd., London, Vol. 2, 1961, pp. 550–570.
(25) Partington, op. cit., pp. 551-552.
(26) R. Hooke, Micrographia: Or Some Physiological Descriptions of Minute Bodies Made by Magnifying Glasses. With Observations and Inquiries thereupon, Jo. Martyn and Ja. Allestry, Printers to the Royal Society, London, 1665. See also the facsimile reprint published by Culture Et Civilisation, Brussels, 1966.
(27) Hooke, op. cit., Preface.
(28) Hooke, op. cit., pp. 82–88.
(29) Hooke, op. cit., pp. 88–93.
(30) Greenberg, op. cit., pp. 173–175.
(31) Hooke, op. cit., pp. 100–106.
(32) Partington, op. cit., p. 558.
(33) Hooke, op. cit., pp. 163–165.
(34) Hooke, op. cit., pp. 208–210.
(35) J. R. Partington, A History of Chemistry, Macmillan & Co., Ltd., London, 1961, Vol. 2, pp. 577–614.
(36) Partington, op. cit., p. 604.
(37) J. Mayow, Tractatus Quinque Medico-Physici. Quorum primus agit de Sal-Nitro, et Spiritu Nitro-Aereo. Secondus de Respiratione. Tertius de Respiratione Foetus in Utero, et Ovo. Quartus de Motu Musculari, et Spiritibus Animalibus. Ultimus de Rhachitide, Sheldonian Theatre, Oxford, 1674. (A second Latin edition was published in The Hague, 1681; an English translation was published by the Alembic Club, Edinburgh, in 1907.)
(38) A. Greenberg, A Chemical History Tour, John Wiley & Sons, New York, 2000, pp. 105-106.
(39) Partington, op. cit., p. 527.
(40) Partington, op. cit., p. 589.
(41) Partington, op. cit., p. 588.
(42) Greenberg, op. cit., pp. 122–130.
(43) Partington, op. cit., p. 133.
(44) J. Emsley, The 13th Element — the Sordid Tale of Murder, Fire, and Phosphorus, John Wiley & Sons, Inc., New York, 2000. This book was first published in Great Britain as The Shocking History of Phosphorus, Macmillan Publishers Ltd. in 2000. It is a truly admirable book—a “pageturner,” possibly a “barn-burner.” The scope of the book can be imagined as author Emsley relates sadly and ironically that phosphorus was discovered in Hamburg and used in its horrific fire-bombing almost three centuries later. He notes that phosphorus was “the thirteenth chemical element to be isolated in its pure form.” Aaron J. Ihde might have contested that since he lists zinc among the elements to have been isolated before 1600 (see A. J. Ihde, The Development of Modern Chemistry, Harper & Row, New York, 1964, p. 747). However, the Separation of zinc from its oxide, a high-temperature process, was scientifically reported in the mideighteenth century, so Emsley’s appellation appears to be “kosher”.
(45) Emsley, op. cit., pp. 3–24.
(46) An “Elector” was a prince in the Holy Roman Empire who could participate in the election of an emperor.
(47) J. R. Partington, A History of Chemistry, Macmillan & Co., Ltd., 1961, Vol. 2, pp. 361–377.
(48) Partington, op. cit., p. 485.
(49) J. H. Cohausen, Lumen Novem Phosphoris Accensum, sive Exercitatio Physico-Chymica De causa lucis in Phosphoris tam naturalibus quam artificialibus, Joannem Oosterwye, Amsterdam, 1717.
(50) Cohausen, op. cit., p. 203.
(51) Actually, the “pomum” was a globular hand warmer for clerics.
(52) Partington, op. cit., p. 362.
(53) Partington, op. cit., p. 375.
(54) Partington, op. cit., p. 368.
(55) Emsley, op. cit., pp. 299–302.
(56) F. A. Cotton and G. Wilkinson, Advanced Inorganic Chemistry, fifth edition, John Wiley & Sons, New York, 1988, p. 386.
(57) Emsley, op. cit., pp. 47–63.
(58) Emsley, op. cit., p. 16.
(59) J. R. Partington, A History of Chemistry, Macmillan and Co. Inc., London, 1962, Vol. 2, pp. 637–652. I am grateful to The Roy G. Neville Historical Chemical Library (California) for supplying the three figures shown from Becher’s 1660 K~undigung der Metallen.
(60) C. C. Gillispie (ed.), Dictionary of Scientific Biography, Charles Scribner’s Sons, New York, 1970, Vol. I, pp. 548–551.
(61) P. H. Smith, The Business of Alchemy—Science and Culture in the Holy Roman Empire, Princeton University Press, Princeton, 1994. It is interesting that the international financier George Soros has written a book titled The Alchemy of Finance, Simon & Schuster, New York, 1987. Soros, a protégé of philosopher of science Karl Popper, employs finance and philanthropy to promote open societies.
(62) J.-P. Poirier, Lavoisier-Chemist, Biologist, Economist, University of Pennsylvania Press, Philadelphia, 1996.
(63) Smith, op. cit., p. 18.
(64) Partington, op. cit., p. 638.
(65) The New Encyclopedia Britannica, Encyclopedia Britannica, Inc., Chicago, 1986, Vol. 6, pp. 21-22.
(66) The New Encyclopedia Britannica, op. cit., Vol. 11, p. 711.
(67) Smith, op. cit., pp. 16-17.
(68) A. Greenberg, A Chemical History Tour, John Wiley and Sons, New York, 2000, pp. 102–104.
(69) Partington (see above) also cites an earlier 1667 version of this work.
(70) Partington, op. cit., p. 650.
(71) Smith, op. cit., pp. 76–80.
(72) Smith, op. cit., pp. 248–255.
(73) Partington, op. cit., pp. 653–686.
(74) C. C. Gillispie, op. cit., 1975, Vol. XII, pp. 599–606.
(75) A. Greenberg, op. cit., pp. 106–108.
(76) Professor Joel F. Liebman, personal communication.
(77) The thermodynamics of this reaction can be caiculated using standard enthalpy and entropy of formation data in M. W. Chase, Jr., NIST-JANAF Thermochemical Tables, fourth edition, Journal of Physical and Chemical Reference Data, Monograph 9, 1998 (see also the NIST Website at http://nist.gov). For a metal having weaker affinity for oxygen, such as in mercury (II) oxide, both enthalpy and entropy favor this reaction. For a metal having somewhat stronger affinity, as in copper (II) oxide, enthalpy disfavors the reaction but is overwhelmed by entropy.
(78) The most important pyrometallurgical operation is the reduction of the iron ores hematite (Fe2O3) and magnetite (Fe3O4). Although carbon (in the form of coke) is added to these ores at high heat, the chemistry is more complex than simply passing oxygen from iron to carbon. The blast fumace housing this operation provides hot air. Oxygen in the air forms carbon monoxide from the coke and it is the carbon monoxide that reduces the iron ores by stripping them of oxygen to produce carbon dioxide. This is complemented by water also present in the blast air that likewise converts coke to carbon monoxide. Water’s by-product, hydrogen, similarly strips the iron ore of oxygen to produce water. (See T. L. Brown, H. E. LeMay, Jr., and B. E. Bursten, Chemistry—the Central Science, seventh edition, Prentice-Hall, Upper Saddle River, NJ, 1997, pp. 872–875.
(79) I am grateful to Dr. Lynn Gamwell, Director, University Art Museum, State University of New York at Binghamton for kindly providing this image from the Museum collection.
(80) H. Vollmer (ed.), Allgemeines Lexikon Der Bilden den Künster von der Antike Bis Zur Gegenwart, Verlag Von E. A. Seeman, Leipzig, 1938, Vol. XXXII, p. 257. I am grateful to Dr. Alfred Bader for commenting on this painting and making me aware of the artist.
(81) The New Encyclopedia Britannica, Encyclopedia Britannica Inc., Chicago, 1986, Vol. 28, pp. 332–350.
(82) The New Encyclopedia Britannica, op. cit., Vol. 7, pp. 379-380.
(83) J. R. Partington, A History of Chemistry, Macmillan & Co., Ltd., 1961, Vol. 2, pp. 173–175.
(84) Partington, op. cit., p. 91.
(85) Partington, op. cit., p. 104.
(86) Long-time friend Professor Joel F. Liebman is a theoretician who has not done an experiment for at least 35 years. He quips that the only chemical research hazard he faces is “lead poisoning” from an inadvertent jab from his own pencil.
(87) Partington, A History of Chemistry, Macmillan & Co., Ltd., London, 1962, Vol. 3, p. 170.
(88) Partington (1962), op. cit., pp. 216-217.
(89) J. -P. Poirier, Lavoisier—Chemist, Biologist, Economist, Engl. transl., University of Pennsylvania Press, Philadelphia, 1996, pp. 47–50.
(90) Partington (1962), op. cit., pp. 703–705.
(91) J. J. Berzelius, The Use of the Blowpipe in Chemical Analysis, and in the Examination of Minerals (transl. J. G. Children), London, 1822.
(92) T. Bergman, Physical and Chemical Essays (transl. E. Cullen, J. Murray, London, 1788, pp. 471–529.
(93) R. Haòy, Traité de Minéralogie, Louis, Paris, 1801.
(94) C. Singer, The Earliest Chemical Industry, The Folio Society, London, 1948, pp. 291–307. We are grateful to the Folio Society for permission to reproduce this figure.
(95) A. Greenberg, A Chemical History Tour, John Wiley & Sons, New York, 2000, pp. 173–175.
(96) The New Encyclopedia Britannica, op. cit., Vol. 24, pp. 129–138.
(97) I am grateful to Professor Robert Vrijenhoek, who helped inspire this essay and who supplied the drawings in Figure 4-21 as well as extremely helpful discussions. I also wish to acknowledge helpful conversations with Professors Judith Weis and Will Clyde.
(98) I. J. Kitching, P. L. Forey and D. M. Williams, in Encyclopedia of Diversity, S. A. Levin (ed.), Vol. 1, pp. 677–707.
(99) J. R. Partington, A History of Chemistry, Vol. 3, Macmillan & Co., Ltd., London, 1962, pp. 145-146.
(100) “There is truth in chalk” is self-evident to any teacher who has not been fully converted to the computerized classroom.
(101) (J.) F. Meyer, Essais de Chymie, Sur La Chaux Vive, La Matiere Elastique et Electricque, Le Feu, Et L’Acide Universel Primitif, Avec un Supplement Sur Les éléments (M. P. F. Dreux, transl.), Vol. 1, Chez G. Cavalier, Paris, 1766, p. xv.
(102) J. Ferguson, Bibliotheca Chemica, Vol. II, Derek Verschoyle Academic and Bibliographical Publications Ltd., London, 1954, p. 93.
(103) Partington, op. cit., pp. 135–143.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤