الفصل السابع

الشرف بين اللصوص: الاكتناز والسرقة

التخزين والإقراض والذُّعر

تكتنز طائفة واسعة من الحيوانات الطعام خارج أجسادها، بدايةً من زُنْبُور الإلق (الذي يشلُّ حركة الحشرات الأخرى لتتغذَّى عليها يَرقاتُه) وصولًا إلى الكلاب والنحْل والسناجب. وهو أمر تَزداد صعوبة القيام به كلَّما كان الحيوان أكبر حجمًا وأكثر تطوُّرًا. فالحيوانات الكبيرة تَلتهِم كمياتٍ كبيرة من الطعام؛ ومن ثَم تُخرج كميات كبيرة من البراز، وغالبًا ما يفوق ذلك قُدرة بيئتها المُحيطة على الاحتمال لمدةٍ طويلة؛ ومن ثَم تُضطرُّ هذه الحيوانات إلى التنقُّل على نحوٍ دوري. لكن حياة الترحال تُحِد من مقدار الكمية التي يُمكنك تخزينها، لأنه يجِب عليك حملها كلها معك.

عندما شرع أجدادنا في الاستقرار لأول مرةٍ واتِّباع نمَط الحياة الزراعية قبل حوالَي عشرة آلاف سنة تقريبًا، حلَّ عبء حماية مخزون الطعام محلَّ عبء حمله. وهنا يَبرُز أمامنا تساؤل: كم عدد المرَّات التي كان على أُسرة أن تحدِّق فيها بفزَع في وعاء الفخار المُتصدِّع، وفي الأحجار المُبعثَرة، وفي أثر الغلال الذي يدلُّ على السرقة بواسطة الفئران أو على يدِ البشر والتي تهامسَت فيها باحتمال حدوث مجاعة، قبل أن يخطر ببالها أن أفضل حماية أحيانًا ليست تلك الأقرب إلى البيت؟

أثبت تقسيم العمل منذ فترةٍ طويلة قيمته في اكتناز الطعام وكذلك في إنتاجه. وبالفعل، أحد أفضل الطرُق لتخزين الطعام الذي تُنتجه هو بيعه إلى تاجرٍ لدَيه مخازن مَتينة تُعطيه أفضلية في حماية مخزونه، في حين أنَّ العملات المعدنية أو الورقية التي يُعطيها إليك في المقابل تكون مناسبةً أكثر للحماية المحدودة التي يُمكنك تقديمها. ولكن حتى قبل اختراع الأموال، كانت الأُسَر على الأرجح تُودِع مخزوناتها من الغلال في منازل أكثر تحصينًا يَمتلكها أشخاصٌ يُمكنهم الثقة بهم على حدِّ ظنهم. وفيما بعد، قاموا بالشيء نفسه مع الأموال أيضًا. فلم تكن البنوك الأولى سوى أماكن حماية.

الاقتراض والإقراض نشاطان قديمان قِدَم المعيشة المشتركة، ومترسِّخان بعمقٍ في الحياة الاجتماعية بقدْر تشارُك لحم الصيد. ولكنَّ البنوك ابتكار رائع وأحدث عهدًا بكثير؛ فلا تُوجَد أية سجلَّات يمكن أن تُخبرنا بتوقيت ظهورها لأول مرة، ولكن تخمينًا مقبولًا يُشير إلى أن هذا حدَثَ بعد اختراع الزراعة وقبل اختراع صكِّ العملة مباشرة، وليس بعده، كما رأينا في الفصل السادس. لعلَّها بدأت على هيئة مجرد مخازن (بالتأكيد كان هذا صحيحًا فيما يتعلَّق بأول البنوك «المُسجَّلة»).1 وربما حتى أتى تحوُّلها اللاحق إلى بنوكٍ حقيقية ثمرة خداع، دهاء مالك مخزن أدرك أنَّ في إمكانه أن يُقرِض بعضًا من الغلال، التي كان يَختزنها نيابةً عن آخرين، دون عِلم أصحابها.2 فلو كان مُزارعًا ناجحًا معتمدًا على نفسه بالدرجة الكافية، فربما كان سيأمُل أن يُبقي سرًّا لبعض الوقت حقيقةَ أنه ليست جميع الغلال التي يُقرضها هي ملكية خاصة له؛ ولكن في المجتمعات الصغيرة سرعان ما كان سيُعرَف السر. وفي المدن الكبيرة نسبيًّا، ربما تستمرُّ العملية لوقتٍ أطول؛ فما كانت الحاجة تدعو إليه هو وجود عددٍ كافٍ من أصحاب الغلال، ذوي مُتطلَّباتٍ متنوعة بدرجةٍ كافية، حتى يشعُر المصرفي حديث العهد بالثِّقة بأنَّ في إمكانه دومًا الوفاء بطلبات أي مالكٍ كان يأتي للمُطالَبة باسترداد مخزونه، بالسَّحْب من مخزون الغير.

لا بدَّ أنه ظلَّ من الصعب كسْب ثقة الفلاحين المُتشكِّكين الذين رغبوا في معرفة لماذا تأتي الغلال التي كانوا يستردُّونها من أوعيةٍ أخرى غير تلك التي خُزنت فيها أولًا، والذين تساءلوا حتمًا عما إذا كانت هذه الغلال المُستردَّة بنفس جودة غلالهم الأصلية. ولا بدَّ أن الظهور التدريجي للمال جعل تلك المهمة أسهل؛ إذ من الواضح أن سِمة العمومية تجعل سؤالًا مثل: «لكن هل هو حقًّا مالي الذي أودعته؟» في غير موضعه. في حالة الفلاحين الفقراء جدًّا لدرجة عجزهم عن تأمين مخزون، كان ظهور المال يعني إمكان بيع الغلال بدلًا من إقراضها، في حين كان يُمكن اكتناز المال في البيت، أو إيداعه من أجل المحافظة عليه في مكانٍ آخر، أو إقراضه صراحةً ليَستخدمه آخرون.

ولكن لإقراض الأموال مَخاطرُه؛ فسِمة العمومية والسهولة التي يُمكن بها إخفاؤه تجعل الاحتيال أكثر إغراءً. ومِن ثَم لم تحلَّ البنوك محلَّ ذلك البديل القديم للمجتمَعات الريفية، أي ذلك المخزن في ركن من منزلك. ولا يزال أكثر من مليار فلاح حول العالم يُخزنون الغذاء في نهاية موسم الحصاد لأطول وقتٍ تَصمده المؤن الغذائية. بل إنَّ أولئك الذين يَبيعون المحصول عادةً ما يَشعُرون أن الأموال في البنوك أقلُّ أمانًا من وجودها تحت مَرْتَبَةِ السَّرِيرِ. في المجتمَعات الصناعية الثرية، حفظ الأموال في البنوك أكثر أمانًا؛ مُعظَم الوقت؛ إذ ازدهرت البنوك بسبب قُدراتها البارعة على مساعدة الناس على التعايُش مع الخطر. وكشأن الكثير من المؤسَّسات الإنسانية، قلَّلت البنوك مستوى المُخاطرة اليومية إلى مستوياتٍ متدنية بما يكفي لجعْلِنا نَنسى أن الخطر موجود بالمرَّة، مما يَتركُنا أحيانًا غير مُستعدِّين على نحوٍ مُفزع لمزيدٍ من المخاطر غير المعتادة، التي قد يكون تأثيرها مهولًا جدًّا.

فإذا كنتَ ترغب في تخزين ما تُثَمِّنه — سواء كان طعامًا، أم أموالًا، أم حُليًّا للزينة — ولكنك لا تثق في أن خزينة بيتك آمنة، يتعيَّن عليك أن تجد شخصًا لا يستطيع تخزينها من أجلك فحسْب؛ وإنما يُمكنك الاعتماد عليه أيضًا لإعادتها إليك فيما بعد. التخزين خدمة تُؤدَّى بالنيابة عنك؛ ولذلك، فإنها ستُكلِّفُك شيئًا (نسبة من القيمة المختزنة)، إلا إذا كان من المُمكِن جعل أغراضك القيِّمة ذاتها تُؤدِّي خدمةً في الوقت نفسه. وهكذا بدلًا من أن تطلُب من جارك تخزين الغلال بالنيابة عنك، يُمكنُك أن تحاول أن تطلُب منه زراعتها. وبزراعتها، سيَجني محصولًا ربما يفوق بقدْرٍ كبير ما عليه أن يردَّه إليك من غلال في نهاية الموسم. الآن، أنت تُقدِّم له خدمة، وهي خدمة ينبغي له أن يكون مُستعدًّا لدفع ثمنها. فتخزينك للغلال لم يعُدْ نشاطًا خاملًا، ولكنه ليس متاحًا على الفور. فمن أجل أن تُتيح لغلالك أداء خدمةٍ مفيدة، عليك أن تتخلَّى عن الحق في المُطالَبة بها وقتما تشاء. وفي الوقت نفسه، فهي مُعرَّضة لجميع أخطار المحاصيل المعتادة.

تَعتمد براعة البنوك على استعانتها بقانون الأعداد الكبيرة لخلق شعورٍ وهمي بأن مُدَّخرات الجميع متاحة، حتى حين يكون معظمُها مُستخدمًا لأداء خدمةٍ مفيدة. إنه وَهْم، إلا أنه ليس أكثر تضليلًا من وَهْم أن بإمكان أيِّ شخصٍ زيارة مجلسَي الشيوخ والنواب مع أنه من الواضح أنه مِن المُستحيل أن يَفعل الجميع ذلك في نفس الوقت، أو وَهْم أن بوسعي الذهاب إلى موقف الحافلات بدون حجزٍ مُسبق وتوقع العثور على مقعدٍ في الحافلة، أو وَهْم أنني بوسعي دومًا إجراء مكالمة هاتفية بدون موعدٍ مسبق، أو تشغيل الغلاية لإعداد قهوتي بدون زيادة الحمل على شبكة الكهرباء. أو غير ذلك من آلاف الأوهام اليومية التي تُبقي المُجتمعات المُعاصرة في حالة حراك. ثمَّة تشقُّقات مُتكرِّرة في جدار تلك الأوهام؛ فأحيانًا تكون الحافلة مُمتلئة عن آخرها؛ ومن المعروف أن فاصلًا إعلانيًّا في التغطية التليفزيونية لحفل زفافٍ ملَكي ببريطانيا يتسبَّب في إحداث فوضى على مستوى شبكة الكهرباء؛ تُشَغَّل ملايين الغلايات في غضون ثوانٍ؛ واستخدام المراحيض في نفس الوقت أثناء استراحة المباراة النهائية لدوري كرة القدم الأمريكية يَفرض عبئًا ثقيلًا على المجارير. ومن حينٍ لآخر، يحدُث تهافُت على سحْب الودائع المصرفية.

التهافُت على سحْب الودائع المصرفية من البنوك أمر خطير، وليس فقط لأنه ربما يتعلق بمدخرات العمر للناس. بعض الأوهام المُحطمة يقود إلى ردِّ فعلٍ يُحقق الاستقرار؛ فإذا كانت الحافلة ممتلئة، سأنتظر الحافلة التالية؛ وإذا كانت شبكة الهاتف مشغولة، سأجري مكالمتي الهاتفية في وقتٍ لاحق. ولكن إذا سمعتُ بشائعةٍ عن أن ثمة تهافُتٍ من العملاء على سحب الودائع المصرفية من البنك الذي أتعامل معه، هل سأبقى في المنزل إلى أن تَخفُتَ حدَّة الذعر؟ كلَّا، إذا كنتُ أعرف ما هو في مصلحتي. حين يكون ثمة تهديد بالتهافت على سحْب الودائع من البنوك، يكون التصرُّف المنطقي الوحيد هو الركض أسرع من الآخرين، وهذا بدوره يعني أن كلَّ ما يتطلَّبه الأمر لكي يركض العملاء نحو البنك في ذُعر هو انتشار شائعة غير مؤكَّدة. وفي غضون أيامٍ أو حتى ساعات، قد يَنفضِح وهْم أن جميع مدخراتهم متاحة في الوقت نفسه.3

هذه الهشاشة التي تتَّسم بها البنوك عند تعرُّضها لتهافُتٍ مذعور على سحْب الودائع من البنوك هي ما يجعل المنظومة المالية جزءًا ضعيفًا جدًّا من شبكة المؤسَّسات التي تُشكِّل حياتنا الاجتماعية المُعاصِرة. قد يتسبَّب تهافُتٌ مذعور على سحْب الودائع من البنوك في إلحاق ضرَرٍ بالبنوك الناجِحة والمُدارة على نحوٍ جيد لا يقلُّ عن الذي يلحق بالبنوك عديمة الكفاءة أو الفاسِدة؛ لأنه حتى البنوك الناجحة ستكون قد استخدمت ودائعها في تقديم قروضٍ لا يمكن استردادُها على الفور (بالطبع، إذا لم تُقدِّم البنوك مثل هذه القروض، لن يستطيع الأشخاص، الذين لديهم أفكار ولكن ليس لديهم التمويل الكافي لدعمها، أن يقوموا بأي استثماراتٍ على الإطلاق). لذا، قد يكون مصير البنوك المختلفة مُرتبطًا بعضُه ببعض، وقد تمتدُّ المخاطر المصرفية عبر المجتمع بأكمله بسرعة مُقلقة. من بعض النواحي، يكون تجنُّب الأخطار أصعبَ من تجنُّب الكثير من المخاطر الأخرى التي ينقلها الناس بعضهم إلى بعض. يُمكن للفيروسات (العضوية أو المعلوماتية) أن تَنتقِل بسرعةٍ في العالَم بأسرِه، ولكن ما إن يُدرِك الناس الأخطار، حتى يُعدِّلوا سلوكَهم للتعويض عنها؛ فمثلًا، يُدقِّقون أكثر بشأن مُمارسة الجنس الآمن، ويتَّخِذون حِذرَهم أكثر حيال فتح مُرفقات البريد الإلكتروني. أما في حالة التهافُت على سحْب الودائع من البنوك، فيحدُث نقيض ذلك؛ إذ كلما زاد الخطر، ضاعف سلوك الأفراد منه؛ لأنَّ الجميع يُحاولون تجنُّب أن يكون في مؤخرة الصف.

في معظم المجتمعات الصناعية، استجابت الحكومات لهذه المخاطر بوضْع أنظمةٍ لتأمين الودائع، يكون فيها جميع المودعين خاضعين لضريبة صغيرة من أجل دفع تعويض لأولئك الذين يفقدون مدَّخراتهم جرَّاء العجز أو الاحتيال. حتى مع تجنُّب الكثير من حالات الذعر، ما زالت الانهيارات تحدُث، كما سنرى في الفصل الثامن؛ وذلك لأنه إذا كان بإمكان قدْرٍ كبير جدًّا من التوتُّر أن يُزعزع منظومة الوهم الهشَّة التي يعتمد عليها النظام المصرفي، فقد يؤدي قدْر أقل من اللازم من التوتُّر إلى حالة من اللامبالاة والغفلة، وهو ما من شأنه أن يكون بمثابة دعوةٍ مفتوحة للحالمين والنصَّابين. في أغلب الأيام، يحتوي مُجلد رسائل البريد الإلكتروني الواردة على رسائل تحثُّني على جنْي ثروةٍ بدون بذْل أي مجهودٍ بإرسال أموال إلى عنوانٍ ما على شبكة الإنترنت. وأنا على يقينٍ من أن قلَّةً قليلةً من هذه الدعوات النزيهة بكلِّ معنى الكلمة هي دعوات غير واقعية تمامًا، تَستند إلى مبدأ الرسائل المُتسلسلة القائم على جمع الأموال للمشاركين الأوائل على حساب المشاركين اللاحِقين. لو كان مؤمَّنًا عليَّ ضدَّ الخسارة في كل مرة أرسل الأموال استجابةً لإغراء رسالة بريد إلكتروني، ما كان سيتعيَّن عليَّ توخِّي الحذَر، ولازداد زيادةً هائلةً عددُ الأشخاص الذين يُحاولون كسْب المال من الآخرين بهذه الطريقة البسيطة. لماذا تؤدِّي أي عمل مُنتج إذا كان بإمكانك جني المال من أشخاصٍ ستكفُل الحكومة تعويضهم عن كل بنسٍ يُرسلونه إليك؟

لذا، حين تُقدِّم الحكومات تأمينًا على الودائع، فإنها تفعل ذلك بمُقابل؛ فالمؤسَّسات التي تحمِل رخصة تلقِّي الودائع هي وحدَها التي يُمكن أن تكون مؤهَّلة لذلك، ومقابل ذلك لا بدَّ أن تُخْضِع نفسها لرقابة تفصيلية وتدخلية. إذ إنه إذا لم يَعُد لدى المُودعين حافز على مراقبة أنشطة البنوك، فلا بدَّ أن تقوم الحكومة بذلك، بالنيابة عن دافِعي الضرائب الذين أصبحت أموالهم في خطر الآن. وكما تُذكِّرنا الأحداث الأخيرة، الرقابة ليست مُنزَّهة عن الخطأ؛ فمن المُمكن أن يتسلَّل العجز والتزوير عبر الثغرات. وحتى إن كانت وقائع التهافُت على سحْب الودائع المصرفية أندر ممَّا كانت عليه في السابق، فقد كانت معروفة حتى قبل وقوع أزمة عام ٢٠٠٧. في يناير عام ١٩٩١، أغلق الحاكِم المنتخَب حديثًا لولاية رود آيلاند خمسة وأربعين مصرفًا حكوميًّا في غضون ثلاث ساعاتٍ من تولِّيه منصبه، وبناءً على ذلك جُمِّدت حسابات ثلاثمائة ألف شخص تقريبًا. ولقد فعل ذلك لأنَّ ودائعهم كانت تُؤمِّن عليها شركة تأمين خاصة أصبحت مُفلِسة، وظهرت بوادر تهافُت مبدئي على سحْب الودائع من البنوك. وفي اليوم التالي، أدى إعلان خسائر في بنك نيو إنجلاند بدوره إلى التزاحُم على ذلك البنك واستتبعَ ذلك لاحقًا مُصادَرة الحكومة له. وبدون حالة الذُّعر التي تسبَّبت فيها إجراءات ولاية رود آيلاند، ما كان سيحدُث، على الأرجح، تهافت على بنك نيو إنجلاند لسحْب الودائع المصرفية. ولولا إفلاس شركة رود آيلاند شير آند ديبوزيت إنديمنيتي للتأمين على الودائع المصرفية، ما كانت بنوك رود آيلاند ستتعرَّض للإغلاق. ولولا خسائر نوفمبر الماضي لبنك هريتيدج لون آند إنفيستمينت، وهو بنكٌ صغير له فرعان في مدينة بروفيدانس، بولاية رود آيلاند، ما كانت شركة التأمين على الودائع المصرفية ستُفلِس. فيما بعد أُدين مدير ذلك البنك، ويُدعى جوزيف موليكون، بخمس تُهَم اختلاس، وتسع عشرة تهمة تزييف قيود مصرفية، وتُهمتَي تآمُر، وحُكم عليه بالسَّجْن لمدةٍ طويلة.4

إذا كان إفلاس بنكٍ صغير ذي فرعَين فقط يُمكن أن يتسبَّب في حالة التهافُت الواسعة على سحْب الودائع المصرفية، إلى أيِّ مدى يُمثِّل إفلاس أحد البنوك الكبيرة تهديدًا أكبر؟ من بين المودِعين الرئيسيين لدى البنوك بنوك أخرى، ومَهْما يَكُنْ مِنْ أمْر، عادةً ما يكون التأمين على الودائع غيرَ مثالي، ويكون انتشار عدوى الذُّعر أمرًا عشوائيًّا لا يُميز بين أحد، لذلك قد تُعاني بنوك أخرى بالتبعية حتى وإن لم يكن لديها أيُّ صِلات مباشرة مع البنك المُفلس؛ ومن ثَمَّ فإن التأمين على الودائع والإشراف عليها ليسا كافيين لمنع إفلاس البنوك أو منع تهديد حدوث تهافُت على سحْب الودائع المصرفية من بنكٍ ناجح. بدلًا من ذلك، تجد السلطات نفسها من وقتٍ لآخر تلعَب دور «الملاذ الأخير للإقراض». وهنا تكون السلطات على استعدادٍ لأن تفعل ما ستَعجز عنه الأسواق نفسها؛ إذ تُتيح للبنوك الاقتراض، عادةً بشروط مُيسَّرة، لتغطية تكاليف تعامُلها مع البنك الذي أفلس. وفي المقابل، تُصرُّ السلطات عادةً على إغلاق البنك المفلس. ونادرًا ما يتعرَّض مديروه للعقاب، إلا في أفظع حالات الاحتيال، ولكن معظمهم يفقدون وظائفهم ويُبدِّدون مكافآت نهاية خدمتهم المُجزية ويتقاعَدُون وهم يشتكون من العملاء الذين لا يُعتمَد عليهم ومن الهيئات التنظيمية المُتعسِّفة. لا يبثُ مصيرهم الرعب في قلوب زملائهم الناجين في البنوك الأخرى، ولكن تعتقد السلطات في مُعظَم المجتمعات الصناعية أنَّ الضرَر الواقع من موظفي البنوك الراضين عن أنفسهم والذين يُقْرِضون بسهولةٍ مُفرطة أقل جسامة من الضرر الواقع دون قصد من موظفي البنوك المترددين ترددًا مبالغًا فيه تجاه الإقراض عمومًا.

fig4
شكل ٧-١: رفض الرئيس أندرو جاكسون (١٧٦٧–١٨٤٥) في عام ١٨٣٢ تجديد امتياز بنك الولايات المتحدة على أساس أنه أداة الأثرياء، واختار نقل جميع الأموال الحكومية من البنك وإيداعها في بنوك الدولة في مختلف أنحاء البلاد. تبِع ذلك نوبة من الهرَج والمرَج عقب نزول مانشيت صحفي بعنوان «سقوط بنك الأمة.» رئيس التحرير سيبا سميث (١٧٩٢–١٨٦٨)، الذي كان يكتُب تحت الاسم المُستعار ميجور جاك داونينج، يهتف مُستحسنًا في الخلف. (جيتي إيميدجز/أرشيف هالتون.)

في أغلب الأحيان، تكون السلطات مُحقَّة، ولكن من حينٍ لآخر قد يتفاجأ الجميع بالقدْر الهائل من العجز والاحتيال. بعد الأزمات المصرفية الأمريكية الكبرى في ثلاثينيات القرن العشرين، التي أفلس فيها حوالي عشرة آلاف بنك، والتي أدَّت إلى تأسيس شركة تأمين الودائع الفيدرالية، شهد النظام المصرفي الأمريكي فترةً امتدَّت إلى خمسةٍ وثلاثين عامًا في أعقاب الحرب خلَتْ من أي عملياتِ تهافُت على سحْب الودائع المصرفية أو أي حالات ذُعر من أي نوع، مع إفلاس عددٍ قليل جدًّا من البنوك. ولكن في بداية الثمانينيات من القرن العشرين، أتاحت اللوائح البنكية الأكثر مرونة (وبالأخص مؤسسات الادِّخار والإقراض المُتخصِّصة في تمويل الرهن العقاري) للبنوك تقديمَ أسعار فائدة أعلى للمُودِعين بينما تستثمر في مجال العقارات بطريقة المضارَبة. تبع ذلك حلقة مُثيرة للدوار من ركود يَعقبه ازدهار. حدثت زيادة مُفزعة في البنوك المُفلسة، تجاوَزَت، بحلول عام ١٩٨٨، أكثر من مائتي بنك في العام. وبحلول عام ١٩٩١، أفلست شركة تأمين الودائع الفيدرالية إفلاسًا مُذهلًا، لتختتم العام بعجزٍ بلغت قيمته ٧ مليارات دولار رغم تلقِّيها تعزيزاتٍ مالية بلغت ٣٠ مليار دولار من الخزانة الأمريكية في وقتٍ سابق من العام (على حدِّ وصف أحد أعضاء مجلس الشيوخ، في سياقٍ مختلف: «مليار هنا، ومليار هناك، وسرعان ما تجد نفسك تتحدَّث عن مبالغ حقيقية».) وقاد الإصلاح اللاحق للنظام المالي أغلب واضعي السياسات إلى الاعتقاد بأن النظام صار حينئذٍ مُحصَّنًا بدرجةٍ معقولة من الأزمات. غير أنهم كانوا مخطئين تمامًا.

شراء الثقة

يُرسي النظام المصرفي ركائز عتيقة الطراز للمعاملات المتكافلة على أساسٍ هزيل من الثقة، ولكن يُوجَد حولَنا صروح أكثر تواضُعًا؛ لأن الثقة هي حلقة الوصل لمعظم التعاملات بين الغرباء في مجتمعٍ معاصر. فحتى أبسط التعاملات مثل الذهاب لشراء فاكهة من السوق تتضمَّن قيام المشتري بتقييمٍ دقيق لجودة المنتج المعروض. من الناحية النظرية، تحتفي أغلب الأنظمة القانونية بمبدأ «مسئولية المشتري»؛ بمعنى أنه تقع على كاهل المشتري مسئولية التأكُّد من أنه لا يقع ضحية الخداع. وثمة منطق في هذا، إذ لدى المُشترون اهتمام شديد بالانتباه إلى السلع المَعيبة، وعادةً ما يكونون أفضل مَن يكتشفها. ولكن من الناحية العملية، يُلقي عدد قليل جدًّا من الأنظمة القانونية المسئولية الكاملة على عاتق المشتري. فالفاكهة التي أشتريها قد تَفسد بمجرَّد أن آخُذها إلى المنزل، ولا يجوز أن ألوم أحدًا إلا نفسي. ولكن إذا كانت تحتوي على مادةٍ كيميائية محظورة، عندئذٍ قد يتدخل القانون في الأمر.

عادةً ما تُوضَع حدود لمبدأ «مسئولية المشتري» بناءً على تسوية توفيقية صعبة بين الرغبة في تشجيع الحرص والتشكُّك من جانب المُشترين، وحقيقة أن كثيرًا من أكبر الأخطار يتَّسم بكونه خفيًّا للغاية وغير مرئي بحيث يَصعُب على المشترين التحقُّق منه. في معظم الدول الصناعية، يتدخَّل القانون في المعاملات اليومية في آلاف المجالات؛ كعامل السلامة والأمان في العمل، والمحتوى الكيميائي للأغذية والأدوية، والمواصفات الفنية للمُعدات الكهربائية، وشروط الخدمات المالية، وتدريب المُعلِّمين والأطباء، ومحتوى الإعلانات، وانبعاث عوادم السيارات، وعمليات الاستيلاء على الشركات ودمجها. ليس كل هذه التدخُّلات مبررًا بحماية المشتري، ولكن عددًا كبيرًا منها كذلك.

غير أنَّ القانون حليفٌ أخرق ولا يُعتمَد عليه للمُشتري، وتقتصِر تدخُّلاته حتمًا على تصحيح تلك الثغرات الواضحة والدقيقة في الثِّقة، بالدرجة الكافية لعرضها أمام محكمة، أو على الأقل باتخاذ إجراءٍ إداري رسمي حيالها. ويُمكن اعتبار الكثير من المؤسَّسات المألوفة في الحياة الاجتماعية وسيلةً يسعى من خلالها المُشترون إلى البحث عن حلفاء من بينهم، لدرجة أن المُشترين — ويا لها من مفارقة غريبة — يَبحثُون عن حلفاء من بين الباعة أنفسهم، وهم نفس الأشخاص الذين تَسعى تلك التحالفات للحَول دون خيانتهم للثقة. والتفسير هو أن عدم الجدارة بالثِّقة يضرُّ بالكثير من الباعة أيضًا؛ كل شخص لديه سيارة جيدة معروضة للبيع لكنه لا يَستطيع إقناع مُشترٍ بمُميزاتها، أو طعام جيد وطازج يُتاجِر فيه ولا يُمكن جعله يتميَّز عن باقي المنتجات العادية المعروضة في الأكشاك المُجاورة، أو دواء يبشِّر بعلاج حقيقي، ولكنه يبدو أشبه بالعلاجات التي يُقدِّمها آلاف الدجَّالين. لذا، فالاتحادات التجارية، وضمانات استرداد الأموال، وقسَم أبقراط، وشهادة «تحديد المنشأ الأصلي»، والمدقِّقون في الأوزان والقياسات، ومبدأ «كلمتي ميثاق شرف»، والعلامات التجارية وأسماء الشعارات التجارية، وزي مندوبي المبيعات، وشهادة التدريب المُعلَّقة على حائط المكتب، واكتظاظ غرفة الانتظار لدى مِهَني محترف الذي يُهدِّئ مخاوف الزائر من التكلفة التي سيتحملها مع الشعور المؤكَّد بأن لا أحد يُمكنه كسْب كل هذه الأموال مقابل الترويج لنصائح غير سديدة؛ كل هذه إشارات، خفية إلى حدٍّ ما، بأنَّ ما يقدِّمه البائع هو أفضل ما يستطيع المرء على نحوٍ معقول أن يتوقَّعه. وأحيانًا لا بدَّ أن تكون هذه الإشارات خفيةً لجعلها صعبة التزوير؛ فمن المُثير للاهتمام مقارنة إعلانات التليفزيون في خمسينيات القرن العشرين بالإعلانات المُقدَّمة بعد نصف قرنٍ؛ لأنَّها تجعلنا نحن المُشاهِدين نُدرك إلى أيِّ مدًى كان من غير المُقنع التفاخُر الفج بشأن جودة مسحوق غسيل في الوقت الذي أفاق فيه المشاهدون على حقيقة أن أي مصنع مساحيق غسيل مُتدنية الجودة يستطيع أن يتفاخَر بنفسِ الأمر تمامًا. ومن ثم، اتَّخذ سباقُ الإقناع أشكالًا أكثر زخرفةً وبهرجة، على نحو يُشبه كثيرًا تطوُّر ذيل الطاووس نحو مزيدٍ من التشكُّل والازدهار مما أبعده عن كونه العلامة الأصلية على الصحة والقوة التي يَكتسب منها منشأه. وفي الوقت الحاضر، ازداد كون إعلانات التليفزيون استعراضًا للتفاخر المتأنِّق والمرجعية الذاتية المثيرة للسخرية، مثلما يسعى مُصنِّعُو المنتجات المحلية الأكثر تواضعًا جاهدين لإبراز تلك الجودة الغامضة (مهارة؟ طراز؟) التي تجعلنا نظنُّ أننا عثرنا على شيءٍ حقيقي نادِر في عالمٍ يعجُّ حولنا بالنفايات.

لتوضيح الأمر بشكلٍ مُختلِف قليلًا، اشتملت الفضائل الريفية في جميع المجتمعات على عدَم أخْذ أي شيءٍ على مَحمل الثقة مُطلقًا وإنما عليك دومًا التحقُّق بنفسك من جودة ما يُعرَض عليك. إلا أنه من المستحيل أن تتحقَّق بنفسك إذا كنتَ مُنخرِطًا في أكثر من بضعة تعاملات في اليوم الواحد؛ ومن ثمَّ لجأتِ المجتمَعات المعاصِرة إلى تقسيم العمل فيما يخص التحقُّق من الموثوقية، مثلما لجأت المجتمعات إلى تقسيم العمل فيما يخصُّ كل شيء تقريبًا. يُمثِّل ابتكار العلامات التجارية — وهو في حدِّ ذاته الآن نشاط تُقدَّر قيمته بمليارات الدولارات — استثمارًا في الموثوقية. وهو بمثابة إشارة للعملاء (لا بد أن تكون مُنتَجاتنا جيدة إذا كان بوسعنا إنفاق كل هذه الأموال لترويجها وعرضها عليك) ووسيلة التزام تجعل الشركات تحافظ في الواقع على جودة العمل لتتناسَب مع قيمة العلامة التجارية (إذا سمحنا بتراجُع معايير الجودة، فإننا سنُدمِّر حتمًا قيمة علامتنا التجارية).

لقد قطعت البنوك على وجه الخصوص شوطًا طويلًا بعيدًا عن أصولها البسيطة كأماكن لحفظ الأشياء القيِّمة. لم يَعُد أفضل بنك هو المكان الذي يحتوي على أكثر الخزانات تأمينًا، لأنَّ الأموال التي تأتمن عليها البنك لن تُخزَّن بكل بساطة؛ وإنما ستُستثمَر في مكانٍ آخر. صار أفضل بنك الآن هو البنك الذي يَمتلك أكثر عَينٍ ثاقبة تستطيع القيام باستثمارات سليمة. ذلك، من ثَمَّ، هو مصدر الثقة الأكثر إقناعًا في المزاعم الكثيرة التي يُقدِّمها المُقترضون المُحتمَلُون بشأن جودة مقترَحات مشاريعهم.

الإنسان المُعاصِر يشتري ثقته مثلما يَشتري طعامه وملابسه ومنزله. وأحيانًا يكون الضامن الأوحد لثقته هي الدولة، لكن في أحيانٍ أكثر، وبآلاف الطرُق اليومية المألوفة جدًّا لدرجة أنها صارت خفية تمامًا ما لم نَنتبه لها أشدَّ الانتباه، صار المواطنون هم الضامنون؛ نفس الأشخاص الذين تكون جدارتهم بالثقة محلَّ شكٍّ بالأساس. فكرة «الشرف بين اللصوص»، رغم أنها تُعتبر تناقضًا، هي في الواقع فكرة بسيطة تتَّسم بالشفافية؛ لأنه فقط في عالَم من اللصوص يكون الشرَف ضروريًّا. وليس من قبيل الصدفة أن قواعد الشرف الأكثر صرامةً في أيِّ مجتمع هي تلك القواعد التي تحكُم العلاقات بين المُجرمين في ذلك المجتمع؛ لأن الشرف هو أحد أكثر الطرُق فعالية لتنظيم العلاقات السرية القابعة في الظلام والتي لن تقع تحت طائلة القانون. ولكن حتى في وضَح النهار، يكون القانون، على أقصى تقدير، حاضرًا في الخلفية. إن شرف وسمعة وجدارة أولئك الذين تتعامَل معهم بالثقة — تلك السمات التي ربما يكونون قد استثمروا فيها بقوة، ولكنك ربما تتقبَّلها بناءً على أبسط دليل موضوعي — هي أساس استعدادك حتى للخروج من منزلك في الصباح. حين تعتمد بِنية المجتمع المعاصر برمَّتها على أساسٍ كهذا، ليس من المُستغرَب أن انهيار الثقة، الذي قد يتبع فضيحة مصرفية، أو اضطرابات سياسية، أو الكشف عن قضية فساد وسط شخصيات عامة موثوق بها، يمكن أن يتَّخذ أبعاد زلزال اجتماعي كبير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤