الفصل الرابع عشر

المعرفة والرمزية

الآثار الرمزية الأولى

في وقتٍ مُتأخِّر من بعد ظهر أحد أيام الآحاد عام ١٩٩٤، قبل عيد ميلاد المسيح بأسبوع، وصل ثلاثة أصدقاء إلى نهاية رحلة استكشافية للكهوف، من رحلات وقت الأصيل، في آرديش بجنوب فرنسا. وفي تجويفٍ صغير بالصخر، موقع شهير لمُستكشِفي الكهوف والجوَّالة، عثروا بالصُّدفة على فتحةٍ كانت تقود إلى ممرٍّ يتَّسع إلى مكان فسيح وخالٍ. لعلهم كانوا بحاجة إلى معدات إضافية للمُواصَلة، الأمر الذي قد يعني التوقُّف والعودة إلى سيارتهم، إلا أن الليل كان قد خيم بالفعل وكانوا مُتعبين. وبمجرَّد أن عادُوا إلى السيارة، كادُوا أن يُقرِّروا عدم العودة مرةً أخرى؛ ولكنهم حين فعلوا، اكتشفوا مجموعةً من الممرات تربط بين تجاويف شاسعة؛ الموقع بأسره كان يمتدُّ على مساحة عدة مئات من الأمتار. اكتشفت واحدة من الثلاثة، وهي إليت برونيل، رسمةً صغيرة لحيوان ماموث بلون مغرة حمراء على قطعة حجرٍ مُتدلِّية. انتبهوا إثر هذا الاكتِشاف، وفتَّشوا الجدران واكتشَفُوا مئات الرسومات والمنحوتات الصخرية، التي كان بعضُها ذا حيوية وتعقيدات استثنائية. وعلى الرغم من أنهم لم يُدركُوا ذلك حينها، فإن أقدم هذه الرسومات يعود تاريخه إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، مما يجعل عمرها ضعف عمر رسومات الكهف الشهيرة في كهف لاسكو. وفي ليلةٍ واحدة، وسَّعوا فَهمنا لأصل الثقافة الإنسانية عائدين بالزمن إلى آلافٍ عدة من السنين.

نال كهف شوفيه (الذي سُمِّي على اسم قائد البعثة الاستكشافية، جان-ماري شوفيه) شهرة عالَمية في الوقت الحالي وأصبح نقطةً مرجعية أساسية للراغبين في فَهم تطوُّر البشرية.1 بيد أن الأمر المُدهش حقًّا بشأن رسومات كهف شوفيه ليس أنه يُفترَض أن الأعمال الفنية اللافتة للنظر قد ابتُدِعَت قبل وقتٍ طويل؛ وإنما أنَّنا لم نَعثُر على المزيد منها. من الواضح أن أولئك الذين ابتكروا هذه الرسومات والمنحوتات كانوا كائناتٍ ذات خيالٍ ومهارة؛ إذ كان لديهم قدرة على التمثيل الرمزي وفضول تجاه عالَمهم، ولا يُوجَد دليل قاطع على تحلِّي أيٍّ من الشعوب الأوروبية المُبكِّرة بمثل هذه القدرات. عُثر على أدلَّة على تصنيع أدوات في مواقع أثرية قبل أكثر من مليون عام؛ ولكن إذا كانت الأدوات الحجرية مفيدة، فإنها كانت بعيدة كل البُعد عن عنصر الإبداع. وخلال مُعظَم تلك الفترة الممتدة على مدى مليون عام، أظهرت الأدوات الحجرية افتقارًا شديدًا للتنوُّع، أو القدرة على التكيُّف مع المواد المحلية، أو التطور عبر الزمن.2 واصل البشر الأوائل التشظية والتكسير بنفس الطريقة التي اتبعها أسلافهم بالضبط، بدون تعلُّم عدا اكتساب نفس المهارة القديمة، وبدون تراكم لمعارف أو خبراتٍ جماعية. ولم يُبدِ البشر أي علامات على التجريب التدريجي مع الثقافة — مع الصور أو الرسومات أو مظاهر الزينة الشخصية — أو أي دليل على فضولٍ فطري أو ميتافيزيقي. وعندما ظهرت هذه الاهتمامات، يبدو أنها ظهرت على نحوٍ مُفاجِئ للغاية.
في الواقع، التفسير المُرجَّح لظهورها المفاجئ في أوروبا ليس أنها تطوَّرت فجأة. عوضًا عن ذلك، يكاد يكون من المؤكَّد أنها تطورت في مكانٍ آخر؛ ألا وهو أفريقيا؛ فمثل الكثير من المبدعين داخل أي مجتمع، كان الفنانون البارعون في كهف شوفيه على الأرجح مُهاجرين جددًا، على الأقل قياسًا بزمن التطوُّر.3 قبل أكثر من أربعين ألف سنة مضت، نحتَ الأشخاص الذين عاشُوا في كهف إنكابون يا موتو، أو «كهف الشفق»، بالوادي المُتصدِّع الكبير في شرق أفريقيا، قشرَ بيض النعام وحوَّلُوه إلى خرَزٍ رقيق، ربما يكونون قد استخدموه في المقايضة مع الآخرين رمزًا للمعاملة التبادُلية بنفس الطريقة التي يتعامل بها رجال قبيلة كونج سان في صحراء كالاهاري في بوتسوانا في يومِنا هذا.4 يعود عمر الأحجار المنحوتة عليها أشكال، المكتشَفة في كهف يُدعى بلومبوس بجنوب أفريقيا، إلى وقتٍ أبكر من ذلك؛ إلى سبعين ألف عامٍ مضَت أو أكثر، مما دفع بعض علماء الآثار إلى ادِّعاء أن القدرة على التصرف بسلوكٍ ثقافي حديث ربما تكون قد تطورت تدريجيًّا على مدى عشرات، وربما بضع مئات، الآلاف من السنين. ربما يكون الانقطاع المفاجئ في السجل الأثري راجعًا أكثر إلى مُصادَفات الحفظ والاكتشاف، وليس إلى أيِّ فجائيةٍ في التطوُّر الذي تُسجِّله.

هذا التفسير للأدلة مثار جدلٍ كبير، وبخاصةٍ لأنه لا يستطيع أحد أن يفعل أكثر من التخمين بشأن ما إذا كان يُحتمل أن هذا التطور الهائل في القدرات السلوكية البشرية كان نتيجةَ تعديل بسيط نسبيًّا في البنية التشريحية الدقيقة للمخ البشري. لا تترك الأمخاخ حفريات؛ ولكن الجماجم فقط تفعل ذلك، ولم تختلف جماجم أوائل البشر المُعاصرين ثقافيًّا عن جماجم أسلافهم المباشِرين مُنعدمي الثقافة. ثمة جدال كثير أيضًا بين المتخصِّصين بشأن كيفية الوصف الدقيق للقدرات العقلية التي كانت لازمة للبشر لتطوير الثقافة بهذه الطريقة. على سبيل المثال، تذهب سوزان بلاكمور في كتابها «ماكينة الميم» إلى أنَّ كلَّ ما كان مطلوبًا كان القدرة على تقليد الآخرين، وهي قدرة تجعلنا مُختلفِين جدًّا عن الحيوانات الأخرى، وما إن تُكْتَسَب، تُطْلِق طوفانًا متواصلًا من التقليد قاد أفكارنا وتنظيماتنا إلى الاستقلال بنفسها. يذكر مايكل توماسيلو في كتابه «الأصول الثقافية للإدراك البشري» أنَّ القدرة على التقليد للدرجة التي نفعلها تتطلَّب في حدِّ ذاتها مهاراتٍ «أخرى»، وبخاصةٍ القدرة على تصور أنفسنا من وجهة نظر الآخرين.

إلا أنه لا يُوجَد خلاف على مدى ثورية هذا التطور؛ إذ مهَّد الطريق لمُستقبل الثقافة البشرية بأكمله. ولكي تفهم السبب، تخيَّل الأمرَ باعتباره دمْج عنصرين موجودين سلفًا في السلوك البشري؛ التمثيل الرمزي وابتكار آثار مادية.5 وكل عنصر من هذين العنصرين كان في حدِّ ذاته مُدهشًا بما فيه الكفاية، إلا أنهما تمتَّعا بقدرةٍ مذهلة عند دمجهما. التمثيل الرمزي يعني استخدام رموزٍ للتواصُل، رموز من المُحتمَل أن تكون مرجعيتها عشوائية للعالم الخارجي؛ لكن معناها مُعتمِد على العُرف الاجتماعي ومدعوم به. يمكن للرموز التي يستخدمها الإنسان العاقل أن تستند، وكانت مُستندةً فعلًا، إلى تمثيلٍ تصويري؛ إلا أن قدرتها على إعادة الاندماج بطرُقٍ جديدة وغير مُتوقَّعة منحتها سلاسةً وقدرة على التعبير تفوق بكثيرٍ أيَّ محاوَلة تقليد ميكانيكية للطبيعة؛ تُصور إحدى الرسومات في كهف شوفيه كائنًا برأس وجذع ثور بيسون وأقدام بشرية. غيَّر التفكير الرمزي تغييرًا جذريًّا من قدرة البشر على توصيل معلومات خاصة بعالَمهم، مُتيحًا لهم تمثيل أحداث الماضي والمستقبل وكذلك أحداث الحاضر، وأحداث مُتخيلة وكذلك واقعية، وأفكار عامة وكذلك حالات عنيفة، وآمال ومخاوف وأحلام وكذلك صرخات وحاجات ملحة.
من شِبه المؤكَّد أن الرمزية بهذا المفهوم تسبق ظهور الإنسان العاقل بمدةٍ طويلة؛ فاللغة، على أيِّ حال، تستخدِم أصواتًا عشوائية للإشارة إلى الأشياء،6 وتُشير الأدلة التشريحية إلى أنَّ أسلافنا المُحتمَلِين (مثل «الإنسان العامل (هومو إرجاستر)») وأبناء عمومتهم (مثل «الإنسان البدائي (نياندرتال)») حتمًا كانوا يتحدَّثون لغاتٍ خدمت أغراضًا اجتماعيةً مُعقدة.7 كان من شأن هذه اللغات أن تشتمل على منظوماتٍ عشوائية من الإشارات؛ فعندما أخبر رجل نياندرتال امرأته بأنه رأى حيواني ماموث، لا بدَّ أنه لم يُصدِر أصواتًا أشارت إلى المُثنَّى أو شبيهة بالماموث. لكن رمزية الرجل البدائي اختفت في الهواء بمجرد أن تلفَّظها؛ ولم تترك أية آثار مادية ولم تترك للأجيال اللاحقة سوى الذكرى شديدة التغيُّر التي يصعُب الاعتماد عليها. ما جعل الرمزية ثوريةً هو تجسيدها في قِطَعٍ أثريةٍ مادية، أغراض مُصنَّعة بإمكانها أن تصمد أكثر من السلوك الذي ابتكرها بل وتدوم أطول حتى من عُمر مُبتكرها. بالطبع، لم تكن هذه الأغراض مُستحدثة. فالأدوات الحجرية هي قِطَع أثرية؛ شديدة التعقيد، لدرجة أنها تتطلَّب اليوم تدريبًا طويلًا ودرجة عالية من المهارة لإعادة إنتاجها. بيد أن الأدوات الحجرية الخاصة بالإنسان في فترة ما قبل العصر الحديث لم تكن ذات مضمونٍ رمزي على الإطلاق. ما جعل الثورة الإدراكية التي نراها في كهف الشفق وكهف شوفيه مدهشة جدًّا هو أنها جمعت بين هاتين السِّمتَين. لأول مرة في قصة الإنسانية، ظهرت قِطَع أثرية مثَّلت أيضًا رموزًا. ولأول مرة، كان بمقدور الإنسان أن يترك لأحفاده أغراضًا ذات معنى، معنًى من شأنه أن يجعل أفكاره تعيش من بعده.
إنَّ القُدرة على التعلُّم ممن سبقونا هي ما تتمحور حوله قصة الإنسانية. أحيانًا يستخدم علماء الأنثروبولوجيا مصطلح «الثقافة» قاصدين أي نوع من السلوك الذي يُتَعَلَّم والذي يختلف من مجتمع لآخر بلا سبب غير الصدفة التاريخية. بهذا المعنى، تمتلك بعض الحيوانات الشبيهة بالبشر ثقافةً أيضًا؛ فعلى سبيل المثال، تَعَرَّف علماء الحيوان الذين يشتغلون على قرود الشمبانزي على بعض أنواع سلوك البحث عن الطعام الذي يختلف بين الجماعات بهذه الطريقة بالضبط.8 ومع ذلك، فالثقافة، بمعنى كونها مُستودعًا جماعيًّا للأفكار التي يمكن استغلالها لمواجهة تحدياتٍ مختلفة في حياتنا، دون الاضطرار إلى تعلُّمها واستيعابها بصورة مُسبقة، تُعَد ظاهرة بشرية فريدة. كانت إحدى السِّمات التي ميَّزت الإنسان المعاصر من الناحية التشريحية عن أسلافه هو مدة حياة أطول كثيرًا، ويبدو مُرجحًا أن انقطاع الطمث لدى النساء تطوَّر في الوقت نفسه تقريبًا.9 زاد كلا التطوُّرَين من احتمالية التقاء الأحفاد بأجدادهم وغيرهم من كبار السن الآخرين الذين لم ينشغلوا مباشرة بتنشئة أطفال مولودين لهم. بهذه الطريقة، بإمكان ذاكرة هؤلاء الكبار أن تقوم مقام مُستودَع للمعرفة لمساعدة القبيلة على مواجهة تحدياتٍ بيئة غير مُتوقَّعة. ولكن هذه الموسوعة الشفهية، في حدِّ ذاتها، كانت قصيرة الأجل وزائلة. تطلَّب الأمر أغراضًا رمزية لوضع الثقافة على أساسٍ أكثر استدامة.

تُوفِّر الأغراض الرمزية عدة مزايا كُبرى أكثر من الثقافة الشفهية المحضة. فهي عادةً ما تكون أكثر صمودًا من الأنسجة الدماغية. ويُمكن مشاركتها؛ فربما ينظُر كثيرون إلى صورةٍ أو يقرءون إهداءً (تحمل هذه بعض سمات ما يُطلِق عليه علماء الاقتصاد «السلع العامة»). ونتيجة لذلك، لدى أيِّ فرد القدرة على الوصول إلى مكتبة أفكار أكبر بكثير مما يمكنه تخزينه في دماغه. وفي النهاية، حقيقة أن الرموز يمكن إعادة دمجها بطرُق جديدة وغير متوقعة تُتيح لمُستخدميها التجريب والاختراع وتسجيل اختراعاتهم للمُستخدِمين المُستقبليين. وهذا «التدفق الإدراكي»، كما أطلق عليه عالم الآثار ستيفن ميثين، ربما كان مسئولًا عن اختراع الزراعة، من خلال تمكين البشر من استحداث علاقةٍ جديدة مع الحيوانات والنباتات التي سبق لهم الخروج لاصطيادها. على أيِّ حال، من المدهش أنه بعد بضعة ملايين من السنين من التطوُّر البشري، لا بدَّ أن الزراعة اختُرعَت على نحوٍ مُستقِل في سبعة أماكن مختلفة من العالَم على الأقل بعد مضي بضعة آلاف من السنين على ابتكار أول غرضٍ رمزي. على الرغم من وجود حُجَجٍ مقنعة بأن عوامل أخرى، مثل تغيُّر المناخ، شاركت في الأمر، فإن ثمة تغيُّراتٍ مناخية جذرية قبل ذلك لم تُحدِث تغييرًا جذريًّا جدًّا في السلوك البشري. لعله من قبيل الصُّدفة، ولكن من الأرجح أن اختراعًا واحدًا (الأغراض الرمزية) يسَّر ظهور اختراع آخر (الزراعة) بمجرد أن كانت الظروف الإيكولوجية مُواتية.

عندئذ، ولأول مرة في تاريخ التطوُّر البشري، أتاحت الأغراض الرمزية أن تُصبح المعرفة جماعيةً وكذلك تراكُمية. أعظم الاختراعات هي تلك التي تُسهِّل على الآخرين أن يَصيروا بدورهم مُبدِعين. إن اختراع الكتابة هو مثال آخر شِبه مؤكَّد على اختراعٍ مُستقل مُتعدِّد، اختراع حدث قبل خمسة آلاف سنة في خمسة أماكن مُتباعِدة جدًّا من العالم؛ وهي مصر وبلاد الرافدين والصين وباكستان وأمريكا الوسطى. وقد أتاحت مجموعة كبيرة من الاختراعات اللاحقة التي اعتمدت على الكتابة للتعبير والإعلان عنها بل وربما حتى إدراكها. يبدو اختراع يوهانس جوتنبرج للطباعة حوالي عام ١٤٥٠ أشبه بحدثٍ تكويني منفرد، مع أنه حدث في وقتٍ شهد تطوُّرات موازية (في كلٍّ من أوروبا والصين) تُوحي بأن الطباعة كانت ستُخترَع قريبًا حتى لو لم يكن لجوتنبرج وجود مُطلقًا. كان تأثيرها استثنائيًّا، وليس فقط بسبب المنافع الفورية التي جلبتْها لأولئك القادرين حديثًا على امتلاك الكتب. كتبت المؤرِّخة إليزابيث آيزنشتاين: «في عام ١٤٨٣، جعلت مطبعة ريبولي برس تكلفة إعداد وطباعة ترجمة فيسينو لكتاب محاوَرات أفلاطون ثلاثة فلورينات لكل كُتيب. ربما كان الناسخ سيجعل التكلفة فلورين واحدًا لكل كُتيب لنسْخ العمل نفسه. أنتجت مطبعة ريبولي برس ١٠٢٥ نسخة؛ بينما كان الناسخ سينتج نسخةً واحدة.» تراجعت تكلفة إنتاج الكُتب إلى حوالي واحد على ثلاثمائة مما كانت عليه قبل بضع سنوات مضت.10

من شأن بعض القرَّاء الجدد الكثيرين، الذين تيسَّر لهم الحصول على الكتب نتيجةً لذلك، أن يقرءوا من أجل مُتعتِهم وتعليمهم الخاص. ومن شأن غيرهم أن تُلهمَهم القراءة لمزيدٍ من الابتكار. على سبيل المثال، ونَستشهِد مُجددًا بما كتبته المُؤرِّخة إليزابيث آيزنشتاين، علماء الفلك كوبرنيكوس وتايكو براهي ويوهانس كيبلر «سنحت لهم فرصة مُعاينة مجموعة أكبر من السجلات واستخدام أدلة مرجعية أكثر من أيِّ عالم فلك قبلهم.» كان من شأن البعض الآخر مُجددًا أن يستخدم الاختراع وسيلةً لتأسيس أعمالٍ تجارية، مثل وليام كاكستون، الذي أسَّس أول مطبعةٍ في إنجلترا عام ١٤٧٦ (التي لم يطبع فيها الكتاب المقدس وحسب، وإنما أيضًا أول نُسخة شهيرة من «حكايات كانتربري» لتشوسر). حتى وإن كان الدافع الأصلي هو العمل التجاري لا المزيد من الاختراعات، فقد لعبت إسهامات كاكستون اللاحقة للتهجئة والتحرير دورًا كبيرًا في التوحيد المُتزايد للغة الإنجليزية.

في عصرنا الحالي، كان لحقيقة أن الأغراض الرمزية يُمكن أن تُضاعِف قوة فكرة واحدة لألف ضعف، أو مليون ضعف، نتائج مُدهِشة على المكافآت التي يَجنيها أولئك الذين لديهم أفكار يراها الآخرون مفيدة أو جذابة. بإمكان بعض الناس، مثل بيل جيتس، أن يصيروا مليارديرات لأن أفكارهم يُمكن نسخها؛ فالعبقرية عبارة عن ١٪ إلهام، و٩٩٪ تكرار. بالمثل، مع أنَّ الموسيقيين يَقلقُون من أثر النَّسخ على المكافآت على أعمالهم، لم يُصبح بعض الموسيقيين أثرياء للغاية إلا منذ أن صار نَسْخ العروض الموسيقية ممكنًا. قبل القرن العشرين، اعتمد الموسيقيُّون في مكافآتهم على جماهير عروضهم، وهو ما قيد عدد المعجبين القادرين على دفع ثمن تذكرة الحفلة بالعدد القادر على الجلوس في قاعة حفلات موسيقية واحدة. أُثري واحد أو اثنين من خلال الرعاية الملكية، مثل جان بابتيست لولي، الذي عمل لدى الملك لويس الرابع عشر، ملك فرنسا. وبالكاد استطاع آخرون من أصحاب الإبداعات العظيمة أن يعيشوا على الكفاف؛ فموتسارت مات فقيرًا. الآن صار الموسيقيون، من ذوي الموهِبة المتواضعة مقارنةً بموتسارت، من أصحاب الملايين، ويشتكون حين تُحَمَّل نُسَخٌ من أغانيهم مجانًا من على شبكة الإنترنت. في الواقع، ثمَّة أدلة قوية على أن الأفكار تغذِّي الطلب على المزيد من الأفكار الأخرى؛ وكما يدرك مدير أي موقع إلكتروني، لن تجد أبدًا أُناسًا يدفعون اشتراكًا لمحتوًى إذا لم تُتِح لهم قدرًا من المحتوى المُثير مجانًا. لم يُفْقِر اختراع تسجيلات الفيديو أستديوهات هوليوود، وإنما أثراها بقدْرٍ هائل؛ حيث إنها تجني الآن من تأجير أقراص الدي في دي أكثر من مبيعات تذاكر السينما. وبالمثل، من غير المُرجَّح أن تُفْقِر تكنولوجيا النَّسْخ المتطورة صناعة الموسيقى في المستقبل المنظور.

ولكن ما ستفعلُه بالتأكيد هو أن تزيد على نحوٍ مُبهر الفجوة بين المكافآت التي يتمتَّع بها الأشخاص الذين تروق مواهبهم للكثيرين (أيًّا كانت الأسباب) والمكافآت التي يتمتع بها الأشخاص الذين تروق مواهبهم لقليلين نسبيًّا.11 يصف عالم الاقتصاد روبرت فرانك العملية قائلًا:
لقد تزايَدَ عدد الأسواق القائمة على مبدأ الفائز يربح كلَّ شيء، وجزء من السبب يعود إلى أن التكنولوجيا قد زادت نفوذ وانتشار الفنانين الأكثر موهبةً زيادة كبيرة. ففي مطلع القرن، عندما كانت ولاية أيوا وحدَها تملك أكثر من ١٣٠٠ دار أوبرا، كسب آلاف المُغنِّين من أصحاب أصوات التينور ما يكفي، عندما كان أشخاصٌ متواضعُون يُقدِّمُون للجمهور عروضًا مباشرة. الآن، مع أن مُعظَم الموسيقى التي نستمع إليها مُسجلة مُسبقًا، فإن أفضل مُغنِّي تينور في العالم يُمكن حرفيًّا أن يُوجَد في كل مكان على الفور. ونظرًا لأن تكلفة نسخ الأسطوانات الأصلية للوتشانو بافاروتي ليست أكثر من تكلفة نسخ أسطوانات مُغنِّي تينور أقل شهرة، فإن مُعظمنا يستمع الآن إلى بافاروتي. الملايين منَّا على استعداد لدفع مبلغٍ إضافي للاستماع إليه بدلًا من مُغنِّين آخرين أقل قليلًا موهبةً أو شهرةً؛ وهذا يفسر لماذا يجني بافاروتي عدة ملايين من الدولارات سنويًّا بينما يُكافح أغلب المُغنِّين التينور، الذين يتمتَّع كثيرون منهم بموهبة قريبة من موهبته، لكسب لُقمة العيش.12

ليست كل مكافآت الإبداع مكافآت مالية. يُصبح بعض الناس أقل ثراءً من نجوم الأوبرا ولكنَّهم، مع ذلك، يجتذبون احترام الآخرين وإعجابهم (الاحترام من ناحية كونه طريقة نُقدر بها أولئك الذين أسدَوا لنا خدمات نقدرها أكثر مما يَفعل السوق). ونظرًا لأن الطباعة زادت عدد الجمهور من قرَّاء الكتب (والأعمال الفنية القابلة للنسخ مثل النقوش) في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، أصبح المزيد من الاهتمام مُرَكَّزًا على فكرة العبقرية الأدبية أو الفنية الفردية. فجودة الغرَض الرمزي أصبحت تفوق إجمالي تصرُّفات الشخص الذي أنتجه. كان هذا مفهومًا، باعتبار أن الأول كان أطول عمرًا بكثيرٍ وكان له تأثير مباشر على الآخرين أكثر بكثيرٍ من الأخير. باستخدام نوع من المنطق العكسي، كادت فكرة أن الفنانين الفرديِّين ربما يعيشون حياةً فوضوية، ضبابية، مُفتقرة إلى الجمال، أن تُصبح هي المعيار الأساسي لمصداقيتهم الفنية، كما لو كانت دليلًا على كمال الغرض الفني الذي لا يُمكن أن يُولَد إلا في لحظة حاسمة من حياة الفرد. إنها ثمرة غير معتادة لفكرة الوصول إلى الغاية الروحية وهي الفكرة التي كان لها جذور مُتأصِّلة في العصور القديمة والوسطى وتَقضي بأن يصوغ الناس حياتهم بالكامل حول تمجيد الرب.

الثقة بين الأجيال

بفضل المعرفة الجماعية والتراكمية التي أتاحتها الأغراض الرمزية، يستطيع أفراد البشر أن يضطلعوا بتحدياتٍ لم يكن يتخيَّلُها أجدادنا من الصيادين وجامعي الثمار. كما رأينا في الفصول السابقة، زادت الإمكانيات المتاحة أمام البشرية زيادة هائلة بسبب تقسيم العمل. ولكن من شأن حتى فرد واحد معاصر ومُتعلِّم، يُحاول البقاء على قيد الحياة بدون مساعدة على جزيرة صحراوية، أن يُبليَ في بعض الجوانب أفضل بكثيرٍ من واحد من أجدادنا من الصيادين وجامعي الثمار. قد تنقُصه المعرفة الواسعة التي ربما يكون قد تعلَّمها الفرد في مجتمع الصيد وجمع الثمار من مُعاصِريه الأكبر سنًّا، وأحيانًا يثبت أن هذه المعرفة مهمة لبقائه على قيد الحياة. من المؤكد أن الصيد وجمع الثمار من المهام الصعبة جدًّا على المستوى المعرفي، وأصعب بكثيرٍ من العديد من المهن الصناعية الحديثة. قد يجد أيضًا أنه كان من الصعب جدًّا أن يتخلَّص من عادات الاعتماد على الآخرين من أجل توريد السِّلَع اللازمة لوجوده اليومي. ولكن ربما يكون لديه المعرفة التراكمية لأجيالٍ كثيرة لم تَعُد على قيد الحياة، انتقلت عبر الأغراض الرمزية للتبادُل الثقافي. فإذا تغلَّب على التحديات المبدئية، فمن شأنه أن يكون قادرًا على تجنُّب الكثير من البدايات الخاطئة، والتجارب المؤلمة والشِّراك المُهلكة التي نُصبَت لأجدادنا. وعلى النقيض من ذلك، لن يكون ما سيحتاج إليه الصائدون وجامعو الثمار الذين ظهروا فجأةً في الحياة المعاصرة للتعامُل مع تحدِّياتها هو مجرد القدرة على تقاسُم المهام بشكلٍ مُتقَن كما نفعل، وإنما سيَحتاجون أيضًا إلى الإرث الثقافي والفكري للأجيال التي سبقتْنا والذي يُحرِّرنا من الحاجة إلى إعادة ابتكار كل اختراع من جديد. بعبارةٍ أخرى، أتاحت الأغراض الرمزية تقسيم العمل تقسيمًا دقيقًا عبر الأجيال وليس فقط في نطاقها.

بطريقة مُماثلة لتقسيم العمل في نطاق الأجيال، بناءً على ذلك، استلزم استخدام الأغراض الرمزية أيضًا عنصر الثقة؛ الثقة بالغرباء الذين سيُفسِّرُون اتصالاتنا في المُستقبل. رأينا في فصولٍ سابقة أن الثقة في المجتمعات الحديثة لم تَعُد مسألةً نفسيةً فردية، لشعورك حيال فردٍ مُعين. على نحوٍ أكثر تعمقًا، يتعلَّق الأمر بمجموعة المؤسسات الاجتماعية التي تجعلُ من المنطقي الثقة في شخصٍ ما بالقدر الكافي للتبادل معه؛ بصرف النظر عن شعورك الشخصي تجاهَه. وهذه المؤسسات تشمل القانون، وآليات إنفاذ القانون، ومجموعة كاملة من العادات المتَّبعة؛ عادات غير رسمية وبواعث، أعطتنا، مُجتمعةً، سببًا لتوقُّع السلوك الجدير بالثقة من الآخرين بمُستوًى مقبول من الثقة. تُشكِّل هذه العوامل ما يُمكننا أن نُطلِق عليه نظام حقوق الملكية في المجتمع؛ لدرجة أنها تؤثر على درجة الثقة التي قد تكون لدى شخصٍ في الوعود التعاقُدية التي يقطعها الآخرون على أنفسهم. على نحوٍ مُماثل، تخضع مُمارسة التواصُل الرمزي لحقوق الملكية. استخدام هذا المصطلح يبدو أقلَّ غرابةً بمجرد أن نفكر مليًّا في أنَّ الهدف وراء هذه الحقوق هو تعزيز ثقتنا في أولئك الذين سيُفسِّرُون اتصالاتنا. ونظرًا لأن الثقة ذات أهميةٍ لنا بطرُق متنوعة، وستؤثر على الاتصال الرمزي الذي نحن عازمون على القيام به. وعندما نُمعِن النظر أكثر، نرى أن حقوق الملكية تتمتَّع في سياق الاتصال الرمزي بعددٍ من السِّمات التي تجعلها أكثر تعقيدًا من حقوق الملكية في سياق الأشياء المادية المعتادة.

لنأخذ مثالًا بسيطًا. قال رالف والدو إيمرسون أنك إذا صمَّمت مَصيدة فئران أفضل، سيشقُّ العالم طريقَه إلى بابك، حتى وإن كان منزلك في وسط الغابة. لنفترض أنني فعلتُ ذلك، ولكن مصيدة الفئران خاصتي لم تكن عبارة عن ماكينة مُطوَّرة لا بدَّ أن أصنعها من أجلك، وإنما فكرة بسيطة يُمكنُكَ أن تُنفِّذَها بنفسك بتكلفةٍ أقل بكثيرٍ من إجمالي الفائدة العائدة عليك. ربما يكون من المنطقِي أن أعتقد أنه، نظرًا لأن فكرتي تنفعُك، ينبغي أن أحصل على نسبة من تلك الفائدة. بالتأكيد، ربما كان الحافز وراء الأيام التي ربما أكون قد أمضيتُها في ابتكار مصيدة الفئران الأفضل هو تحديدًا تصوُّري للعالَم يشقُّ طريقه إلى باب بيتي؛ وبالمقارنة بهذا الحافز، قد تكون مشاكلي مع الفئران حافزًا ضئيلًا. ما الذي يُمكنني فِعله كي أضمن أنك ستُعطيني جزءًا من الفائدة التي ستحصل عليها من اختراعي؟

من الناحية النظرية، ربما يُمكنُني أن أبيع لك الفكرة فحسب. ولكن ذلك الاقتراح أكثر تعقيدًا ممَّا يبدو؛ إذ كيف يتسنَّى لي أن أصف لك الفكرة بدقَّة كافية لتعرف ما إذا كانت تستحق الشراء، دون أن أكشف لك عن الفكرة مجانًا؟ أقر النظام العام لحقوق الملكية الفكرية بهذه المشكلة، مُتمثلًا في قوانين براءات الاختراع وحقوق النشر والتأليف والعلامات التجارية. الفلسفة الأساسية بسيطة؛ قد أتوخَّى الحذَر في وصف فكرتي الخاصة بمصيدة الفئران لك، لأنك قد تُعلِن بعد ذلك أنها لا تستحق الشراء، بينما تستعين بها سرًّا في الوقت نفسه. ولكن لنفترِض أن بوسعي أن أصفَها لطرفٍ ثالث موثوق به، من شأنه أن يضمن أنَّ فكرتي ليست تافهة، وأنها حقَّا فكرتي أنا، وسيُوقِّع عليك بعض العقوبات إذا استغللتَ الفكرة دون أن تدفع لي مُقابلَها. ربما أكون على استعداد للوثوق في طرفٍ ثالث حتى وإن كان لديَّ شكوك بخصوص الوثوق بك. مكتب تسجيل براءات الاختراع هو ذلك الطرف الثالث؛ فهو يُؤدِّي دورَ الوسيط بين أصحاب الأفكار والراغبين في استغلال أفكار الآخرين.

لنفترض أنني نجحتُ في تسجيل براءة اختراع فكرتي؛ بحيثُ لا يستطيع الآخرون نسخها؛ عندئذٍ يجب عليهم شراء مصيدة الفئران التي ابتكرتها والتي تُجسِّد فكرتي. العالم يشق طريقه إلى بابي وها قد صرتُ ثريًّا للغاية. ولكن لعلِّي أُقرِّر فرضَ سعرٍ مُرتفِع يجعلني أحتكر الفائدة بينما أمنع المُنتَج عن الكثير من المُشترين المُحتملين الذين بإمكانهم تحمُّل تكلفة إنتاج المزيد من مصائد الفئران. بدلًا من ذلك، مع أن فكرتي ربما كانت عبقرية، قد لا أكون بارعًا في تحويلها إلى مُنتَجٍ يؤدِّي وظيفته. قد تفشل فكرة مصيدة الفئران في الغالب الأعم لو لم أَبِع حقوقَ تصنيعها إلى شخصٍ آخر. ثمة احتمال ثالث هو أن مصيدة الفئران خاصتي تعمل على نحوٍ جيد، لكن أقل بكثيرٍ مما لو طوَّر أحدُهم الفكرة بإضافة تطويرٍ ثوري حقًّا من عنده. في كل حالة من هذه الحالات، تلقيتُ مكافأةً سخية من حقوق الملكية على اختراعي، ولكن هذا في مقابل التزامٍ بنقْل فكرتي إلى الآخرين. هل هذا مُهم، أم أنه الثمن الضروري الذي يجب على المجتمع دفعه لإرساء النظام القائم على الثقة في تطوير الأفكار؟

حتى عهدٍ قريب، كان من شأن أغلب علماء الاقتصاد والمُحامين أن يُقدِّموا إجابة بسيطة إلى حدٍّ ما عن هذا السؤال. حقوق الاحتكار على الأفكار هي بالتأكيد تكلفة؛ ولكنها تكلفة ضرورية، لتحفيز الناس على إنتاج الأفكار في المقام الأول. على أيِّ حال، مُعظَم الاختراعات تتطلَّب استثمارًا كبيرًا للوقت والموارد؛ وأغلبها لم يخطُر على بال المخترع بالصدفة، كما حدث (ربما) مع فكرة مصيدة الفئران خاصتي. بدون وجود إمكانية حقوق الاحتكار، من شأن الناس أن يُحجِمُوا عن محاولة الابتكار ومن شأنهم، بدلًا من ذلك، أن يقوموا بأشياء أقل فائدة. ولكن نظرًا لأنها تحديدًا تَكلِفة؛ فمنظومة حقوق براءات الاختراع مُقيَّدة بوقت؛ فعادةً ما تُمنَح براءات الاختراع لمدة عشرين عامًا، لا أكثر من ذلك. علاوة على ذلك، تكاليف سُلطتي الاحتكارية تشمل فقط عدد مصائد الفئران التي أرفُضُ تصنيعها من أجل الحفاظ على السعر مُرتفعًا بتقييد التوريد. لا يُوجَد سبب للخوف من تمسُّكي بفكرتي حين يكون من الأفضل أن أبيعها لشخصٍ آخر بإمكانه إما تصنيعها أو تطويرها على نحوٍ أفضل مما بوسعي. أستطيع منح ترخيص براءة اختراعي إلى مُستخدِم آخر. وإذا كان لدى المستخدم الآخر استخدام أفضل مما لديَّ، سأمنحُه ترخيص براءة الاختراع، ما دام هذا المستخدم الآخر سيكون قادرًا على أن يدفع لي مبلغًا أكبر مما كنتُ سأجنيه من احتكار الفكرة لنفسي. والحُجة في هذا السياق هي أن ثمة مصلحة مؤكَّدة لي من تطوير أفكار أفضل، ورُؤًى أفضل من تلك الخاصة بي. فهذه الأفكار الأفضل لا تَتنافس مع أفكاري، وإنما تُعزِّزها وتجعلها ذات قيمةٍ أكبر. إذا كنتُ أعرف ما في صالحي، فسأُشجِّع تطويرها.

وبالتأكيد، الجدل مُستمر. ولكن أقل ما يمكن قوله إن الأدلة المُستقاة من التاريخ تتَّسم بالغموض بشأن هذه النقطة؛ لأن مخترعين كثيرين سعَوا إلى الحدِّ من التوسع في تطوير أفكارهم. لقد تطلَّب الأمر حتى انتهاء براءة اختراع ريتشارد آركرايت للإطار المائي لكي يشرع مُخترعون آخرون في العمل على تطويره ودمجه في اختراعاتٍ ذات صلة؛ وكان لا بدَّ لأهم التطويرات التي أُدخلت على اختراع جيمس وات للمحرك البخاري أن تَنتظِرَ حتى انتهاء مدة براءات اختراعه.13 ولم يُبدِ أيٌّ من هذَين العالِمَين العظيمين اهتمامًا كبيرًا بالسماح للآخرين بتطوير أعمالهم؛ حتى عندما كان هؤلاء الآخرون على استعدادٍ لدفع مقابل القيام بذلك. وفيما مضى، بذلت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية جهودًا جبارة للحدِّ من توزيع الكتب المطبوعة، وبخاصة من خلال «دليل الكتب المُحرَّمة». وفي النهاية، باءت هذه الجهود بالفشل الذريع؛ لأنها تسببت في هروب المُفكرين وأفكارهم إلى الدول البروتستانتية. على حدِّ قول المؤرِّخة إليزابيث آيزنشتاين: «غيَّر تدفُّق اللاجئين لأسباب دينية على جنيف في عهد كالفن في خمسينيات القرن السادس عشر من البِنية المِهَنية للمدينة تغييرًا جذريًّا. وقفز عدد المطابع وبائعي الكتب من رقمٍ يَتراوح بين ثلاثة وستة إلى ثلاثمائة أو أكثر … وحقَّقت جنيف مكاسبَ على حساب فرنسا.»
وفي الآونة الأخيرة، زعمت حكومة الولايات المتحدة، وأيَّدت المحاكم الأمريكية، أن شركة مايكروسوفت كانت قد سعت إلى حجب تطوير برنامج مُتصفِّح الإنترنت نتسكيب نافيجاتور، رغم حقيقة أن هذا البرنامج من شأنه نظريًّا فقط أن يُعزِّز قيمة نظام تشغيل ويندوز الذي كان مُضافًا إليه باعتباره تطبيقًا. مما لا شكَّ فيه أن التطوير النشيط في صناعة البرمجيات في السنوات الأخيرة هو خير دليل (كما ذكر عالِما الاقتصاد آدم جافي وجوش ليرنر)14 على أن حقوق الملكية وحقوق النشر والتأليف يُمكن أحيانًا أن تعوق الابتكار بدلًا من أن تُشجعه. ولا تلعب براءات الاختراع وحقوق النشر والتأليف إلا دورًا صغيرًا في صناعة البرمجيات؛ فبمجرَّد أن يظهر ابتكارٌ مُهمٌّ، يبدأ المبتكرون الآخرون في العمل على تحسينه، بدلًا من الانتظار عشرين عامًا حتى تنتهيَ فترة براءة الاختراع. تحدُث أمور مُشابهة في صناعات أخرى، مثل الخدمات المالية؛ حيث يكون الابتكار نشطًا ومُستمرًّا مع أن حقوق الملكية الفكرية لا تلعب دورًا من الناحية العملية. على النقيض، في صناعة المُستحضرات الدوائية، تلعب الحماية التي تُقدِّمها براءة الاختراع دورًا مهمًّا، ويبدو بالفعل أن مدى الابتكار يتناسب مع قوة الحماية التي تُقدمها منظومة براءة الاختراع.15 في القرن التاسع عشر، كانت الابتكارات نشطة في بعض الصناعات مثل المنسوجات وتجهيز الأغذية حتى بدون مساعدة براءات الاختراع، بينما في صناعات أخرى (مثل الماكينات الزراعية وماكينات التصنيع) يبدو أن مدى الابتكار كان مُعتمدًا بدرجة كبيرة على قوة حماية براءة الاختراع في الدولة المعنية.16 لم يكن الأمر مُتعلقًا بمدى تطور الابتكارات؛ إذ كان الابتكار في المعدات العِلمية بحاجة إلى القليل من العون من جانب براءات الاختراع. كان ولا يزال من الصعب جدًّا فهم الأسباب وراء اعتبار براءات الاختراع ذات أهمية لبعض الأنشطة وعديمة الأهمية للبعض الآخر.
على الرغم أنه لأول وهلةٍ قد يبدو غريبًا أن يسعى أصحاب الأفكار الجديدة إلى إعاقة أفكار الآخرين التي يبدو أنها تُعزِّز أفكارهم، فقد تكون الكنيسة الكاثوليكية (مثل جيمس وات، وريتشارد آركرايت، وربما شركة مايكروسوفت، لو أن شكوك الحكومة الأمريكية كانت في محلها) قد أدركت مصالحها على المدى الطويل على نحوٍ أفضل ممَّا تَنسبه إليها الحجة التقليدية. إنَّ الأفكار المَبنية على أفكاري وتعززها اليوم ربما تعود لتطعن فيها غدًا؛ وتلك ليست مجرد حادثة مؤسِفة ولكنها متأصلة في طبيعة التواصُّل الرمزي، الذي يتَّسم بالمرونة وإمكانية دمج الرموز بطرُق جديدة وغير متوقعة. أدركت الكنيسة الكاثوليكية تمام الإدراك أن الانتشار الواسع لقراءة الأعمال الأرثوذكسية من شأنه أن يُوجِد مجموعة من الأطراف الخارجية المُثقفة التي من خلالها قد تعود الهرطقة ذات يوم بقوةٍ لتطعن في الأفكار التي كانت قد تربَّت عليها في البداية. ربما تكون مايكروسوفت قد خشيت من أنه حتى إن عزَّز برنامج متصفح الإنترنت نتسكيب قيمة نظام تشغيل ويندوز اليوم، فقد يتطوَّر إلى نظامٍ بديل لويندوز في المستقبل. بالفعل، طرح عددٌ من العلماء مؤخرًا تفسيرات للرغبة المُحيرة من قِبَل بعض الشركات في حجب التطويرات المُكمِّلة لمنتجاتها القائمة على أساس الخوف من أن هذه التطويرات سوف تُقدِّم نقطة انطلاقٍ للمخترعين المُستقبليين للطعن في تلك المنتجات ذاتها.17 أساس هذا الخوف هو إعادة التركيب الرمزي.

لنفترض أنني أحتكر تصنيع مُنتج ما ذي مُستوًى منخفِض من التعقيد الرمزي؛ كسِنْدانٍ، مثلًا، أو خطوط سكك حديدية؛ عندئذٍ سيكون أي شيء يُحسِّن من جودة البضائع الأخرى المُكملة لمُنتَجي الاحتكاري — حدوات الأحصنة وخدمات السكك الحديدية، على الترتيب — بمثابة خبر سعيد لي؛ لأنه سيزيد من رغبة الناس في شراء سنداني (أو خطوط السكك الحديدية). ربما حتى يكون لي مصلحة في تشجيع مُبتكِري أنواع جديدة من حدوات الأحصنة (أو مطوِّري أنواع مبتكَرة من خدمات السكك الحديدية). لعلِّي أتيح لهم الوصول مجَّانًا إلى مُنتَجي الاحتكاري أثناء عملهم على اختراعاتهم. وبالمثل، إذا كنت أحتكر إنتاج الكهرباء، فستُسعدني رؤية المخترعين يُطوِّرُون ثلاجات وغسالات كهربائية، بل قد أمنحهم كهرباء رخيصة لأساعدهم على فعل ذلك؛ فأي اختراعٍ جديد يَستهلِكُ الكثير من الكهرباء سيزيد من الطلب على الكهرباء المملوكة لي. في كل حالةٍ من هذه الحالات، انخفاض مستوى التعقيد الرمزي لمُنتَجي يجعل من المُستبعد جدًّا أن يرتدَّ مثل هذا الكرم بالضرَر عليَّ، بأن يتيح المجال أمام سندانات بديلة، أو بدائل لخطوط السكك الحديدية، أو ثلاجات تُولِّد طاقتها الكهربائية. ولكن حينما يكون المُحتوى الرمزي لمُنتَجي مُرتفعًا، فذلك بالضبط ما أخشاه؛ أن تكون إمكانيات إعادة التركيب الرمزي ثرية جدًّا. ربما تُولِّد أفكاري أفكارًا أخرى تتعارض مع الأفكار الأصلية.

تستطيع قدرة المخ البَشري على الترقيع الرمزي إعادة ترجمة الأفكار بمجموعة طرُق مدهشة وأحيانًا مُرعبة. فالمُهندسُون يرون الطائرات انتصارًا للتنسيق التكنولوجي وانطلاقة للروح الإنسانية؛ بينما يراها علماء التحليل النفسي قضيبًا ذكوريًّا تخيُّليًّا. ورآها بعض الشعراء والشعوب المنعزلة من عصر ما قبل الصناعة طيورًا ضخمة، بينما ينظر واضعو استراتيجيات الحرب اليابانيين والأصوليُّون الإسلاميون المعاصرون إلى نفس الكتل المعدنية على أنها قنابل. إنَّ قدرة الذهن البشري على إبداع الشعر هي أيضًا التي جعلته بارعًا جدًّا في نصْب كمين.

المبدعون بحُكم طبيعتهم هم أولئك الأشخاص الذين لم يُثنِهم شيءٌ عن التعبير عن أفكارهم في شكل أغراضٍ رمزية. فعندما رسم رسَّامو الكهوف الأوائل أشكالًا باستخدام النيران على جدران كهوف شوفيه أو ألتاميرا أو لاسكو، هل كانوا يخشون أن يأتي أعداؤهم يومًا ويستدلوا بها على مقرِّهم ويتعقَّبُوهم ويقتلوا الرسَّامين أو أحفادهم؟ وعندما استخدم المُحاربون العجلات لأول مرة لبناء عرباتٍ تجرُّها الخيول، هل أثنَتْهم فكرة أن أعداءهم سرعان ما سيُقلِّدُون اختراعهم ويأتون في عرباتهم مُتوعِّدين إياهم؟ وعندما طوَّرت وزارة الدفاع الأمريكية البريد الإلكتروني لأول مرة، هل تنبَّأت أنه ذات يوم سيَستخدم الإرهابيون الذين يُخطِّطُون للهجوم على الولايات المتحدة هذه التكنولوجيا لتنسيق خططهم؟ والدليل على الإبداع الناجح موجود حولنا في كل مكان، وربما يبدو بناءً على هذا الدليل أن مشكلة الثقة بين الأجيال قد حُلَّت، في هذا الصدد على الأقل، حيث صار الابتكار سريع الوتيرة، وآخذًا في التسارُع، في القرون الأخيرة. لكن إذا ركَّزنا حصريًّا على هذه الحقيقة، فربما نغفل عن الحقيقة الأكثر دقة؛ وهي أنَّ المُبتكرين عادةً ما سَعَوا إلى الحدِّ من انتشار أفكارهم الخاصة. إن سرعة حدوث الابتكار ستلعب دورًا محوريًّا في قدرة البشرية في القرن القادم على حلِّ المشكلات التي لا تقف ساكنة، مشكلات مثل الفقر والمرض والإرهاب. لذلك، يُصبِحُ من الضروري أن نسأل: إلى أي مدًى تُجيد أنظمة حقوق الملكية الفكرية التعامل مع مشكلة الثقة بين الأجيال؟ هل تفعل ما يكفي لإتاحة المعرفة التي يملكها كل جيل من أجيال الإنسانية للأجيال التالية؟

حماية الأشياء أم حماية الأفكار؟

إحدى طرُق التفاعل مع الدليل القائل بأن المبدعين عادةً يمنعون انتشار أفكارهم هو الطعن في فكرة أنه ينبغي حماية حقوق المِلكية الفكرية. قدم عالِما الاقتصاد ميشيل بولدرين وديفيد ليفين اقتراحًا جذريًّا بأنه ينبغي للمجتمع ألا يَعترِف بحقوق الملكية الفكرية لأفكارٍ كهذه على الإطلاق.18 واقترحا أن حقوق الملكية الفكرية ينبغي أن تنتمي إلى عالم الأشياء القابلة للتبادل — والكثير منها بالطبع يُجسِّد أفكارًا. كلما كانت الفكرة المتجسدة في شيء ما قوية، صارت أقيَمَ للنَّسخ مُستقبلًا، ولكن ذلك في صالح الشخص المالك للشيء، لا الإضرار به. على سبيل المثال، كلما زاد عدد الأشخاص الذين سيَرغبُون في نهاية الأمر في الاستماع إلى نُسَخ من أسطوانتي الجديدة، زاد السعر الذي يُمكنني الحصول عليه من أول مُشترٍ، الذي سيَتمتَّع حينئذٍ بحق نَسخِ (وبيع) أي عدد يرغب به من النسخ.
في الواقع، ليس من الصعب إبراز أنه حتى في عالَمٍ ليس فيه أي حقوق ملكية فكرية على الإطلاق، ولا يحمي القانون سوى ملكية الممتلكات المادية، ربما يكون في مقدور المُبتكرين الحصول على المكافآت الكاملة على إبداعهم. ولكن حدوث هذا يستلزم بعض الظروف الخاصة جدًّا. تخيَّل أنني اكتشفتُ عقارًا جديدًا له بعض الخصائص الاستثنائية. فهو يعكس عملية الشيخوخة، ويُحوِّل الضفدع إلى أمير، ويَشفي من السرطان، ويفعل الأمور الثلاثة جميعها.19 لن يُقدِّر الجميع هذه الخصائص بنفس القدر، إلا أن العقار — مع ذلك — قَيِّم جدًّا بالفعل. والآن، تخيَّل أن جميع المُستهلكين المُحتمَلين يَصطفُّون في ترتيبٍ يعكس مدى تقديرهم للعقار. إلى اليسار تقف الضفادع المُسنَّة المُصابة بالسرطان، وإلى أقصى اليمين يقف الأمراء الشباب الأصحاء. الشخص الذي يقف في أقصى اليمين هو شخص يُقدِّر العقار بقيمةٍ أعلى بقدرٍ ضئيل فقط من تكلفة إنتاجه وعليه فلن يدفع أكثر من هذه التكلفة. وعلى يساره يقِف شخص يُقدِّره أكثر قليلًا. كم سيدفع؟ سيدفع المبلغ الذي يرى أن العقار يستحقُّه، بالإضافة إلى ما يستطيع الحصول عليه من إعادة بيعه لآخر شخصٍ يقف في الصف. والشخص الواقف إلى «جواره» سيدفع هو الآخر الثمن الذي يرى أنه يستحقه، بالإضافة إلى ما قد يحصل عليه من إعادة بيعِه إلى الشخص الواقف على يمينه. بإضافة مَن هم على طول الصف، يُمكنُنا أن نرى أنه ينبغي أن يكون أول بائع على استعدادٍ لدفع مبلغ يُوازي إجمالي جميع القِيَم التي يربطها المُشترون الواقفون في الصف بالحصول على العقار. بعبارةٍ أخرى، ببساطة عن طريق احترام حقوق الملكية المتمثلة في الشيء المادي «دون حماية حقوق الملكية الفكرية المتمثِّلة في الفكرة بشكلٍ مُنفصِل»، سيكون من الممكن مكافأة المُبتكرين بالقيمة الكاملة لما ابتكرُوه.
مثل نظرية كوس، التي عرضناها في الفصل الحادي عشر، هذه الحُجة تُمثل بالطبع ضربًا من الخيال وليس اقتراحًا واقعيًّا (في الواقع، الحجة في الحقيقة مجرَّد مثال على نظرية كوس في صورةٍ أخرى). ولكنه خيال مُفيد؛ لأنه يُساعد على جذب الانتباه إلى عوائق مُعينة تضعها الحياة الواقعية في طريق المُبدعين. أحد الأسباب وراء أن هذا النوع من الصفقات المتسلسلة لا يمكن أن ينجح على أرض الواقع هو أنني حين أخترع عقاري، ربما أواجه صعوبة في معرفة الأشخاص الذين يُقدِّرون العقار بالقدر الأكبر (فالناس لا يصطفُّون في صفوفٍ مُرتبة بدقة وفقًا لاحتياجهم للعقار).20 ثمة سبب آخر هو أنه حتى لو كان في مقدوري تنظيم مزاد لمعرفة من يُقدِّر العقار بالقدر الأكبر، فسيستلزم الأمر مزادًا منفصلًا لنقل كل وحدةٍ من العقار إلى المشتري التالي الواقف في الصف الخيالي، وعندما تكون كل هذه المزادات قد انعقدت، فإنه حتى الأمير الشاب المتمتِّع بالصحة سيكون قد مات بالسرطان أو بالشيخوخة أو بمرض جنون الضفدع. ثمة مشكلة ثالثة هي أن المُشترين في كل مزاد ربما لن يعرفوا مبلغ المزايدة إلا بعد أن يكونوا قد عرفُوا ما يكفي عن خصائص العقار حتى يتسنَّى لهم عمل نُسخةٍ مُقرصنة منه بأنفسهم. المشكلة الرابعة هي أن بعض المُشترين في المزاد قد يُثنيهم أمل الانتظار حتى يَنخفِض سعر العقار في مزادٍ لاحق عن طرح القيمة الحقيقية للعقار. إيجازًا، من المُستبعد أن يستطيع المبتكرون، دون قدْر من الحماية للأفكار على الأقل، أن يأمُلوا بصورةٍ واقعية في الحصول على القيمة الكاملة لابتكاراتهم من جميع المُستخدِمين. ذلك هو الفهم الذي على أساسه تَرتكز منظومة الملكية الفكرية المعيبة باعتراف الجميع.

مع ذلك، وحتى مع وجود هذه العوائق؛ فحقيقة الأمر أنه كلما كان عقاري أسهل في التقليد (ومن ثَمَّ زاد عدد المرضى الذين بإمكانهم الاستفادة من تناوله)، كانت، من الناحية النظرية، المكافآت التي من المُفترَض أن أجنيَها بفضل اختراعه أكبر. هذا درسٌ ينبغي أن يوضع في الاعتبار عندما تشتكي الشركات من أنها غير قادِرة على تطبيق حقوق براءات الاختراع في بعض البلدان النامية. إذ تزيد إمكانية التصدير إلى البلدان النامية في حدِّ ذاتها، بأي حالٍ من الأحوال، من المكافآت التي ستُجنى من بيع منتجاتها؛ ومن ثمَّ يستفيد المبتكرون من زيادة حجم التجارة، حتى وإن لم تكن دومًا بنفس القدر الذي يرون أنهم يستحقونه. أسهمت سهولة الاتصال بجميع أنحاء العالم بالفعل بالكثير فيما يخصُّ زيادة مكافآت الابتكار. ومثلما تُسهِّل أطباق الأقمار الصناعية من الانتشار الدولي للعلامات التجارية المُعترَف بها عالميًّا، زادت التليفونات والفاكسات ورسائل البريد الإلكتروني وشبكة الإنترنت من السهولة التي يُمكن أن تنتشِر بها المنتجات والعمليات والأساليب التجارية عبر الحدود القومية. آثار هذا الأمر ليست جميعها إيجابية، إلا أن مُجمَل العوائد لكلٍّ من الابتكار وتعديل ابتكارات الآخرين من المُرجَّح أن يزداد.

لذا، فالوجه الأمثل لفهم الملكية الفكرية هو أنها منظومة — مزْج لمجموعةٍ من القوانين الرسمية، مثل قوانين براءات الاختراع وحقوق النشر والتأليف، مع مجموعة من الأعراف الاجتماعية، كتلك الضابطة للاستشهادات العلمية — تُحاول زيادة ثِقتنا في استعداد الآخَرين لمكافأتنا نظير أفكارنا القيِّمة. إنَّ من شأن ضمان ملكيتِنا الكاملة وغير المشروطة لأفكارنا أن يكون طريقةً مُتطرِّفة جدًّا لفعل هذا، بناءً على أننا ربما لا نفعل سوى القليل جدًّا لنشر الأفكار إلى الآخرين. ومن شأن حِرماننا من أي ملكيةٍ لأفكارنا أن يكون أيضًا طريقةً متطرِّفة جدًّا؛ فمن شأنه أن يُشجِّع انتشار تلك الأفكار إذا اخترنا تطويرها، ولكن من شأنه أن يجعلنا مُتردِّدين حيال تطويرها في الأصل. (تخيَّل لو أن محتويات مُذكرتك الشخصية وكاميرتك الرقمية تُنشَر على الفور على موقعٍ إلكتروني متاح للجميع بمجرد أن تكتبها أو تلتقطها؛ ألن تكون أكثر حذرًا بشأن ما تكتبه أو تُصوِّره؟) سيكون التوازن الذي نُحقِّقُه بين الطريقتَين معيبًا دائمًا، وسينجح على نحوٍ أفضل في ظل بعض الظروف مقارنةً بغيرها، وسيتعيَّن تطويره على أي حالٍ مع مرور الوقت. ولكن حين نُفكِّر في الطريقة الصحيحة لتحقيق ذلك التوازن، علينا أن نتذكَّر أن غايتها ليست الثقة وحسب؛ وإنما أيضًا عدد المنظومات الاجتماعية الأخرى التي تكون تلك الثقة ضمن عواقبها المقصودة أو غير المقصودة. كذلك فإن الكثير من المنظومات الأخرى في حياتنا الاجتماعية الحديثة بحاجةٍ أيضًا إلى اعتبارها وسائل لنشر الأفكار.

الأفكار وتشكيل المنظومات الحديثة

في الواقع، لم يكن ما اقترحه بولدرين وليفين — حماية الأشياء، لا الأفكار — بأكثر ممَّا فعله، ولا يزال يفعله، مُبتكرُون كثيرون بصفةٍ غير رسمية على مدار قرون، وفي هذه الفكرة يكمُن مفتاح فهم نمو الشركة الحديثة؛ إذ كان الأمر الأهم لتطوير الأفكار من الحماية الرسمية لنظامِ براءات الاختراع هو مزجٌ لنوعين من الحماية غير الرسمية. الأول هو تجسيد الأفكار في أشياء — أو، وهو الأفضل حتى من ذلك، تجسيدها في منظَّمات ومؤسسات. كما رأينا في الفصل الثالث عشر، ما يجعل الشركات بديلًا متميزًا عن الأسواق باعتبارها طريقةً لتنظيم عملية مشاركة المهام المُعقَّدة للمجتمع الحديث هو أن الشركات قادرة على نقل نوعياتٍ مُعينة من المعرفة بين المُستخدِمين على نحوٍ أكثر فعالية مما يُمكِن للأسواق أن تُحقِّقه. ويُعزى هذا جزئيًّا إلى أنَّ الكثير من الابتكارات المُهمَّة هي بكل بساطةٍ ابتكارات تنظيمية؛ فأنواع كثيرة من النقل التكنولوجي العالَمي، حتى في القرن الحادي والعشرين، لا تحدُث في السياقات العلمية العالية الدقة للمُستحضرات الدوائية والملاحة الجوية، وإنما في مجالاتٍ متنوعة وغير مُبهرة نسبيًّا مثل المحاسبة وإدارة الفنادق العالمية. ولكن، يُعزى هذا جزئيًّا إلى أن التقنيات التكنولوجية المُجسَّدة في أشياء مادية — ماكينات أو منتجات — تحتاج إلى بعض المهارة أو المعرفة الفنية لتحقيق الفعالية الكاملة من استخدامها، أو لتصحيحها وصيانتها، أو لتشغيلها مع توافر الوعي الكامل بالمخاطر المرتبطة بها (مثل الآثار الجانبية للعلاجات الدوائية). لذا، أدرك مُبتكِرُون كثيرون أن بإمكان مؤسَّسة (مُستشفى أو شركة مثلًا) تقديم الابتكار بأسلوبٍ أكثر فاعلية وموثوقية من مجرد نقل شيءٍ مادي عبر صفقةٍ سوقية. وما لا تستطيع صفقات السوق تحقيقه، لن تستطيع السرقة المُجرَّدة أن تُحقِّقه مُطلقًا. لذلك، يجب ألا يخشى المبتكر الذي يستطيع تقديم دعم تنظيمي لابتكاره من أن السرقة ستحرِمُه من جميع المكافآت.

لم تؤدِّ ثورة المعلومات في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين إلى الاستغناء عن المؤسَّسات، وإنما جعلتها أكثر أهميةً من أي وقتٍ مضى. مثلما يُدرِك أي شخصٍ عثر على مليون استجابة لبحثٍ على شبكة الإنترنت، المزيد من المعلومات لا يعني ضمنيًّا مزيدًا من الفهم. تزداد حاجتنا إلى معرفة ماهية المعلومات التي يجب أن نَستخلصَها لكي تُساعدنا على فهم عالَمنا. لقد قطع الإنسان العاقل شوطًا طويلًا من كهوف بلومبوس وإنكابون يا موتو وشوفيه. كانت الرموز الملوَّنة المضاءة بالنيران أشبه بمناراتٍ في ليلٍ خالٍ من المعاني البشرية (وشجع ذلك الإنسانَ، في سياق تعطُّشه إلى الرموز، على جعل الغابات والسماوات مأهولةً بالآلهة). إنَّ التناقُض مع التنافُر المرئي للرموز في البيئة الحضرية الحديثة مُذهل للغاية. بل إن المحلِّل النفسي والناقد الفني أدريان ستوكس رأى في المشاهد والأصوات المشوشة للمدينة الحديثة نسخةً من الاضطراب الذي يعاني منه كثير من المرضى العقليِّين.21 هذه ليست فرضيةً غريبة؛ إذ تُشير إحدى النظريات المهمة عن مُسببات الفصام، مثلًا، إلى أن المرضى يفتقرون إلى القدرة على استبعاد المعلومات الحسِّية غير ذات الصِّلة التي يتجاهلها بقيَّتُنا دون وعي، وهم يرَون أن العالَم عبارة عن عُواءٍ لا ينتهي.22 قد يُعاني الإنسان المعاصر بكل سهولةٍ من فصامٍ ارتيابي مُتولِّد بصورةٍ جماعية في ظل غياب التوجيه بشأن كيفية تقييم بعضنا لبعض بشأن نتائج الإبداع المُتواصِل على نحوٍ لا يَنقطِع.23 من أجل فرز رسائل البريد الإلكتروني التي تُروِّج علاجاتٍ مزعومة لكل شيءٍ من الفقر وحتى العجز الجنسي، أو سيل الحلول لمشكلات العالَم التي يُقدمها زعماء سياسيون طموحون، أو مجموعة متنوعة مُذهلة من المواصفات الفنية لمنتجاتٍ وعمليات متاحة من مورِّدين من مختلف أنحاء العالم، سنظلُّ جميعًا بحاجة إلى النصيحة والحُكم السديد لأشخاصٍ يُمكننا الوثوق بهم. لم يقضِ التواصُل الرمزي على مشكلة الثقة، وإنما فقط حوَّلها من رغبة في معرفة ما إذا كان بإمكاننا الوثوق في أحد الأفراد إلى رغبة في معرفة ما إذا كان بإمكاننا الوثوق في مصدر جماعي للمعلومات. ونتيجة لذلك، ربما تُحْدِث شبكة الإنترنت، مثل مظاهر ثورة المعلومات الأخرى، تغييرًا جذريًّا في طبيعة الشركات وغيرها من المؤسَّسات الأخرى، إلا أنها أبدًا لن تجعلها تختفي.
ثمة طريقة ثانية جرت بها حماية الإبداع على مرِّ التاريخ بدون وجود أنظمة رسمية لحقوق المِلكية الفكرية، وهذا من خلال دعم المنظمات السياسية بمختلف أنواعها. لقد كتب المؤرخ ديفيد لاندز، سائرًا على خُطى أعمالٍ سابقة لإريك جونز، أن أحد الأسباب الرئيسية لحدوث الثورة الصناعية في أوروبا قبل الصين (رغم الإنجازات التكنولوجية المُدهِشة التي حقَّقتها الصين خلال العصور الوسطى وفترة النمو المُبهر تحت حُكم سلالة سونج على مدار سبعة قرون قبل تحوُّل أوروبا إلى التصنيع) كانت المنافَسة المُستمرة بين القوى السياسية المُتغيِّرة وغير المركزية في أوروبا على السيادة.24 كان هذا يعني أن المُبتكِرين الذين لم تلقَ أفكارُهم التقدير الكافي في مكانٍ ما ربما سعَوا إلى الحصول على الدعم والحماية من مكانٍ آخر (رأينا آنفًا كيف نجح هذا لصالح الكنيسة البروتستانتية في جنيف). في الصين، قد لا يخبُو فحسب الابتكار الذي فشلَ في الحصول على رضا الإمبراطور، ربما لن يخبو وإنما قد يتمُّ قمعُه. ويسرد لانديز كيف أُوقفَت عن عمدٍ الحملاتُ البحرية الصينية الاستثنائية في أوائل القرن الخامس عشر، التي «فاقت أساطيلها الصغيرة في فخامتها، الأساطيل البرتغالية الصغيرة التي جاءت فيما بعد.» بمرسوم إمبراطوري: «بحلول عام ١٥٠٠، كان أي شخص بنى سفينةً بأكثر من صاريَين عُرضةً لعقوبة الإعدام، وفي عام ١٥٢٥ فُرِض على السلطات الساحلية أن تُدمِّر جميع السفن العابرة للمُحيطات وأن تَقبضَ على مُلَّاكها. أخيرًا، في عام ١٥٥١، صار الإبحار بسفينةٍ متعدِّدة الصواري جريمة، حتى وإن كان من أجل التجارة.»25 لم يخشَ الإمبراطور الصيني أحدًا، وبالتأكيد لم يخشَ الأجانب. وفي المقابل، عاش حُكَّام أوروبا في مناخٍ مُستمرٍّ من الخوف على مستوى المنفعة والإبداع.

تدخَّلت التنظيمات السياسية بطُرُقٍ كثيرة في آليات عمل المجتمَعات الحديثة، بتأثيراتٍ إيجابية جدًّا في أحيانٍ كثيرة. ولكن كما كان الحال مع التجَّار الذين سخِر منهم آدم سميث جدًّا، كانت دوافعهم غالبًا أقلَّ سموًّا من خُطَبِهم. حظي الإبداع بدعم كبير من جانب الأباطرة والأمراء على مرِّ العصور، عادةً على أمل إمكانية تحوُّله إلى غاياتٍ عدوانية وكذلك دفاعية. سنَستكشِف بعض تداعيات هذا الدعم الجماهيري للابتكار في الفصل السادس عشر. ولكن أولًا سنُلقي نظرةً على إحدى العواقب العظيمة غير المقصودة لتقسيم العمل في المجتمع الحديث؛ ألا وهي إقصاء التعساء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤