الجزء الخامس

الثورتان الفرنسيتان

(١) الساعات الأولى من صباح الثورة الكيميائية

تبدأ الثورات عادةً بدايةً هادئة، ثم تجمع زخمها، لتَنفجِر بحدث جائح مثل اقتحام سجن الباستيل. كذلك بدأت الثورة الكيميائية بهمهمات عدم الرضا عن نظرية الفلوجستون. كان من المُمكن تبرير زيادات وزن الفلزات عند فقدانها للفلوجستون لتُصبح كلسات فلزية في حالة واحدة فقط، هي إلغاء الكيميائيين كل تجاربهم ومنطقهم البديهي، وقبولهم للكتلة السالبة. كثيرًا ما تبدأ أفعال التمرُّد الأولى في براءة تامة، وتُفهَم الآثار لاحقًا؛ فقد أدى نشر الإنجليزي ستيفن هايلز في عام ١٧٢٧ لأساليبه في جمع الغازات إلى إعلان جوزيف بلاك اكتشافه غاز ثاني أكسيد الكربون في عام ١٧٥٦، وعزل هنري كافنديش للهيدروجين عام ١٧٦٦، وأخيرًا عزَل كارل فيلهلم شيله لغاز الأكسجين عام ١٧٧١ أو ١٧٧٢، ومن بعده جوزيف بريستلي في عام ١٧٧٤. في البداية، ظن كافنديش أنه قد حبس الفلوجستون المنبعث من الفلزات بفعل الأحماض المائية التي تحولها إلى كلسات. ربما لم يَستطِع أن يفهم أن الغاز في الواقع انبعث من «عنصر» الماء وليس مِن الفلز نفسه. فيما تخيَّل شيله وبريستلي أن «الهواء» الذي حبَساه يَجذب الفلوجستون — جوهر النار — بقوة من المواد القابلة للاحتراق والفلزات. وربما كان الحادث الجائح في الثورة الكيميائية هو الإدراك الكامل في عام ١٧٨٣ أن فلوجستون كافنديش وهواء بريستلي منزوع الفلوجستون حين اجتمَعا نتج عن تفاعلهما الماء، ولم يَختفيا «كذرةٍ» في «الهواء»، أو يتحوَّلا إلى لا شيء.

fig98
شكل ٥-١: الرموز الكيميائية (انظر النص) من الموسوعة المنشورة في القرن الثامن عشر للفيلسوف دينيس ديدرو وعالم الرياضيات جان لورون دالمبير.
fig99
شكل ٥-٢: الرموز الكيميائية (انظر النص) من موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر.
fig100
شكل ٥-٣: الرموز الكيميائية (انظر النص) من موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر.
fig101
شكل ٥-٤: الرموز الكيميائية (انظر النص) من موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر.
الأشكال من ٥-١ إلى ٥-١٠ من موسوعة الفيلسوف دينيس ديدرو (١٧١٣–١٧٨٤) وعالم الرياضيات جون لورون دالمبير (١٧١٧–١٧٨٣) القيِّمة المتألِّفة من ٣٥ مجلدًا من القطع الكبير، والتي نُشرت ما بين عامي ١٧٥١ و١٧٧٢ مع مكمِّلات لاحِقة لها (١٧٧٦–١٧٨٠).1 لقد خرقت فلسفة ديدرو التقدمية قوانين الكنيسة والجمهورية الفرنسية الرجعية وقضى ثلاثة أشهر في السجن خلال عام ١٧٤٩.2 لا تزال الموسوعة — المليئة بفكر عصر التنوير الأكثر تقدمية — بالغة القيمة؛ لما تتميَّز به من طباعة فخمة ومحتوى ثري. تُمثِّل الرموز الأنيقة في الأشكال من ٥-١ إلى ٥-٤ «مزيج» التسميات الكيميائية التي وُجدت قبل قيام كلٍّ من دومورفو، ولافوازييه، وزملائهما بنشر كتاب «نظام التَّسمية الكيميائية» في عام ١٧٨٧. تضم هذه الأشكال مزيجًا من العناصر والسبائك والخلائط الأخرى، ومركبات، وعمليات كيميائية، ومقاييس، وأواني زجاجية، وأدوات أخرى. وسوف نتناول بعضًا فقط من هذه الرموز باختصار شديد.
شبَّه القدماء المعادن السبعة المعروفة بالشمس والقمر والكواكب الخمسة المعروفة (عُطارِد، والزهرة، والمريخ، والمشتري، وزحل)3 — انظر الأشكال ٣-١٣ و٣-١٤. يُمثل الرمز الأول في العمود ١ من الشكل ٥-١ الصلب السبائكي، والتشابه بينه وبين الحديد (الشكل ٥-٢، العمود ١) واضح. ويوضح الشكل (٥-٢، العمود ٢) مسحوق أو برادة الصلب. ويرمز درع مارس إله الحرب ورمحه إلى الفلز الذي يُستخدم في تصنيع الأسلحة على نطاق واسع، والذي يشير كلسه الأحمر إلى الكوكب الأحمر. ويوضِّح الشكل ٥-١ (العمود ١) النحاس المحمَّص (أو البرونز)؛ ويُوضِّح الشكل ٥-٤ سبيكة نحاس (أو الزهرة، العمود ٢؛ مرآة فينوس)، بينما يُوضِّح الشكل ٥-٢ القصدير (العمود ١؛ المشتري، ربما يكون الرمز مُستقًى من الرقم العربي ٤؛ ربما لأنَّ المشتري هو رابع الكواكب بُعدًا عن الأرض).3 أما أكثر الكواكب وضوحًا للعين المجرَّدة، فكان كوكب زحل؛ فهو أبطأ الكواكب حركة وفقًا للملاحظ على الأرض. يُرمز إلى الرصاص الداكن الكثيف (انظر الشكل ٥-٣، العمود ١) أو كوكب زحل بمنجل إله الغرس أو البذر. ويعدُّ صولجان المشتري نفسه رمزًا يتألَّف من ثعبانين أحدهما ذكر والآخر أنثى (الشكل ٥-٢، العمود ٣) متشابكين حول صولجان الإله. أما الفضة فيُمثِّلها القمر (الشكل ٥-١، العمود ١)، والذهب يُمثِّله الشمس (الشكل ٥-٢، العمود ٤).
fig102
شكل ٥-٥: معدات تقطير (انظر النص) من موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر.
fig103
شكل ٥-٦: معدات تقطير (انظر النص) من موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر.
fig104
شكل ٥-٧: معدات تقطير وإعادة دوران (انظر النص) من موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر.
fig105
شكل ٥-٨: أنواع مختلفة من معدات إعادة الدوران (انظر النص) من موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر.
fig106
شكل ٥-٩: مقطَّرات مُعوجة مختلفة وجهاز «بالوني» (انظر النص) من موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر.
fig107
شكل ٥-١٠: ميزان كيميائي مُركَّب بالكامل لجيوم فرنسوا رويل، المحاضر في حديقة النباتات في باريس، مُصور في موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر. وقد ألهمت عروض جيوم إف رويل التجريبية أنطوان لافوازييه لاقتحام عالم الكيمياء. كان رويل أحد المؤمنين بقوة بنظرية الفلوجستون، لكن في أقل من عقدَين قوَّض تلميذه السابق نظرية الفلوجستون بنظرية الأكسدة الحديثة.
يُمثِّل الأنتيمون (الشكل ٥-١، العمود ١)، في الواقع، الستيبنيت (Sb2S3)، في حين يُمثِّل الأنتيمون التجاري النقي (الشكل ٥-٣، العمود ١) العنصر النقي.4 وتشير «زهور الأنتيمون» (الشكل ٥-٤، العمود ٢، الرمز ٢١) إلى ما نعرفه اليوم بأكسيد الأنتيمون (ترمز الزهور إلى الأملاح المُتطايرة التي قد تتسامى).4 في الشكل ٥-٣، ورد الكبريت ما لا يقلُّ عن خمس مرات في أشكال مختلفة هي: الشكل الشائع، والكبريت الأسود، والكبريت الحي أو الطبيعي، و«الكبريت الفلسفي» (إحدى مواد باراسيلسوس الثلاث الأساسية المشتقَّة — من وجهة النظر الخيميائية — من الذهب)، و«كبريت الرُّسُل». أما «الأبيض الإسباني» (في الشكل ٥-١، العمود ٢، الرمز ٤)،4 فيُمكن أن يكون أكسيكلوريد البزموت أو أكسينترات البزموت، لكني لا أرى أي وجه تشابه بينه وبين رمز البزموت نفسه (الشكل ٥-٤، العمود ١). أما حوض الماء (الشكل ٥-١، العمود ٢، الرمز ٢)، فهو حوض الماء الساخن الذي طُوِّر في العصور القديمة على يد ماريا النبية (ماري اليهودية، وهي خيميائية تاريخية حقيقية)5 من أجل تسخين هادئ محكوم للأوعية الكيميائية. ويُمثِّل الرمز التالي حمام بخار. ويظهر الشكل ٥-١ (العمود ١) مغناطيسًا. وبالطبع يحتل الفلوجستون مكانة مرموقة (الشكل ٥-٤، العمود ٣). وتُشير النخامة، والتي توجد أعلى الفلوجستون مباشرة، على نحوٍ عارض إلى تقطير جزيئي مائي، وليس إلى ذلك الشيء المقزز الذي يُطلَق عليه المخاط. وفي الشكل ٥-١ (العمود ٣) يظهر قرن الغزال. أما «دمُ التنين» (والذي غالبًا ما يرمز إلى حجر الفلاسفة6 — انظر الشكل ١-٢٠)، فستجده مدرجًا في الشكل ٥-٣ (العمود ٢، الرمز ٤).
تُصوِّر الأشكال من ٥-٥ إلى ٥-١٠ بعضًا من الأواني الزجاجية والأدوات الأخرى التي سبَقَت الثورة الكيميائية والتي كانت دِلالة على دنوِّها. وكثيرٌ من هذه الأواني سبَقَت الثورة الكيميائية بمئات السنين. ويُصوِّر الشكل ٥-٦ إنبيقًا كاملًا (انظر الصورة ٨٦) مصحوبًا بوعائه الذي يُشبه ثمرة القرع (انظر الصورة ٨٥) دون رأس المقطرة. ويُمثِّل كلٌّ من الصورتين ٨٩ و٩٠ مجموعات من ثلاثة أوعية غالبًا ما تُستخدم في عملية التسامي. يُشار إلى الصورة ٩٧ بأنها «وعاء كان يستخدمه القدماء في تقطير ماء الورد»؛ وكثيرًا ما يشار إليه ﺑ «القبَّعة الوردية»، يعمل كمُكثِّف هواء بدائي.7 تُظهِر الصورة ٩٦ جهاز تقطير كاملًا للحصول على روح الخمر، والخلاصات العطرية، والزيوت الأساسية. في هذا الجهاز يمر أنبوب مكثِّف عبر برميل مملوء بالماء المثلَّج؛ وثمة نظام تكثيف آخر أكثر فاعلية هو «الأفعى المزدوَجة» اللتين تدوران عبر غرفة مملوءة بالماء المثلج. ويُمكن استخدام إحدى الأفعيين في تكثيف روح الخمر، والأخرى يمكن أن تُستخدم في الخُلاصات العطرية أو الزيوت الأساسية — أي يتمُّ الحصول على الشراب والعطور، منفصلَين دون اختلاط. أما الصورة ١٠٧، فتُصوِّر جهازًا يرجع إلى القرن الثامن عشر يستخدم في التقطير بحرارة الشمس. توضع القصعة الزجاجية الداخلية التي تحتوي على العينة داخل قصعة طينية أكبر مغطَّاة بوعاء زجاجي على شكل جرس. يثبَّت الجهاز في قاعدة، وتتجمَّع المواد المُتطايرة من الوعاء الداخلي داخل الوعاء الجرسي الزجاجي، وتفيض على الجانبين، وتتجمَّع في القصعة الأكبر.
يُصوِّر الجزء العلوي من الشكل ٥-٧ ثلاث وسائل مختلفة للاستفادة من الشمس في الحصول على الحرارة اللازمة للتقطير. وتوضح الصورتان ١٢٢ و١٢٣ وعاءً مزدوجًا ووعاءَ سوائل مقطَّرة مزدوجًا يتصلان معًا لإتاحة عملية الارتجاع أو «التقطير التعاقبي» (إعادة التقطير أو «الدوران»). كذلك يفيد الجهاز الرائع الموضَّح في الصورة ١٢٤ في عملية التقطير التعاقُبي. ويصور الشكل ٥-٨ المِقطَرة المعوجَّة البَجَعية الشكل (الموضَّحة في الصورة ١٣٢) والمعوجات المزدوجة البجعية الشكل (الموضَّحة في الصورتين ١٣٣ و١٣٨)، والتي تُفيد أيضًا لأغراض التقطير التعاقُبي. أما الصورة ١٢٧ (مع الصورة ١٢٨)، فهيَ لجهاز مصمَّم لإمداد وعاء تفاعل بحمام بخار. تبين الصورة ١٤٣ أداة يُطلَق عليها «جحيم بويل»، وهي جزء من جهاز للغلق المحكم على أي مزيج كيميائي عند تعريضه إلى التسخين الشديد بالنار.
يظهر الشكل ٥-٩ خمسة أشكال مختلفة للمقطرات المعوجة في أعلاه. تُركِّب البالونات الزجاجية الموضحة في الصورة ١٥٣ من الشكل معًا لتُكوِّن جهازًا (انظر الصورة ١٦١) لتقطير أبخرة مسحوق الأنتيمون المستخدمة في بارود المدافع والتي تتكون كذلك من الفحم ونترات البوتاسيوم. وتوضح الصورة ١٥٩ من نفس الشكل جهاز الترسيب الزجاجي المستخدم في ترشيح المواد المنصهرة. وعند بدء أي مادة مُنصهِرة في إعادة التصلُّب قبل تنقيتها وتعديلها، يُمكن استخدام أداة تسخين كتلك الموضَّحة في الصورة ١٦٠ ورقم ٢ من نفس الصورة.
أما الشكل ٥-١٠، فيُظهر التفاصيل والتركيب الكامل لميزان المُعايرة الخاص بجيوم فرنسوا رويل (١٧٠٣–١٧٧٠).8 كان رويل محاضرًا في الكيمياء في حديقة النباتات بباريس من عام ١٧٤٢ وحتى عام ١٧٦٨، ولا عجب في أنه كان مؤمنًا إيمانًا لا يَتزعزَع بنظرية الفلوجستون. وقد وُصف أسلوبه في إلقاء المحاضرات على النحو التالي:8 «عند دخول المعمل لإلقاء محاضَرته، يكون مُرتديًا زيًّا مناسبًا من القطيفة مع شعر أبيض مستعار، مُمسكًا بقبعته الثلاثية الزوايا تحت إبطه. ومع بدء استعداده لإلقاء المحاضرة، يترك قبعته، ويخلع عنه الشَّعر المستعار والمِعطَف والصدرية بدورها.» وكان من طلاب8 رويل الشديدي الحماس أنطوان لوران لافوازييه، الذي سيصبح في النهاية «أستاذ التوازن الكيميائي»، مطيحًا بذلك بنظرية الفلوجستون التي أسرت لُبَّ معلمه.

(٢) نسخة بدائية بعيدة الشبه من الجدول الدوري

كانت أول محاولة مُمنهجة لترتيب المواد النقية وفقًا للخواص الكيميائية (والفيزيائية) هي جدول المتشابهات الذي وضعه إيتيان-فرانسوا جيفري (١٦٧٢–١٧٣١) في عام ١٧١٨.9،10 يتكوَّن جدول جيفري من ١٦ عمودًا، تجمع الأحماض في الأعمدة من ١ إلى ٤، والقلويات في الأعمدة من ٦ إلى ٨، والفلزات في الأعمدة من ١٠ إلى ١٥. ويُنظَّم الجدول بحيث تكون المادةُ التي تلي أولَ مادة في العمود هي الأكثر شبهًا بها، وتكون المادةُ الموجودة في أسفلِ خانةٍ في العمود هي الأقل شبهًا. أما العمود الأخير في جدول جيفري، فيتصدَّره الماء يَلِيه الكحول، ثم الملح، الذي يُشبه الكحول أكثر مما يشبه الماء؛ فبإضافة الكحول إلى الماء المالح، يحلُّ الكحول محلَّ الملح ويُرسِّبه.10 وبالطبع، تندرج قابليةُ الذوبان تحت الخواص الفيزيائية وليس الخواص الكيميائية. وقد كان جيفري من أنصار نظرية الفلوجستون، ويظهر الفلوجستون تحت حمض الكبريتيك مباشَرةً في جدوله.10
كان كريستليب إريجوت جيلرت من أوائل مَن استخدموا التملغم لفصل الذهب عن مادته الخام، متَّبِعًا في ذلك حذْوَ فانوتشو بيرينجوتشو الذي فعل ذلك في القرن السادس عشر، ثم ألبارو ألونزو باربا في القرن السابع عشر؛ ففي عام ١٧٥٠، قام جيلرت بتوسيع جدول جيفري ليُصبح ٢٨ عمودًا (انظر الشكل ٥-١١).11 لنُلْقِ نظرةً سريعة على ترتيبِ جدول «المواد القابلة للذوبان» (وهي تندرج تحت المُتشابِهات أو «الروابط» الكيميائية «و» الفيزيائية في الواقع). ويُمكن العثور على معظم الرموز أيضًا في الأشكال الأربعة الأولى الواردة في المقال السابق. على النقيض من جدول جيفري، وضَعَ جيلرت المادةَ «الأكثر شبهًا» بالمادة الواردة في رأس العمود في «أسفل» العمود (أما المواد التي ليسَت لها مُتشابهات على الإطلاق، فوُضِعت تحت الجدول الأساسي). ولنُلْقِ نظرةً على تنظيم جيلرت، حيث صُنِّفَت رءوس الأعمدة على النحو التالي:12
fig108
شكل ٥-١١: جدول المتشابهات الذي وضعه كريستليب إريجوت جيلرت في عام ١٧٥٠. في هذا الجدول، تُوضَع المادة الأكثر شبهًا بالمادة الموجودة في رأس العمود في أسفل خانات العمود. أما المادةُ الأقل شبهًا، فتَلِي المادةَ الواردة في رأس العمود مباشَرةً. أما المواد الموضَّحة في الجدول السفلي، فلا تتفاعل مع المادة الواردة على رأس العمود؛ ومن ثَمَّ في الجدول ١٠ (الذي يتصدَّره حمضُ النيتريك)، يُعتبَر الفلوجستون هو الأكثر شبهًا بحمض النيتريك؛ نظرًا لأن هذا الأخير «منزوعُ الفلوجستون»؛ إذ إنه يدعم تكلُّس المعادن. ويُمكِن توضيح تفاعلية المعادن مع حمض النيتريك على النحو التالي: الزنك هو الأكثر تفاعليةً، يليه الحديد، فالكوبلت، فالنحاس، فالرصاص، فالزئبق، فالفضة، فالقصدير. والذهبُ هو الأقلُّ تفاعليةً؛ إذ إنه لا يتفاعَل على الإطلاق مع حمض النيتريك (من كتاب سي إي جيلرت «كيمياء المعادن» ١٧٧٦، بإذنٍ من مؤسسة التراث الكيميائي).

المواد الترابية (الأعمدة من ١ إلى ٥):

  • (١)

    المواد القابلة للتزجج (أي القابلة للانصهار عند التعرض للنار) أو التراب السيليكوني (ثاني أكسيد السيليكون).

  • (٢)

    المواد الترابية الانصهارية (المعادن التي تنصهر في درجات حرارة منخفضة).

  • (٣)

    الطين (ربما الألومينا أو أكسيد الألومنيوم).

  • (٤)
    الجص (كبريتات الكالسيوم الثنائية الهيدرات أو CaSO4⋅2H2O).
  • (٥)
    التراب الجيري (كاوٍ وصيغتُه Ca(OH)2، أو مُعتدِل CaCO3).

القلويات (العمودان ٦ و٧):

  • (٦)
    القلويات الثابتة (كربونات البوتاسيوم K2CO3).
  • (٧)
    القلويات الطيارة (محلول الأمونيا المائي NH4OH).

الأحماض (الأعمدة من ٨ إلى ١٢):

  • (٨)
    الخل المُقطَّر (حمض الخليك HC2H3O2).
  • (٩)
    حمض الهيدروكلوريك (HCl).
  • (١٠)
    حمض النيتروز (حمض النيتريك HNO3).
  • (١١)
    حمض الكبريتيك (H2SO4).
  • (١٢)
    الماء الملكي (HCl/HNO3 بنسبة ١:٣).

الملح (العمود ١٣):

  • (١٣)
    النتر (نترات الصوديوم NaNO3).

الفلزات واللافلزات (الأعمدة من ١٤ إلى ٢٧):

  • (١٤)

    الكبريت.

  • (١٥)

    الكبريت الكبدي.

  • (١٦)

    الكوبلت.

  • (١٧)

    الزرنيخ.

  • (١٨)

    الأنتيمون التجاري النقي.

  • (١٩)
    زجاج الأنتيمون (ربما أكسي سلفات الأنتيمون – Sb2O2SO4).
  • (٢٠)

    البزموت.

  • (٢١)

    الزنك.

  • (٢٢)

    الرصاص.

  • (٢٣)

    القصدير.

  • (٢٤)

    الحديد.

  • (٢٥)

    النحاس.

  • (٢٦)

    الفضة.

  • (٢٧)

    الزئبق.

الزجاج (العمود ٢٨ — شكل مُنصهِر من أي مادة — يرمز الحرف C إلى الكلس؛ ومن ثَمَّ فإن الرمز الأول تحت المادة الواردة على رأس العمود هي كلس الزئبق).

تتجلَّى طبيعة الذهب اللاتفاعلية بسهولة في ظهوره المتكرِّر في جدول المواد غير المتفاعِلة الصغير السُّفلي؛ فالذهب لا يتأثَّر بأي أحماض (الأعمدة ٨–١١)، باستثناء الماء الملكي (العمود ١٢)، حيث لا يظلُّ المادةَ الأقلَّ تفاعُليةً من بين المواد الاثنتي عشرة الموضَّحة في العمود. ومع ذلك، فإن الذهب هو آخِر مادة في العمود ٢٧، مما يشير إلى وجود تشابه كبير بينه وبين الزئبق — وهو المادة الأساسية في عملية التملغم التي كان يُجرِيها جيلرت لفصل الذهب عن مواده الخام. يظهر الفلوجستون كآخِر رمز في الأعمدة من ٨ إلى ١٢؛ مما يدلُّ على اقترابه الشديد في الشبه من الأحماض. ويرجع ذلك، جزئيًّا، إلى أن المعادن «تتحلَّل» بسهولة في الأحماض، وأن الوسط المحيط — على ما يبدو — يَنتزع منها الفلوجستون، لتتشكَّل كلسات المعدن. والأمرُ المُثير للاهتمام أن الفلوجستون أيضًا من العناصر الأقرب شبهًا بالقلويات (كما هو مبيَّن في العمودين ٦ و٧)، التي تحمل بدورها تشابهًا قويًّا بالأحماض. لاحِظْ أن الخلَّ المقطر (حمض الخليك) هو أضعفُ الأحماض — كما هو متوقَّع — لأنه لا «يُحلل» سوى عددٍ قليلٍ جدًّا من المواد. كذلك يحمل الفلوجستون الشبهَ الأكبر للنتر (انظر العمود ١٣)؛ وذلك لأن النتر (وكذلك نترات البوتاسيوم) يُحوِّل المعادنَ إلى كلساتٍ بسهولة عند إدخال الحرارة إلى المعادلة. قبل قرن، أشار كلٌّ من بويل، وهوك، ومايو إلى قدرة نترات البوتاسيوم على الحلول محل الهواء في احتراق الكبريت والكربون، وكذلك في عمليات تكلُّس المعادن. وفي منتصف عَقْد السبعينيات من القرن الثامن عشر، كان الأكسجين يُعتبَر غازًا منزوعَ الفلوجستون، بل «متعطِّشًا إلى الفلوجستون». وفي هذا السياق، كان من الممكن اعتبار النتر ونترات البوتاسيوم — اللذين سرعان ما اكتشف الكيميائيون أنهما مصدرٌ للأكسجين — «عديمَيِ الفلوجستون».

يتطابق ترتيبُ درجةِ تشابُهِ الفلزات بالأحماض في جدولِ جيلرت إلى حدٍّ كبيرٍ مع سلسلة الفاعلية الكيميائية للفلزات الحديثة (مما يُشير إلى سهولة الأكسدة). وفيما يلي مقارَنة بينهما:

العمود ١٠ من جدول جيلرت (حمض النيتريك) سلسلة الفاعلية الكيميائية للفلزات*
الزنك الزنك
الحديد الحديد
الكوبلت الكوبلت
النحاس القصدير
الرصاص الرصاص
الزئبق النحاس
الفضة الفضة
القصدير الزئبق
الذهب الذهب
T. L. Brown, H. E. LeMay, Jr., and B. E. Bursten, Chemistry—The Central Science, seventh edition, Prentice-Hall, Upper Saddle River, NJ, 1997, pp. 128–132.
عند إضافةِ فلز الفضة إلى محلول مائي من حمض النيتريك، «يتحلَّل» الفلز ببطء، مُطلِقًا فقاقيعَ «هوائيةً». (بعد حوالي ١٥ عامًا من نشْرِ جدول جيلرت، رصَدَ هنري كافنديش هذه الفقاعات ووصَفَها بأنها فائقةُ الخفة وقابلةٌ للاشتعال، وكان يعتقد أن الهواء القابل للاشتعال الذي يَملؤها هو الفلوجستون نفسه.) وبتنا نعرف الآن أن الفضة قد تأكسدَت، وأن المحلول يحتوي على نترات الفضة (AgNO3)، لا على الفلز. فإذا أُضِيف فلز النحاس الأكثرُ فاعليةً كيميائيةً (مثلًا، بوضْعِ سلك نحاس في المحلول)، فسوف يبدأ المحلول في اتخاذِ لونٍ أزرق مع ترسُّب أملاح نحاس معينة وفضة على السلك؛ ومن ثَمَّ يبدو أن النحاس أكثر شبهًا بحمض النيتريك من الفضة، مثلما يَقترِب الكحول في الشبه من الماء أكثر من الملح. وفي الواقع، ثَمَّةَ قدرٌ كبير من الالتباس هنا؛ على سبيل المثال: تُمثِّل أكسدة الفلزات تغيُّرًا كيميائيًّا حقيقيًّا، بينما يُمثِّل إحلالُ الكحول محلَّ الملح تغيُّرًا فيزيائيًّا محضًا.

إن تقسيمُ جدول جيفري أو جيلرت إلى مواد ترابية، وقلويات، وأحماض، وأملاح، ولا فلزات، وفلزات؛ يَنطوي على بعض ملامح الجدول الدوري الذي جاء لاحقًا. يجمع الجدول الدوري بين الفلزات وأشباه الفلزات واللافلزات في تجمُّعات وأقسام، والتصنيفاتُ داخلَ عائلةٍ ما كيميائيةٍ من شأنها أن تعكس الفاعليةَ الكيميائية؛ فالفلورين أكثر تفاعليةً إلى حدٍّ كبير من بقية الهالوجينات، بينما يُمثِّل الليثيوم الفلزَّ القلوي الأقلَّ تفاعليةً في عائلته. تخلط جداولُ التشابهات بين خواصَّ كيميائيةٍ وفيزيائيةٍ إلى حدٍّ واضح، بينما يتسم الجدول الدوري بطبيعته الكيميائية الواضحة، على الرغم ممَّا يظهر فيه من اتجاهاتٍ تعكس خواصَّ فيزيائيةً كذلك. ولا يتضمَّن الجدول الدوري سوى عناصر، في حين تتضمَّن جداول التشابهات عناصرَ ومركَّبات. ومع ذلك، حريٌّ بنا هنا أن نتذكَّر أن أكاسيد الفلزات (التي تقع يسارَ الجدول الدوري) تظهر في جداول التشابهات بصفتها قلويات، في حين أن أكاسيدَ اللافلزات (التي تقع يمينَ الجدول الدوري) تظهر في جداول التشابهات بصفتها حمضيات. أما الشيء الغائب عن جداول التشابهات على نحوٍ أساسي فهو صفة الدورية نفسها؛ فلا يُمكن للسلوك الدوري أن يحدث إلا عندَ وجودِ زيادةٍ تدريجية يُمكن قياسها في خاصيةٍ مثل الكتلة الذرية (التي اكتُشِفت في مطلع القرن التاسع عشر)، أو العدد الذري (الذي اكتُشِف في أوائل القرن العشرين). ومع ذلك، فقد أجبرت جداول التشابهات تلك الكيميائيين على التوصُّل إلى تخيُّل واضح لتنظيمٍ منهجيٍّ لمجالهم — وربما كانت تلك أولَ خطوةٍ حقيقية نحوَ تحوُّل الكيمياء إلى علمٍ حديث.

(٣) شيله: من مساعِد صيدلاني إلى عضو الأكاديمية الملكية للعلوم

وُلِد كارل فيلهلم شيله (١٧٤٢–١٧٨٦)13،14 في شترالزوند، بالسويد، وهي ميناء يقع على بحر البلطيق، تم التنازُل عنه إلى بروسيا في عام ١٨١٥، وهو الآن يقع في الجزء الشمالي الغربي من ألمانيا. لم تكن المدرسة التي تلقَّى فيها شيله تعليمَه الابتدائي القويَّ تقدِّمُ تعليمًا ثانويًّا مؤهِّلًا للجامعة.14 وكان شقيق شيله الأكبر قد تلقَّى تدريبًا في صيدليةٍ في جوتنبرج؛ مما حفَّز شيله الشاب، فَأُرسِل لتلقِّي التدريب في الصيدلية ذاتها، تحت إشراف مارتن باوخ. كانت كيمياء باوخ متطوِّرةً وعصرية، وبدأ شيله يزدهر بصفته كيميائيًّا شابًّا مع قراءتِه نصوصَ يوهان نوكل وكاسبر نيومان العظيمة، ومحاولاتِه لإعادة إجراء تجاربهما. حين بِيعت الصيدلية في عام ١٧٦٥، انتقل شيله إلى مالمو، حيث عمل مساعد صيدلاني في إحدى الصيدليات، والتقى أندرس ريتزيوس؛ المحاضِرَ في جامعة لوند.13،14 وقد مُنِح شيله مساحةً كبيرة من الحرية للاستمرار في أنشطته التجريبية في مالمو. ونظرًا لإعجابه بالتطور العلمي في ستوكهولم، قبِلَ شيله منصبَ مساعدٍ في صيدلية عام ١٧٦٨، لكنه وجد أن مَهامَّه كانت مقتصِرةً على إعداد الوصفات الطبية.14 في عام ١٧٧٠، التحق بالعمل في صيدلية في أوبسالا، حيث حظيَ أخيرًا بنضدِ عملٍ ليُجرِي عليه تجاربَه الخاصة.14 وفي أوبسالا، نَمَتْ صداقةٌ بينه وبين الشاب يوهان جوتليب جان (١٧٤٥–١٨١٨) — الذي اكتشف المنجنيز بعد أربع سنوات من ذلك الوقت — وعرَّف جان شيله بأشهر كيميائي السويد؛ توربرن بيرجمان (١٧٣٥–١٧٨٤).15
fig109
شكل ٥-١٢: صفحة العنوان من طبعة (أوبسالا ولايبزيج) من كتاب كارل فيلهلم شيلة البارز عن الهواء والنار. بالرغم من اكتشاف شيلة الأكسجينَ للمرة الأولى في عام ١٧٧١ أو ١٧٧٢، فإن التأخُّر الطويل في مراجَعة الكتاب من طرف بيرجمان؛ ومن ثَمَّ نشره، أتاح لجوزيف بريستلي أن يكون أولَ مَن يَنشر عن اكتشاف الأكسجين (١٧٧٤) (بإذنٍ من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
fig110
شكل ٥-١٣: هذا الشكل من أول طبعة إنجليزية (١٧٨٠) صدرت من كتاب شيله «ملاحظات كيميائية عن الهواء والنار». في الصورة ٣ من الشكل، يُسخَّن كلٌّ من حمض الكبريتيك ونترات البوتاسيوم معًا. تتضمَّن الغازات الناتجة عن التفاعلِ ثانيَ أكسيد النيتروجين، وتثبت بواسطةِ لبنِ الجير الموجود في الجراب، إلى جانب الأكسجين (الغاز الناري) الذي يُجمَع غازًا في الجراب.
كانت الفترة التي عاشها شيله في أوبسالا (١٧٧٠–١٧٧٥) فترةَ إنتاجٍ مُذهِلة؛ فقد توصَّلَ إلى اكتشافات مهمَّة، إلا أن اكتشافه الأكسجينَ في عام ١٧٧١ أو ١٧٧٢ (وربما قبل ذلك) يُعتبَر إنجازَه الأعظم.13 ومن المهم أن نَلفت النظر إلى أن جوزيف بريستلي اكتشف الأكسجين وحده في ١٧٧٤، ونشر نتائجه مباشَرةً. وعلى ما يبدو، لم يكن شيله يعلم إطلاقًا بعمل بريستلي، وسلَّمَ مخطوطةَ كتابه بعنوان «ملاحظات وتجارب كيميائية عن الهواء والنار»16 إلى المطبعة في أوبسالا في ديسمبر ١٧٧٥، وكذلك لبيرجمان في بداية عام ١٧٧٦.13 وقد علم للمرة الأولى باكتشاف بريستلي للأكسجين في أغسطس عام ١٧٧٦، من خلال خطابٍ كتبه إليه بيرجمان.13 وكان في ذلك الوقت قد ضاق ذرعًا بتواني بيرجمان عن مراجعة مخطوطته، وكذلك بتأخُّر دار النشر في نشرها.13 ونُشِر كتاب شيله — الذي يذكر فيه اكتشافَه الأكسجين قبل ست سنوات — أخيرًا في عام ١٧٧٧ (الشكل ٥-١٢).17 ولم يُعتَرَف بأسبقيةِ شيله في اكتشاف الأكسجين على نطاقٍ واسع إلا بعد مرور قرن من الزمان.13،14
الشكل ٥-١٣ من الطبعة الإنجليزية الأولى (التي نُشِرت عام ١٧٨٠) من كتاب شيله «عن الهواء والنار»،16،18 وتظهر يسارَ أعلى الشكل ٥-١٣ (الصورة ١) قُنينةٌ بها مقدارُ ثلاثِ ملاعق صغيرة من بُرادة الصلب، مُضاف إليها مقدار أونصةٍ من الماء أعقَبَها مقدارُ نصفِ أونصة من حمض الكبريتيك. ويُبيِّن الشكل سدادةً بها فتحةٌ يمر عبرَها أنبوبٌ زجاجي طويل مجوَّف أُدخِلَ بإحكام في القنينة A. وضعت القنينة في الوعاء BB الذي يحوي ماءً ساخنًا لتسريع الذوبان. بعد ذلك، قُرِّب لهبُ شمعة من الغاز القابل للاشتعال (الهيدروجين) الذي يخرج من أعلى الأنبوبة ليَشتعل، ووُضِع اللهب في وسط المقطَّرة المعوجَّة C التي تَزن ٢٠ أونصة. حين خمدت النار من تلقاء نفسِها، صعد الماء من الوعاء إلى المستوى D في المقطرة المعوجَّة. وكانت المسافة إلى المستوى D تساوي أربع أونصات من الماء؛ وهكذا يكون حجمُ الهواء الأصلي في المقطرة المعوجة قد قلَّ بنسبةِ الخُمْس. أضاف شيله ماءَ الجير إلى المعوجَّة، ولاحَظَ عدمَ خروج الهواء المثبت (ثاني أكسيد الكربون) نتيجةَ الاحتراق. ولم يرصد، للأسف، المقدارَ القليل الذي تكوَّنَ من بخار الماء. وخلَصَ شيله إلى وجودِ عنصرٍ غازي مختلف في الهواء الجوي يدعم عمليةَ الاحتراق، واعتقد شيله أن ذلك الغاز امتصَّ الفلوجستون من المواد القابلة للاشتعال. ولكنْ أين ذهب الفلوجستون؟ افترَضَ شيله أن الفلوجستون الذي لا يُمكن وزنه والغازَ الجديد قد امتزجَا ليُشكِّلا مادةً نفذت عبر مسام الوعاء الزجاجي.
تُجسِّد الصورة ٢ من الشكل ٥-١٣ تجربةً مماثلة تتضمَّن استخدامَ شمعة؛ حيث تُوضَع كتلة شمعية صلبة في قاع الطبق A. بعد ذلك، يُغرَز أحد طرفَيْ سلكٍ حديدي قوي في هذه الكتلة، ويُغرَز الطرف الآخر C في قاعدةِ شمعة. تُضاء الشمعة، ويُوضَع فوقها مقطرة معوجة مقلوبة، وتُثبَّت بإحكامٍ على الكتلة الشمعية الموضوعة في الطبق. يضاف الماء إلى الطبق. عند انطفاء الشمعة، شغَلَ الماءُ أونصتَين من سعةِ المقطرة المعوجة التي تُقدَّر ﺑ ١٦٠ أونصة. وقد وجد شيلة أن غاز ثاني أكسيد الكربون تكوَّنَ نتيجةَ هذا الاحتراق، وأصاب إذ استنتَجَ أن إطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون سرعانَ ما أخمَدَ اللهب. لكنه في ذلك الوقت لم يَستطِع فهْمَ أنه في مقابل كل جزيء مفقود من الأكسجين يتشكَّل جزيء ثاني أكسيد الكربون، على الرغم من أن هذا الغاز أيضًا يتَّسِم بقابليته الكبيرة للذوبان في الماء.
تُوضِّح الصورة ٣ من الشكل ٥-١٣ الجرابَ المستخدَم في جمع الأكسجين. أُضيفَ زيت الزاج (حمض الكبريتيك) إلى نترات البوتاسيوم، وكانت الغازات الناتجة تتضمَّن الأكسجين وأبخرةَ ثاني أكسيد النيتروجين (NO2) الحمراء. تجمَّعت هذه الغازات في جرابٍ مملوءٍ بمحلولِ لبن الجير [Ca(OH)2] الذي «ثبَّت» أبخرةَ ثاني أكسيد النيتروجين، ليَبقى الأكسجين النقي. تُوضِّح الصورة ٤ جرابًا آخَر، ويُمكن توضيح استخدامه على النحو التالي: ضعْ طباشير (CaCO3) في قاع الجراب، ثم اربطْ عقدةً محكمةً عند النقطة B، لغلق أسفل الكيس بإحكام، ثم ضعْ محلولًا حمضيًّا في الجزء AA من الجراب، ثم أخرِجِ الهواءَ المتبقي واربطْ عقدةً أخرى محكمة عند النقطة C. ثبِّتِ الفتحة D حول زجاجةٍ مقلوبة مغلقة بسدادة ومحكمة الإغلاق. وعند الاستعداد، يُمكن فكُّ العقدة المربوطة عند النقطة B، وتلك المربوطة عند النقطة D ونزع السدادة (التي لا تزال موجودةً داخل الجراب)، لتُجمَع النواتج الغازية (الهواء المثبت في هذه الحالة). وقد استعان شيله بعددٍ من التفاعلات المختلفة للحصول على الأكسجين، بما في ذلك تسخين نترات البوتاسيوم، وكلس الزئبق الأحمر (HgO)، وتسخين «المنجنيز الأسود» مع حمض الكبريتيك أو حمض الفوسفوريك. كما استعان شيله بالنَّحْل في دراساته على تنفُّس الأكسجين (انظر الصورة ٥ من الشكل ٥-١٣).
قدَّمَ شيله عددًا من الإسهامات الأخرى البالغة القِيمة في الكيمياء.13 فقد أضاف زيت الزاج (حمض الكبريتيك) إلى فلوريد الكالسيوم (CaF2) ثم قطَّرَه؛ فوجد تآكلًا كبيرًا في المقطرة المعوجة التي احتوت المزيجَ المتفاعِل، وحتى التصميغ المستخدَم للإغلاق المحكم للأداة بات هشًّا سهلَ التفتُّت، كما تشكَّلَ راسبٌ أبيض على كل الأسطح الداخلية للأداة. كذلك حَضَّر شيله حمض الهيدروفلوريك (HF)، الذي هاجَمَ الوعاءَ الزجاجي (ثاني أكسيد السيليكون)، وشكَّلَ مركَّبَ رباعي فلوريد السيليكون SiF4 الغازي. وحين أعاد التجربةَ مع إضافة الماء إلى وعاء الاستقبال، فُوجِئ بوجود طبقة من السيليكا الجيلاتينية على سطح الماء.
بالطبع، كان شيله يَعِي تمامًا مصدرَ «الفوسفور البولي»؛ إذ ذكره هينينج براند في الأصل قبل قرنٍ من الزمان (انظر المقال الذي ورد في [الفصل الرابع: علم وليد، القسم الخامس: عنصر لوسيفر وحبوب نوكل]) وقد اكتشف جان صديقُ شيله وجودَ فوسفات الكالسيوم في العظام والقرون حوالي عام ١٧٦٩ أو ١٧٧٠.13 وعالَجَ شيله الأمونيا المحروقة بحمض النيتريك، وكثَّفَ الجبسَ بحمض الكبريتيك، وركَّزَ المادةَ المصفاة، وقطَّرَ حمض الفوسفوريك الناتج على الفحم، وجمع الفوسفور الناتج.13
اكتشف شيله الكلور حين عالَجَ «المنجنيز الأسود» بحمض الهيدروكلوريك، وعزل غازًا خانقًا أصفرَ مائلًا إلى الخضرة.13 وقد كانت خواصُّ التبييض التي يتمتَّع بها غاز الكلور واضحةً بالفعل. وباكتشافِ شيله أن الجرافيت حين يحترق بالكامل ينتج ثاني أكسيد الكربون، تمكَّنَ من أن يَخْلُص إلى أن «الرصاص الأسود» ما هو في الواقع سوى كربونٍ نقيٍّ، مثله في ذلك مثل الألماس.13
في فبراير عام ١٧٧٥، كان شيله لا يزال مساعِدَ صيدلي، لكنَّ شهرته كانت واسعة، حتى إنه انتُخِب عضوًا بالأكاديمية الملكية للعلوم في السويد.13 في ذلك الوقت، قرَّرَ أخيرًا أن يصير صيدلانيًّا. وقد تُوفِّي هيرمان بول — مالِكُ الصيدلية التي مكَّنَتْ شيله من تحقيق هدفه بامتلاكِ متجرٍ للأدوية في شوبنك — في عام ١٧٧٥، تاركًا أرملتَه سارة مارجريتا سونمان بول تبحث عن مشترٍ للصيدلية.14 وتوصَّلَ شيله إلى اتفاقٍ معها كادَتْ أن تُلغيه بعد ظهورِ مشترٍ آخَر، غير أن سمعة شيله المبرَّرة التي بلغت الآفاق أجبرَتِ السيدةَ بول على الانصياع للرأي العام والالتزام باتفاقها الأول.14 وبالرغم من عدم ذِكْر كثيرٍ من التفاصيل المعروفة عن علاقةِ شيله بالسيدة بول، فقد استخدَمَ رولد هوفمان وكارل جيراسي رخصةً أدبية للتخمين على نحوٍ حسَّاس بشأن هذه العلاقة في مسرحيتهما «الأكسجين».19 ويلعب خطابٌ أرسَلَه شيله إلى لافوازييه في أكتوبر من عام ١٧٧٤، لم يَرُد عليه لافوازييه قطُّ،20 دورًا محوريًّا في هذه المسرحية. ونحن نعرف يقينًا أن شيله قد تزوَّجَ من السيدة بول وهو على فراش الموت، حتى يتسنَّى لها أن تَرِث منه الصيدلية.14

(٤) غاز الضحك أم مجرد «غاز النيتروز شبه الفلوجستوني»؟

نشأ علمُ كيمياء الغازات — جمع الغازات والتعامُل معها — في عشرينيات القرن الثامن عشر بفضلِ عملِ ستيفن هيلز، وما أدخَلَه ويليام براونريج لاحقًا من تحسينات.21،22 ومن ثَمَّ، قبل عَقْد السبعينيات من القرن الثامن عشر، كان الغازان الوحيدان اللذان حُصِل عليهما في صورةٍ نقية وتمَّ توصيفهما إلى حدٍّ ما؛ هما الهواء المثبَّت (ثاني أكسيد الكربون)، والغاز القابل للاشتعال (الهيدروجين)، وقد أُطلِق على كلَيْهما «غازات اصطناعية» وفقَ المُصطلَحات التي وضعها هنري كافنديش.23 في بداية عَقْد السبعينيات من القرن الثامن عشر، قام د. جوزيف بريستلي — ضمن جهوده في تحسينِ تقنياتِ علمِ كيمياء الغازات — بعزْلِ وتوصيفِ سلسلةٍ جديدة من «الغازات»، تضمَّنت الأكسجين (غاز منزوع الفلوجستون)، والنيتروجين («غاز فلوجستوني» N2)، وأكسيد النيتريك («غاز النيتروز» NO)، وأكسيد النيتروز («غاز النيتروز الفلوجستوني» N2O).24 في مكانٍ آخَر، بعيدًا عن عِلْم بريستلي، كان الصيدلاني كارل فيلهلم شيله يُجرِي سلسلةً موازيةً من التجارب، قام خلالها بعزْلِ وتوصيفِ الأكسجين (الغاز الناري) في عام ١٧٧٢ (أيْ قبلَ ما لا يقل عن عامين من قيام بريستلي بالأمر نفسه)، وربما حتى في عام ١٧٧١.25 وقد كان كلٌّ من بريستلي وشيله مؤمنًا إيمانًا راسخًا بنظرية الفلوجستون. ويُصوِّر الشكلُ ٥-١٤ بعضَ أدوات بريستلي المستخدَمة في إجراء التجارب على الغازات، بما في ذلك مغطس الغازات (الصورة ١).
fig111
شكل ٥-١٤: صورة تجميعية لجهازِ عزلِ الغازات الخاص بجوزيف بريستلي. كان يَستخدِم ماسورةَ بندقيةٍ كغرفة تفاعُل، ويضعها في مِدْفأة. وكانت الغازات الناتجة، في حالةِ قابليتها للذوبان في الماء، تتجمَّع فوق الزئبق (الصورة ١١).
ويُمكن استيضاح بعض الالتباسات التي نتجت عن نظرية الفلوجستون باختصارٍ من المصطَلَحات المذكورة أعلاه. على سبيل المثال: يُشير مصطلح «الغازات الاصطناعية» إلى غازاتٍ مشتقة من موادَّ صلبة. ويعمل تسخين الطباشير (كربونات الكالسيوم، علمًا بأن كلًّا من الطباشير والكالسيوم مرتبطٌ بالكلس أو الجير) على إنتاج «الهواء المثبَّت» (ثاني أكسيد الكربون). ويُصوِّر الشكل ٥-١٤ (انظر الصورة ١١ من الشكل)26 الجهازَ الذي كان يستخدمه بريستلي في جمع الغازات الاصطناعية من المواد الصلبة التي كان تُسخَّن في ماسورةِ بندقيةٍ جزءٌ منها موضوعٌ في مِدْفأة. يُجمَع الغاز في أنبوب مملوء بالزئبق ومقلوب في طبقٍ يحتوي على الزئبق أيضًا (انظر الصورة ١١ من الشكل ٥-١٤). كذلك يمكن الحصول على غاز الأكسجين من خلال تسخين الكلسات الصلبة، بما في ذلك أكسيد الزئبق الثنائي HgO أو ثاني أكسيد المنجنيز (MnO2). ومن ثَمَّ، فإن كلًّا من ثاني أكسيد الكربون والأكسجين «غازٌ اصطناعي». ما من مشكلةٍ حتى الآن، ومع ذلك، فإن إضافة الزنك إلى حمض الكبريتيك (زيت الزاج) تُنتِج غازًا اصطناعيًّا آخَر — وهو الغاز غير القابل للاشتعال (الهيدروجين H2) — يتم الحصول عليه ﺑ «وضوح» من المعدن الصلب. في الواقع، ظنَّ كافنديش أن الغاز القابل للاشتعال هو الفلوجستون عندما عزله عام ١٧٦٦. والحقيقة أن الهيدروجين يَنتج من محلول الحمض المائي؛ نظرًا لأن الماء يتكوَّن من الهيدروجين والأكسجين، إلا أن أحدًا لم يتوصَّل إلى هذا الاكتشاف إلا في بدايات عَقْد الثمانينيات من القرن الثامن عشر.

وجد بريستلي أنه عند تخزين غاز النيتروز — الذي يُستحضَر من معالجة النحاس بماء النار (حمض النيتريك) — على بُرادة الحديد، نتج غازٌ جديد توهَّجَ فيه لهبُ الشمعة بدرجةٍ أشد مما يتوهَّج في الهواء الجوي أو ما كان يُطلَق عليه «غاز النيتروز». من الجليِّ أن ذلك «الغاز» الجديد كان يفتقر إلى الفلوجستون مثل الأكسجين (الغاز المنزوع الفلوجستون)؛ ومن ثَمَّ كان ذلك الغازُ الجديد منزوعَ الفلوجستون أيضًا. ولأن ذلك الغاز الجديد كان يفوق «غاز النيتروز» قدرةً على دعم الاحتراق، فقد أَطلَق عليه بريستلي استنادًا للمنطق «غازَ النيتروز المنزوع الفلوجستون».

تذكَّرِ الآن فكرةَ اعتبارِ أن مصطلح «فلوجستوني» يعني «مفتقرًا إلى الأكسجين»، وأن «منزوع الفلوجستون» يعني «يحتوي على الأكسجين».27 لقد بتْنا الآن نعرف أن الغاز الجديد كان أكسيد النيتروز (N2O) — غاز الضحك — وهذه قصة أخرى مختلفة.28 في الواقع، يحتوي أكسيد النيتروز على نسبةٍ «أقل» من الأكسجين مقارَنةً بغاز النيتروز، وبناءً على محتواه من الأكسجين، كان ينبغي أن يُسمَّى ﺑ «غاز النيتروز الفلوجستوني» (أو «غاز النيتروز شبه الفلوجستوني»). ومع ذلك، فإن درجة افتقادِ الفلوجستون (أو «التعطُّش» إلى جوهر النار) لم تكن لها علاقةٌ مُباشِرة بمحتوى المركَّب ما من الأكسجين؛ فقد كان غاز الكلور، الذي اكتشفَه شيله،25 يتَّسم بالقدرة على إشعال الهيدروجين. وحتى لافوازييه كان يعتقد أن غاز الكلور لا بد أنه يحتوي على الأكسجين — لكن الأمر غير ذلك. الواقعُ أن رصْدَ كيمياء أكسيد النيتروز عكَسَ بِنْيتَه وتفاعليتَه الكيميائية، وهما عاملان لم يكن من الممكن فهمها في أواخر القرن الثامن عشر، على عكس محتوى الأكسجين. وهذا الالتباس كان أمرًا يُمكِن تفهمه.

(٥) إشادة بالتحليل الإيديومتري

fig112
شكل ٥-١٥: يوضح الرسم g أبسطَ شكلٍ ممكن للإيديومتر (وهو أنبوب مُدرَّج مغلق من أحد طرفَيْه). تُوضَع أحجامٌ محددة من الغاز، ثم تقاس التغيُّرات في الحجم النهائي. وقد قاستْ أول أشكال بريستلي للإيديومتر ببساطةٍ محتوى الأكسجين في الهواء عند تفاعله مع «غاز النيتروز» الموَلَّد حديثًا (الذي هو فعليًّا أكسيد النيتريك) (من كتاب بريستلي «تجارب وملاحظات عن أنواع الغازات المختلفة، طبعة عام ١٧٩٠).
لم يكن الإيديومتر — في أبسط أشكاله — إلا أنبوبًا مُدرَّجًا مقلوبًا، مغلقًا من أحد طرفَيْه ومفتوحًا من الآخَر لقياس أحجام الغازات المُتجمِّعة فوقَ الماء (أو فوق الزئبق في حالةِ ما إذا كان الغاز قابلًا للذوبان في الماء؛ انظر الصورة ١١ من الشكل ٥-١٤). ترجع فاعليةُ الإيديومتر الحقيقية إلى قدرته على قياس التغيُّرات التي تطرأ على الحجم عند تفاعل غازات مختلفة. وقد استخدم جوزيف بريستلي أجهزةَ أوديومتر شديدةَ البساطة في دراساته على الغازات الاصطناعية مثل «غاز النيتروز» (أو أكسيد النيتريك، الذي عُزِل عام ١٧٧٢)، و«الغاز المنزوع الفلوجستون» (أو الأكسجين، الذي عزله بريستلي عام ١٧٧٤). ويُصوِّر الشكل ٥-١٥ أحدَ هذه الإيديومترات (انظر الصورة g)29 ووعاءً زجاجيًّا للتعامل مع الغازات في تجربةِ قياسٍ أيديومتري. أما الأوعية الثلاثة المرقَّمة ﺑ f في الشكل، فهي مقاييسُ سعةُ أونصة وأونصتين وأربع أونصات للغازات، تُملَأ أولًا بالماء، ثم تُوضَع مقلوبةً في حوض هوائي وتُملَأ بالغاز محل الدراسة. على سبيل المثال: يُمكِن نقلُ معيارٍ واحد من أحد الغازات، «الهواء الجوي»، إلى «غرفة التفاعل» (وهي وعاء زجاجي مملوء بالماء يُوضَع مقلوبًا في حوض هوائي). وعند إضافة معيارٍ مساوٍ من «غاز النيتروز»، يتشكَّل غازٌ مائل إلى الحمرة على الفور ثم يَختفي. وكان التفاعل يُترك ليستمر حوالي دقيقتين، ثم تُنقَل المحتويات الغازية إلى الأيديومتر؛ فكانت النتيجة المُعتادَة أن يبقى معيار ١٫٣٦ من أصل معيارين من «الهواء الجوي» المُختلِط ﺑ «غاز النيتروز» في الإيديومتر.30 كذلك كان المقياس الإيديومتري يشير إلى تفاعُلِ مقدارٍ من «الغاز المنزوع الفلوجستون» النقي تمامًا مع ضِعْف هذا المقدار من «غاز النيتروز». وبعد حوالي ٣٥ عامًا (جمعت ما بين اكتشافات دالون، وجاي-لوساك، وكانيزارو)، أدرَكَ الكيميائيون أن هذا التفاعل الغازي يتخذ الصيغة التالية:
كذلك بتنا نعرف أن ثاني أكسيد النيتروجين يتحلَّل في الماء ليُشَكِّل حمض النيتريك:
بعد ذلك، يُعاوِد أكسيد النيتريك الناتج عن التفاعلِ الدورانَ في وعاء التفاعل، وفي النهاية يتفاعَل بالكامل تقريبًا مع الأكسجين لينتج حمض النيتريك. وفي الواقع، أدَّت كل هذه التعقيدات، بالإضافة إلى حقيقةِ أن أكسيد النيتريك كان أكثرَ قابليةً للذوبان في الماء من الأكسجين بدرجة كبيرة، إلى كثيرٍ من التضاربات المَبنية على نوعِ الغاز المضاف أولًا، ودرجةِ اهتزاز وعاء التفاعل، وطولِ فترة السماح بتفاعل الغازات. غير أن كافنديش — في النهاية — أضفى على هذه التقنية صفةَ الاتساق.30
يسهل الآن فهْمُ نتائجِ المقياس الإيديومتري لخلط «الهواء الجوي» و«غاز النيتروز»؛ فنحن نعرف أن الأكسجين يُشكل ٢٠ بالمائة تقريبًا من حجم الهواء؛ ومن ثَمَّ فإن معيار ٠٫٢ من الأكسجين الذي يحتوي عليه معيار ١ من الهواء الجوي سيَختفي عند التفاعل مع معيار ٠٫٤ (من أصل المعيار الأصلي ١) من غاز النيتروز. وهكذا، يكون حجم الغاز المتبقي في الإيديومتر ١٫٤ — ويكون إجمالي حجم الغاز المفقود ٠٫٦. في الحقيقة، من المعتاد أن يتبقى معيار ١٫٣٦ (انظر الشكل أعلاه)؛ خُذِ الحجمَ المفقود (معيار ٠٫٦٤)، واقسمْه على ٣، وسيكون الناتج ٠٫٢١؛ وعليه فإن الأكسجين يُشكِّل حوالي ٢١ بالمائة من حجم «الهواء الجوي». فإذا اختُزِلَت عينةٌ من «الهواء الجوي»، بحيث تُصبح نسبة الأكسجين فيها حوالي ١٠ بالمائة (وذلك من خلال تكليس معدن أو إدخال فأر إلى الوعاء)، فإن خلطَ معيارٍ قدْرُه ١ من «الهواء الجوي» و«غاز النيتروز» سيُخلِّف غازًا بحجم ١٫٧ في الإيديومتر، وكان محتوى الأكسجين في هذه العينة ١٫٧ فقط مقارَنةً بمحتوى الأكسجين في «الهواء الجوي» (١٫٣٦).30 وفَرحَ بريستلي بأنه لن يكون مضطرًّا بعد ذلك إلى قتل الفئران لاختبار محتوى الهواء الجوي من الأكسجين (انظر الصورة ٢٦ من الشكل ٥-١٤).30،31 وقد اختبر بريستلي وآخرون فرضيةَ أن هواء المدينة يَحتوي على نسبةٍ أقل من الأكسجين مقارَنةً بهواء الريف. ووفقًا لهذا المقياس على الأقل، يتساوى محتوى كِلا «النوعين» من الهواء الجوي من الأكسجين. ومع ذلك، اكتشف بريستلي (وشيله بمفرده) أن الغاز الذي تحلَّلَ في الماء كان يَحتوي على نسبة أكسجين أكبر قليلًا من تلك التي يحتوي عليها «الهواء الجوي» (نظرًا لأن قابلية النيتروجين للذوبان في الماء تقلُّ قليلًا عن قابلية الأكسجين للذوبان فيه).30
خلال الجزء الأخير من القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، ابتُكِرَت تعديلات كثيرة عمل فيها الإيديومتر باعتباره أسطوانةً لقياس الحجم وغرفةَ تفاعُلٍ على حدٍّ سواء.32 وكان يُمكن تعليقُ مسحوقِ الكبريت أو الفوسفور الأحمر في طبقٍ محاطٍ بالغاز موضع الدراسة وموضوعٍ فوق الماء في الإيديومتر. وكانت تُستَخدَم عدسةٌ مُكبِّرة قوية لإشعال المواد الصلبة، لتُشكِّل في النهاية أحماضًا قابلةً للذوبان في الماء، وتقلِّل حجمَ الهواء تبعًا لذلك. وبالرغم من اشتعال الهيدروجين (الغاز القابل للاشتعال) والأكسجين في خلائط مختلفة بدءًا من سبعينيات القرن الثامن عشر — ونتج الانفجار الأكثر صخبًا عن خلط معيارَيْن من الهيدروجين ومعيارٍ واحد من الأكسجين — استخدم إيديومتر فولتا (انظر الإيديومتر b ذا الأقطاب f في الصورة ١٦ أسفل مُنتصَف الشكل ٥-١٦)33 بكفاءةٍ ودقةٍ شرارةً كهربية لإشعال الغازَين وقياس الحجم المتبقي.
إذا فكَّرْنا في الإيديومتر في صورته الأصلية بصفته أداةً تُستخدَم لقياسِ نسبة الأكسجين في الهواء، نجد أنه قد انقرَضَ، مثله مثل طائر الدودو، لكنَّ الفارق بين الإيديومتر والدودو هو إمكانية إعادة الإيديومتر إلى الحياة لأغراض العرض التجريبي للطلاب، وهذا ما فعله فيليب وفيليس موريسون في حلقاتهما التليفزيونية على قنوات بي بي إس (بابليك برودكاستنج سيرفيس).34 فقد قام مقدِّما البرنامج بتركيبِ إيديومتر على طراز فولتا، وأضافا مقدار «كُشتبانين» من كلٍّ من غازَي الهيدروجين والأكسجين، وحين أشعلا هذا الخليطَ بشرارةٍ كهربية، تمدَّدَ الغازان (لم تُشِرْ كاميرا الحركة البطيئة إلى خروجِ أيِّ فقاعات غازية من أسفل الإيديومتر) مخلِّفَيْن مقدارَ «كُشتبان» واحد من الغاز. ولم تتغيَّر النتيجة بالرغم من تكرار التجربة طَوال ساعات ما بعد الظهيرة. ويقول مُقدِّما البرنامج: «كان المقدار المتبقِّي هو مقدار الأكسجين الذي لم يستطع أن يدخل في التفاعُل المُكوِّن للماء، ودائمًا ما يكون معيارًا واحدًا من إجمالي المعايير الأربعة. ومرةً أخرى، عرفنا كيفيةَ تكوُّنِ جزيء الماء H2O. يبدو أن شيئًا عميقًا في الماء يفهم أساسيات علم الحساب.»34
fig113
شكل ٥-١٦: إيديومتر أليساندرو فولتا (انظر أسفل مُنتصَف الشكل، الصورة ١٦ — أنبوب يقف على يمين الحوض). وقد أمكن إشعالُ مزيجِ الهيدروجين والأكسجين في هذا الإيديومتر، وقياسُ تغيُّرِ حجمَيْهما. (من كتاب أكيوم الصادر عام ١٨٢٤ بعنوان «المعجم الشارح للأدوات والمعدات …»)

(٦) الماء يقضي على نظرية الفلوجستون

نحن نشرب الماء، ونُخرِجه في هيئةِ عرقٍ وبولٍ منذ أزمنة بعيدة؛ لذا حريٌّ بنا أن نعرف تكوينه. يغلي الماء ويتجمد ويُستعاد من الأملاح و«المواد الترابية» الأخرى. والماء عاملٌ أساسي لوجودنا، كالهواء. ويُمكن تحويل الماء — الذي يُعدُّ أحد العناصر الأرسطية — إلى «هواء» عن طريق التسخين، وإلى تراب بالتخلُّص من الرطوبة، إلى جانب قيامه ﺑ «تحييد» العنصر المقابل له، أَلَا وهو النار. وقد نجَتْ مكانةُ الماء بصفته عنصرًا من نقدِ روبرت بويل اللاذع للقدماء في كتابه الكلاسيكي «الكيميائي المتشكِّك». وفي عام ١٧٤٧، أعلَنَ أمبروز جودفري، مساعدُ بويل شديدُ البراعة، عن تحويل الماء كيميائيًّا إلى تراب،35 وهذا استنتاجٌ تجريبي دحَضَه أنطوان لافوازييه نهائيًّا عام ١٧٧٠.36 فمتى وكيف تعرَّفنا على طبيعةِ الماء الحقيقية، أو كيفيةِ «تحوُّل الهيدروجين إلى الماء» بحسبِ تعبيرِ فيليب بول الدعابي؟37
في عام ١٧٦٦، أعلن كافنديش عن انطلاقِ «غاز قابل للاشتعال» (الهيدروجين) — ساواه بالفلوجستون، جوهر النار — من الفلزات خلال تفاعُلها مع أحماض مائية. وبعد ثماني سنوات، أعلَنَ بريستلي عن فصله «غازًا منزوعَ الفلوجستون» (الأكسجين). ولا بد أنه كان شيئًا محبطًا ألَّا يلتهم أحدُ الغازَين الآخَر عند خَلْطهما معًا38 ليكوِّنا بدلًا من ذلك … ماذا كوَّنا؟ «فلوجستون منزوع الفلوجستون»؟ أيْ لا شيءَ فعليًّا؟ أوقَدَ بريستلي لهبًا قُرْب هذا الخليط للمرة الأولى في عام ١٧٧٥ في زجاجةٍ بطول بوصة ونصف بوصة، بفتحةٍ قُطْرها رُبْع بوصة، وبعدها «كان يُسلِّي نفسه بحمْلِ هذه الزجاجات المسدودة بالفلِّين وفرقعتها.»39 وكان بيير جوزيف ماكيه قد لاحَظَ تكوُّنَ الماء، عند احتراق الهيدروجين في الهواء الجوي، لأول مرة ما بين عامَيْ ١٧٧٦ و١٧٧٧، كما لاحَظَ تجمُّعَ قطرات ندى على طبق بورسلين باردٍ فوق اللهب. وسُجِّلت مشاهداتٌ مشابِهةٌ في إنجلترا على يد جون وارلتاير، الذي أحرَقَ الهيدروجين والأكسجين بعد مزجهما بنِسَب حجمية مختلفة؛ فكانت أفضل نسبة لخلطهما هي ١:٢،39 لكنَّ مشاهدة بقايا الماء في أوعية التفاعُل الكيميائي كانت أمرًا شائعًا، وقد أفاد أحد التفسيرات بأنه لا بد من اعتصار الماء من الهواء قبل أن يكون بالإمكان أن يُصبح فلوجستونيًّا بالكامل. وانتبه جيدًا عزيزي القارئ! لقد كانت نظرية الفلوجستون تتصدَّع بصوتٍ مدوٍّ في ذلك الوقت، وشرعَتْ في الانهيار. في الواقع، تشغل الغازات حيِّزًا ضخمًا مقارَنةً بالسوائل — فمقدارُ لتر واحد من الغازَين بعد خلطهما على النحو الصحيح سيُنتِج ١٠ قطرات من الماء، وهي كميةٌ يُمكن إغفالها بسهولةٍ نوعًا ما.
يكفي أن نقول إننا لن نحلَّ «جدلية الماء»40 هنا. كانت الأطراف الرئيسة في هذه الجدلية هي هنري كافنديش، وجيمس وات، وأنطوان لافوازييه. وقد حفَّزَ إيديومتر فولتا (انظر الشكل ٥-١٦) بريستلي وكافنديش وآخَرين على استخدام هذا الأسلوب. وعلى الرغم من أن جيمس وات (١٧٣٦–١٨١٩) — الذي اخترع محرِّكًا بخاريًّا مُعدَّلًا إلى حدٍّ كبير عام ١٧٦٥ — قد قدَّمَ حجةً دامغة على أنه أول مَن أدرَكَ أن الماء مُركَّب وليس عنصرًا كيميائيًّا، فإن هذا الاكتشاف يُنسَب إلى كافنديش. فقد كان كافنديش أولَ مَن دمج في تجاربه بين النِّسَب الدقيقة للهيدروجين والأكسجين، واستطاع أن يتوصَّل إلى كتلةِ كلٍّ منهما المحفوظة في الماء السائل. غير أنه نظرًا لكون كافنديش من المؤمنين بنظرية الفلوجستون، فقد كان مفادُ تفسيره للتجربة أن «الغاز القابل للاشتعال» (الهيدروجين) كان في واقع الأمر ماءً وفلوجستونًا (Φ)، بينما «الغازُ المنزوع الفلوجستون» (الأكسجين) كان في الواقع ماءً منزوعَ الفلوجستون:39،41
هيدروجين + أكسجين ماء
(ماء + لفلوجستون) (ماء − لفلوجستون) ماء

كان الأمر سيَبدو منطقيًّا لو أن الهيدروجين كان فلوجستونًا نقيًّا، والأكسجينُ «غازًا منزوعَ الفلوجستون»، فإنَّ «تزاوُجَهما» ربما كان سيُثمِر — إذا كان له أن يُثمِر عن أي شيء — «غازًا فلوجستونيًّا» أو «أزوتًا» (النيتروجين). غير أن هذا التزاوُج يُثمِر، بدلًا من ذلك، ماءً — وهو مركَّب ذو قوام وكثافة كبيرَين. إذًا لا بد أنه كان هناك طوال الوقت، أليس كذلك؟

كان لافوازييه، في النهاية، هو مَن قدَّم دليلًا قاطعًا حاسمًا على تركيب الماء. كان للماء دور محوريٌّ في حياة لافوازييه المهنية. وقد رسَّخَتْ أولُ ورقة بحثية نشرها لافوازييه، وهو في الثانية والعشرين من عمره، إحدى أفكاره المهمة التي تكرَّرت في أبحاثه.42 كلَّس (سخَّن) لافوازييه الجصَّ (كبريتات الكالسيوم)، ثم جمَّع الماء الناتج عن البلورة ووزَنَه، ثم أعاد تركيب المادة الأصلية بإضافة الماء المُجمَّع إلى الملح اللامائي. وكما سبق أن أوضحْنا، فقد دحض زعْمَ آخَرين بأن الماء قد تحوَّل إلى تراب عند التسخين. وكان زعْمُه بأنه أوَّلُ مَن اكتشف تركيبَ الماء يشبِهُ إلى حدٍّ مذهِل زعْمَه بأنه أوَّلُ مَن اكتشف الأكسجينَ؛ غير أن السجلَّ التاريخي يشير في كلتا الحالتين إلى أنه: أولًا: ليس المُكتشِفَ الأولَ لكليهما؛ ثانيًا: أنه كتم بعضَ المعلومات عن منافسيه؛ لكنه ثالثًا: شرح على نحو تامٍّ وصائبٍ الثغراتَ التي اكتنفتْ نظرية الأكسدة التي دحضت نظرية الفلوجستون.43،44
في الشكل ٥-١٧، نرى جهاز لافوازييه «لتحليل الماء» (الصورة ١١)،45 الذي وُضِع فيه أنبوب من الزجاج المُلدَّن (EF، محاط بطين مُمتزج بقطع مفتتة من الفخار ومدعمة بقضيب حديدي) في فرن EFCD؛ يتصل أحد طرفيه بالمِقطَرة المعوجة A، التي تُخرِج بخارًا، ويتَّصل طرفه الآخَر بالمكثِّف SS، الذي يُقطِر ماءً غير متفاعل في المِقطَرة H. يَنطلِق الغاز المُنبعِث من الأنبوب عبْر KK، ثم يُنقَّى ويُجمع على النحو المناسب. وقد وجدت التجربة الأولى أن كمية البخار المتصاعِد من المِقطَرة A، ومرَّت عبر الأنبوب المُلتهِب الخاوي، تساوي تمامًا كمية الماء المجمَّع في المقطرة H. وفي التجربة الثانية، وُضع ٢٨ جرامًا من الفحم في الأنبوب، انبعث منها بعد التعرض لفترة طويلة إلى البخار في الأنبوب المتوهج ١٠٠ جرام من غاز حمض الكربونيك (ثاني أكسيد الكربون)، و١٣٫٧ جرامًا من «غاز خفيف جدًّا … بدأ في الاشتعال» (وهو غاز الهيدروجين) مع فقدان ٨٥٫٧ جرامًا من الماء. وكان معروفًا أن ١٠٠ جرام من غاز حمض الكربونيك تحتوي على ٧٢ جرامًا من الأكسجين، و٢٨ جرامًا من الكربون (تذكَّر أن الذرات والصيغ الكيميائية لم تكن عُرفت بعدُ آنذاك)؛ ومن ثَمَّ تحلَّل ٨٥٫٧ جرامًا من الماء إلى ١٣٫٧ جرامًا من الهيدروجين، و٧٢ جرامًا من الأكسجين — كانت مؤسسة «جمع الضرائب»، التي كان لافوازييه مساهمًا فيها، لترضى تمامًا بهذا الحساب الدقيق. في التجربة الثالثة، عُرِّض ٢٧٤ جرامًا من الحديد المُطاوع، في شكل صفائح رفيعة ملفوفة في شكل حلزونات، إلى البخار في الأنبوب المتوهِّج، دون أثر لغاز حمض الكربونيك هذه المرة. بدلًا من ذلك، بات الحديد أكسيدًا أسودَ (مثل ذلك الذي ينتج عن احتراق الحديد في الأكسجين)، وازداد وزنه بعدما أُضيف إليه ٨٥ جرامًا من الأكسجين. وبلغ وزن كمية الهيدروجين المجمعة ١٥ جرامًا؛ فيما بلغ وزن كمية الماء المفقود ١٠٠ جرام. وقد نتج عن هاتين التجربتَين البالغتَي الاختلافِ النتيجةُ نفسُها: يتشكَّل الماء من ٨٥ بالمائة أكسجين و١٥ بالمائة هيدروجين.
fig114
شكل ٥-١٧: تُظهِر الصورة ١١ من الشكل جهازَ تحليل الماء إلى هيدروجين وأكسجين. يُوضَع الفحم في أنبوب من الزجاج الملدن داخل الفرن. على النار، يُؤكسَد الفحم إلى ثاني أكسيد الكربون، ويُجمع، فيما يُجمع الهيدروجين مُنفصلًا. على الناحية الأخرى، يُمكن وضعُ شرائحَ حديديةٍ في أنبوب، ثم تسخينها تسخينًا شديدًا، فيتشكَّل أكسيد الحديد، وينبعث الهيدروجين في وجود البخار (من كتاب لافوازييه، «أطروحة أولية في الكيمياء»، الطبعة الثانية، عام ١٧٩٣).
في الشكل ٥-١٨، نرى جهاز لافوازييه «لتركيب الماء» (الصورة ٥).45 يُوصِّل البالون الزجاجي A، الذي تبلغ سعته ٣٠ باينت، الأكسجينَ النقي من اليسار (عبْر أنبوب التجفيف MM المملوء بمسحوق كلوريد الكالسيوم أو مركَّب شبيه)، والهيدروجين النقي من اليمين (عبْر أنبوب التجفيف NN). تُشعَل شرارة كهربية في جوار الوعاء Ld. وبناءً على نتائج تحليل الماء المبيَّنة سابقًا، تُضاف ٨٥ جرامًا من الأكسجين و١٥ جرامًا من الهيدروجين ببطء مع إشعال شرارات دورية. وهنا يُصبح لديك ١٠٠ جرام من الماء السائل!
fig115
شكل ٥-١٨: تُظهِر الصورة ٥ جهاز «تركيب» الماء من الهيدروجين والأكسجين. ما إن تُضاف الكميات الصحيحة، تَشتعِل شرارة في المقطرة المعوجة L، ويحدث التفاعُل الكمِّي (من كتاب «أطروحة أولية في الكيمياء»، الطبعة الثانية، ١٧٩٣).
وهكذا كانت نهاية نظرية الفلوجستون؛ إذ بدا تحليل الماء إلى عنصرَي الهيدروجين والأكسجين، ثم إعادة تركيبه من هذين العنصرين بمنزلة آخر مسمار في نعش نظرية الفلوجستون. وقد تحقَّقت النتيجة ذاتها عبْر التحليل الكيميائي للماء في عام ١٧٨٩.46 فكان «جوهر النار» الغازي الخفيف المنبعث من الحديد بفعل الأحماض المائية هو الفلوجستون، حسبما ذكر كافنديش عام ١٧٦٦. يا له من أمر مُثير للتهكم أن تعرف أن «الغاز القابل للاشتعال» يَنبعِث من الحمض المائي، وليس المعدِن، وأن كافنديش هو مَن اكتشف ذلك فعليًّا! لكن دعوني أُسرُّ لكم قولًا يا رفاق، ها نحن أولاء على مشارف نهاية الألفية الثانية، وما زلنا نجهل لمَ لا يَلتهِم كلٌّ من الهيدروجين والأكسجين أحدهما الآخر فور اختلاطهما وتكوينهما الماءَ في عدم وجود شرارة.38

(٧) بن فرانكلين؛ دبلوماسي من طراز خاص

fig116
شكل ٥-١٩: لوحة لبنجامين من «مجموعة أعمال السيد فرانلكين»، باريس، ١٧٧٣. انظر ترجمة القصيدة المدوَّنة أسفل اللوحة في الملاحظة الثانية لهذا المقال، انظر [الجزء الخامس: الثورتان الفرنسيتان – القسم السابع: بن فرانكلين؛ دبلوماسي من طراز خاص] (هذا الكتاب يخص د. فرنر هايزنبرج، بإذنٍ من ابنه الأستاذ يوخان هايزنبرج).
ثَمَّةَ مشكلة جديرة بتدخُّل بن فرانكلين، أعظم دبلوماسي عرفته أمريكا، ألا وهي: كيف تحافظ على علاقة صداقة بين صديقين مقرَّبَيْن اختلفا اختلافًا تامًّا وجذريًّا حول نظرية كيميائية؟ كان جوزيف صديقك منذ ستينيات القرن الثامن عشر، وقد أخذ بنصيحتك ونشر كتابه «تاريخ الكهرباء ووضْعُها الراهن».47 وخاطَرَ رجل الدين الإنجليزي هذا مخاطَرةً كبيرة؛ إذ دعَم بقوة استقلال وطنك الحبيب أمريكا. والتقيت أنطوان عام ١٧٧٢، وهو رجل ذكي، مفعَمٌ بالحيوية، وثري، ومواطنو بلاده يُكِّنون لك التبجيل (انظر الشكل ٥-١٩).48 تتحدَّث إليك زوجته الجميلة الموهوبة الثرية ماري آن بالفرنسية، أو الإنجليزية، أو اللاتينية — كما تشاء — ورسمَت لك صورة زيتية (الشكل ٥-٢٠).49 يُقيم الزوجان لافوازييه حفلات «صاخبة» ويَعقدان صالونات مُلهِمة. على النقيض، يعيش جوزيف وماري بريستلي حياةً زاهدة ويُقيمان حفلات الشاي الوقورة. نشر جوزيف أول ورقة بحثية له تصف اكتشافه لما يُسميه «الغاز المنزوع الفلوجستون»، لكنه كان يؤمن بقوة بنظرية الفلوجستون التي كان عمرها قرنًا من الزمان آنذاك. ويُطلِق أنطوان على ذلك الغاز الذي اكتشفه جوزيف «الأكسجين»، ويؤمن بأن هذه النظرية قد انتهَت من الوجود مثلما انتهى طائر الدودو،50 الذي تزامن انقراضه تقريبًا مع ميلاد الفلوجستون. إذًا، ماذا لدبلوماسي عظيم أن يفعل؟ الإجابة: اقرأ لكلٍّ من المدرستين الفكريتين بإمعان، ولا تترك أثرًا أيًّا كان لموقفك من أعظم جدل كيميائي في عصر التنوير.51
fig117
شكل ٥-٢٠: تعلَّمت السيدة لافوازييه الرسم على يد الفنان الشهير جاك لوي ديفيد. وهذه صورة فوتوغرافية للوحة الزيتية التي رسمتها لصديقها المقرَّب بنجامين فرانكلين. انظر الصور الملونة (بإذنٍ من أحد أقارب بنجامين فرانكلين).
كان لفرانكلين موقف محايد تجاه الفلوجستون، لكنه أبدى تأملات كيميائية مبتكَرة ونافذة الرؤية إلى حدٍّ كبير. وقد صاغ أحد أكثر تصريحاته روعةً عن بقاء المادة في خطاب يرجع إلى عام ١٧٥٢،52 حينما لم يكن لافوازييه قد تعدى التاسعة:51،52

إنَّ كل ما تفعله النار هو «فصل» جزيئات المادة، لكنَّها لا «تُفنيها»؛ فالماء يعود إلى الأرض في شكل أمطار، بفعل الحرارة المتصاعِدة في صورة أبخرة، وإذا جمعنا كل جزيئات المادة المُحترقة التي تنطلق مع الدخان، لربما ضاهى وزنها، بالرماد، وزنَ كتلتها قبل الاحتراق. ولو استطعنا أن نُعيد تركيب الجزيئات معًا مرة أخرى بترتيبها السابق نفسه، لجاءت الكتلة مُساويةً لكتلتها في حالتها الأصلية، ويُمكن حرقُها مرةً أخرى.

على الرغم من أن قانون بقاء المادة يَرتبط بقوة وجدارة باسم لافوازييه، فإن التبعات الكيميائية لهذا القانون قد ذُكرت صراحةً قبل قرن على الأقل، والواقع أن المفهوم يرجع حقًّا إلى العصور القديمة.53 ومع ذلك، فإن آراء فرانكلين عن هذه المادة ليسَت معروفة على نطاق واسع، بل إنَّ مقولته هذه ربما تُشير إلى تجربة محدَّدة أُجريت لإثبات صحة القانون. كذلك يذكر فرانكلين مشاهدته لقابلية غاز المُستنقعات (الميثان) للاشتعال، في نيو جيرسي، قبل ما لا يقلُّ عن أكثر من عَقْد من عزْل أليساندرو فولتا للميثان:51

اختارَ مكانًا ضحلًا؛ حيث يمكن ملامسة القاع بعكاز، وكان المكان موحلًا، كان الطينُ أوَّلَ ما أثاره العكازُ، وحين بدأ عدد من الفقاعات التصاعدَ منه على السطح، أُضيئت شمعة. كان اللهب مفاجئًا وقويًّا للغاية، حتى إنه أمسكَ في كشكشة قميصه وأحرقها، حسبما ما رأيت.

يُشير دودلي هيرشباك إلى أن ملاحظات فرانكلين على مدار ستة عقود قد «أقنعته بخطر التسمُّم بالرصاص».54 وبحسب ما ذكر هيرشباك: «عزا فرانكلين إصابة عائلة بمغصٍ إلى شربها ماءَ أمطار مجمَّعًا من سطح معالَج بالرصاص. وقد أشار إلى أن الأشجار المزروعة حول المنزل لسنوات نمَت بارتفاع كافٍ لتسقط أوراقها على السطح، وهكذا كانت تفرِز أحماضًا راحت تُبلي الرصاص فملأت المياه … بجُسيمات سامة.»54
جمع بين فرانكلين ولافوازييه اهتمامُهما بالبارود، ولا سيما بالمكون الرئيس للبارود (الذي يشكل ٧٥ بالمائة منه): كبريتات البوتاسيوم. في حوالي عام ١٧٧٥، ومع بدء احتدام الثورة الأمريكية، حظرَ الإنجليز شحنات البارود من أوروبا.55 وكانت البحرية الملَكية بمنزلة حجَّة مُقنعة. وفي العام نفسه، اعتمد المؤتمر القاري منشورًا بعنوان «عدة طرق لتصنيع كبريتات البوتاسيوم؛ موصًى بها لقاطني المستعمرات المتحدة، من قِبَل ممثليهم في المجلس». وكان المنشور يحتوي على أجزاء من تأليف فرانكلين ود. بنجامين راش، اللَّذين شاركا لاحقًا في التوقيع على إعلان الاستقلال.55 وهكذا باتت معالفُ الحظائر والقعادات المنزلية مصادر حيوية لكبريتات البوتاسيوم. وكان الفرنسيون في أشد اللَّهفة لبيع كبريتات البوتاسيوم والبارود إلى المستعمَرات الأمريكية من أجل إضعاف الإنجليزِ خصومِهم الأزليين. وقد كانت تعاملاتُ فرانكلين مع صديقه المقرَّب لافوازييه، الذي كان مسئولًا في «إدارة البارود»، وهي المنظَّمة الحكومية المسئولة عن إنتاج البارود وجودته، ناجحةً. والشكل ٥-٢١ من تقرير كتبه لافوازييه في الأساس عن تصنيع كبريتات البوتاسيوم.56 يُظهِر الشكل مصنعًا تُغسَل فيه الأتربة والرماد المليئين بالروث، ثم يُبخَّر الماء، وتُبرَّد السوائل المتبقية للسماح لكبريتات البوتاسيوم بالتبلور. ويظهر في أسفل يسار الشكل صورة لمقياس الثقل النوعي للسوائل (الذي أطلق عليه لافوازييه «مقياس كثافة الغازات»)، والذي يُستخدَم في قياس كثافات السوائل المُتبقية لتقييم وقت جاهزيتها للتبلور.
fig118
شكل ٥-٢١: مصنع لكبريتات البوتاسيوم كما وُصف في تقرير صدر عام ١٧٧٩ (الشكل مأخوذ من نسخة أُعيد طباعتها عام ١٧٩٤) للافوازييه وآخرين عن تصنيع كبريتات البوتاسيوم.
ترجع نشأة المناطيد إلى فرنسا؛ فقد أدَّى الأخوان مونجولفييه عرضهما التجريبي العام الأول للمنطاد الهوائي في ٥ يونيو عام ١٧٨٣. وفي ٢٧ أغسطس من العام نفسه، صعد جيه إيه سي شارل (المشهور بقانونه V = kT)57 لأول مرة في مُنطاد مملوء ﺑ «الغاز القابل للاشتعال» (الهيدروجين). كان فرانكلين pb متحمِّسًا للمناطيد، ويُقال إنه كان يقول مازحًا إن مونجولفييه هو أبو المُنطاد، وشارل هو مُرضِعته.55 وقد شارك كلٌّ من فرانكلين ولافوازييه في لجان عملت على تقييم المعلومات المتعلقة بالمناطيد وتبادلها. ومِن المُثير للدهشة أن لافوازييه وفرانكلين قد شاركا كذلك في لجنة لتقصِّي ظاهرة «القوة المغناطيسية البشرية» التي قادَها فرانز أنطون ميسمر. وعلى الرغم من أن فرانكلين كان يُراسل ميسمر، فإنه ولافوازييه كانا متشكِّكَيْن بشأن هذه الظاهرة المزعومة، وجاء التقرير الصادر عن اللجنة عام ١٧٨٤ سلبيًّا. واليوم نعرف أن ميسمر قد اكتشف خلال دراساته، التنويمَ المغناطيسيَّ وقوةَ الإيحاء. وفيما يلي خاتمة فرانكلين لخطابٍ يبدي فيه شكوكَه إزاء عمل ميسمر:55

في كل مدينة ثرية كبيرة، يوجد عدد من الأشخاص لا يَسْلَمون أبدًا من الأمراض؛ لأنهم مُولَعون بالعقاقير ولا يتوقَّفون عن تناولها، ليضرُّوا بذلك بِنيتَهم الجسمانية. فإذا أمكن إقناع هؤلاء الأشخاص بالامتناع عن تناول العقاقير، ليُشفَوا بأيدي الأطباء فقط أو بقطب حديدي يُوجَّه نحوهم، فقد يجدون نتائج طيبة، رغم أنهم قد يُخطئون السبب.

بالطبع، أكثر ما يشتهر به فرانكلين هو دراساته عن الكهرباء، وثمَّة مقارنات أجراها هيرشباك بين الأهمية الجذرية لهذه الدراسات ودراسات نيوتن أو واطسون وكريك.58 كان فرانكلين يرى أن الكهرباء سائل «يزداد» تبعًا للشحنات «الموجبة»، و«ينقص» تبعًا للشحنات «السالبة». والحق أن اختراع فرانكلين لمانع الصواعِق، حوالي عام ١٧٧٢، حمى مخازن البارود، واستعان فرانكلين بنجاح بتجربته التي عرض فيها نموذجًا لمنزل مصغَّر مزوَّد بمانع للصواعق وسِلك تأريض ومملوء بالبارود (إذ مرَّر شحنة كهربية عبْر مانع الصواعق) لإظهار كفاءة اختراعه.58 ومع ذلك، فإن اهتمامات فرانكلين الواسعة النطاق قادته كذلك إلى شرح أسباب هبوب «الرياح الشمالية الشرقية» من الجنوب الغربي، وقادته كذلك إلى شرح كيفية تأثير تيار الخليج على المناخ في شمال شرقي الولايات المتحدة. يُصوِّر الشكل ٥-٢٢ شرح فرانكلين لعمود مائي في المحيط.48 وكما هو واضح، يُمكن اعتبار فرانكلين أحد رواد العلوم الأرضية. وقد اخترع فرانكلين الهارمونيكا الزجاجية، و«ربما» لحَّن مقطوعة رباعية وترية (على نغمة فا فقط!) — وهي مقطوعة عبثية نوعًا؛ إذ لم يستخدم العازفون المذهولون أياديَهم اليُسرى طَوال عزف المقطوعة.58
fig119
شكل ٥-٢٢: كان فرانكلين أحد رواد علوم الأرض، ويُصوِّر هذا الشكل عمودًا مائيًّا ويَشرح أصل تكوينه. وقد شرح فرانكلين آثار تيار الخليج على الطقس في شمالي شرق الولايات المتحدة (من كتاب «أعمال السيد فرانكلين» بإذنٍ من الأستاذ يوخان هايزنبرج).

(٨) حسنًا، أنا أعرِف الآن ماذا تعني «الأكسدة»، لكن ما «الاختزال»؟

بفضل عمل لافوازييه قُربَ نهاية القرن الثامن عشر، أصبحنا نعرف أن المعادن يُضاف إليها الأكسجين من أجل تكوين الأكاسيد، وأن احتراق المادة العضوية يُضيف الأكسجين إلى كلٍّ من الكربون والهيدروجين؛ ومن ثَمَّ يُكوِّن البروبان ثاني أكسيد الكربون والماء عند اشتعاله في شوَّاياتنا. أما عند أكسدة العناصر غير المعدنية، مثل النيتروجين والفوسفور والكبريت، فتتكوَّن أكاسيد تعمل كأحماض، بينما تعمل أكاسيد المعادن كقواعد. وقد توسَّع مفهوم الأكسدة في القرن التاسع عشر — فكان يُمكن أكسدة الشكل المُنخفِض التكافؤ من النحاس ليُصبِح في شكلٍ عالي التكافؤ (حتى في غياب الأكسجين). على سبيل المثال، يُضيف أكسيد النحاس الأحادي الأصفر (Cu2O الذي يحتوي على ١١٫١٪ أكسجين) الأكسجين من أجل تكوين أكسيد النحاس الثنائي الأسود (CuO الذي يحتوي على ٢٠٫١٪ أكسجين)، ويمكن أكسدة كلوريد النحاس الأحادي (CuCl) ليُصبح كلوريد النحاس الثنائي (CuCl2) في غياب الأكسجين. وهذا يعني، في الواقع، أن الكلور عامل أكسدة تمامًا مثل اليود.
يُذكر أن عمر مفهوم «الاختزال»، المناقض لمفهوم «الأكسدة»، أقدمُ من «نقيضه» هذا بقرون. إذًا، ما مصدر المفهوم الأقدم؟ إنَّ أول ما يتبادر إلى الذهن افتراض أن «الاختزال» ربما يُشير إلى حقيقة أن تحوُّل كلس، مثل CuO، إلى معدِن سيكون مصحوبًا بنقصان في وزنه.59 ومع ذلك، فعلى الرغم من حقيقة أن بعض الكيميائيين في القرن السابع عشر (ري، وبويل، ولوفيفر … إلخ) كانوا أول مَن أشار إلى أن المعادن أخفُّ وزنًا من كلساتها، كان مفهوم «الاختزال» مُستخدَمًا فعليًّا قبل ذلك بكثير.60
لحسن الحظ، تُمدُّنا مطالعةُ قاموس ضخم وقديم بالمعرفة المطلوبة. فعلى الرغم من أن قاموسًا صغيرًا شائعًا يبلغ حجمه رطلين،61 يُقدِّم تعريف «يُقلِّل بأيِّ طريقة ممكنة» بوصفه التعريفَ الأولَ لكلمةٍ «يختزل» من بين تعريفاتها الخمسة عشر، فإن قاموسًا أقدم وأكبر حجمًا يصل حجم مجلده إلى ٢٠ رطلًا،62 يُقدِّم التعريف الأساسي للكلمة: «يعيد، يؤدي إلى مكان سابق أو حالة سابقة، يستعيد»، وهو التعريف الذي يتوافَق تمامًا مع الجذر اللاتيني reducere بمعنى «يعيد إلى الوراء». وهكذا نجد، أيها القارئ العزيز، في اعتقادي، المعرفة الأساسية؛ فقد افترض الحِرَفيون القدماء أن المعادن النقية هي الحالة المرجعية، وساد الاعتقاد بأن عملية التحويل إلى معدِن (من كلسه، على سبيل المثال، بتسخينه مع الفحم) هي «الاختزال» (أي إعادته إلى حالته الأصلية).60 وهذا أيضًا مثير للاهتمام؛ لأنه بالنسبة إلى معظم المعادن (لكن ليس الذهب بالتأكيد) لم تكن حالتها الحقيقة (الأرضية) السابقة معدِنًا، بل كانت مِلحًا، عادةً كبريتيد يجب تحميصُه من أجل الحصول على المعدِن. وقد أشار جون ريد63 إلى أن عملية «الانحلال» (المفتاح الرابع لبازيل فالانتين، انظر الشكل ١-٤) تنطوي على تحول المزيج الخيميائي الأصلي إلى اللون الأسود، ويكون هذا مصحوبًا ﺑ «وفاة» المعادن الأدنى قيمةً من الذهب. وهذا في الواقع يُمثِّل عملية تحميص المعادن وخاماتها الكبريتيدية وأكسدتها. وعكس هذه العملية هو «الاسترجاع» (المفتاح الثامن لبازيل فالانتاين، الشكل ١-٥)، بمعنى استعادة المعادن الأصلية، ولمِّ شملها بأرواحها عبر العملية الكيميائية التي نُطلِق عليها اسم «الاختزال».
كذلك عُرف منذ زمن طويل أن تسخين كلسٍ ما في تيار من غاز الهيدروجين يؤدي إلى اختزال الكلس إلى المعدِن النقي الأخفِّ وزنًا. (ياه! هل ذكرتُ أن الماء يتكون أيضًا؟) وعليه، فإنَّ غاز الهيدروجين يُعدُّ عامل اختزال. ومع ذلك، فإن اختزال الدهون غير المشبعة بغاز الهيدروجين يُنتِج دهونًا مشبعة، تزن «أكثر» من نظيرتها من الدهون غير المشبعة؛ فالدهون المشبعة المُختزلة تحتوي على سعرات حرارية أكثر من الدهون غير؛ ومن ثَمَّ … حسنًا، لا عليك! على أيِّ حال، فإن التعريف الحديث «للاختزال»، الذي يجمع بين كل هذه العمليات المختلفة، هو كالتالي: «عملية تَكتسب فيها المادة إلكترونًا واحدًا أو أكثر» (والأكسدة «العكس من ذلك»).64
حسنًا، تبًّا لهذا، فأنا — عالِمَ الكيمياء — أعرف ماذا أعني عندما أقول «اختزال». وكما يقول البحَّار باباي — «أنا لن أتغيَّر؛ فهذه [يبصق] طبيعتي!»65

(٩) الرجل ذو البذلة المطاطية

«دفن» أنطوان لافوازييه نظريةَ الفلوجستون، وفي غضون هذا شرحَ أساس الاحتراق وعمليات التكلُّس، مثل صدأ الحديد. ومع ذلك، لا يَحظى لافوازييه بتقدير واسع باعتباره أولَ مَن أثبت أن الأيض هو ببساطة عملية احتراق بطيئة للغاية. ولكن ظل مكان حدوث هذا الأيض فعليًّا، في القلب أم الرئتين، أم كليهما، غامِضًا بالنسبة إليه.

بدا واضحًا لجون مايو في عام ١٦٧٤ أن التنفُّس كان يزيل شيئًا من الهواء الجوي، وأن الهواء المُستنزَف المتبقي لا يستطيع دعم الحياة أو الاحتراق.66 ودعمَ ملاحظات مايو بعد قرن من الزمن أعمالُ شيله، وبريستلي، ولافوازييه، الذين فصلوا «الهواء» الذي درسوه، وعالجوه، وحدَّدوا خصائصه. فعند حبس فأر في وعاء زجاجي جرسي الشكل يَحتوي على الهواء الجوي، سرعان ما أصبح الهواء «سامًّا» أو «مميتًا»؛ بسبب استنفاد كامل مُحتواه من «الهواء الحيوي» (الأكسجين).67 ولو أُعيد شحن «الهواء السام» (~٩٩٪ نيتروجين) بالأكسجين بالنسبة الصحيحة ٤:١، لعاش الفأر طويلًا كما كان ليحدث لو عاش في الهواء الجوي. ولم يُعلَن عن فصل الغاز الناتج عن زفير الفأر، أي «الهواء المُثبَّت» (ثاني أكسيد الكربون)، ووصف خصائصه لأول مرة إلا في عام ١٧٥٦ على يد جوزيف بلاك.68 وفي عام ١٧٧٧ خلص لافوازييه إلى أنَّ عملية الأيض لدى الحيوانات تمزج الكربون مع الأكسجين من أجل إنتاج ثاني أكسيد الكربون، تمامًا كما يتَّحد الكربون مع الأكسجين في أثناء عملية الاحتراق.69،70
كان لافوازييه أول مَن استخدم المِسعَر الثلجي، الذي صمَّمه بيير سيمون دي لابلاس، في شتاء عام ١٧٨٢ / ١٧٨٣؛71،72،73 فقد قيسَت الحرارة الصادرة من وعاء التفاعُل بمقدار الثلج الموجود في الجزء المعدني المحيط، الذي ذاب بدوره وجُمع في صورة ماء. قاسَ لافوازييه ولابلاس الحرارة المنبعثة من عمليات كيميائية عديدة، بما في ذلك احتراق الفحم، وقاسا أيضًا الحرارة المُنبعِثة من خنزير غيني على قيد الحياة.
ساوى لابلاس ولافوازييه، عن طريق حرق الفحم وقياس «الغاز المُثبَّت» الناتج، بين تكوين أوقية واحدة من الهواء الثابت وذوبان ٢٦٫٦٩٢ أوقية من الثلج.71 وعلى مدار ١٠ ساعات، جاء مقدار الغاز المُثبَت المُجمَّع من زفير الخنزير الغيني (٢٢٤ وحدة؛ حيث ٥٧٦ وحدة = أوقية واحدة)، على هذا الأساس، مُساويًا لذوبان ١٠٫١٤ أوقيات من الثلج. وكانت الحرارة الفعلية المُنبعثة من الخنزير على مدار عشر ساعات أكبر من هذا؛ إذ أذابت ١٣ أوقية من الثلج. وعلى الرغم من وجود أخطاء في تحديد حرارة احتراق الفحم، فقد تَمثَّل التفاوت الأساسي في أن الخنزير الغيني لم «يَحرق» الكربون فقط، بل حرق الهيدروجين في «غذائه» أيضًا من أجل تكوين الماء، مُصدرًا طاقة إضافية.74 غير أن لافوازييه لم يفهم الطبيعة الحقيقية للماء في أوائل عام ١٧٨٣ أو أنه نتيجة للتنفُّس.
fig120
شكل ٥-٢٣: كان لافوازييه أول مَن يثبت أن التنفُّس في الواقع ما هو إلا عملية احتراق. وهذه صورة رسمتْها مدام لافوازييه (التي تظهر في جهة اليمين) لزوجها وهو يُجري تجاربَ على التنفُّس على مساعده أرمان سيجان، الملفوفِ بالكامل في بذلة مطاطية. وقد نجا سيجان، وأصبح في النهاية فاحشَ الثراء من عمله مُقاوِلًا في الجيش (بإذنٍ من الأستاذ ماركو بيريتا).
fig121
شكل ٥-٢٤: رسمٌ آخَر لدراسات لافوازييه للتنفس على مساعده سيجان — الرجل داخل البذلة المطاطية. تُصوِّر مدام لافوازييه نفسها وهي ترسم هذا المشهد (بإذنٍ من الأستاذ ماركو بيريتا).
كان لاكتشاف أن الماء ليس عنصرًا، بل مركَّبًا من الهيدروجين والأكسجين، أهميةٌ بالغة في تنامي فَهْم لافوازييه لعمَلية التنفُّس؛ ففي عام ١٧٧٤، أشعل «الغاز القابل للاشتعال» (الهيدروجين)، الذي عُزل قبل ثمانية أعوام على يد كافنديش، في وجود «الغاز الحيوي»، وحاول جمع «الغاز» الناتج فوق الماء.75 بطبيعة الحال، لم يُلاحظ أحد الكمية الضئيلة من بخار الماء التي تولَّدت. ومع أن الفضل في اكتشاف تركيب الماء موضعُ جدلٍ إلى حدٍّ ما، فإن معظم المؤرخين الكيميائيين يَنسبونه إلى كافنديش في عام ١٧٨٣.76 غير أن لافوازييه هو مَن حدَّد التركيب الدقيق له في كلٍّ من حالة تحلُّله إلى عناصره وتكوُّنه منها (انظر الشكلين ٥-١٧ و٥-١٨)، وأعلن عن هذه الاكتشافات في أوائل عام ١٧٨٤. لم يكن الماء عنصرًا، بل مركَّبًا وناتج احتراق للمركَّبات التي تحتوي على الهيدروجين؛ ومن ثَمَّ أدرك أن الماء الذي يخرج مع زفير الحيوانات وعرَقِها كان على الأرجح نتاجًا للتنفُّس. وكانت المشكلة المُتبقية أمام «أستاذ التوازن الكيميائي» أن إجمالي حساب الكتل، المدخلة في مقابل المخرجة، لم يَثبُت بعدُ. ولسوء الحظ، لم يُحبس إنسان حتى الآن بإحكام داخل دورق مغلق من أجل إجراء دراسات دقيقة على توازن الكتلة.
غير أنه في عام ١٧٩٠ أجرى لافوازييه ومساعده أرمان سيجان دراسات أغلق فيها على سيجان بالكامل داخل بذلة مصنوعة من التفْتا المَرِنة المُغطَّاة بالمطاط.70،77 وكان يتنفَّس أكسجينًا نقيًّا عبْر أنبوب ملتصق بإحكام حول شفتيه، وكان يخرج الهواء في الزفير عبر هذا الأنبوب. وقد صُوِّر هذا المشهد في لوحة رسمتْها مدام لافوازييه (الشكل ٥-٢٣)78 — فيجلس سيجان في اليسار، بينما يَقف لافوازييه في المنتصَف إلى جهة اليمين ويمدُّه بالأكسجين، فيما تدوِّن مدام لافوازييه الملاحظات. جرى قياس اختفاء الأكسجين بعناية، وجُمع ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء الصادران عبْر الزفير وجرى قياسهما. وجاءت كمية الأكسجين المُستنشَقة مُساوية تمامًا للكمية التي خرجت في الزفير في صورة ثاني أكسيد الكربون وماء. ومن أجل حساب توازن كتلة الماء بالكامل، قيسَت كتلةُ الرَّجل داخل البذلة المطاطية بدقة قبل إجراء التجربة وبعدها. كذلك قِيس التعرُّق، و«الانبعاثات» الأخرى، المحبوسة داخل البذلة بدقة مُذهلة، وكانت ١٨ وحدة في ١٣٥ رطلًا70 — يا له من توازن باهظ الثمن حقًّا! ولكن عندما كان الأمر يتعلَّق بجهاز لافوازييه، لم يكن المال عائقًا. يصور الشكل ٥-٢٤78 التجربة نفسها، ولكن سيجان يُجهِد نفسَه بالضغط على دواسة. فكانت كمية الأكسجين المُستنشَقة أكبر بكثير. وفي ١٧ نوفمبر عام ١٧٩٠، قدَّم سيجان ولافوازييه تقريرًا ورَدَ في جزء منه:70

التنفس ما هو إلا احتراق بطيء للكربون والهيدروجين، يشبه في جوانبه كافةً الاحتراقَ الذي يحدث في مصباح أو شمعة مُشتعِلة، ومن هذا المنظور، تكون الحيوانات المُتنفِّسة أجسامًا قابلة للاشتعال فعليًّا تحترق وتبلى.

(١٠) «مسكين مارا العجوز»؟ لا أعتقد ذلك!

يُنظر إلى جان-بول مارا حاليًّا بوصفه عالِمًا بلا أهمية، وهكذا حكمتْ عليه الأكاديمية الفرنسية للعلوم منذ أكثر من قرنين. ومع ذلك، يظلُّ مشهورًا وسيئ السمعةِ بوصفه «صديقًا للشعب» متَّقدَ الحماس ومتعنتًا؛ فكان عنصرًا رئيسًا في انتصارات الثورة الفرنسية، وتجاوزاتها، ومآسيها. وعلى الرغم من أن مارا نفسه قد قُتل في ١٣ يوليو عام ١٧٩٣، قبل نحو ١٠ أشهر من إعدام لافوازييه، فإنه ساعد بالتأكيد في إشعال الحماس وخلقِ جوٍّ أدى إلى وصول الأرستقراطيين اللامعين إلى المِقصَلة في ٨ مايو عام ١٧٩٤.

وُلد مارا في كانتون نيوشاتل السويسري في عام ١٧٤٣، وترك المنزل في عام ١٧٥٩، وقضى ٦ سنوات في فرنسا، و١١ سنة في إنجلترا واسكتلندا، يَكتب كُتيباتٍ فلسفيةً نالت بعض الاهتمام العالمي.79،80،81،82 كان من بين هذه الكتيبات كُتيب «سلاسل العبودية» (١٧٧٤)، الذي يُقال إنه قدَّم فيه لأول مرة فكرتَه عن المؤامَرة «الأرستقراطية».81 بدأ مارا في حضور فصول طبية في فرنسا في حوالي عام ١٧٦٠، ثم انتقَل إلى إنجلترا ومارس الطب بدايةً من عام ١٧٦٥. وبعد ١٠ سنوات من العمل الناجح، حصل على درجة الدكتوراه الفخرية في الطب من جامعة سانت أندروز في اسكتلندا في عام ١٧٧٥.83 وعلى الرغم من انتقاد صمويل جونسون لممارسة سانت أندروز لبيع الدرجات العلمية (فقال إنَّ الجامعة كانت «تزداد ثراءً من الدرجات العلمية»)، كان عُضوَا هيئة التدريس اللذان زكياه يتمتَّعان بمكانة مرموقة.83 عاد مارا للاستقرار مرةً أخرى في فرنسا، واتجه إلى تملُّق الأرستقراطيين والتودُّد إليهم، وعُين طبيبًا للحرس الشخصيَّين للكونت دي أرتوا، الشقيق الأصغر للملك لويس السادس عشر. وكان يأخذ من عملائه الأرستقراطيين82،84 لويسًا واحدًا (٢٤ جنيهًا) نظير الاستشارة، أو بما يُعادل ألف دولار أمريكي تقريبًا في عصرنا الحالي، وكان يُعتبر طبيبًا بارعًا للغاية.
بدايةً من عام ١٧٧٨، بدأ مارا سلسلةً من الأبحاث العِلمية على «العناصر غير القابلة للتقدير الدقيق» — الضوء والحرارة والنار والكهرباء — و«… بدأ في حصار أكاديمية العلوم».82 الشكل ٥-٢٥ من كتاب مارا85 الصادر في عام ١٧٨٠، الذي وصف فيه طبيعة الحرارة والنار، فحدَّد طبيعة سائل مُشتعِل،86 تنبأ، إلى حدٍّ ما، بنظرية السيال الحراري (الكالوريك) للافوازييه؛ فقد افترض أنه عند اتصال جسم ساخن بآخَر بارد، ينتقل السائل المشتعل من الجسم الأكثر دفئًا إلى الأكثر برودةً حتى يُصبح محتواهما متساويًا. نظر مارا إلى الحرارة والنار بوصفها تأثيرات وثيقة الصلة ذات أصل واحد. فتَنتُج الحرارة عندما تكون الطاقة المدخلة معتدلةً، وتَنتُج النار عندما تكون الطاقة المدخلة مرتفعة.86 وقد أغفل هذا التفسيرُ الفيزيائيُّ لتحوُّلٍ تسلسلي من الحرارة إلى النار الطبيعةَ الكيميائيةَ الحادةَ للنار. فيرى مارا أن المواد كافة لا بد أن تحتوي على «السائل المشتعل»، وإلا لن تستطيع الوصول إلى درجة حرارة البيئة المحيطة بها؛ إذ كانت حركة هذا السائل، وليس مجرد وجودِه، هي التي ولَّدت الحرارة والنار.86 وضمن قائمة من المواد المعروفة بكونها قابلةً للاشتعال (الكربون، والكافور، والنافتا، والزيوت العطرية الطيارة، والكحول، والفوسفور)، التي يصفها مارا بأنها «متشربة بالسائل المشتعل»، يذكر أيضًا «المركَّب القلوي المثبت» غير القابل للاشتعال (أو كربونات الصوديوم Na2CO3، حاليًّا).86 وينشأ هذا الالتباس، على الأرجح، من انبعاث «الغاز المثبت» (ثاني أكسيد الكربون) من تسخين هذا الملح، تمامًا كما «ينبعث» «الغاز المُثبت» من حرق المواد المحتوية على الكربون. وشرحَ مارا حقيقة أن اللهب يَنطفئ سريعًا في مكان مغلق كالتالي: «يعمل الهواء الذي يتمدَّد بعنف بفعل اللهب ولا يستطيع الخروج، على الضغط على اللهب بشدة وإخماده.»82
fig122
شكل ٥-٢٥: أشكال مُبهَمة أمكن الحصول عليها باستخدام «المجهر الشمسي» الخاص بجان بول مارا في كاميرا مظلمة. افترض مارا وجود «سائل مشتعل» قد ينبعث من المواد عند تسخينها أو احتراقها (دون أن يُقدِّم تمييزًا فعليًّا بين العمليات الفيزيائية والكيميائية). ويدَّعي هنا أنه لاحظ خروج هذه المادة التي لا يُمكن وزنُها من (a) شمعة مُشتعلة، و(b) قطعة من الفحم المحترق، و(c) قذيفة مُلتهِبة. لعب لافوازييه دورًا رئيسًا في رفض طلب مارا عضوية الأكاديمية الفرنسية للعلوم؛ ومن ثَمَّ استحق كراهيته الأبدية (من كتاب مارا «أبحاث فيزيائية عن النار»، ١٧٨٠).
الأشكال المُبهَمة في الشكل ٥-٢٥، على حدِّ قول مارا، هي صور «لسائل مشتعل» حقيقيٍّ يخرج من شمعة مُشتعِلة (الصورة ١)، ومن قطعة محترقة من الفحم (الصورة ٢)، ومن قذيفة مُلتهِبة (الصورة ٣). وقد أمكن الحصول على هذه الصور باستخدام «مجهر مارا الشمسي»، وهو كاميرا مظلمة بها فتحة صغيرة للغاية تسمح بدخول شعاع رفيع للغاية من الضوء يمر عبر عدسة مجهر ويسقط على شاشة. فتُلتقط صورة، على سبيل المثال، للشكل المخروطي الصغير المرئي لشعاع الشمعة، وكذلك العمود المحيط بها من «السائل المشتعل». وقد حضر سفير أمريكا في فرنسا، بنجامين فرانكلين، إحدى تجارب مارا، مُعرِّضًا رأسه الأصلع للمِجهَر الشمسي، ولوحظ على الفور أننا «نراها محاطة بأبخرة متموِّجة تنتهي جميعًا في شكل حلزوني. إنها تشبه ألسنة اللهب التي يرمز بها الرسامون للعبقري.»82
باءت محاولة مارا للحصول على تصديق الأكاديمية الفرنسية للعلوم بالفشل في مايو عام ١٧٧٩. وفي شهر يونيو في عام ١٧٨٠، لفت لافوازييه انتباه الأكاديمية لورقة بحثية لمارا يشير فيها ضمنيًّا إلى تصديق الأكاديمية على اكتشافاته المتعلقة ﺑ «السائل المشتعل».82 ودحضت الأكاديمية هذا الزعم، ووضع مارا عندها الأكاديمية ولافوازييه، على وجه الخصوص، ضمن قائمة أعدائه مدى الحياة. وتجدر الإشارة إلى أن لافوازييه الثريَّ والفطِنَ أصبح عضوًا في الأكاديمية في سن الخامسة والعشرين. وربما كان ما تعرَّض له من رفضٍ بدايةً لما يُطلِق عليه جوتشالك اسم «عقدة الشهيد» لدى مارا.87
تعرَّض المجتمع الفرنسي لتغير هائل طوال القرن الثامن عشر مع ظهور توتُّرات شديدة وصدوع ضخمة في نسيج المجتمع.88 وظلَّت سلطة الملك الفرنسي مطْلقةً. وتحت حكم ملِك مُلهم، وهو لويس الرابع عشر — «الملك الشمس» — ظل الفرنسيون في حالة معقولة من السكون. غير أن الحاكمَيْن التاليَيْن في نظام الحكم الأرستقراطي الفرنسي، لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر، افتقرا نسبيًّا إلى الكفاءة. وبدأت الثورة تتحرَّك على نطاق واسع في المناطق الحضرية في عام ١٧٨٨، لكن لم تظهر أعنف مظاهرها، اجتياح سجن الباستيل، إلا في ١٤ يوليو عام ١٧٨٩. ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأ مارا، الذي زاد نشاطه السياسي كثيرًا في ثمانينيات القرن الثامن عشر، في إصدار صحيفة «صديق الشعب»، من أجل إيقاظ الحماسة الثورية وإثارتها.79–82 أيَّد مارا في البداية نظامَ حكمٍ ملكيٍّ دستوريٍّ، لكنه سرعان ما تبنَّى آراء المتشدِّدين المعادين للملَكية، الذين أحضروا العائلةَ الملكيةَ عَنوةً من فرساي إلى باريس في أكتوبر عام ١٧٨٩. ومع ذلك، ظلَّ الحكم الملَكي على حاله، وأدى انتقاد مارا لوزير مالية الملِك إلى هروب هذا الثوري إلى إنجلترا لفترة وجيزة في عام ١٧٩٠.
يستخدم بويريه مصطلح «الثورة الثقافية»89 ليصف ثورة فرنسا ضد السلطة الفكرية للمعرفة التي تشبه، ضمنيًّا، تلك التي حدثت في الصين في ستينيات القرن العشرين؛ فقد أصبح انتقاد الأكاديمية في عام ١٧٨٤ للتنويم المغناطيسي، الذي لعب فيه كلٌّ من لافوازييه وفرانكلين دورًا رئيسًا، يتعرض للهجوم بوصفه نخبويًّا.90 وثمة مقتطفان من كُتيب مارا «المشعوذون المعاصرون» الصادر عام ١٧٩١ يُوضِّحان مدى الهجوم الذي تعرَّض له الأكاديميون:91

على رأسهم جميعًا يأتي لافوازييه، الأب المزعوم لكلِّ الاكتشافات التي أحدَثَت مثل هذه الجلبة؛ ولأنه لا يَملك أفكارًا خاصةً به، فإنه يَكتفي بأفكار الآخرين.

تذكَّر أن هذا كان بعدما أحدث لافوازييه ثورةً في مجال الكيمياء بالكامل. ولم يكن وصف مارا للأكاديمية أقل سوقية:92

مجموعة من الرجال التافهين، يتفاخَرون للغاية بالالتقاء مرتين أسبوعيًّا يُثرثرون بفتور عن زهرة الزنبق؛ إنهم كأجهزة الإنسان الآلي المُعتادة على اتباع صيغ معيَّنة وتطبيقها دون تفكير … ويا لمُتعة رؤية علماء الرياضيات يتثاءبون، ويسعلون، ويبصقون، ويضحكون ضحكة مكبوتة عند قراءة بحث كيميائي، ورؤية الكيميائيين وهم يضحكون ضحكة مكبوتة، ويبصقون، ويسعلون، ويتثاءبون عند تقديم بحث في الرياضيات.

أصبحت الثورة الفرنسية أكثر تطرفًا وتعطشًا للدماء في غضون السنوات القليلة التالية.88 وأيدتْ أكثر الفصائل الثورية تحفظًا، وهم الجيرونديون، الحكمَ الملكيَّ الدستوريَّ. غير أنه أصبح واضحًا أكثر من أي وقت مضى أن الملك لن يتخلَّى أبدًا عن الأرستقراطية المُتعجرِفة والمُتعنِّتة. واندلعت حرب قصيرة مع بروسيا المُجاورة بتحريض من الملِك، الذي فشلَت محاولته للهروب من فرنسا، في يونيو عام ١٧٩١. وكان الأمل أن تعمل حربٌ خارجية على إخماد الحرب الأهلية. غير أن الخطة أتت بنتيجة عكسية، وأطاحت «ثورة ثانية» بالملَكية في أغسطس من عام ١٧٩٢، وتشكَّل المؤتمر الوطني الفرنسي، المكوَّن من الجيرونديين المحافظين نسبيًّا والمونتاناريين (حزب الجبل) الأكثر تطرفًا، من أجل وضع دستور جديد، وأُدين الملك في شهر ديسمبر، ونُفذ فيه حكم الإعدام في يناير عام ١٧٩٣، وسُجنت الملكة ماري أنطوانيت أيضًا وأُعدمت على المِقصَلة في النهاية في أكتوبر عام ١٧٩٣.
fig123
شكل ٥-٢٦: درس مارا ليُصبح طبيبًا، وكان لديه عيادةٌ مربحةٌ للغاية. أصبح متعصِّبًا طَوال فترة ثمانينيات القرن الثامن عشر، وصار عضوًا كبيرًا في أكثر الجماعات تطرُّفًا في عام ١٧٨٩. وربما تكون فترات الاختباء الطويلة في مجارير باريس قد أدَّت إلى إصابته بمرض جلدي مؤلم كان يعالجه بالاستحمام لعدد لا يُحصى من المرات. وقد تعرَّض للطعن في أثناء استحمامه على يد سيدة تُدعى شارلوت كورداي في ١٣ يوليو عام ١٧٩٣. رسم هذا المشهد (الموضح هنا بالأبيض والأسود) جاك لوي ديفيد، وعُرض في المتحف الملكي للفنون الجميلة في بروكسل. وقد جُسدت الأحداث التي أدت إلى اغتيال مارا وأحداث اغتياله ذاتها في مسرحيةٍ كتَبَها الكاتب المسرحي بيتر فايس في عام ١٩٦٤.
في هذا الوقت، هزم المونتاناريون الجيرونديين،88 بل إن الفصائل الأكثر تطرفًا ضمن المونتاناريين هزمتِ الفصائلَ البرجوازيةَ التابعةَ لهم. وكان مارا، مع روبسبيار ودانتون، ضمن الفصائل الأكثر تطرفًا. وأسهمت على ما يبدو فتراتُ الاختباء الطويلةُ في الأقبية والمجارير في إصابة مارا بمرض جلدي مؤلم ويُسبِّب التشوُّهات، حتى إنه لم يكن يَرتاح إلا بالاستحمام المُتكرِّر. وفي ١٣ يوليو عام ١٧٩٣، استطاعت شارلوت كورداي، التي تُعتبر حاليًّا أداةً بريئةً في يد الجيرونديين، حيث تعرَّضت على الأرجح إلى غسيل دماغ، الدخولَ إلى منزل مارا، وطعنتْه حتى الموت وهو في حوض الاستحمام. وقد خلَّد الفنان جاك لوي ديفيد «وفاة مارا» في لوحة درامية (الشكل ٥-٢٦). ويبدو أن ديفيد نفسه كان متطرِّفًا عصريًّا لم تكن لديه أدنى مشكلة في «مجاراة الرياح السائدة»؛ فقد كان مدرِّسَ الرسمِ الخاصَّ بالسيدة لافوازييه، وتقاضى أجرًا أيضًا ما يُعادل حوالي ٣٠٠ ألف دولار أمريكي حاليًّا نظير رسم صورة لافوازييه في عام ١٧٨٩.93 ومع ذلك، هاجم ديفيد الأكاديميين في أثناء الثورة، وأُوكل إليه رسمُ صورة مارا. وألبس ديفيد جثةَ مارا على الطراز الروماني من أجل الجنازة.94 أطاح «قانون الاشتباه» الذي كان بداية عهد الإرهاب في أكتوبر عام ١٧٩٣؛ استجابةً لمقتل مارا، بماري أنطوانيت، وبعدها بستة أشهر أطاح بلافوازييه وحَمِيهِ، تحت فكِّه الضاري. وفي النهاية، أدى اشمئزاز عامٌّ من حمام الدم هذا إلى قدْرٍ من الاعتدال في السنوات التالية من العَقْد، لكن الاستقرار الفعلي لم يتحقَّق في فرنسا إلا عندما فرض نابليون بونابارت ديكتاتوريةً عسكريةً في أواخر عام ١٧٩٩.
تتغيَّر وجهات النظر السياسية بمرور الوقت. لقد كان القرن التاسع عشر قاسيًا على مارا. ومع ذلك، في عام ١٩٦٤ نشر الكاتب المسرحي الألماني بيتر فايس مسرحية رائعة يُشار إليها في الغالب بالعنوان المختصر «مارا/صاد».95 صوِّر مارا تصويرًا أكثر تعاطفًا داخل هذه المسرحية. تدور أحداث المسرحية في عام ١٨٠٨، وكان الماركيزُ دي صاد، أحدُ النبلاءِ وكاتبٌ فقدَ سُمعتَه، يُودَع في مصحة شارنتون، ويُخرِج مسرحيةً تجسِّد مقتلَ مارا. ويُرتِّل كورس أغنيةً بعنوان «مسكين مارا العجوز» في أثناء مقاطعَ من المسرحية (نشرت المغنية جودي كولينز كلمات الأغنية في ستينيات القرن العشرين). تُصوِّر المسرحيةُ مقتلَ مارا، وتُجسَّد شارلوت كورداي إنسانًا آليًّا — عبارة عن أداة دمارٍ لمارا، ويَظهر لافوازييه ضيفَ شرفٍ لوقت قصير في المسرحية. يكمن التجاور النقدي في المسرحية بين مارا الملتزمِ والمتعصِّبِ في الوقت نفسه، والماركيز الذي عاش حياةً تجمع بين الفكر والفِسق مختبرًا حدود الطبيعة البشرية. كان صادُ متعاطفًا مع عامة الشعب وثورتهم، لكنه مُتشائم، ويَشعر بفتور تجاه كل ما في الوجود، ويحمل في داخله خوفًا شديدًا من المؤيِّدين المتعصبين للثورة، أمثال مارا. ويدور، في المسرحية، هذا الحوار بينهما:96
صاد :
أنا لا أومن بالمثاليِّين،
الذين يسيرون في طرق مسدودة.
أنا لا أومن بأي تضحيات
قُدِّمت في سبيل أي قضية.
أنا لا أومن إلا بنفسي!
مارا (ملتفتًا بعنف نحو صاد) :
وأنا لا أومن إلا بالشيء الذي خنتَه أنت.
لقد أطَحْنا بحكامنا الأغنياء الغوغاء،
ونزَعْنا سلاحًا كثيرًا منهم رغم هروب
العديد منهم.
لكن الآن حلَّ آخرون محلَّ هؤلاء الحكام،
اعتادوا حمل المشاعل والرايات معنا.
والآن وبعد مرور الكثير على الأيام الخوالي،
أصبح واضحًا
أن الثورة قد اندلعَت
من أجل التجار وأصحاب المتاجر
والبرجوازيين.
الطبقة الجديدة المنتصرة
التي نجد تحتها
أنفسنا
نحن الذين نَخسَر في اليانصيب على الدوام!
تاريخيًّا لم يدُرْ قط أي حوار فعلي بين مارا وصاد.95

(١١) لامارك العجوز المسكين

من المؤسف أن الشيء الوحيد الذي نتعلَّمه في المدرسة عن جون باتيست لامارك (١٧٤٤–١٨٢٩)97 أنه فسَّر العُنق والأطراف الطويلة للزرافة بالقول إنها حتمًا تُمدِّد وتُطيل أنفسها باستمرار؛ ومن ثَمَّ تعمل على تقوية عنقها وأقدامها وإطالتها بعض الشيء في أثناء حياتها، وترث ذريتُها هذه التغيُّرات المكتسَبة. وتُوالي الأجيال المتعاقبة «التحسن» على هذا النحو — أو «التطور» حسب تعبيرنا الآن. ظهر هذا التفسير قبل نحو ٦٠ عامًا من نشر كتاب «أصل الأنواع» لتشارلز دارون في عام ١٨٥٩، الذي عرض التطورَ بوصفِه حقيقةً مرصودة، وأشار إلى الانتقاء الطبيعي بوصفه آليةً لهذا التطور. وستمر ٦ سنوات أخرى قبل تقديم جريجور مندل ملاحظاته عن تهجين البازلاء، و٣٥ سنة أخرى قبل إدراك أهميته، و٥٠ سنة أخرى قبل شرح واطسون وكريك له. ومع ذلك، فنحن نَذكُر لامارك بسبب نظريته الخاطئة تمامًا مثلما خُلِّد رالف برانكا، رامي فريق بروكلين دودجرز، في الذاكرة للأبد بسبب ضربته الآمنة التي رماها لبوبي تومسون في ٣ أكتوبر عام ١٩٥١، والتي سمحت لفريق نيويورك جيانتس بانتزاع راية البطولة من مُلاكِها الشرعيين. كان برانكا، الذي كان يضع الرقم ١٣ بكل فخر على زيه، يتمتَّع بسجل مُحترَم للغاية طوال حياته (٨٨ فوزًا، و٦٨ خسارة؛98 «يُمكنُك التحقُّق من الأمر» — سي ستنجل)،99 لكنه سيظلُّ مرتبطًا في الذاكرة دومًا بهذا المساء الكئيب المشئوم في مانهاتن. ثَمَّةَ احتمال أن لامارك كان يرتدي أيضًا الرقم ١٣؛ فقد كان واحدًا من ١١ طفلًا وُلدوا في أسرة «شبه فقيرة وأقل نبلًا في شمالي فرنسا».97 تزوج ثلاث مرات (أو ربما أربع)، وتُوفيت زوجاته الثلاث المعروفات في سنٍّ مبكرة بسبب المرض، وكان لديه ثمانية أطفال، مفاجئًا للدرجة؛ فإذا كان المرء على بُعد من بينهم ابنٌ أصم وابنٌ مختلٌّ عقليًّا، وعاش جميع أبنائه، عدا واحد، في الفقر. ومن أجل دفع تكاليف جنازته في عام ١٨٢٩، اضطرت أسرته إلى بيع كتبه ومجموعته العلمية في مزادٍ علَني والتماس المال من أكاديمية العلوم.97
في الواقع، قدَّم لامارك العديد من الإسهامات المهمة للعلم في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر؛ فقد صاغ مصطلحَي «علم الأحياء» و«اللافقاريات» في اللغة الإنجليزية، وتوصَّل إلى نظام تصنيف كان، في بعض النواحي، أسهلَ في الاستخدام من نظام لينيوس.97 وعُرف على نطاق واسع كأحد الخبراء الرائدين في علم أحياء اللافقاريات، وكان أحدَ أوائل علماء الإحاثة أو الأحياء القديمة الذين ربطوا الحفريات بكائنات على قيد الحياة، وحاولوا تفسير الاختلافات بين المحار الأحفوري، مثلًا، وأقاربه الموجودة على قيد الحياة؛ وأدَّى هذا به، بطبيعة الحال، إلى محاولة شرح مصادر هذه الاختلافات. وبينما لم يَستخدِم قط مصطلحَ «التطور»، فإنه كان بالتأكيد في طليعة المؤمنين بمذهب التطور.97 كانت لدى لامارك وجهةُ نظر موحدةٌ عن الطبيعة كانت شبه غامضة بطبيعتها؛ فالكائنات الحية هي الوحيدة القادرة على صنع «مادة عضوية»، ويُمكن لهذه الكائنات التغيرُ (أي «التطور») عبْر الأجيال من خلال تقوية أنفسها وتحسينها — وهي فكرة تعود إلى أصول الخيمياء القديمة؛ إذ إن تقويةَ الصفات الإنسانية تؤدي إلى الكمال البشري — فإزالةُ الشوائبِ تُحسِّن تدريجيًّا المعادنَ غير النبيلة وتحوِّلها إلى ذهب. وعند موت الكائنات، تُصبح المادة العضوية المتحلِّلة مادةً معدنيةً. في الواقع، لقد قاوم الاختزالية المتزايدة في العلم (أطلق عليها «الحقائق الصغيرة»). بالإضافة إلى ذلك، رتَّب لامارك، بوصفه أستاذًا وقيِّمًا في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي، اللافقاريات على أساس تصنيف منهجي بدلًا من أسلوب «غرفة العجائب» العشوائي المعتاد في مثل هذه المتاحف في وقت سابق. ونرى أساليب لامارك الرائدة في قاعات الديناصورات والثدييات في المتاحف الحديثة، بل وفي الترتيب التطوري داخل هذه القاعات.

ومع الأسف، أدَّت معارضة لامارك «للأفكار الصغيرة» التي تظهر في الكيمياء، إلى انحساره بشدة في الفترة السابقة على ظهور بويل في القرن السابع عشر؛ فقد احتفظ باعتقاده في العناصر الأربعة، وكان منبهرًا على وجه الخصوص بالأشكال المختلفة التي يتخذها عنصر النار، واعتقد لامارك أن «مادة النار» و«مادة الكهرباء» كانتا في الأساس الشيء نفسه. وهذا ليس أمرًا مفاجئًا للدرجة؛ فإذا كان المرء على بُعد مسافة طويلة من نار هائلة، فسيظلُّ ممكنًا أن يرى السماء مضيئة مع اشتداد قوة النار، أو مع احتراق مصدر جديد للوقود. ولا يختلف المشهد كثيرًا عن مشهد انتشار ضوء البرق الذي تحجبُه السحب. كان لامارك يعي جيدًا أن بنجامين فرانكلين قد أثبت الطبيعة الكهربائية للبرق. بالإضافة إلى ذلك، كان واضحًا أيضًا بنهاية القرن الثامن عشر أن كلًّا من النار والكهرباء يحدث تغيُّرًا كيميائيًّا.

fig124
شكل ٥-٢٧: كان جون باتيست لامارك عالِمَ أحياء مهمًّا ترتبط ذكراه، مع الأسف، على نطاق واسع بنظريته الخاطئة عن السمات المُكتسَبة. غير أن علم الكيمياء لديه كان قديمَ الطراز للغاية، وحاول في كتابه الكيميائي الوحيد وصفَ التنافرِ الذي يحدث بين جسيمات المادة مع اكتسابها حرارةً تجعلها تتمدَّد وتتنافَر (من كتاب لامارك الصادر عام ١٧٩٤ «أبحاث عن المسائل الأساسية في الفيزياء»).
الشكل ٥-٢٧ مأخوذ من أول وأهم عمل كيميائي للامارك،97 والذي نُشر في عام ١٧٩٤.100 يُظهِر الجزء العلوي من الشكل كرتين من الفلِّين معلَّقتين على خُطاف بواسطة خيط حريري. اكتسبت الكرتان الخفيفتا الوزنِ شِحنةً كهربائية بالاحتكاك، ثم انفصلت كلٌّ منهما عن الأخرى (انظر الشكل B في الجزء العلوي). وكان السبب الذي قدَّمه لامارك لذلك أنَّ الشحنة الكهربائية تؤدِّي إلى إحاطة كل كرة ﺑ «مادة الكهرباء» الفائقة الخفة. كما أن ضغط الهواء يَضغط عليها من جميع الجوانب بالتساوي (يتسبَّب الخيط في قليل من الانحراف)، ومن ثَمَّ يفصل المجالين المشحونين كهربائيًّا المحيطين بالكُرتَيْن. ولو أُجبرت الكرتان المصنوعتان من الفلين المشحونتان على ملامسة إحداهما الأخرى (الشكل A)، لَتداخلت مجالات المادة الكهربائية بينهما، ولَأصبح الشكل العام للمادة الكهربائية بيضاويًّا (وهو ليس الشكل الكروي المثالي)، مع وجود فجوة صغيرة في الأعلى، ولَتسرَّب ضغط الهواء إلى الداخل ودفعَ الكرتَيْن بعيدًا إحداهما عن الأخرى (الشكل B). في الجزء الأسفل من الشكل ٥-٢٧، نرى إناءً مملوءًا بالماء وُضع على النار. مرةً أخرى، يحافظ ضغط الهواء على تركُّز اللهب تحت الإناء، وأسهل طريق أمام النار، في رأي لامارك، يكون عبْر الوعاء ومنه إلى الماء. ومع امتصاص المزيد من النار، تُصبح جزيئات الماء محاطةً بأغلفة أكبر من أي وقت مضى من «مادة النار» الفائقة الخفة؛ فيصبح الماء أكثر دفئًا (وأقل كثافة). وفي النهاية، تؤدِّي الكثافة المنخفضة لهذه الجزيئات وطاقتها العالية، الناتجتان عن الضغط الهبوطي للهواء الجوي، إلى تبخُّرها في الهواء حاملةً معها «مادة النار». (فكِّروا في الأمر يا زملائي المعلمين — يا لها من طريقة مُثيرة لتصوير الحرارة الكامنة في جزيئات بخار الماء!)

وعليه، فقد كنا نتمنَّى لو استطعنا التحدثَ بأشياءَ جيدةٍ عن كيمياء لامارك. ومع ذلك، فقد كانت إسهاماته المُبكِّرة في علم الأحياء وعرْضُها في المتاحف العامة للناس ذات قيمةٍ بالغةٍ وتُكرِّم ذكراه بالفعل.

(١٢) عزيزي الفلوجستون «أنت تتحدث كالأبله!»

كان الثوريون المنتصرون الذين أطاحوا بالملَكية في أغسطس عام ١٧٩٢ مُقتنعين بأن فرنسا قد وُلدت من جديد. وفي الثامن من الشهر الثالث من الخريف من العام الثاني بعد اندلاع الثورة (وَفقًا لتقويم الجمهورية الفرنسية آنذاك)؛ أيْ في ٢٨ نوفمبر عام ١٧٩٣، صدر أمر اعتقال بحق أنطوان لوران لافوازييه ووالد زوجتِه جاك بولز في سجن بورت-ليبر؛101 فقد أصبح وضعُ لافوازييه محفوفًا بالمخاطر على نحو متزايد مع تزايد تطرُّف الثورة من حوله وإطباقها عليه، مجرِّدةً إياه من مناصبه، وزملائه، وقدرته على السفر، وبعد بضعة أيام من الاختباء في باريس، سلبته حريتَه نفسها، ليفقد حياته في وقت لاحق من ربيع عام ١٧٩٤.
fig125
شكل ٥-٢٨: صفحة العنوان من الطبعة الأولى (١٧٨٩) من رائعة لافوازييه «المبادئ الأساسية للكيمياء» ١٧٨٩، أول كتاب دراسي حديث عن الكيمياء.
بيد أن لافوازييه كان في عام ١٩٨٨ في أوج نفوذه وسلطته؛ فبصفتِه واحدًا من بين ٤٠ شريكًا ثريًّا في «المؤسسة العامة لجمع الضرائب»، كان مساهمًا في الشركة المسئولة عن جمع الضرائب على كل الواردات، والتي كان من بينها الملح الذي تقوم عليه حياة الناس. وقد مارست مؤسسة جمع الضرائب قدْرًا من التحكم أيضًا في تدفُّق هذا العائد إلى الخزانة الملَكية؛ ومن ثَمَّ كان لهذا تأثير كبير على سياسة فرنسا المالية، وأصبح لافوازييه نفسه، بوصفِه شريكًا في الشركة، عضوًا في مجلس إدارة مصرف «ديسكاونت بنك»؛ وهو «المصرف المركزي» الذي كان يُقرِض الخزانة الملكية، ويوفِّر الذهب والفضة من أجل سك العملات؛102 ونظرًا لكونه رجل اقتصاد من الطراز الأول، سرعان ما أصبح مديرَ المصرف. ويتحدث بيوريه، على نحو دقيق، عن هذا الوضع بقوله إنها «كانت شركة خاصة تتحكَّم في القروض الممنوحة للحكومة بواسطة مصرف خاص.»102
استغرق لافوازييه معظم عام ١٧٨٨ في تأليف رائعته «المبادئ الأساسية للكيمياء»، ونُشر في أوائل عام ١٧٨٩ (انظر الشكل ٥-٢٨).103،104 بدأ هذا المشروع كمحاولة لتقديم مقدمة سهلة الفَهم للكيمياء، وتطوَّر ليُحدِّث «طريقة التسميات الكيميائية»103،104 لعام ١٧٨٧، وأصبح أهم أطروحة في تاريخ الكيمياء؛ فقد اشتملَ على أول قائمة حديثة بالعناصر الكيميائية (البالغ عددها ٣٣ عنصرًا، بما في ذلك «العناصر التي لا يُمكن وزنها»؛ الضوء والسيال الحراري «الكالوريك»).103–105 اهتمَّ لافوازييه كثيرًا بالتعليم العام،106 وعلْم أصول التدريس، ويَنعكِس هذا في كتابه الدراسي. وفي ٢٢ سبتمبر من عام ١٧٩٣، التمس من المؤتمر الوطني تعليمَ شعبٍ بارعٍ تكنولوجيًّا، غير أنه في ظل مناخ «الثورة الثقافية» الذي ساد فرنسا آنذاك،107 أراد روبسبيار واليعقوبيون تعليمًا أكثر أيديولوجيَّةً. وتوقف هذا الجدل فجأةً مع بدء عهد الإرهاب في أكتوبر عام ١٧٩٣.106
كان عام ١٧٨٨ عامًا عامرًا بالانتصارات للافوازييه، حتى مع احتدام رياح الثورة. وكتبت السيدة لافوازييه إلى جان هنري هازينفراتز، مدير الترسانة العسكرية، تبحث عن اقتراحات للاحتفال بانتصار ثورتهم في مجال الكيمياء، فاقترح عليها رسمَ لوحة أسرة لافوازييه، وتقديمَ مسرحيةٍ رمزية يَهزم فيها الأكسجينُ الفلوجستونَ.108،109 أنهى جاك لوي ديفيد لوحة أسرة لافوازييه في عام ١٧٨٩، نظير ٧ آلاف جنيهيًا (٢٨٠ ألف دولار أمريكي حاليًّا)،109 وتوجد حاليًّا في متحف المتروبوليتان للفنون. ويوجد الدليل الملموس الوحيد على وجود مسرحية ساخرة قصيرة أو مسرحية ماسك في خطاب من د. فون إي*** نُشر في دورية كريل، «شيميش أنالين».108،109
مع ذلك ثَمَّةَ مسرحية أخرى قصيرة من نوعية مسرحيات الماسك تُصوَّر بإبداع داخل مسرحية بعنوان «أكسجين»، ألَّفها اثنان من علماء الكيمياء المعاصرِين، هما كارل جيراسي ورولد هوفمان.110 يوافق عام ٢٠٠١ الذكرى المائة لجائزة نوبل؛ ففي مدينة ستوكهولم الحديثة أُبلغت لجنة جائزة نوبل للكيمياء لعام ٢٠٠١، سرًّا، أنها سوف تختار أيضًا أولَ «جائزة نوبل بأثر رجعي». وتوصَّلت اللجنة على الفور إلى اتفاق بالإجماع على أن اكتشاف الأكسجين ودوره في الكيمياء والتنفُّس يستحق أول «جائزة نوبل بأثر رجعي». هل يجب أن تذهب إلى السويدي كارل فيلهلم شيله، الذي كان أول مَن عزل «الغاز الناري» (الأكسجين) في عام ١٧٧٧ (أو ١٧٧٢)، لكنه لم يَنشر عمله حتى عام ١٧٧٧؟ أم يجب أن تذهب إلى جوزيف بريستلي، الذي اكتشف منفردًا «الغاز المنزوع الفلوجستون» (الأكسجين) في عام ١٧٧٤ وبادر بنشرِ اكتشافه في العام نفسه؟ لقد اعتقد كلٌّ من شيله وبريستلي خطأً أن «الغاز» الذي اكتشفه كلٌّ منهما كان يسحب الفلوجستون من المواد المُحترِقة أو الصدئة. أو لعلها تذهب إلى أنطوان لوران لافوازييه، الذي شرح على نحو وافٍ، مستخدمًا توليفته الفكرية من المعلومات والمعارف، دورَ الأكسجين في الاحتراق والتكلُّس والتنفس؟ تبدأ أحداث مسرحية «أكسجين» فعليًّا في ستوكهولم في عام ١٧٧٧؛ حيث نَلتقي بماري آن بولز لافوازييه، وماري بريستلي، وسارة مارجريتا بول، مساعدة شيله ورفيقته، في ساونا؛ فقد استُدعي أزواجهن إلى السويد من أجل إجراء تجارب أمام الملك جوستاف الثالث، الذي سيصدر «حكم ستوكهولم». ربما يمكن لهذه المسرحية داخل مسرحية أن تساعد لجنة عام ٢٠٠١ في حل معضلتها (أو على الأقل مُعضلة رواد المسرحية). وفي الليلة السابقة على صدور الأمر الملكي بإجراء تجاربَ كيميائيةٍ، تعرِضُ عائلة لافوازييه مسرحيةً قصيرةً من نوعية الماسك أمام الملك جوستاف الثالث ورفاقه المُجتمِعين. يتزايد شعور أسرة بريستلي، وشيله، والسيدة بول بالانزعاج، وفي النهاية يُصبحون جميعًا مستائين مع نهايتها. وقد لعب أنطوان دور «الفلوجستون» المُنهزم، ولعبت ماري آن دور «الأكسجين» المُنتصِر في هذه المسرحية داخل مسرحية داخل مسرحية. وقبل نهاية مسرحيتهم القصيرة، نجد السيدة أكسجين تُخاطب السيد فلوجستون قائلة:111
سيدي العزيز، أنت تتحدث كالأبله!
أنت تعرف أنه لا وجود لشيء يُدعى الكتلة السالبة!
ثَمَّةَ ثورةٌ على وشْك البزوغ.
في الكيمياء، مع مولد الأكسجين
الفلوجستون هو فكرة من الماضي،
دُحضت واستُبعدت، وفي الواقع، تجاوزناها.
كانت السيدة لافوازييه بالتأكيد واحدةً من أروع الشخصيات في تاريخ الكيمياء؛112 فهي تلعب الدور المحوري في مسرحية «أكسجين»، وثمة رسالة مُقتضَبة غامضة ظلت مخبَّئةً لوقت طويل في حقيبة «الضروريات» التي تحملها112 تقدِّم حلًّا، على الأقل في المسرحية، للغز كيميائي يبلغ عمره نحو قرنين من الزمان. أما بالنسبة للفائز بأول «جائزة نوبل بأثر رجعي»، فالأمر متروك لتخمينك أيها القارئ العزيز، لكن عليك أولًا أن تقرأ المسرحية.
ساد استياءٌ واسعٌ تجاه لافوازييه، صاحَبَه إعجابٌ بهذا الشخص الموسوعي الرائع، خلال فترة ما قبل الثورة الفرنسية؛ فبوصفه عضوًا في أكاديمية العلوم، أثار بحثه، مع فرانكلين وآخرين، الذي رفض التنويمَ المغناطيسي بوصفه عِلمًا زائفًا، استياءَ جماهيرَ أرادت تصديقه.113 وتمثلت إحدى الشكاوى الأخرى القائمة منذ زمن في قيام مؤسسة جمع الضرائب ﺑ «رش التبغ بالماء» قبل توزيعه على الموزعين.114 ومع هذا، كان الأخطر من ذلك هو دور لافوازييه في جمع المؤسسة للضرائب. تخيل شركةً قابضةً قويةً تتكون من ٤٠ فردًا، هدفها جمعُ الضرائب بحماس من أجل الخزانة الملَكية، لكن ليس قبل حصولها على ربح ضخم. وكان ثَمَّةَ استهجان واسع النطاق من الضريبة على الملح — إذ كان الملح أساسيًّا لحفظ اللحم — بل إنه في الواقع يُعتبَر جوهر الحياة.115،116 كانت الضريبة على الملح إحدى مسئوليات لافوازييه الخاصة في مؤسسة جمع الضرائب. وكان مسئولًا أيضًا عن تحصيل الضريبة على الواردات إلى باريس؛ فقد أدرك لافوازييه ببراعته في المحاسَبة، التي طبَّقها في الكيمياء، في أواخر سبعينيات القرن الثامن عشر أن أربعة أخماس السلع اللازمة لتوفير احتياجات سكان باريس هي فقط التي كانت مُسجَّلة وتُفرض عليها الضريبة.117 أما الخُمس المتبقي، فكان يُهرَّب، مما يُسبِّب خسارة للخزانة الملَكية (وبالتبعية للمؤسسة). وأُقِر الحل الذي قدَّمه لهذه المشكلة، بإقامة جدار ذي بواباتٍ لتحصيل الرسوم حول باريس، في عام ١٧٨٧، وبُني بتكلفة ٣٠ مليون جنيه فرنسي (١٫٢ مليار دولار).117 مرةً أخرى، حاوِلْ أن تتخيل شركة خاصة يَمتلكها ٤٠ فردًا من أغنى الأفراد في الولايات المتحدة، تبني جدارًا حول مدينة نيويورك، وتبني بوابات لتحصيل الرسوم على حساب دافعي الضرائب لصالح هيئة الإيرادات الداخلية. وكان أحد الاتهامات التي وجِّهت إلى لافوازييه بعد عدة سنوات أن بناء هذا الجدار حول باريس حبَسَ هواء المدينة، مما أضرَّ بصحة سكانها.
غير أن الاضطراب بدا يُخيم على الأوضاع، وسرعان ما تعرَّض لافوازييه لنذير باقتراب نهايته؛ فبوصفِه مديرَ إدارة البارود، كان متحكمًا في شحنات البارود الواردة من ترسانة الأسلحة. ولم يمرَّ وقت طويل على اقتحام الباستيل في ١٤ يوليو عام ١٧٨٩، حتى لاحظ المواطنون وصول شحنات غامضة من البارود من الترسانة، واستَنتجوا قرب حدوث هجوم ملَكي مضاد.118 وأُلقي القبضُ على لافوازييه وظلَّ رهن الاعتقال لفترة وجيزة، واحتشد بعض أفراد الشعب على طول طريق ترحيله مطالبين بإعدامه دون محاكمة، غير أنه أوضح مبرِّر هذه الشحنات بالتفصيل، وأُعلنت براءته وأُطلق سراحه. وفي ٢٠ مارس ١٧٩١، ألغت الجمعيةُ الوطنيةُ مؤسسةَ جمعَ الضرائب.119 وفي أعقاب هذا، اتضح أن أعمال لافوازييه التجارية لا يشوبها شائبة. أُلغيت الأكاديميات العلمية في أغسطس عام ١٧٩٣،120 وأصبح الأكاديميون الذين لم يتخلَّوا تمامًا عن آرائهم «النخبوية» ولم ينضمُّوا بإخلاص إلى الشعب، آنذاك في خطر. لقد غيَّر «عهد الإرهاب» الثورة جذريًّا، وأُعدِم لافوازييه وبولز و٢٦ عضوًا آخر من أعضاء المؤسسة العامة لجمع الضرائب على المِقصَلة في غضون ٣٥ دقيقة في ٨ مايو عام ١٧٩٤.121

(١٣) قُدَّاس على روح الوزن الخفيف

على الرغم من أن نظرية الفلوجستون قد دُحرت في ثمانينيات القرن الثامن عشر، فإنه يجدر بنا تلخيصُ بعض من تعريفات الفلوجستون والحُجَج المؤيدة والمعارضة له،122 والتي سوف تقتصر بالكامل تقريبًا على التغطية الواردة في هذا الكتاب، ولا يُقصد بها معالجة شاملة للموضوع.
  • (١)

    ما أصول نظرية الفلوجستون؟ كان لدى الثقافات المختلفة مُعتقَداتٌ قديمةٌ عن الثنائيات (الذكر والأنثي، الين واليانج، الشمس والقمر، الكبريت والزئبق). وقد تغيَّر هذا على يدِ باراسيلوس وآخَرين إلى المواد الثلاث الأساسية للكيمياء وهي: الكبريت الفلسفي، والزئبق الفلسفي، والملح الفلسفي، التي تتكون منها المادة بنِسَب متفاوتة. ولاحظ بيشر (في القرن السابع عشر) وجود ثلاثة أنواع من «التراب»؛ أحدها «التراب الدهني» الذي يُقال إنه يوجد في المواد القابلة للاشتعال والمواد المعدنية، ويُشبه الكبريت الفلسفي. وعدَّل شتالُ نظريةَ بيشرَ (في أوائل القرن الثامن عشر) الذي صاغ مصطلح «فلوجستون» ليحلَّ محلَّ «التراب الدهني».

  • (٢)
    ما طبيعة الفلوجستون؟ يُعرَّف الفلوجستون بأنه «جوهر النار». وأحيانًا يُعرَّف رمز Φ بأنه النار المُنبعِثة من مادة مُحترِقة. وقد اعتُبر الوميض الفوسفوري لمادةٍ ما تعبيرًا بصريًّا عن الفلوجستون المُختزن بداخلها. ويزخر الفوسفور الأبيض بالفلوجستون؛ نظرًا لكونه يُصدِر وميضًا فوسفوريًّا، ويُمكنه أيضًا الاشتعال تلقائيًّا. وساد الاعتقاد بأن الفلوجستون هو مادة (سائلة عادةً) لا يمكن وزنُها (خفيفة للغاية أو حتى ليس لها كتلة)، ومع ذلك، لا يكون دومًا انبعاث الفلوجستون مصحوبًا بالنار؛ ومن ثَم ربما تكون مجرد واحد من مظاهر انبعاثه.
  • (٣)

    ما الظواهر الكيميائية التي فسَّرها الفلوجستون؟ كان الفلوجستون يُمثِّل إلى حدٍّ بالغٍ نظريةً موحدةً لاحتراق المادة ولتكوين الكِلسات (التي نطلق عليها عادةً الأكاسيد). وكان هذا واضحًا تمامًا. ومن المهم أن نُشير إلى أنه حتى منتصف القرن الثامن عشر، كانت الغازات الناتجة عن الاحتراق، مثل ثاني أكسيد الكربون، تُرى ببساطة على أنها «غازات» ولا يمكن جمعها.

    فحم (يحتوي على فلوجستون) + حرارة رماد + فلوجستون
    نحاس (يحتوي على فلوجستون) + حرارة كلس النحاس + فلوجستون
    فحم (يحتوي على فلوجستون) + كلس النحاس + حرارة رماد + نحاس (يحتوي على فلوجستون)

جمع كافنديش «الغاز القابل للاشتعال» المُستمَد من «إذابة» المعادن في أحماض مائية، وكان ما تبقَّى بعد تبخر المحلول هو الكلس، وكان «الغاز القابل للاشتعال» الذي جمعه لا يبلغ إلا ٧٪ من كثافة «الهواء الجوي». واتضح أنَّ الغاز الفائق الخفةِ والفائقَ الاشتعالِ المنبعثَ ﺑ «وضوح» من المعادن ربما يكون الفلوجستون ذاته.

نحاس (يحتوي على فلوجستون) + حمض الكبريتيك كلس النحاس + فلوجستون؟ (الغاز القابل للاشتعال).

يُمكن لأنواع «الغازات» الأخرى إزالة الفلوجستون من المعادن:

نحاس (يحتوي على فلوجستون) + حمض النيتريك كلس النحاس + «غاز نيتروزي» (يحتوي على فلوجستون)

إن ما أَطلقَ عليه لافوازييه حينئذٍ «أكسجينًا» أشار إليه بريستلي بمصطلح «الغاز المنزوع الفلوجستون»، ويُمثِّل خُمس الغلاف الجوي ويشبه الفلوجستون كثيرًا. يحمل كل من «الغاز النيتروزي» و«الغاز القابل للاشتعال» القَدْرَ نفسَه من الفلوجستون؛ نظرًا لأن مقدارًا واحدًا من أيهما سيَفقِد كامل محتواه من الفلوجستون ليُصبح نصف وحدة حجم من «الغاز المنزوع الفلوجستون». «يتضرَّر» الهواء الجوي الذي يمتصُّ الفلوجستون، وعندما يتشبَّع به بالكامل يُصبح «مميتًا» أو «سامًّا»، وما يتبقى يكون هواءً «سامًّا» أو «فلوجستونيًّا»، أو النيتروجين، الذي عُرف قديمًا باسم «أزوت» (بمعنى «بلا حياة»).

طعام يحتوي على فلوجستون؛ الأطعمة الدهنية على وجه الخصوص غنية ﺑ فلوجستون.
  • (٤)
    ماذا كانت عيوب الفلوجستون؟ كان أبرزها «زيادة» وزنه عند فقدان الفلوجستون:
    نحاس (يحتوي على Φ) + حرارة كلس النحاس + فلوجستون
    (٦٣٫٥ جرامًا) (٧٩٫٥ جرامًا)
لُوحظ هذا منذ القرن السادس عشر. وإذا كان قانون بقاء المادة صحيحًا، فإن الفلوجستون له كتلة سالبة (في هذه الحالة −١٦ جرامًا). وعندما جُمعت الغازات، بداية من منتصف القرن الثامن عشر، جاءت نتائج الاحتراق الكامل للفحم كالتالي:
فحم (يحتوي على Φ) + حرارة رماد + «هواء مُثبَّت» + Φ
(٦٠ جرامًا) (أقل كثيرًا من ١ جرام) (حوالي ٢٢٠ جرامًا)
كانت كُتلة الغاز الناتج كبيرةً إلى حدٍّ ما وغير متسقة مع فقدان الفلوجستون، إلا إذا كانت كتلته سالبة ( −١٦٠ جرامًا في الحالة المطروحة حاليًّا). كذلك كانت ثمة مشكلة لها أهمية كبرى تمثَّلت في تركيب الماء؛ فالماء بوجه عام كان ناتجًا غير ملحوظ (أو لا يُشار إليه) للاحتراق، وربما كان من المتوقع أن ينتج عن احتراق «الهواء القابل للاشتعال» (فلوجستون؟) عن طريق دمجه مع «الهواء المنزوع الفلوجستون» «فلوجستون منزوع الفلوجستون» (أيْ ببساطة لا شيء)، أو ربما مجرد «هواء» خالٍ من الفلوجستون — ربما نيتروجين؟ لكن بدلًا من ذلك، كان الناتج ماءً. وأمكن بالمثل فصلُ الماء كيميائيًّا لينتج عنه الهيدروجين (هواء قابل للاشتعال) وأكسجين (هواء منزوع الفلوجستون). وهكذا أصبح واضحًا حينذاك أن الفلوجستون المُستمَد من «إذابة» النحاس في حمض الكبريتيك يأتي من المحلول الحمضي (في شكل «هواء قابل للاشتعال» أو هيدروجين)، وليس من المعدِن نفسه. بالمثل، يأتي الفلوجستون المُستخرَج من «إذابة» النحاس في حمض النيتريك من المحلول الحمضي (في شكل «هواء نيتروزي» أو أحادي أكسيد النيتروجين NO)، وليس من المعدِن نفسه. كانت ثمة أسئلةٌ أساسيةٌ أخرى، منها «إلى أين يذهب الفلوجستون بمجرد فقدانه؟» ولماذا يقلُّ حجم «الهواء الجوي» بمقدار الخُمس عند اكتسابه للفلوجستون؟ وهل كان «الهواء المنزوع الفلوجستون» يفقد «مرونته» بسبب «تضرُّره»؟ وكانت ثمَّة مشكلات كمية أخرى لا حصر لها أقل وضوحًا. وهذه إحداها — إذا «أُذيب» ٦٣٫٥ جرامًا من النحاس في حمض الكبريتيك، يَنبعِث كامل محتواه من الفلوجستون في صورة وحدة حجم واحدة من «الهواء القابل للاشتعال»، مع تحوُّل المعدن بأكمله إلى كِلسه. أما إذا «أُذيب» ٦٣٫٥ جرامًا من النحاس في حمض النيتريك، فإن كامل مُحتواه من الفلوجستون ينبعث في صورة ثلثَي وحدة حجم من «الهواء النيتروزي» مع تحوُّل كامل للمعدن إلى كِلسه. في الحالة الأولى سيُنزع الفلوجستون كله من وحدة الحجم الواحدة من «الهواء القابل للاشتعال» باستخدام نصف وحدة حجم مِن «الهواء المنزوع الفلوجستون». أما في الحالة الثانية، فسوف يُنزَع الفلوجستون كله من ثلثَي وحدة الحجم من «الهواء النيتروزي» باستخدام ثلث وحدة حجم من «الهواء المنزوع الفلوجستون» نفسه. ببساطة لا تبدو هذه الأرقام منطقيةً.
  • (٥)
    الاندماج، يُعدُّ الاحتراق وتكوُّن الكِلس مثالين لتوليفات كيميائية مع الأكسجين في الهواء. ولهذا السبب تكون الكِلسات أثقلَ وزنًا من معادنها، ومن ثمَّ تكون نواتج الاحتراق أثقلَ وزنًا من المواد القابلة للاشتعال (عند عدم وضع الأكسجين في الاعتبار). ثمة طريقةٌ مفيدةٌ تتمثَّل في اللجوء إلى اقتراح رولد هوفمان المُتمثِّل في اعتبار الفلوجستون «سلبيَّ الأكسجين».123 وهكذا يُفقد الأكسجين من الغلاف الجوي عند الاحتراق بدلًا من اكتساب الغلاف الجوي للفلوجستون. أما المعادن فتكتسب الأكسجين، بدلًا من فقدانها للفلوجستون، عند تكوينها للكِلسات؛ فتتأكسَد المواد بالأكسجين، الذي يُعتبر بالطبع عاملَ أكسدة. وعليه تُضاهي عملية اكتساب الفلوجستون الاختزال؛ ومن ثَم يُعتبر الفلوجستون عاملَ اختزال. جرِّب الأمرَ؛ إنه ممتع.

هوامش

(1) The Haskett F. Norman Library of Science and Medicine, Part II, Christie’s, New York, 1998, pp. 124-125.
(2) The New Encyclopedia Britannica, Encyclopedia Britannica, Inc., Chicago, 1986, pp. 79–81.
(3) J. Read, Prelude to Chemistry, The Macmillan Co., New York, 1937, pp. 88-89.
(4) J. Eklund, The Incompleat Chymist—Being An Essay on the Eighteenth-Century Chemist in His Laboratory, with a Dictionary of Obsolete Chemical Terms of the Period, Smithsonian Institution Press, Washington, DC, 1975.
(5) Read, op. cit., p. 128.
(6) Read, op. cit., pp. 15, 195.
(7) Read, op. cit., pp. 76-77.
(8) J. R. Partington, A History of Chemistry, Macmillan & Co., Ltd., Vol. 3, 1962, pp. 73–76.
(9) J. R. Partington, A History of Chemistry, Macmillan and Co., Ltd., London, Vol. 3, 1962, pp. 49–55.
(10) A. Greenberg, A Chemical History Tour, John Wiley & Sons, New York, 2000, pp. 118–121.
(11) C. E. Gellert, Metallurgic Chymistry. Being a system of Mineralogy in General, and of all the arts arising from the science. To the great improvement of manufacturers, and the most capital branches of Trade and Commerce. Theoretical and Practical. In two parts, Translated from the original German of C. E. Gellert. By I. S. London and T. Becker, 1776. (This is the English translation of the original German edition (1751–1755.) The author is grateful to Ms. Elizabeth Swan, Chemical Heritage Foundation, for supplying this image.
(12) J. Eklund, The lncompleat Chymist—Being an Essay on the Eighteenth-Century Chemist in His Laboratory, with a Dictionary of Obsolete Chemical Terms of the Period, Smithsonian Institution Press, Washington, DC, 1975.
(13) J. R. Partington, A History of Chemistry, Macmillan and Co., Ltd., London, 1962, Vol. 3, pp. 205–234.
(14) C. C. Gillispie, Dictionary of Scientific Biography, Charles Scribners Sons, New York, Vol. XII, 1975, pp. 143–150.
(15) A. Greenberg, A Chemical History Tour, John Wiley and Sons, New York, 2000, pp. 153–156.
(16) C. W. Scheele, Chemical Observations and Experiments on Air and Fire, London, printed for J. Johnson, 1780.
(17) C. W. Scheele, Chemische Abhandlung von der Luft und Feuer, nebst einer Vorbericht von Torbern Bergman, verlegt von Magnus Swederus, Uppsala und Leipzig, 1777. This is one of the rarest, most desired books in the field of rare chemistry book collecting. I am grateful to The Roy G. Neville Historical Chemical Library (California) for providing this image.
(18) Greenberg, op. cit., pp. 135–137.
(19) C. Djerassi and R. Hoffmann, Oxygen, VCH-Wiley, Weinheim, 2001.
(20) J.-P. Poirier, Lavoisier—Chemist, Biologist, Economist, R. Balinski (transl.), University of Pennsylvanie Press, Philadelphia, 1996, pp. 76–83.
(21) J. R. Partington, A History of Chemistry, Vol. 3, Macmillan & Co., Ltd., London, 1962, pp. 112–127.
(22) A. Greenberg, A Chemical History Tour, John Wiley & Sons, New York, 2000, pp. 122–130.
(23) Partington, op. cit., pp. 302–319.
(24) Partington, op. cit., pp. 237–268.
(25) Partington, op. cit., pp. 205–229.
(26) This is an early nineteenth-century engraving depicting Priestley’s pneumatic apparatus. The collection of carbon dioxide from the gun barrel over a dish of mercury is to be found in J. Priestley, Experiments and Observations on Different Kinds of Air, and Other Branches of Natural Philosophy, Vol. III, Thomas Pearson, Birmingham, 1790, Plate II, as well as earlier editions.
(27) R. Hoffmann and V. Torrence, Chemistry Imagined—Reflections on Science, Smithsonian Institution Press, Washington, DC, 1993, pp. 82–85.
(28) Greenberg, op. cit., pp. 163–165.
(29) J. Priestley, Experiments and Observations on Different Kinds of Air, and Other Branches of Natural Philosophy, Thomas Pearson, Birmingham, 1790, Vol. 1, pp. 20–30; Vol. 3, Plate IV.
(30) J. R. Partington, A History of Chemistry, Vol. 3, Macmillan and Co., Ltd., London, 1962, pp. 252–263; pp. 321–328.
(31) A. Greenberg, A Chemical History Tour, John Wiley & Sons, New York, 2000, pp. 137–139.
(32) [F. Accum] (i.e., “A Practical Chemist”), Explanatory Dictionary of the Apparatus and Instruments Employed in the Various Operations of Philosophical and Experimental Chemistry with Seventeen Quarto Copper-Plates, Thomas Boys, London, 1824, pp. 100–110, which describes 10 eudiometers (Priestley, Pepy, Scheele, De Marti, Humbolt, Hope, Seguin, Bertholet, Davy, Volta).
(33) Accum, op. cit., Plate 2, figure 1-16.
(34) P. Morrison and P. Morrison, The Ring of Truth—an Inquiry into How We Know What We Know, Random House, New York, 1987, pp. 191–193.
(35) Godfrey (Ambrose and John), A Curious Research into the Element Water; Containing Many Noble and Useful Experiments on that Fluid Body, T. Gardener, London, 1747.
(36) J. R. Partington, A History of Chemistry, Vol. 3, Macmillan & Co., Ltd., London, 1962, pp. 379–381.
(37) P. Ball, Life’s Matrix: A Biography of Water, Farrar, Straus and Giroux, New York, 2000, pp. 141–147.
(38) A very high level of quantum chemical calculations seemingly clarifies some, but not all, of the mystery of hydrogen’s very slow reaction with oxygen (see M. Filatov, W. Reckien, S. D. Peyerimhoff, and S. Shaik, Journal of Physical Chemistry A, Vol. 104, p. 12014 (2000). I thank Professor Joel F. Liebman for making me aware of this article.
(39) Partington, op. cit., pp. 325–338.
(40) Partington, op. cit., pp. 344–362.
(41) W. H. Brock, The Norton History of Chemistry, W. W. Norton & Co., New York, 1993, pp. 109–111.
(42) J.-P. Poirier, Lavoisier—Chemist, Biologist, Economist (transl. R. Balinski), University of Pennsylvania Press, Philadelphia, 1993, pp. 13–16.
(43) Partington, op. cit., pp. 402–410; 436–453.
(44) J.-P. Poirier, op. cit., pp. 76–83.
(45) A. Lavoisier, Elements of Chemistry in a New Systematic Order, Containing All the Modern Discoveries, second edition (transl. R. Kerr), London, 1793, pp. 135–149. See Plates VII and IV, respectively, for the apparatus for decomposition and synthesis of water.
(46) Partington, op. cit., p. 457.
(47) J. R. Partington, A History of Chemistry, Vol. 3, Macmillan & Co., Ltd., London, 1962, pp. 237–256.
(48) M. Barbeu Dubourg (transl.), Oevres de M. Franklin, Chez Quillau, Paris, 1773. I am grateful to Professor Jochen Heisenberg for providing for review the copy belonging to his father, Dr. Werner Heisenberg. The poem under the frontispiece portrait of Franklin was translated by my colleague Professor Jean Benoit as follows:
He has conquered Heaven’s fire
He has helped the arts to blossom in wild climates
America places him at the head of the sages
Greece would have placed him amongst their gods.
It is abundantly clear that the French lionized Franklin. The “wild climates” referred to is a French Enlightenment view of the cultural milieu (or lack thereof) in the New World.
(49) I am grateful to a relative of Benjamin Franklin for supplying a photograph of the oil-on-can-vas portrait of Franklin by Mme. Lavoisier that is in his possession.
(50) The New Encyclopedia Britannica, Encyclopedia Britannica, Inc. Chicago, 1986, Vol. 4, p. 148.
(51) D. I. Duveen and H. S. Klickstein, Annals of Science, Vol. 11, No. 2, pp. 103–128 (1955).
(52) I am grateful to Professor Dudley Herschbach for making me aware of this letter and its importance.
(53) Partington, op. cit., pp. 377-378.
(54) D. Herschbach, Environmental Encyclopedia. I thank Professor Herschbach for making me aware of this aspect of Franklin’s work.
(55) D. I. Duveen and H. S. Klickstein, Annals of Science, Vol. 11, No. 4, pp. 271–308 (1955); Vol. 13, No. 1, pp. 30–46 (1957).
(56) [A. Lavoisier et al.], Instruction sur l’Establissement des Nitrières, et sur la Fabrication de Salpêtre, Cuchet, Paris (1794) (original edition 1779).
(57) Charles’ law for ideal gases—the volume of a gas is directly proportional to its absolute temperature.
(58) D. Herschbach, Harvard Magazine, Cambridge, UK, Nov.-Dec. 1995, pp. 36–46.
(59) C. Cobb and H. Goldwhite, Creations of Fire, Plenum Press, New York, 1995, p. 8.
(60) J. R. Partington, A History of Chemistry, Vol. 2, Macmillan & Co., Ltd., London, 1961, p. 19.
(61) College Edition—Webster’s New World Dictionary of the American Language, The World Publishing Company, Cleveland and New York, 1964, p. 1219.
(62) Webster’s New Twentieth Century Dictionary of the English Language Unabridged, second edition, The World Publishing Company, Cleveland and New York, 1956, p. 1514. This is also the primary definition in the Oxford English Dictionary.
(63) J. Read, From Alchemy to Chemistry, Dover Publications, Inc., New York, 1995, p. 33.
(64) T. L. Brown, H. E. LeMay, Jr., and B. E. Bursten, Chemistry—the Central Science, Prentice Hall, Upper Saddle River, NJ, 1997, pp. G-11, G-13. Pauling notes a failed attempt by Professor E. C. Franklin of Stanford University to remove this confusion by coining the words “de-electronation” (for oxidation) and “electronation” (for reduction) [see L. Pauling, General Chemistry, privately printed (Edwards Brothers, Inc. Lithographers—Ann Arbor), Pasadena, 1944, p. 65].
(65) Popeye’s neologisms and puns (“vitalicky”; “I know what rough is, but what’s roughined?”) have outlasted those of Professor Franklin (see note 64 above).
(66) J. R. Partington, A History of Chemistry, Macmillan and Co., Ltd., London, 1961, 1961, Vol. 2, pp. 577–614.
(67) Partington, op. cit., 1962, Vol. 3, pp. 205–234; 237–297.
(68) Partington 1962, op. cit., pp. 130–143.
(69) Partington 1962, op. cit., pp. 471–479.
(70) J.-P. Poirier, Lavoisier—Chemist, Biologist, Economist (transl. R. Balinski), University of Pennsylvania Press, Philadelphia, 1996, pp. 300–309.
(71) Partington 1962, op. cit., pp. 426–434.
(72) Poirier, op. cit., pp. 135–140.
(73) A. Greenberg, A Chemical History Tour, John Wiley and Sons, 2000, pp. 150–152.
(74) Modern calorimetric data indicate that combustion of carbon (graphite) sufficient to produce exactly 1 ounce of carbon dioxide would melt 26.86 ounces of ice. If sufficient glucose (C6H12O6) were burned to collect the same 1 ounce of CO2, one might naively have expected in 1783 that 26.86 ounces of ice would be melted. However, we know that formation of 0.41 ounces of H2O would accompany the 1 ounce of CO2 formed in glucose combustion. The extra heat from formation of water added to the heat from formation of carbon dioxide would melt 31.89 ounces of ice.
(75) Poirier, op. cit., pp. 140–144.
(76) Partington 1962, op. cit., pp. 325–338.
(77) Partington 1962, op. cit., pp. 471–479.
(78) I am grateful to Professor Marco Beretta for supplying these images.
(79) L. R. Gottschalk, Jean Paul Marat—a Study in Radicalism, Benjamin Blom, New York, 1927.
(80) C. D. Conner, Jean Paul Marat—Scientist and Revolutionary, Humanity Books, Amherst, 1998.
(81) The New Encyclopedia Britannica, Encyclopedia Britannica, Inc., Chicago, 1986, Vol. 7, pp. 813-814.
(82) J. -P. Poirier, Lavoisier—Chemist, Biologist, Economist, University of Pennsylvania Press, Philadelphia, 1993, pp. 110–112.
(83) Gottschalk, op. cit., pp. 4-5. See also Conner’s spirited defense of Marat’s medical training—Conner, op. cit., pp. 33-34.
(84) Poirier, op. cit., p. 428.
(85) [J. P.] Marat, Recherches Physiques sur le Feu, chez C. Ant. Jombert, Paris, 1780.
(86) Marat, op. cit., pp. 17–21.
(87) Gottschalk, op. cit., pp. 1–31.
(88) The New Encyclopedia Britannica, op. cit., Vol. 19, pp. 483–502.
(89) Poirier, op. cit., pp. 328–333.
(90) Poirier, op. cit., p. 159.
(91) Poirier, op. cit., p. 196.
(92) Poirier, op. cit., p. 329.
(93) Poirier, op. cit., p. 1.
(94) Poirier, op. cit., p. 330.
(95) P. Weiss, The Persecution and Assassination of Jean-Paul Marat as Performed by the Inmates of the Asylum of Charenton Under the Direction of the Marquis De Sade, English version By Geoffrey Skelton, Atheneum, New York, 1965.
(96) Weiss, op. cit., pp. 41-42. Copyright Suhrkamp Verlag Frankfurt am Main 1964. Permission to reprint English version (ISBN 0-7145-0361-4) courtesy Marian Boyars Publishers, London (UK) 1965.
(97) C. C. Gillispie (Editor-in-Chief), Dictionary of Scientific Biography, Vol. VII, Charles Scribner’s Sons, New York, 1973, pp. 584–593. His full name, for the record, was Jean Baptiste Pierre Antoine de Moncet de Lamarck.
(98) D. S. Neff and R. M. Cohen, The Sports Encyclopedia: Baseball, St. Martin’s Press, New York, 1989.
(99) P. Dickson, Baseball’s Greatest Quotations, HarperCollins Publishers, New York, 1991, p. 427.
(100) J. B. Lamarck, Recherches sur les Causes des Principaux Faits Physiques, Tome Premier, Chez Maradan, 1794, pp. 198–204.
(101) J.-P. Poirier, Lavoisier—Chemist, Biologist, Economist (R. Balinski, transl.), University of Pennsylvania Press, Philadelphia, 1993, pp. 346–369.
(102) Poirier, op. cit., pp. 220-221.
(103) Poirier, op. cit., pp. 192–197.
(104) J. R. Partington, A History of Chemistry, Macmillan & Co., Ltd., London, Vol. 3, 1962, pp. 484–487.
(105) A. Greenberg, A Chemical History Tour, John Wiley & Sons, New York, 2000, pp. 143–146.
(106) Poirier, op. cit., pp. 336–345.
(107) Poirier, op. cit., pp. 328–335.
(108) The author is grateful to Dr. Jean-Pierre Poirier for supplying a copy of Hassenfratz’s letter.
(109) Poirier, op. cit., pp. 1–3.
(110) C. Djerassi and R. Hoffmann, Oxygen, Wiley-VCH, Weinheim, 2001. I am grateful for permission from Professor Djerassi and Professor Hoffmann to use this section from their play and for their helpful comments.
(111) Djerassi, op. cit., pp. 42–45.
(112) R. Hoffmann, American Scientist, Vol. 90, No. 1 (Jan-Feb. 2002), pp. 22–24.
(113) Poirier, op. cit., pp. 154–159.
(114) Poirier, op. cit., pp. 23–28, 115-116, 166–170.
(115) Poirier, op. cit., p. 120.
(116) P. Laszlo, Salt: Grain of Life, Columbia University Press, New York, 2001.
(117) Poirier, op. cit., pp. 170–173.
(118) Poirier, op. cit., pp. 241–245.
(119) Poirier, op. cit., pp. 272-273.
(120) Poirier, op. cit., pp. 333–335.
(121) Poirier, op. cit., pp. 381-382.
(122) My father, Murray Greenberg, suggested this essay.
(123) R. Hoffmann and V. Torrence, Chemistry Imagined—Refactions on Science, Smithsonian Institution Press, Washington, DC, 1993, pp. 82–85.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤