الفصل السادس عشر

دول وإمبراطوريات

استراتيجيات الدفاع والهجوم

يَقتضي الدفاع الفعَّال عملًا جماعيًّا. دائمًا تقريبًا يكون لدى فردٍ من فريق من المُقاتلين فرصة أفضل للنجاة في معركة مما لو كان كلُّ فردٍ منهم يُقاتل بمفرده. الاستثناء الوحيد المهم هو حين يكون المُقاتلون مُتنقِّلين ويُمكنهم النجاة عن طريق الفرار (وهي حقيقة يعرفها دومًا مُقاتلو حرب العصابات). حينئذٍ فقط يُمكن للقتال منفردًا أن يكون ميزة.

عندما بدأ أسلافنا الزراعة والرعي، تخلَّوا عن مميزات التنقُّل والارتحال. صحيح أن تربية الخرفان أو الماشية أو الخنازير وتدجينها لا تجعلك ترتبط بمكانٍ بدرجةٍ وثيقة مثلما تفعل زراعة الحبوب. ولكن من المؤكد أنه يُصبح أكثر كلفةً أن تفرَّ من عدو، قد يَستبيح مخازنك المُكدَّسة بالطعام، حتى ولو اضطر إلى تجميعها من أماكن متفرقة عوضًا عن سلبها من المخزن. لذا، بداية الزراعة كانت تعني بالضرورة أن يتكتل أجدادُنا في مجموعات أكبر مما اعتادوا عليه في السابق، حتى وإن كان من المُحتمَل أن تكون هذه المجموعات مجرد مجموعاتٍ أُسرية أكبر في البداية. كان من الممكن لأُسَر مجتمعات الصيد والجمع أن تَنقسِم بكل سهولة حين يُصبح الطعام شحيحًا أو حين تزداد صعوبة إدارة الخصومات والتوترات، إلا أنَّ المُزارعين الأوائل أدركوا أن الانقسام كان قد أصبح أخطر فعلٍ يُقْدِمون عليه. صار من الضروري أكثر من أي وقتٍ مضى تعلم العيش مع الآخرين وإدارة النزاع بدلًا من الفرار منه.

لم يكن التكتُّل معًا مسألة عيش في مجموعات أكبر وحسب. كان أيضًا يعني ضمنيًّا العيش معًا في مسافةٍ أقربَ من الناحية المادية. وإذا كنتم ستَمكُثون في مكان واحد، فمن المنطقي أن يكون ذلك المكان مَحميًّا؛ فيُمكن لمجرد تشييد جدار أو سُورٍ بسيط أن يمنحك ثوانيَ قيمةً في قتال، كما يُبعِد عنك المُغيرين العارضين. وهذا يستتبعه القول بأنه وفقًا لقوانين الهندسة البسيطة كلما كانت المستوطنة التي تُحاول حمايتها أكبر حجمًا، كانت المنطقة التي يحميها كلُّ مترٍ من الجدار أكبر (يزداد محيط الدائرة بزيادة قطرها، لكن مساحتها تزداد بزيادة «مربع» القطر). لذا، تميل المستوطنات الزراعية بطبيعتها لاحتواء عددٍ أكبر مما تحتويه جماعات الصيد وجمع الثمار. ومع ذلك فالعيش معًا يأتي بتحدياته؛ مثل كيفية مشاركة المكان، وكيفية التخلُّص من النفايات (كما رأينا في الفصل العاشر). حلول هذه المشكلات، مثل استراتيجيات الدفاع عن النفس، لها طابع «السلع العامة»، كما يُسميها علماء الاقتصاد. هذا يعني أنها تطبق عشوائيًّا، نوعًا ما، على كل فردٍ في المجتمع، بصرف النظر عمَّن أسهم فيها. فالأسوار الدفاعية تحمي الجميع، حتى المُتهربين الذين حاولوا تجنُّب أن يكونوا جزءًا من طاقم التشييد. نظام التخلص من النفايات البشرية هو نظام لمصلحة الجميع، بما فيهم أولئك الذين يُحاوِلون التهرُّب من تكاليف إدارته. لذا لو لم يكن يوجَد قدْر من التنظيم لمشاركة المهام، المدعوم بالتهديد بالإجبار، لحاول الجميع الاستفادة من جهود الآخرين بالمجان. مثل هذا التنظيم يُشير ضمنيًّا إلى التركيز وممارسة السلطة؛ ومن ثمَّ يُمكننا فهم أن نظام التنسيق الجماعي كان النتيجة الطبيعية لأول ثورة زراعية.

وإذا نجح النظام، يُحقق المجتمع ازدهارًا. وسرعان ما تكتسب المجتمعات المزدهرة جيرانًا، سواء أكانوا حاسدين لها على ازدهارها (أو يعتريهم فحسب فضول بشأن هذا الازدهار) أو سكان المناطق التي يمتدُّ إليها هذا المجتمع المحلي؛ إذ يُؤدِّي ازدهاره إلى نموٍّ سكاني وضغطٍ على مساحة الأرض المحدودة. وثمة طريقتان أساسيتان فقط يُمكنك أن تتعامل بهما مع جيرانك؛ يُمكنك أن تُقاتلهم أو يُمكنك أن تحاول التعايُش معهم. تاريخيًّا، كانت المجتمعات المحلية التي تُقاتل جيرانها بنجاح إما تذبحهم أو تطردهم من أرضهم أو تستعبدُهم؛ وأحيانًا تفعل مزيجًا من الأمور الثلاثة. كانت المجتمعات، التي سعت إلى التعايُش مع جيرانها، إما تتبادل معهم السِّلَع والخدمات بنشاط (وهو ما كان يسفر أحيانًا عن اندماجٍ في نهاية المطاف) أو تتغاضى عن وجودهم مع محاولة تقليل التواصُل الفعَّال.

ليس لدينا سجلات مكتوبة لنعرف منها أيًّا من هاتين الطريقتَين للتعامل مع الجيران كانت الأكثر انتشارًا خلال آلاف السنين التي تلَت اختراع الزراعة مباشرة. إلا أن لدَينا سجلات ذات طبيعة مختلفة نستطيع عن طريقها على الأقل استبعاد بعض الاحتمالات. لقد أوضح عمل المُتخصِّص بعِلم الوراثة البشرية لويجي كافالي سفورزا وزملائه توافُقًا ملحوظًا بين انتشار التكنولوجيا الزراعية (القمح بالأساس) من الشرق الأوسط إلى أنحاء متفرِّقة من أوروبا من عام ٧٥٠٠ قبل الميلاد حتى عام ٣٠٠٠ قبل الميلاد ونمط التنوُّع الوراثي البشري عبر أوروبا.1 أكثر تفسير منطقي لهذا الدليل هو أنَّ المُزارعين انتشروا تدريجيًّا في أنحاء القارة، بمعدَّل لا يتعدَّى متوسِّط كيلومتر واحد لكل عام على مدار أكثر من أربعة آلاف عام. ولقد أكَّدت أحدث طرُق التأريخ بالكربون المُشع أن الزحف كان أسرع كثيرًا في مناطق مُعيَّنة من غيرها،2 وأسرع على وجه الخصوص حول حوض البحر الأبيض المتوسط من المنطقة الشمالية النائية. تزاوَج المُزارعون مع المجتمعات المحلية للصائدين وجامعي الثمار، الذين كان لديهم تواتُرات مختلفة لجينات مُعينة تركت آثارًا في أحفادهم الموجودين على قيد الحياة اليوم. على سبيل المثال، نحن نعرف أن لدى سكان إقليم الباسك جنوب غرب فرنسا وشمال إسبانيا لديهم تواتُرات جينية مختلفة عن تلك الموجودة لدى سائر الأوروبيِّين، مما يُشير إلى أنهم قاوَمُوا لوقتٍ أطول وبنجاحٍ أكبر التزاوُج مع مجموعات المُزارعين المهاجرين القادمين من الشرق (رغم أن تزاوجًا ملحوظًا قد حدث بالتأكيد). كما أنهم يتحدَّثُون لغة مختلفة اختلافًا جذريًّا.
ما الذي يُوضِّحه لنا هذا؟ بادئ ذي بدء، يجعلنا نستبعد احتمالية انتشار نمط الحياة الزراعية في الأغلب من خلال المُحاكاة الثقافية، مثلما قلَّد أفراد مجتمع الصيد والجمع ببساطةٍ ممارسات جيرانهم الذين من الواضح أنهم كانوا يتمتَّعُون بالرخاء. على النقيض، انتشرت هذه المُمارسات من خلال الهجرة؛ إذ تنقل البشر والتقنيات معًا. كان يوجَد قدْر من المحاكاة بالطبع؛ ولكنها كانت مُحاكاة للوافدين الجدد الذين كانوا يتوسَّعُون بوضوحٍ في الإقليم.3 لم تكن هذه ظاهرة أوروبية فحسب؛ إذ كانت تنطبق أيضًا على الأمثلة الأخرى لانتشار الزراعة والتي تخضع للدراسة حتى الآن، مثل التوسُّع من المكسيك جنوبًا إلى جبال الأنديز وتوسع منطقة البانتو جنوبًا وشرقًا عبر أفريقيا منذ نحو ثلاثة آلاف عام.4 أظهرت عَيِّنة مُستخلَصة ببراعةٍ كدليل للحمض النووي من «مضغة تبغ» — لفائف من ألياف نبات اليُكَّة كانت تُستخدَم كَعلكةٍ — أن هذا ينطبق أيضًا على التوسع في زراعة الذرة عبر جنوب غرب أمريكا.5
fig7
شكل ١٦-١: انتشار الزراعة في أوروبا، وبخاصةٍ، مجيء القمح من الشرق الأوسط إلى أنحاء مُتعدِّدة من أوروبا، من ٩٥٠٠ سنة إلى ٥٠٠٠ سنة مضت. أُعيدت الطباعة بتصريح من لويجي لوكا كافالي سفورزا، كتاب «الجينات والشعوب واللغات»، ترجمة مارك سيلستاد (نيويورك: نورث بوينت للنشر، تابعة لشركة فارار، ستراوس وجيرو ٢٠٠٠)، صفحة ١٠٩، شكل ٥. نُشرت في الأصل في كتاب ايه جيه أميرمان وإل إل كافالي سفورزا، «الثورة الزراعية وجينات السكان في أوروبا» (مطبعة جامعة برينستون، ١٩٨٤).
ثانيًا: هذا يجعلنا أيضًا نستبعد احتمال قتل المزارعين المهاجرين ببساطةٍ لكل مجتمعات الصيد والجمع التي وجدوها على طول الطريق، أو حتى تهجيرها من الأرض بصفةٍ دائمة. بالطبع، لا نَعرِف عدد الرجال الذين قتلُوهم أثناء سعيهم جاهدين إلى تخصيب النساء.6 والأدلة من مجتمعاتٍ لاحقة تُشير بقوةٍ إلى أنه، حيثما أنتجت الزراعة ما هو أكثر من مجرَّد الكفاف، كان كثير من الأسرى إجبارًا يُجبرون على العمل عبيدًا. بالفعل، أثبت المؤرِّخون الاقتصاديون حاليًّا أن العبودية كانت سائدةً في كل المجتمعات تقريبًا في فترةٍ ما من تاريخها، وأنه كلما كان المجتمع أكثر ثراءً كان وجود العبودية فيه أرجح، على الأقل إلى أن يصير المجتمع ثريًّا بالدرجة الكافية التي تُتيح له اتخاذ موقفٍ ضدَّ العبودية من حيث المبدأ.7

مع ذلك، في الوقت نفسه، لا بدَّ أن العلاقات بين المزارعين وجيرانهم من الصيادين، وكذلك بين المجتمعات الزراعية المختلفة في المنطقة نفسها، قد تذبذبت بين أعمال عدائية متكرِّرة وتعاملات مشوبة بالحذر. التواتُر مدفوع بردود الأفعال على الأحداث بقدْر ما هو مدفوع بسياسة متعمَّدة، وكِلا الأمرين من شأنهما أن يكونا نتاج الانتهازية والاحتياجات العشوائية لمؤن الكفاف. ولكن بمجرد أن وصلت المجتمعات إلى حجمٍ كبير، اكتسب الاختيار بين القتال مع الجيران والاتِّجار معهم أهمية استراتيجية كبرى. لقد صارت سياسة، شكلتها مختلف المجتمعات بطرُقٍ مختلفة.

القوة والازدهار

على مدار نصف العشرة آلاف سنة الأخيرة تقريبًا، كانت المستوطنات، أيًّا كان حجمها، نادرة جدًّا (مدن مثل أريحا بقيت استثنائيةً للغاية حتى حوالي عام ٣٠٠٠ قبل الميلاد). ولكن مجموعة من الاختراعات، مثل الكتابة، والعجلة، واستئناس الخيول، والدمج بين العجلة والخيول لصُنع العربة الحربية، وأعمال الحدادة، وتصنيع القرميد، والتقنيات المُحسَّنة للبناء بالأحجار، والشراع والمجداف، وكذلك الإنتاجية الزراعية المُحسَّنة التي أتاحت للمزارعين دعم المزيد من الأفراد من غير المُزارعين، جعلت من المُمكن تنظيم المُجتمعات في مدنٍ أكبر، وتنسيق نشاط الجيوش الأكبر عددًا والأشد فتكًا، أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. كانت المدن الأكبر حجمًا هي نفسها وسيلة لإعداد جيوشٍ أكبر، وتمتَّعَت الجيوش الأكبر عددًا، طرديًّا، بفُرَصٍ أفضل للفوز بالمعركة. هذا جعلها مصدرًا للخوف لجيرانها وأعدائها ومكَّنها من اغتصاب موارد كافية من أولئك الجيران لتعويض تكلفة إعداد الجيوش نفسها. صارت الدوَّامة التنافُسية أكثر حدة، حيث استنتج الجيران أن السبيل الوحيد للهروب من دفع الجزية باستمرار يَكمُن في امتلاك جيوش كبيرة أيضًا.

fig8
شكل ١٦-٢: تشابه التواتُرات الجينية عبر أوروبا، مقاسًا باستخدام تقنيةٍ إحصائية معروفة باسم تحليل العناصر الأساسية. يُرَجِّح التشابُه المذهل بين شكل ١٦-١ انتشار المزارعين من الشرق الأوسط نحو أوروبا، واختلاطهم بالصيادين وجامعي الثمار المَحليِّين (الذين كان لديهم تواترات جينية مختلفة). أُعيد النشر بإذن لويجي لوكا كافالي وباولو مينوزي وألبرتو بيازا، كتاب «تاريخ وجغرافية الجينات البشرية» (مطبعة جامعة برينستون، ١٩٩٤)، صفحة ٢٩٢، شكل ٥-١١-١.

ومع ذلك، بدايةً من وقتٍ مبكِّر يعود إلى القرن الحادي عشر قبل الميلاد وحتى صعود دويلات المدن الفينيقية، اتبعَت بعض المجتمعات استراتيجيةً مختلفة، تتمثَّل في السعي وراء القوة من خلال الازدهار بدلًا من السعي إلى الازدهار من خلال القوة. في هذه المجتمعات، دفع الإنتاج والتجارة ثمن الدفاع، وأتاحت الدبلوماسية (عادةً برعاية التجارة) للدول استغلال المزيد من الموارد الدفاعية أكثر مما يُمكنها تحمُّل تكاليف استغلاله بدوامٍ كامل. احتاجت هذه المجتمعات إلى درجةٍ عالية نِسبيًّا من التنسيق الداخلي، وهو ما جعل حجمها يقتصر على الإقليم الذي يُمكن في نطاقه نقل المعلومات والتعليمات بسرعة؛ في الواقع، لأكثر من ألفَي سنة، إلى المدينة وظهيرها. عادةً كانت هذه المجتمعات بحاجة إلى تقديم نصيبٍ في الثروة الجماعية لمواطنيها، حتى وإن كان جزء من تلك الثروة (كما في دويلات المدن الإغريقية) قد تحقَّق بفضل عمل العبيد. كما طورت، لأول مرة في التاريخ، طبقة كبيرة من التجار، مثلت المدينة أمام العالَم الخارجي.

ومن المهم ألا نُسيء فهم هذا الفارق؛ فجميع دويلات المدن كانت مُهتمة بالدفاع واستثمرت بكثافةٍ في سبل الحماية المادية. بالتأكيد، كان الدفاع السبب الأساسي الذي جعل هذه المجتمعات الزراعية بالأساس متركزة في مستوطنات حضرية تمامًا، كما أوضحت كتابات العالِم السياسي آزار جات.8 ما ميز استراتيجية القوة من خلال الازدهار هو أنها استلزمت التعامُل مع بعض الجيران باعتبارهم موارد وليسَ مجرَّد تهديدات. حينئذ، أفصحت دويلات المدن عن استراتيجية مختلفة، نحو جيرانها، عن أي شيء شهدته المجتمعات المنظمة الكبيرة. كان من الأفضل اعتبار بعض الجيران، على الأقل، حُلَفاء وشركاء تجاريِّين لا أعداء، حتى وإن لم تُؤخَذ جدارتهم بالثقة أبدًا على أنها أمر مُسلَّم به. كانت هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر، ولكن كان مردودها المُحتمَل هائلًا، ليس فقط من الناحية الاقتصادية وإنما من الناحية العسكرية البحتة أيضًا، كما أوضحت كتابات المؤرخ العسكري فيكتور ديفيس هانسون.9 أتاحت القوة الاقتصادية للدول شراء أكثر الأسلحة المُميتة الموثوق بها، بصرف النظر عن المكان الذي أنتجها (بما في ذلك، المُعدات المُتطورة تكنولوجيًّا مثل السفن ومعدَّات الحصار والمدفعية). أتاحت لهم دفع أجور جيوش المُرتزقة عند الحاجة إليها. وهي، بقدرٍ لا يقلُّ أهمية، تُوفِّر «دافعًا». يزعم هانسون أن دويلات المدن الإغريقية كانت «أولى الحكومات التوافُقية في تاريخ الحضارة التي أوفدت جنودًا مُستقلِّين ولا يَملكُهم أحد؛ أفراد ميليشيات وأُسَر مزارعين وناخبين معًا.» شجع هذا على تفضيل معركة ضارية حاسمة على مناوَشات الكر والفر والحملات المُوسَّعة التي يُفضِّلُها أعداؤهم؛ إذ «لم يكن لدى [المواطنين الإغريقيِّين] رغبة في الغياب عن مزارعهم في حملاتٍ طويلة.» طوَّر الإغريق المعارك الضارية إلى استراتيجية ذات فعاليةٍ قاتلة، كما أوضَحَ النصر المبدئي للجيش الذي حارب فيه زينوفون بمعركة كوناكسا، حين دُمِّر جناح كامل من الجيش الفارسي في مقابل جرح جندي إغريقي واحد بسهْم.
كان الأثينيون أنفسهم مُدركين تمامًا إلى أيِّ مدًى كانت قوتهم العسكرية مُعتمِدةً على اقتصادهم التجاري. في أول كتاب من تأريخ ثوسيديديس للحرب البيلوبونيسية، يخبر بريكليس رفاقه الأثينيين أن أعداءهم ينقصهم الثروة الطويلة الأمد الضرورية:
نظرًا لمشاركة البيلوبونيسيين بأنفسهم في زراعة أراضيهم، بدون تمويلاتٍ خاصة أو عامة، فإنه يَنقُصُهم أيضًا الخبرة في الحروب الطويلة عبر البحار، بسبب القيد الصارم الذي يَفرضه الفقر على هجماتهم بعضهم على بعض. إنَّ قُوًى بهذا الوصف عاجزة تمامًا عن تجهيز أسطول أو إرسال جيش عادةً؛ فلا يُمكنهم تحمُّل الغياب عن ديارهم، ولا الإنفاق من مواردهم المالية الخاصة … يجب تذكُّر أن رأس المال يُنفق على الحرب أكثر من التبرعات القسرية.10
المفارقة أن المجتمَعات التي سعت إلى تحقيق الازدهار من خلال القوة لم تُصبِح أقل ازدهارًا وحسْب، وإنما حتى أقل قوة من المجتمعات التي تصوَّرت العلاقة بالعكس؛ أي تحقيق القوة من خلال الازدهار. ورغم ذلك، بمجرد أن تحقَّقت القوة، كان من الممكن لإغراء ممارستها ضد الجيران الأضعف أن يُصبح إغراءً طاغيًا. تجاوَزَت كلٌّ من أثينا وروما مرحلة دُويلة المدينة، ولفترة طويلة استطاعتا توظيف مهارتهما التجارية لصالح مشروع أكثر توسعًا واستبدادًا. قارن هانسون بين النهج الاقتصادي الذي اتبعتْه اليونان وروما لتحقيق الرخاء والنهج الذي ينطوي على قدْر أكبر من القسْر الذي اتبعتْه الجيوش التي واجهوها في الحروب:
استحثَّ نهب الخزائن الأخمينية، على يد الإسكندر الأكبر، نهضةً عسكرية في شرق البحر الأبيض المتوسِّط لأكثر من قرنَين من الزمان حيث حكمَت الكوادر الصغيرة نسبيًّا من الأُسَر الحاكمة الناطقة باليونانية أعدادًا كبيرةً من الآسيويين في آسيا السلوقية ومصر البطلمية. كانت روما آلة الحرب الرأسمالية بلا منازع في العالَم القديم [ذات] نظام مُعقَّد لإمداداتٍ لوجيستية يُتعاقَد عليها من الباطن مع رجال أعمال من القطاع الخاص. كان البديل للحرب ذات التمويل الرأسمالي إما الإجبار بكل بساطة — محاربين مُجبَرين بلا أجر — أو حشود القبائل المُحفزة بوعود الحصول على غنائم. كان يمكن لكِلا النظامين أن يُسفرا عن جيوشٍ ضخمة ومُتحمِّسة؛ وأبرز الأمثلة على ذلك الجيش الغالي بقيادة فرسن جتريكس الذي كان قوامه ربع مليون رجل والذي كاد أن يهزم يوليوس قيصر عند مدينة أليسيا (عام ٥٢ قبل الميلاد) وغزوات البدو بقيادة جنكيز خان (١٢٠٦–١٢٢٧) وتيمورلنك (١٣٨١–١٤٠٥)، الذي اكتسَحَ أغلب القارة الآسيوية. ولكن حتى أكثر القبائل دمويةً لا يُمكنها تحمُّل تكلفة قواتٍ عسكرية — مأكل وملبس وأجور — ذات أسلحة مُتطوِّرة لفترةٍ طويلة من الوقت. فعند نقطة مُعيَّنة، يتوقف المزارعون والحرفيون والتجار عن العمل إذا لم يَحصُلوا على أجورهم.11

ومن هذا المُنطلق، وباعتبارها مسألة حوافز بسيطة، قد تبدو النقطة واضحة. ما كان مُبهمًا لكثير من القادة السياسيِّين الأوائل على مستوى العالَم هو أن المجتمَعات غير الراغبة في التعامُل مع بعض جيرانها على الأقل باعتبارهم شركاء، لا أعداء، لن تكون قادرةً أبدًا على جمع رأس المال لضمان إقامة مشروع عسكري ناجح على المدى الطويل أصلًا.

ثلاثة عيوب في الاستراتيجية التجارية

خلال الخمسة آلاف سنة الأخيرة، مرَّت المنافسة بين الدول والإمبراطوريات (الأولى قامت على التجارة بصورةٍ ملحوظة، والأخيرة قامت على الإجبار) بالكثير من تقلُّبات الحظ، التي لا تَختلِف عن المنافسة بين الشركات التي ناقشناها في الفصل الثالث عشر. أحيانًا كانت دويلات المدن الناجحة تتحوَّل إلى إمبراطوريات، وتنهار الإمبراطوريات الفاشلة إلى دويلات مُتناحِرة. لاحظ بعض الباحثين، مثل بول كينيدي، الذي كتب عن الفترة منذ عام ١٥٠٠، وجود قوة مُحرِّكة مُتأصِّلة بفضلها أدَّى النجاح الإمبريالي ذاته إلى التوسُّع، نظرًا لأن نوعيَّات الاستثمار اللازمة للحفاظ على إمبراطورية كانت تتعارَض مع نوعيات الاستثمار اللازمة للحفاظ على الأُسُس التجارية لنجاحها العسكري.12 وأيًّا كان الأمر (ويشير وصف هانسون للإمبراطورية اليونانية في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسِّط إلى أن التوسُّع الإمبريالي ربما يستغرِق أحيانًا وقتًا طويلًا ليبدأ)، كانت العملية تعتمد أيضًا اعتمادًا كبيرًا على الصُّدفة؛ وهي نقطة أكَّد عليها أيضًا المؤرِّخ جون داروين فيما يتعلق بفترة ما بعد عام ١٤٠٠.13 على سبيل المثال، لم تكن إمكانية نجاة الدول من أعمال سلْب الإمبراطوريات تعتمد على مهارتها الدبلوماسية وحسب، وإنما أيضًا على التغيُّرات في تقنية الهجوم والدفاع. كانت عوامل تدريب الخيول على حمل المقاتلين المُسلَّحين، وتطوير السفن الثلاثية المجاديف في أثينا، والابتكارات التنظيمية الخاصة بالدولة الرومانية (بما في ذلك تلك الشوارع الشهيرة) كلها تجعل كفَّةَ الميزان تَرجح لصالح التوسع، ومن ثَمَّ لصالح الإمبراطوريات؛ ولكن تطوُّر البناء بالحجر واختراع القوس والنشاب والقوس الطويل جعلها تعود مرةً أخرى لترجح الكفة لصالح التشكيلات الدفاعية الصغيرة؛ ومن ثَمَّ لصالح الدول.
قد يكون للكثير من التطوُّرات الصغيرة من الناحية الظاهرية عواقب كبيرة وبعيدة؛ أشار المؤرِّخ لين وايت إلى أن الرِّكاب البسيط (وهو اختراع مُستورَد من آسيا) أتاح القتال على نطاقٍ واسع بين فرسان الخيَّالة في أوروبا؛ ومن ثَمَّ أرسى أُسُس النِّظام الإقطاعي.14 لم تَعُد نظرية وايت في صورتها الأصلية تُؤخَذ على مَحمل الجد، ولكن لا جدال في أنَّ الرِّكاب كان له تداعيات لا تتناسَب على الإطلاق مع حجمه. قد تُحْدِث التغيُّرات في تكلفة النقل والتواصُل عبر مسافات طويلة فارقًا حاسمًا في قدرة الإمبراطوريات على البقاء (جاء انهيار الإمبراطورية الرومانية من داخلها؛ حيث لم تَعُد الأقاليم الفقيرة قادرة على تحمُّل تكاليف صيانة البنية التحتية التي كانت قد أبقت على الإمبراطورية مُتماسكة). كانت الابتكارات التنظيمية من الأهمية بقدْر الابتكارات المادية؛ ومثال ذلك، الإحصاء السكَّاني، الذي بدأته كل من الإمبراطوريتَين الصينية والرومانية والذي طبَّقته الدول القومية بطريقةٍ منهجية في أوروبا في أوائل العصر الحديث في محاولاتها لإحكام قبضتها السياسية والجغرافية وبالأخص المالية على أقاليمها. وإلى جانب الإحصاء السكَّاني جاء اختراع الألقاب الشخصية، الذي فُرِض لأول مرةٍ على سكَّان الصين حوالي القرن الرابع قبل الميلاد وجرَت محاولات مرَّات كثيرة لفَرضِه في أماكن أخرى من العالَم في القرون اللاحِقة، ولم تنجح دومًا.15 بالفعل، كان مدى قُدرة الدولة على توحيد الألقاب اختبارًا للقدرة التنظيمية بقدْر ما كان وسيلةً لتحقيقها.

كان للكثير من الابتكارات تداعيات مُتناقِضة للغاية بخصوص المنافسة بين الدول والإمبراطوريات؛ فربما يكون اختراعٌ ما في صالح الدول في البداية ولكنه يُصبح في صالح الإمبراطوريات بمرور الزمن. فقبل عام ١٠٠٠ قبل الميلاد، أرست إجادة الفينيقيِّين الملحوظة لبناء السفن أُسُس اقتصادهم التجاري، إلا أن هذه المهارات عينها صُقِلَت لأغراضٍ عسكرية وكذلك تجارية بواسطة مُنافِسيهم الإغريق والرومان. هذا يُبيِّن أنه على الرغم من أن استراتيجية وضع أساسٍ تجاريٍّ للقوة العسكرية أثبتت نجاحًا مذهلًا، على مرِّ آلاف السنين، أكثر من الاستراتيجية المنافسة الخاصة بوضْع أساس عسكري مَحْض من أجل القوة الاقتصادية، فإنها استراتيجية ذات عَيبٍ خطير.

خطورة التفاوت في القوة

في الواقع، هذه الاستراتيجية بها ثلاثة عيوب خطيرة، كلٌّ منها يرجع إلى حقيقة مفادها أنه حتى التقنيات الدفاعية تنطوي دومًا على بعض إمكانياتٍ استخدامها في الهجوم. العيب الأول هو أن الدول الغنية يُمكن أن تصير مصدرًا للخوف لجيرانها؛ نظرًا لأن استراتيجية التبادل التجاري مع هؤلاء الجيران بدلًا من قتالهم قد لا تَصمد طويلًا أمام ظهور تفاوتٍ كبير في القوة العسكرية. انعدام الشعور بالأمان لدى الجيران ليس بالضرورة خبرًا سارًّا. إنهم يُحوِّلون مواردهم من الاستثمارات السِّلمية التي قد تُساعد كِلا الطرفَين ويُوجِّهونها نحو التقنية العسكرية الباهظة والخطيرة، وربما يَستسلمون لإغراء فُرَص توجيه ضربة استباقية من أجل تفادي خطر أن يتعرَّضُوا هم أنفسهم لضربة استباقية. كان شعور إسبرطة بعدم الأمان في مواجهة ازدهار أثنيا المُتنامي هو ما أسفر عن الحرب البيلوبونيسية. وجهة النظر الحديثة الرائجة القائلة بأن التبادُل التجاري بين الجيران يُقلل من احتمالية شنِّ الحروب (وهي وجهة نظر محورية في تأسيس السوق الأوروبية المُشتركة في أوروبا الغربية بعد الحرب العالَمية الثانية) ليس لها أساس متين في التاريخ.16 وبوسعنا أن نكون مُتأكِّدين من أن البديل المنطقي الوحيد للحرب بين الجيران هو التجارة، ولكن هذا لا يَعني أن التجارة في حدِّ ذاتها ضمان أكيد للاستقرار.
حتى عندما يُحقِّق الجيران المباشِرُون توازنًا معقولًا بينهم، وإن كان مؤقتًا، يُوجَد دومًا جيران بعيدون يُمكن تهديدهم. كانت الطموحات الإمبريالية لدول أوروبا الغربية مُكثَّفة للغاية على مدار الخمسمائة عام الأخيرة أثناء فترات التنافُس المتوازن بدقة بين تلك القوى الإمبريالية، سواء كنا نُلقي نظرةً على القرن السادس عشر أو أواخر القرن الثامن عشر أو أواخر القرن التاسع عشر. ولم تُساعِد هؤلاء الجيران بالضرورة محاولاتٌ من جانب المنافِسين أنفسهم لجعل العملية «متحضِّرة». ألغت القوى الأوروبية تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلنطي في أوائل القرن التاسع عشر، ولكن استمرَّت المذابح المُمنهجة للسكان الأصليين في مُستعمراتهم. كان من بين هؤلاء السكان الأصليِّين في أستراليا وتسمانيا (تلك الأخيرة أُبيد سكانها عن بكرة أبيهم)، وشعب الهيريرو في جنوب غرب إفريقيا الألمانية (ناميبيا حاليًّا) عام ١٩٠٤،17 وما يُمكن أن يُطلق عليه أكبر عملية إبادة جماعية في التاريخ بقتل عشرة ملايين كونغولي على أيدي المُستعمِرين البلجيكيين بين عامي ١٨٨٠ و١٩٢٠؛ بمُعدَّلٍ مُفزِع بواقع جريمة قتل كل دقيقتَين، ليلًا ونهارًا، لمدة أربعين عامًا.18
لقد أدرك واضعو الاستراتيجيات العسكرية منذ زمن بعيد أن تفاوت القوة بين المُتنافِسِين — ولا سيما التفاوت «المتزايد» في القوة — هو أهم سببٍ لتوقُّع اندلاع أعمال عدائية. ومن المثير للاهتمام أنه قُدِّم تفسير مُماثل لواحدٍ من ألغاز السلوك الحيواني؛ ألا وهو تزايد وتيرة العنف بين البالِغين في بعض الأنواع أكثر من غيرها. تَقتُل قِرَدة الشمبانزي (مثلها مثل الأسود والذئاب والضباع الرقطاء) بانتظامٍ البالِغين الآخرين من نفس نوعها؛ ولكن الغوريلا، كغالبية الحيوانات الأخرى، نادرًا ما تفعل ذلك. ورغم ذلك، فنزعتهما الطبيعية للعُنف متساوية تقريبًا. وللغوريلا — مُجددًا، كالكثير من الأنواع الأخرى — نصيب كبير من معدَّلات قتل الصغار (على سبيل المثال، سجَّل موقع دراسات ديان فوسي في رواندا أن صغيرًا واحدًا من كل سبعة صغار قُتل على أيدي غوريلات بالغة). قتل الصغار ظاهرة شائعة في الطبيعة، ولكن قتل البالِغين نادر، وهذا لسببٍ بسيط: الصغار أضعف بدرجةٍ كبيرة من البالِغين. لذا، ليس من المُدهش أن الأنواع التي تقع بينها حوادث قتل البالِغين بصفةٍ منتظِمة هي تلك الأنواع التي تحدُث فيها بانتظام مواجهات، بسبب سلوكيات البحث عن طعام، بين مجموعاتٍ غير متساوية في الحجم والقوة.19 وتُعدُّ قرود الشمبانزي مثالًا على تلك الأنواع، التي تُوجَد في بيئةٍ يتنوَّع فيها حجم أكفأ المجموعات حسب المهمة المُسندة إليها، وحيث ستتجوَّل المجموعات بحثًا عن الطعام بطرُقٍ استكشافية وغير مُتوقَّعة على مساحة شاسعة. ولسُوء الحظ، البشر مثال آخر على ذلك. وعلى الرغم من أنَّ الاتجاه نحو وجود زراعي مُستقر في أيِّ حقبة خلال العشرة آلاف سنة الأخيرة ربما أبطأ مؤقتًا جولات مجموعات بعَينها، فإن الهجرات الناتجة عن زيادة النمو السكاني، إلى جانب الاختلاف المُذهل في حجم وقوة المدن والدول، ضاعف مضاعفةً مهولة من الفُرَص والحوافز على الحرب. في القرن الذي نعيش فيه، ربما تفعل العولمة شيئًا مُشابهًا؛ وهي نقطة سبق وأن تناولناها في الفصل الرابع عشر. لقد أثبت التفاوت الهائل في القوة العسكرية بين الولايات المتحدة وسائر البلدان الأخرى، والذي ظهر منذ نهاية الحرب الباردة، أنه أمر سيئ للولايات المتحدة نفسها، وهي نقطة سأعود إلى تناولها لاحقًا.

جنود ومدنيون

العيب الثاني في استراتيجية بناء القوة من خلال الازدهار هو أن الاستراتيجية التجارية الناجحة للدفاع تتطلَّب، كأي استراتيجيةٍ تجارية ناجحة لأي شيء آخر، تقسيمًا للعمل بين المُتخصِّصين وباقي الأفراد. وكما أشار ابن خلدون جليًّا قبل ستة قرون مضت (وكما فعل آدم فيرجسون بعده بنحو أربعة قرون تقريبًا)، أنه حين يُسلِّم المجتمع القرارات العسكرية إلى الجنود المحترفين لكي يُواصِل تحقيق الازدهار، فإن أولئك الجنود يُمارسون سلطةً هائلة على أولئك الذين طلبوا الحماية. وأُكرِّر مرارًا وتكرارًا أن تلك القوة لم تُستخدَم دومًا للقتل أو الاستعباد، ولكن على الأقل لفرْض الضرائب أو الابتزاز (هذان المصطلحان الأخيران يعنيان الشيء نفسه عادةً). اشتُهِر عن الفيلسوف توماس هوبز قوله إن السلطة المطلقة لملكٍ واحدٍ أفضل من السلطة المُتنازع عليها بين عصاباتٍ محلية مُتنافسة. عاش هوبز في فترةٍ من المنافسة الشديدة والدامية بين القوى الأوروبية (زعم أنَّ أُمَّهُ كانت قد ولدتْه فَزَعًا عند وصول الأسطول الإسباني عام ١٥٨٨). نُشر كتابه الرائع «اللفياثان» بعد فترةٍ وجيزة من نهاية حرب الثلاثين عامًا، وهي واحدة من أكثر فترات الاقتتال دمويةً التي تعرَّضَت لها القارة الأوروبية. هذا يُشير إلى أن هوبز عايش عن قُربٍ التكاليف التي تكبَّدَها البشر جراء المنافسة «بين» القوى السياسية لدرجة أنه قلَّل من شأن تكاليف عدم التكافؤ في القوة «داخل» الدول، وهي التكاليف التي كان من شأنها أن تشغل الفكر السياسي في القرون التالية. وليس من قبيل المبالغة، بالطبع، أن نقول إن مشكلة كيفية تقييد ممارسة السلطة داخل الدولة صار يُنظَر إليها باعتبارها المشكلة المحورية للفلسفة السياسية في الحقبة الحديثة (تعني تبايُنات المصطلحات الفكرية أن مشكلة تقييد ممارسة السلطة «بين» الدول لم تَعُد تُعتبَر فلسفية مُطلقًا وإنما تندرِج تحت العنوان المُتخصِّص للعلاقات الدولية).

سوق السلاح

لقد فضح التطوُّر السياسي والعسكري للدول القومية في القرون الأخيرة هذَين العيبَين في استراتيجية الدول التجارية. ولكن ثمَّة عيب ثالث، ليس أقلَّ فتكًا، كان اليونانيون أنفسهم على درايةٍ تامَّة به، ويُهدِّدُنا في العالَم المعاصر بنفس قدْر تهديد أيٍّ من العيبَين الأوَّلَين. وتستلزم الاستراتيجية التجارية الناجعة للدفاع، كجزءٍ من تقسيم العمل، ضرورة منح أولئك الذين اخترعوا الأسلحة وصمَّمُوها وصنعوها قدرًا كبيرًا من الحرية. فهي تقتضي منافسةً تجارية، ومتَّسعًا لحلٍّ مُستقِلٍّ وبارع ولكن غير متوقَّع. وسيبيع المُصمِّمون المُستقلُّون لمن يدفع لهم. كتب فيكتور هانسون أنه في أثينا «كان الدافع بوجهٍ عام رأسماليًّا وديمقراطيًّا؛ إذ كان للمُصمِّمين مُطلق الحرية في التربُّح من تصنيع أسلحةٍ أفضل من منافسيهم، بينما سعى الحُكَّام لتسليح أكبر عددٍ مُمكن من رعاياهم وبأرخص تكلفةٍ ممكنة وبأشد فتكٍ مُمكِن.»20 وأشار مؤرِّخ آخر، هو إدوارد كوهين، إلى أنَّ التجارة البحرية في أثينا كانت «تتَّسم بتجزئةٍ بالغة للسُّوق؛ إذ لم يكن يُوجَد في أثينا مالك واحد لأسطولٍ متعدِّد السفن، ولا شركات تجارية مُهيمنة، ولا شركة مسيطرة على الميناء.»21 وحتى أثناء العصور المُظلِمة والعصور الوسطى في أوروبا، يكتب هانسون: «برع الأوروبيون في تصنيع مجموعة مُتنوِّعة من السلع العسكرية المُتفوِّقة بأعداد كبيرة، من الدروع المُصفحة وحتى السيوف ذات الحدَّين التي لا نظير لها، والقوس والنشاب والنار الإغريقية، مما حفَّز دولًا كثيرة على إصدار مراسيم تَحظُر على تجَّارها تصدير تلك الأسلحة إلى أعدائها المُحتمَلين.» مثال على هذه المراسيم كان المرسوم الذي أصدره إينوسنت الثالث عام ١١٩٨ يَحرِم فيه كنسيًّا «كل من يتجرَّأ على مدِّ العرب المسلمين بالسلاح أو الحديد أو الخشب لبناء سُفنِهم الشراعية.»
لم تُؤتِ هذه الضوابط المفروضة على الصادرات ثمارها. كما لم تُحقِّق نجاحًا مُطلقًا حين تتعرَّض المصالح الاقتصادية القوية بالدرجة الكافية للخطر. لقد تعرَّض البابا إينوسنت الثالث نفسه للضغط من قبل المصالح التجارية في مدينة البندقية لكي يُخفِّف من حدَّة مرسومه. وردَّ البابا في خطابه إلى مدينة البندقية بنبرةٍ مُتفهِّمة:
ابناي العزيزان أندرياس دوناتوس وبنيديكت جريليون، جاء رُسُلكما مؤخرًا في زيارة بابوية وبذلوا قصارى جهدهم ليَشرحوا لنا أنه بموجب هذا المرسوم تُعاني مدينتكما من خسارة ليسَت بهيِّنة؛ حيث إنها ليست مدينة مُكرَّسة للزراعة وإنما للملاحة والتجارة. ولذا، فنحن مَدفوعون من باب الحب الأبوي الذي نُكنُّه لكما، وخشية الحرمان الكنسي نأمركما بعدَم مساعدة العرب المسلمين ببيع الحديد والكتان والقار والأوتاد المُدبَّبة والأحبال والأسلحة والخوذات والسفن وألواح الخشب أو الأخشاب غير المصقولة أو توفيرها أو تبادُلها معهم، ونسمح، في الوقت الراهن وحتى نصدر أوامر أخرى، بتبادل أي سلع، بخلاف تلك المذكورة، مع مصر وبابل، كلَّما اقتضت الضرورة. نأمُل، مقابل هذا العطف، أن تضعا في اعتباركما مساعدة القدس، وأن تحرصا على تجنُّب إساءة استغلال المرسوم البابوي؛ إذ لا شكَّ في أن من تُسوِّل له نفسه مخالفة هذه الأوامر سيتعرض لغضب الرب.22
لم يكن فشل الضوابط المفروضة على الصادرات مجرَّدَ عيبٍ عرضي في قدرة أوروبا على إدارة الدولة. على النقيض من ذلك، كانت المنافسة المُستمرَّة بين مُنتجي التكنولوجيا ومُصدِّريها (لا سيما، وإن لم يكن حصريًّا، التكنولوجيا العسكرية) إحدى القوى الأساسية المُحرِّكة للتنمية الاقتصادية البارزة لأوروبا في العصور الوسطى والفترات المبكرة الحديثة. يُقارن ديفيد لاندز بين التوجهات المختلفة لأوروبا وسلالة مينج الحاكمة في الصين. رغم اختراع البارود:
لم يتعلَّم الصينيون قطُّ صنع البنادق الحديثة. والأسوأ من ذلك أنه رغم أنهم عرفوا المدافع واستخدموها منذ القرن الثالث عشر، تركوا تلك المعرفة والمهارة تتسرَّب من بين أيديهم. كانت أسوار وبوابات مدينتهم تحتوي على مواضع للمدافع، ولكنها كانت فارغةً بدون مدافع. من كان بحاجة إليها؟ فأعداء الصين لم يكونوا يَمتلكونها. … [رغم ذلك] ما كان لأيِّ دولة أوروبية أن تمنَع التسلُّح بسبب ضعف العدو؛ فحينما تعلق الأمر بالموت، وصل الأوروبيون إلى أقصى مداهم.23

المنطق الأساسي الذي تَستنِد إليه الصادرات العسكرية هو أن تطوير التكنولوجيا العسكرية يتطلَّب الكثير من الاستثمار ويخلق حافزًا قويًّا لبيع أكبر قدرٍ ممكن من المعدَّات الناتجة لتُعوض تلك الاستثمارات الثابتة. هذا الأمر قائم الآن، في أوائل القرن الحادي والعشرين، مثلما كان الحال دومًا في الماضي. ومثل أسلافهم في العصور الوسطى، يَتنافَس أنبغ المهندسين في أقوى الدول بالعالَم على بيع مُنتجات صناعاتهم الدفاعية لدولٍ أخرى، سيستخدِم كثير منها الأسلحة في النهاية ضدَّ المُتعهِّدين السابقين لهم.

صدَّرَت الدول الخمس الكبرى المُصدرة للأسلحة مجتمعةً ما بلغت قيمتُه حوالي ١٨ مليار دولار من الأسلحة التقليدية (بأسعار ١٩٩٠) في عام ٢٠٠٨، وفقًا للأرقام الرسمية التي أورَدَها معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.24 بالطبع، هذا الرقم يتضاءل أمام إجمالي النفقات العسكرية في جميع أنحاء العالَم، والذي قُدِّر بأكثر من ١٤٠٠ مليار دولار في العام نفسه؛ ونسبة كبيرة من النفقات العسكرية مُخصَّصة لدفع الرواتب، وليس لشراء المعدَّات. إلا أن هذه التقديرات أقل قطعًا من قيمتها الحقيقية؛ حيث إنها لا تشمل المعدَّات العسكرية المُهرَّبة أو المسروقة أو التي لم تُسجَّل ببساطةٍ بقيمتها الحقيقية، وهي بلا شك نسبة كبيرة. أخطر الأسلحة ليست دومًا أوضحها فتكًا؛ لأنه ثمة مُفاضَلة بين الحجم وسهولة الإخفاء. فحاملات الطائرات مُدمِّرة جدًّا ولكن يصعُب إخفاؤها في حقيبة سفر، في حين أن تزايد عدد الأسلحة الخفيفة في مختلف أنحاء العالَم سيُودِي بالتأكيد بحياة عددٍ أكبر من الضحايا في العقود القليلة القادمة مقارنةً بفئات الأسلحة الأخرى مجتمِعة، ما لم تَحدُث حرب نووية واسعة النطاق.
وكما كان الحال مع الصيادين وجامعي الثمار الأوائل، النتيجة الإجمالية لنفقات الدفاع على مستوى العالَم هي جعْلنا نشعُر بقدْرٍ أقل من الأمان وتوجيه الطاقة والموارد والقدرة على الإبداع بعيدًا عن تحقيق غاياتٍ أكثر سلمًا وإنتاجية؛ وثمة دليل قوي على أن الأداء الاقتصادي لأي دولة يتأثَّر سلبًا عند ارتفاع نفقات الدفاع.25 ولكن كما كان الحال مع الصيادين وجامعي الثمار الأوائل، هذا لا يعني أن الدول التي تفعل ذلك تتَّسِم بالحماقة. أُكرِّر مرة أخرى، تُشير الأدلة إلى أنها تنفق الأموال على الأسلحة عندما تواجه تهديدًا، وأن الإنفاق على الأسلحة هو أمر أكثر منطقيةً لكل دولة من مجرد تَمنِّي انحسار التهديد من تلقاء نفسه.26 لهذا السبب لن تكون المُناشدات البسيطة لتعقُّل الدول المستقلة كافيةً أبدًا لخفض الإنفاق العسكري إلى مستوًى أقل خطورة؛ لأن أغلب الدول المُستقلة تتصرَّف بعقلانية، حتى وإن كان هذا في إطار أن تجعل إحداها الأخرى أقلَّ أمنًا.

بالطبع، ليس جميع الإنفاق على الدفاع يجعل جيرانك يَشعُرون بالضرورة بعدَم الأمان. فقدرة بعض الأسلحة الدفاعية أكبر من قدرتها الهجومية، وبعضها مُصمَّم صراحةً على ألا يُستخدَم مطلقًا. إلا أن مُصدِّري الأسلحة هم، قبل أي شيء، رجال (وسيدات) أعمال. ورجال الأعمال يعرفون، عادةً، أنه يُمكن جنْي أموال من بيع المُعدات إلى من يعتزمون استخدامها أكثر مما يجنيه ممَّن لا يعتزمون استخدامها.

مُهمة الحكومة

بالطبع، تشتمل مهمة الحكومة في القرن الحادي والعشرين على ما هو أكثر بكثير من الدفاع. على الرغم من أن الأرقام تتغيَّر وفقًا للتعريفات الدقيقة المُستخدَمة، والتقلُّبات من عامٍ إلى آخر، والتخمينات بخصوص حجم الاقتصاد الأسود، فإن حصَّة الدخل القومي التي تستقطعها الحكومة على هيئة ضرائب في دول العالَم الغنية تَتراوَح بين حوالي الثُّلث في اليابان والولايات المتَّحدة وأكثر من الخُمْسَين في أوروبا الغربية وحوالي النصف في فرنسا وإسكندنافيا. جزءٌ كبير من هذه النسبة يَشتمل على تحويلات، من دافِعي الضرائب إلى آخرين، لا سيما المُستفيدين من معاشات القطاع العام وإعانات البطالة والتأمينات الاجتماعية؛ وكذلك أيضًا المُستفيدين من مجموعةٍ من الإعانات المالية الحكومية من المنح الفنية والتعليمية وحتى اعتمادات التصدير لمُصنِّعي الأسلحة. وإذا ألقينا نظرةً فقط على تلك الجزئية الخاصة بالنشاط الاقتصادي الذي يَشتمِل على استهلاك السلع والخدمات (باستثناء كلٍّ من التحويلات والاستثمار)، تستقطع الحكومة في الدول الغنية حوالي ٢٠ بالمائة، بينما في الدول الفقيرة تَستقطِع حوالَي ١٦ بالمائة. وكلتا النسبتَين أعلى بكثير مما كانتا عليه في القرون السابقة (حتى الدول الفقيرة استفادت من التكنولوجيا الحديثة لتحصيل الضرائب والرقابة الاجتماعية). ومع ذلك، سُلطة القيادة السياسية مموَّلة في جميع الدول من جانب السلطة العسكرية، وتُعدُّ سلطة القيادة السياسية بدَورها في صُلب سلطة تحصيل الضرائب والإنفاق والتنظيم.

هذا لا يَعني أنَّ الحكومات تحصُل دومًا على ما تُريد. كما وصفنا في الفصل الأول، عادةً ما تكون حتى الحكومات ذات القدرات العسكرية الهائلة عاجِزةً على نحوٍ غريب عن السيطرة على مُجرَيات الأحداث من حولها، وكلَّما كان النشاط التجاري لأمةٍ ما أكبر، صار من المُرجَّح أكثر أن يكون مُتنوِّعًا وغير مركزي ومُقاومًا للمراقبة. ومع ذلك، سعتِ الحكومات إلى تنظيم النشاط بطرُقٍ عديدة، لأسبابٍ وجيهة وسيئة. بَيَّن الفصل العاشر أن التلوُّث والمرض المُنتشِر في المدن قد أثار مجموعةً من الاستجابات لضمان بيئةٍ أنظف على المستوى المحلِّي. لم ينشأ هذا بالأساس عن الإيثار، وإنما بالأحرى من الإقرار بأنَّ العوامل الخارجية تَربِط بين مصائر الأقوياء والضعفاء. وإذا لم تُصبِح المدن صحيةً أكثر للفقراء، فلن يَسكنها الأغنياء. وبالمِثل، غالبًا لم تَنبع الخطوات الرامية إلى إضفاء طابعٍ ديمقراطي على الأنظمة السياسية في القرنَين التاسع عشر والعشرين من كرم الأقوياء سياسيًّا أو نيَّتهم الحسنة وإنما من خوفهم من قيام ثورةٍ إذا لم تُلَبَّ مطالب الديمقراطية («الإصلاح، هذا أمر لا بدَّ أن تُحافظ عليه.» على حدِّ قول اللورد ماكولي أثناء تمرير قانون الإصلاح العظيم لعام ١٨٣٢).27

إلا أن السياسات التنظيمية لجميع الحكومات لم تكن نتاجًا لرؤيةٍ مُتَّسقة بقدْر ما كانت سلسلة استجاباتٍ لمشاكل فورية، كما هو الحال مع المُجتمَعات التي تسعى إلى تنظيمها تلك السياسات. ومهمَّة الحكومة تخضع لتقسيم العمل بنفس قدْر خضوع مهمَّة أي شيءٍ آخر. لا تعمل الحكومات المركزية إلا من خلال رُؤيةٍ مشوشة لِما يحدُث في الحكومات المحلية (هذا أحد الأسباب وراء أن الحكومات المحلية تستطيع أن تُنجز بعض الأمور على نحوٍ أفضل بكثيرٍ مما تَستطيعه الحكومات المركزية). وحتى في داخل الحكومات المركزية، لا يَفقه المسئولون في وزارة الزراعة شيئًا عن تنظيم النَّقل؛ وتُمنَح البنوك المركزية على نحوٍ مُتزايد استقلاليةً دستورية من الرقابة الحكومية؛ وتُنجِز الهيئات المَعنية بالمنافسة مُهمَّتها بدون التنسيق مع وزارات العمل أو وزارات الدفاع. أحيانًا تكون هذه هي النتيجة الحتمية لحجم المهمَّة والحاجة الماسة إلى مُتخصِّصين؛ فمن شأن حكومةٍ من الهواة يُنظِّمون اقتصادًا يزخر بالمُتخصِّصين أن تتخلَّف عن الركب على نحوٍ ميئوس منه. وأحيانًا يكون الأمر نتيجة لاعتقاد بأن بعض المهام تَستلزم الثبات والاستقلالية عن الضغوط اليومية المصاحبة لكافة الأنشطة الحكومية. لا تَعتمد البنوك المركزية وتنظيم المنافسة، مثلها مثل المنظومة القضائية، على اتِّخاذ قراراتٍ حكيمة فحسْب وإنما تَعتمد أيضًا على إرسال إشاراتٍ موثوقة ومُتَّسقة إلى باقي المجتمع، إشارات قد تُقَوَّض مصداقيتها ذاتها من قِبَل عملية تنفيذٍ سياسيةٍ بوضوح. ومن ثمَّ يُعَيَّن المسئولون عن أداء هذه المهام بطرُقٍ تُعفيهم من ضغوط السياسة اليومية التي تحدُث في أماكن أخرى بالمنظومة. ضغوط السياسة اليومية تلك هي في حدِّ ذاتها نتيجة لعدة مبادَرات مُتعارضة، من جانب الناخبين، وجماعات الضغط، ونشطاء الأحزاب، والمُمثلين المُنتخبِين، والصحفيين، وأصحاب الآراء الشخصية، والطامحين للحياة المهنية، وأرباب الأُسَر القلقين، وأصحاب الضغائن. ولا يُمكن تصوُّر الحكومة في مجتمعٍ حديث مُعقَّد بطريقةٍ أخرى غير تلك الطريقة.

كل هذه الحُجَج بارعة وقطعًا مُفحمة. ولكن عندما نشعُر بالقلق بخصوص الوجهة التي ربما يقودنا إليها تقسيم العمل في المجتمع، ينبغي لنا أن نَحترِس من افتراض أنَّ تدخُّل الحكومة يتغلَّب على المشكلة بدلًا من أن يطرحَها بطريقةٍ جديدة، وإن كان بشكلٍ أكثر سلاسةً أحيانًا. إن العمل الجماعي — باختصار، السياسة — يُنتج، عبر آلياته ذاتها، تقسيم العمل الذي يسعى إلى إصلاح عيوبه. ويأتي بنُسخته الخاصة من المُميزات والعيوب — الإبداع والمرونة والرؤية الضيقة — التي قدَّمت هذا الإسهام الرائع للتنمية البشرية، ولكنها في الوقت نفسه تفرِض تهديداتٍ على مُستقبَل تلك التنمية. وعبر الشبكة العشوائية من التفاعُلات المُنسَّقة على نحوٍ غير دقيق بين الأفراد المُستقلِّين تنسج شبكة عشوائية أخرى من التفاعُلات المُنسَّقة على نحوٍ غير دقيق بين تحالُفات أفراد ذوي توجهات سياسية. هل لدينا أي ضمانٍ بأنَّ الحلول المُقترَحة أكثر تطمينًا من المشكلة الأساسية؟

في مواجَهة الفقر والحرب والضرر الذي لحق بنسيج كوكبنا، بات كثيرٌ من مُواطني العالَم في مطلَع القرن الحادي والعشرين مُقتنعين بأن الحلول التقليدية قد باءت بالفشل. لقد جعلَنا البثُّ الإذاعي والتليفزيوني ووسائل الاتِّصال مُدرِكين للمشاكل بجدية أكثر مما يُمكن أن تَعِدَ العمليات السياسية التقليدية بحلِّه. وكردِّ فعل، يسعى مواطنون كثيرون إلى تجنُّب هذه العمليات السياسية، مُفضِّلين الاحتجاج في الشوارع أمام الاجتماعات الدولية السياسية بدلًا من التأثير على تلك الاجتماعات من خلال الآليات المعهودة للتصويت والضغط ومناقشة القادة السياسيِّين وجهًا لوجه. يبدو لكثيرٍ من المواطنين أنَّ العولمة ذاتها التي تُمكنهم من إدراك مِحنة الآخرين في أقصى أنحاء العالم، كما تُمكِّنهم من تنظيم جماعات ضغط قادرة على الوصول إلى جميع أنحاء العالم، قد خرجت عن السيطرة. لم تفعل الأزمة المالية التي اندلعت منذ عام ٢٠٠٧ سوى ترسيخ قناعةٍ لدى الكثيرين بأن نطاق العالَم المُعاصِر ودرجة تعقيده قد تعدَّيا الحدود المعقولة.

هل هم مُحقُّون؟ هل وصلت التجربة الكبرى التي بدأها «الإنسان العاقل» قبل عشرة آلاف سنة مضت إلى أقصى حدودها المسموحة؟ وهل من المُمكن تصوُّر توقفها؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤